الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩

الدقيق لا يسوغ إرادة الذات من الوجه فإن الشيء أيا ما كان إنما يستقبل غيره بشيء من ظواهر نفسه من صفاته وأسمائه ، وهي التي تتعلق بها المعرفة فإنا إنما نعرف ما نعرف بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثم نستدل بذلك على ذاته من غير أن نماس ذاته مساسا على الاستقامة.

فإنا إنما ننال معرفة الأشياء أولا بأدوات الحس التي لا تنال إلا الصفات من أشكال وتخاطيط وكيفيات وغير ذلك من دون أن ننال ذاتا جوهرية ثم نستدل بذلك على أن لها ذوات جوهرية هي القيمة لأعراضها وأوصافها التابعة لما أنها تحتاج إلى ما يقيم أودها ويحفظها ففي الحقيقة قولنا : ذات زيد مثلا معناه الشيء الذي نسبته إلى أوصاف زيد وخواصه كنسبتنا إلى أوصافنا وخواصنا فإدراك الذوات إدراكا فكريا يكون دائما بضرب من القياس والنسبة.

وإذا لم يمكن إدراك الذوات الماهوية بإدراك تام فكري إلا من طريق أوصافها وآثارها بضرب من القياس والنسبة فالأمر في الله سبحانه ولا حد لذاته ولا نهاية لوجوده أوضح وأبين ، ولا يقع العلم على شيء إلا مع تحديد ما له فلا مطمع في الإحاطة العلمية به تعالى قال : « وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ » : ( طه : ١١١ ) وقال : « وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً » : ( طه : ١١٠ ).

لكن وجه الشيء لما كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعني ما ينتهي إليه الإشارة وجها فإنها بالنسبة إلى الشيء الذي يحد الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل غيره به ، وبهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجها لله تعالى كما أن الأعمال الطالحة وجه للشيطان وهذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله : « يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ » وقوله : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ » وغير ذلك ، وكذا الصفات التي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة والخلق والرزق والهداية ونحوها من الصفات الفعلية بل الصفات الذاتية التي نعرفه تعالى بها نوعا من المعرفة كالحياة والعلم والقدرة كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها ويتوجه إليه من جهتها كما يشعر به بعض الأشعار أو الدلالة قوله تعالى : « وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » : ( الرحمن : ٢٧ ) فإن ظاهر الآية أن قوله : « ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » نعت للوجه دون الرب فافهم ذلك.

١٠١

وإذا صح أن ناحيته تعالى جهته ووجهه صح بالجملة أن كل ما ينسب إليه تعالى نوعا من نسبة القرب كأسمائه وصفاته وكدينه ، وكالأعمال الصالحة وكذا كل من يحل في ساحة قربه كالأنبياء والملائكة والشهداء وكل مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى.

وبذلك يتبين أولا : معنى قوله سبحانه : « وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ » : ( النحل : ٩٦ ) وقوله : « وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ » : ( الأنبياء : ١٩ ) وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ » : ( الأعراف : ٢٠٦ ) ، وقوله فيمن يقتل في سبيل الله : « بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » : ( آل عمران : ١٦٩ ) وقوله : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ » ( الحجر : ٢١ ) فالآيات تدل بانضمام الآية الأولى إليهن أن هذه الأمور كلها باقية ببقائه تعالى لا سبيل للهلاك والبوار إليها ، ثم قال تعالى : « كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ » : ( القصص : ٨٨ ) فدل الحصر الذي في الآية على أن ذلك كله وجه لله سبحانه وبعبارة أخرى كلها واقعة في جهته تعالى مستقرة مطمئنة في جانبه وناحيته.

وثانيا : أن ما تتعلق به إرادة العبد من ربه هو وجهه كما في قوله : « يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً » : ( المائدة : ٢ ) وقوله : « ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ » : ( الإسراء :

٢٨ ) وقوله : « وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » : ( المائدة : ٣٥ ) فكل ذلك وجهه تعالى لأن صفات فعله تعالى كالرحمة والمرضاة والفضل ونحو ذلك من وجهه ، وكذلك سبيله تعالى من وجهه على ما تقدم ، وقال تعالى : « إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ » : ( البقرة : ٢٧٢ ).

وقوله : « ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ » الحساب هو استعمال العدد بالجمع والطرح ونحو ذلك ، ولما كان تمحيص الأعمال وتقديرها لتوفية الأجر أو أخذ النتيجة ونحوهما لا يخلو بحسب العادة من استعمال العدد بجمع أو طرح سمي ذلك حسابا للأعمال.

وإذ كان حساب الأعمال لتوفية الجزاء ، والجزاء إنما هو من الله سبحانه فالحساب على الله تعالى أي في عهدته وكفايته كما قال : « إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي » : ( الشعراء : ١١٣ ) ، وقال : « ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ » : ( الغاشية : ٢٦ ) وعكس في قوله : « إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً » : ( النساء : ٨٦ ) للدلالة على سلطانه تعالى وهيمنته على كل شيء.

وعلى هذا فالمراد من نفي كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفي أن يكون هو

١٠٢

الذي يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتى إذا لم يرتض أمرهم وكره مجاورتهم طردهم عن نفسه أو يكونوا هم الذين يحاسبون أعماله حتى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو كرههم استكبارا واستعلاء عليهم طردهم ، وعلى هذا فكل من الجملتين : « ما عَلَيْكَ » إلخ ، « وما عليهم » إلخ ، مقصودة في الكلام مستقلة.

وربما أمكن أن يستفاد من قوله : « ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » نفي أن يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتى يستثقله وذلك بإيهام أن للعمل ثقلا على عامله أو من يحمل عليه فالمعنى ليس شيء من ثقل أعمالهم عليك ، وعلى هذا فاستتباعه بقوله : « وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ » ـ ولا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه ـ إنما هو لتتميم أطراف الاحتمال وتأكيد مطابقة الكلام ، ومن الممكن أيضا أن يقال : إن مجموع الجملتين أعني قوله : « ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ » كناية عن نفي الارتباط بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبينهم من حيث الحساب.

وربما قيل : إن المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الأعمال والمراد : ليس عليك حساب رزقهم ، وإنما الله يرزقهم وعليه حساب رزقهم ، وقوله : « وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ » إلخ ، جيء به تأكيدا لمطابقة الكلام على ما تقدم في الوجه السابق ، والوجهان وإن أمكن توجيههما بوجه لكن الوجه هو الأول.

وقوله : « فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ » الدخول في جماعة الظالمين متفرع على طردهم أي طرد الذين يدعون ربهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضي أن يفرع قوله : « فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ » ، على قوله في أول الآية : « وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ » إلخ ، إلا أن الكلام لما طال بتخلل جمل بين المتفرع والمتفرع عليه أعيد لفظ الطرد ثانيا في صورة الفرع ليتفرع عليه قوله : « فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ » بنحو الاتصال ويرتفع اللبس.

فلا يرد عليه أن الكلام مشتمل على تفريع الشيء على نفسه فإن ملخصه : ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتطردهم ، وذلك أن إعادة الطرد ثانيا لإيصال الفرع أعني قوله : « فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ » ، إلى أصله كما عرفت.

قوله تعالى : « وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا » إلى آخر الآية ، الفتنة هي

١٠٣

الامتحان ، والسياق يدل على أن الاستفهام في قوله : « أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا » للتهكم والاستهزاء ، ومعلوم أنهم لا يسخرون إلا ممن يستحقرون أمره ويستهينون موقعه من المجتمع ، ولم يكن ذلك إلا لفقرهم ومسكنتهم وانحطاط قدرهم عند الأقوياء والكبرياء منهم.

فالله سبحانه يخبر نبيه أن هذا التفاوت والاختلاف إنما هو محنة إلهية يمتحن بها الناس ليميز به الكافرين من الشاكرين ، فيقول أهل الكفران والاستكبار في الفقراء المؤمنين : ( أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ) فإن السنن الاجتماعية عند الناس توصف بما عند المستن بها من الشرافة والخسة ، وكذا العمل يوزن بما لعامله من الوزن الاجتماعي فالطريقة المسلوكة عند الفقراء والأذلاء والعبيد يستذلها الأغنياء والأعزة ، والعمل الذي أتى به مسكين أو الكلام الذي تكلم به عبد أو أسير مستذلا لا يعتني به أولو الطول والقوة.

فانتحال الفقراء والأجراء والعبيد بالدين ، واعتناء النبي بهم وتقريبه إياهم من نفسه كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين وأنه دون أن يلتفت إليه من يعتني بأمره من الشرفاء والأعزة.

وقوله تعالى : « أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ » جواب عن استهزائهم المبني على الاستبعاد ، بقولهم : « أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا » ومحصله أن هؤلاء شاكرون لله دونهم ولذلك قدم هؤلاء لمنه وأخرهم فكنى سبحانه عن ذلك بأن الله أعلم بالشاكرين لنعمته أي إنهم شاكرون ، ومن المسلم أن المنعم إنما يمن وينعم على من يشكر نعمته وقد سمى الله تعالى توحيده ونفي الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قول يوسف عليه‌السلام : « ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ » ( يوسف : ٣٨ ).

فالآية تبين أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة والعزة على التقدم في زخارف الدنيا من مال وبنين وجاه ، ولا قدر لها عند الله ولا كرامة ، وإنما الأمر يدور مدار صفة الشكر والنعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية.

قوله تعالى : « وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » إلى آخر الآية ،

١٠٤

قد تقدم معنى السلام ، والمراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه أي استحالة انفكاك فعله عن كونه معنونا بعنوان الرحمة ، والإصلاح هو التلبس بالصلاح فهو لازم وإن كان بحسب الحقيقة متعديا وأصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل.

والآية ظاهرة الاتصال بالآية التي قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه ـ أن يتلطف بهم ويسلم عليهم ويبشر من تاب منهم عن سيئة توبة نصوحا بمغفرة الله ورحمته فتطيب بذلك نفوسهم ويسكن طيش قلوبهم.

ويتبين بذلك أولا : أن الآية ـ وهي من آيات التوبة ـ إنما تتعرض للتوبة عن المعاصي والسيئات دون الكفر والشرك بدليل قوله : « مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ » أي المؤمنين بآيات الله.

وثانيا : أن المراد بالجهالة ما يقابل الجحود والعناد اللذين هما من التعمد المقابل للجهالة فإن من يدعو ربه بالغداة والعشي يريد وجهه وهو مؤمن بآيات الله لا يعصيه تعالى استكبارا واستعلاء عليه بل لجهالة غشيته باتباع هوى في شهوة أو غضب.

وثالثا : أن تقييد قوله : « تابَ » بقوله : « وَأَصْلَحَ » للدلالة على تحقق التوبة بحقيقتها فإن الرجوع حقيقة إلى الله سبحانه واللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذر بقذارة الذنب الذي تطهر منه التائب الراجع ، وليست التوبة قول : « أتوب إلى الله » قولا لا يتعدى من اللسان إلى الجنان ، وقد قال تعالى : « وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » : ( البقرة : ٢٨٤ ).

ورابعا : أن صفاته الفعلية كالغفور والرحيم يصح تقييدها بالزمان حقيقة فإن الله سبحانه وإن كتب على نفسه الرحمة لكنها لا تظهر ولا تؤثر أثرها إلا إذا عمل بعض عباده سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح.

وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى : « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ » إلى آخر الآيتين ( النساء : ١٧ ) في الجزء الرابع من الكتاب ما له تعلق بالمقام.

قوله تعالى : « وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ » تفصيل الآيات بقرينة المقام شرح المعارف الإلهية وتخليصها من الإبهام والاندماج ، وقوله : « وَلِتَسْتَبِينَ

١٠٥

سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ » اللام فيه للغاية ، وهو معطوف على مقدر طوي عن ذكره تعظيما وتفخيما لأمره وهو شائع في كلامه تعالى ، كقوله : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا » : ( آل عمران : ١٤٠ ) وقوله : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » : ( انعام : ٧٥ ).

فالمعنى : وكذلك نشرح ونميز المعارف الإلهية بعضها من بعض ونزيل ما يطرأ عليها من الإبهام لأغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين فيتجنبها الذين يؤمنون بآياتنا ، وعلى هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل التي يسلكها المجرمون قبال الآيات الناطقة بتوحيد الله سبحانه والمعارف الحقة التي تتعلق به وهي سبيل الجحود والعناد والإعراض عن الآيات وكفران النعمة.

وربما قيل إن المراد بسبيل المجرمين السبيل التي تسلك في المجرمين ، وهي سنة الله فيهم من لعنهم في الدنيا وإنزال العذاب إليه بالآخرة ، وسوء الحساب وأليم العقاب في الآخرة ، والمعنى الأول أوفق بسياق الآيات المسرودة في السورة.

( بحث روائي )

في الكافي ، بإسناده فيه رفع عن الرضا عليه‌السلام قال : إن الله عز وجل لم يقبض نبينا حتى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ـ بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا ، وقال عز وجل : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ).

وفي تفسير القمي ، حدثني أحمد بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثنا كثير بن عياش عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله : « وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ » يقول : صم عن الهدى بكم لا يتكلمون بخير « فِي الظُّلُماتِ » يعني ظلمات الكفر « مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » وهو رد على قدرية هذه الأمة ـ يحشرهم الله يوم القيامة من (١) الصابئين والنصارى والمجوس ـ فيقولون « ( رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ )

__________________

(١) مع ظ.

١٠٦

، يقول الله : « انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ـ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ » قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا إن لكل أمة مجوسا ـ ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ـ ويزعمون أن المشية والقدرة إليهم ولهم.

قال في البرهان ، عند نقل الحديث : وفي نسخة أخرى من تفسير علي بن إبراهيم في الحديث هكذا : قال : فقال : ألا إن لكل أمة مجوسا ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ـ ويزعمون أن المشية والقدرة ليست لهم ولا عليهم ، وفي نسخة ثالثة ، يقولون : لا قدر ـ ويزعمون أن المشية والقدرة ليست إليهم ـ ولا لهم ، انتهى.

أقول : مسألة القدر من المسائل التي وقع الكلام فيها في الصدر الأول فأنكر القدر ـ وهو أن لإرادة الله سبحانه تعلقا ما بأعمال العباد ـ قوم وأثبتوا المشية والقدرة المستقلتين للإنسان في فعله وأنه هو الخالق له المستقل به ، وسموا بالقدرية أي المتكلمين في القدر ، وقد روى الفريقان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « القدرية مجوس هذه الأمة ، وانطباقه عليهم واضح فإنهم يثبتون للأعمال خالقا هو الإنسان ولغيرها خالقا هو الله سبحانه وهو قول الثنوية وهم المجوس بإلهين اثنين : خالق للخير ، وخالق للشر.

وهناك روايات أخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن أئمة أهل بيته عليه‌السلام تفسر الرواية بالمعنى الذي تقدم ، وتثبت أن هناك قدرا وأن لله مشية في أفعال عباده كما يثبته القرآن.

وقد أول المعتزلة وهم النافون للقدر الرواية بأن المراد بالقدرية المثبتون للقدر ، وهم كالمجوس في إسنادهم الخير والشر كله إلى خالق غير الإنسان ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك ، وسيجيء استيفاؤه إن شاء الله تعالى.

ومما ذكرنا يظهر أن الجمع بين القول بأنه لا قدر ، والقول بأنه ليست المشية والقدرة للإنسان ولا إليه جمع بين المتنافيين فإن القول بنفي القدر يلازم القول باستقلال الإنسان بالمشية والاستطاعة ، والقول بالقدر يلازم القول بنفي استقلاله بالمشية والقدرة.

وعلى هذا فما وقع في النسختين من الجمع بين قولهم : لا قدر ، وقولهم : إن المشية والقدرة ليست لهم ولا إليهم ليس إلا من تحريف بعض النساخ ، وقد اختلط عليه المعنى حيث حفظ قوله « لا قدر » وغير الباقي.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني في

١٠٧

الكبير وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا ـ وهو مقيم على معاصيه ما يحب ـ فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ). الآية والآية التي بعدها.

وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء ـ رزقهم القصد والعفاف ـ وإذا أراد بقوم اقتطاعا ـ فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة ـ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ـ فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم ـ الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

وفيه ، أخرج ابن المنذر عن جعفر قال : أوحى الله إلى داود : خفني على كل حال ، وأخوف ما تكون عند تظاهر النعم عليك ـ لا أصرعك عندها ثم لا أنظر إليك.

أقول : قوله : لا أصرعك نهي يفيد التحذير ، وقوله : ثم لا أنظر « إلخ » منصوب للتفريع على النهي.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً » الآية ، قال : إنها نزلت لما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، وأصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض ـ فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله : ( قُلْ ) لهم يا محمد ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً ـ أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ) ـ أي لا يصيبكم إلا الجهد والضر في الدنيا ـ فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك ـ فلا يصيب إلا القوم الظالمين.

أقول : الرواية على ضعفها تنافي ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة. على أن الآية بمضمونها لا تنطبق على القصة والذي تمحل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن.

وفي المجمع ، : في قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ) ـ الآية قال قال الصادق عليه‌السلام : أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربهم ـ ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم.

أقول : وظاهر الحديث رجوع الضمير في قوله : « من دونه » إلى القرآن ، وهو معنى صحيح وإن لم يعهد في القرآن أن يسمى وليا كما سمي إماما.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن

١٠٨

مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال" : مر الملأ من قريش على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ـ ونحوهم من ضعفاء المسلمين ـ فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء : اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فأنزل فيهم القرآن : « وَأَنْذِرْ بِهِ ـ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ » : إلخ.

أقول : ورواه في المجمع ، عن الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود مختصرا.

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال" : مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ـ وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل ـ والحارث بن عامر بن نوفل ـ ومطعم بن عدي بن خيار بن نوفل ـ في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب ـ فقالوا : لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد ـ فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا ـ كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا ـ وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه.

فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عمر : لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم؟ وما تصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله : « وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ـ إلى قوله ـ أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ».

قال : وكانوا بلالا وعمار بن ياسر ـ وسالما مولى أبي حذيفة وصبحا مولى أسيد ، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ـ وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ـ ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم.

ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : « وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا » الآية فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته ـ فأنزل الله : « وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا » الآية.

وفيه ، أخرج ابن أبي شيبة وابن ماجة وأبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن خباب قال" : جاء الأقرع بن حابس التميمي ـ وعيينة بن حصين الفزاري ـ فوجدا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قاعدا مع بلال ـ وصهيب وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين ـ فلما رأوهم حوله حقروهم ـ فأتوه فخلوا به فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا ـ تعرف لنا العرب به فضلنا ـ فإن وفود العرب ستأتيك ـ فنستحيي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد ـ فإذا نحن جئناك فأقمهم

١٠٩

عنا فإذا نحن فرغنا ـ فلتقعد معهم إن شئت قال : نعم ، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا ، فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب ، ونحن قعود في ناحية

إذ نزل جبرئيل ـ بهذه الآية : « وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ـ إلى قوله ـ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ـ فألقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصحيفة من يده ـ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ـ فأنزل الله : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ـ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) الآية. قال : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها ـ قمنا وتركناه حتى يقوم.

أقول : ورواه في المجمع ، عن سلمان وخباب وفي معنى هذه الروايات الثلاث المتقدمة بعض روايات أخر ، والرجوع إلى ما تقدم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة ثم التأمل في سياق الآيات لا يبقي ريبا أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعدوا القصة سببا لنزول الآية لا بمعنى أن الآية إنما نزلت وحدها ودفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى أن الآية يرتفع بها ما يطرأ من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرة بعد كرة وعنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.

وعلى هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص والحوادث الواقعة في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون للآية مثلا نظر إلى خصوص القصة والواقعة المذكورة ، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث والتوسع البالغ في كيفية النقل أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن تكون أسبابا منحصرة ، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة لأسباب النزول وخاصة في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعة على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط

١١٠

للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولا سيما بالنظر إلى شيوع الوضع والدس في هذه الروايات والضعف الذي فيها وما سامح به القدماء في أخذها ونقلها.

وقد روى في الدر المنثور ، عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله ابن المهاج : أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس ـ أن يطرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الضعفاء ـ من أصحاب الصفة عن نفسه في نظير من القصة ، ويضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعة وفي مكة قبل الهجرة.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : رحم الله عبدا تاب إلى الله قبل الموت ـ فإن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة ـ ومنقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين ـ فقال : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ـ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ـ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ـ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً ـ أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ـ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً ).

وفي تفسير البرهان ، روي عن ابن عباس" : في قوله تعالى : ( وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ) ـ الآية نزلت في علي وحمزة وزيد.

أقول : وفي عدة من الروايات أن الآيات السابقة نزلت في أعداء آل البيت عليه‌السلام والظاهر أنها جميعا من قبيل الجري والتطبيق أو الأخذ بباطن المعنى فإن نزول السورة بمكة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب النزول ولذلك طوينا عن إيرادها ، والله أعلم.

( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي

١١١

وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)

١١٢

وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣) ).

( بيان )

الآيات من تتمة الاحتجاجات على المشركين في التوحيد وما يرتبط به من المعارف في النبوة والمعاد ، وهي ذات سياق متصل متسق.

قوله تعالى : « قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ » إلى آخر الآية. أمر بأن خبرهم بورود النهي عليه عن عبادة شركائهم هو نهي عن عبادتهم بنوع من الكناية

١١٣

ثم أشار إلى ملاك النهي عنها بقوله : « قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ » وهو أن عبادتهم اتباع للهوى وقد نهي عنه ثم أشار بقوله : « قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ » إلى سبب الاستنكاف عن اتباع الهوى وهو الضلال والخروج عن جماعة المهتدين وهم الذين اتصفوا بصفة قبول هداية الله سبحانه ، وعرفوا بذلك ، فاتباع الهوى ينافي استقرار صفة الاهتداء في نفس الإنسان ، ويمانع إشراق نور التوحيد على قلبه إشراقا ثابتا ينتفع به.

وقد تلخص بذلك كله بيان تام معلل للنهي أو الانتهاء عن عبادة أصنامهم ، وهو أن في عبادتها اتباعا للهوى ، وفي اتباع الهوى الضلال والخروج عن صف المهتدين بالهداية الإلهية.

قوله تعالى : « قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ » إلى آخر الآية. البينة هو الدلالة الواضحة من البيان وهو الوضوح ، والأصل في معنى هذه المادة هو انعزال شيء عن شيء وانفصاله عنه بحيث لا يتصلان ولا يختلطان ، ومنه البين والبون والبينونة وغير ذلك ، قد سميت البينة بينة لأن الحق يبين بها عن الباطل فيتضح ويسهل الوقوف عليه من غير تعب ومئونة.

والمراد بمرجع الضمير في قوله : « وَكَذَّبْتُمْ بِهِ » هو القرآن وظاهر السياق أن يكون التكذيب إنما تعلق بالبينة التي هو صلى‌الله‌عليه‌وآله عليها على ما هو ظاهر اتصال المعنى ، ويؤيده قوله بعده : « ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » إلخ ، فإن المحصل من الكلام مع انضمام هذا الذيل : أن الذي أيد الله به رسالتي من البينات وهو القرآن تكذبون به ، والذي تقترحونه علي وتستعجلون به من الآيات ليس في اختياري ولا مفوضا أمره إلي فليس بيننا ما نتوافق فيه لما أني أوتيت ما لا تريدون وأنتم تريدون ما لم أوت.

فمن هنا يظهر أن الضمير المجرور في قوله : « وَكَذَّبْتُمْ بِهِ » راجع إلى البينة لكون المراد به القرآن ، وأن قوله : « ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » أريد به نفي التسلط على ما يستعجلون به بالتكنية فإن الغالب فيما يقدر الإنسان عليه وخاصة في باب الإعطاء والإنفاق أن يكون ما يعطيه وينفقه حاضرا عنده أو مذخورا لديه وتحت تسلطه ثم ينفق منه ما ينفق فقد أريد بقوله : « ما عِنْدِي » نفي التسلط والقدرة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم.

وقوله : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » إلخ ، بيان لسبب النفي ، ولذلك جيء فيه بالنفي

١١٤

والاستثناء المفيد للحصر ليدل بوقوع النفي على الجنس على أن ليس لغيره تعالى من سنخ الحكم شيء قط وأنه إلى الله سبحانه فحسب.

( كلام في معنى الحكم وأنه لله وحده )

مادة الحكم تدل على نوع من الإتقان يتلاءم به أجزاء وينسد به خلله وفرجه فلا يتجزى إلى الأجزاء ولا يتلاشى إلى الأبعاض حتى يضعف أثره وينكسر سورته ، وإلى ذلك يرجع المعنى الجامع بين تفاريق مشتقاته كالإحكام والتحكيم والحكمة والحكومة وغير ذلك.

وقد تنبه الإنسان على نوع تحقق من هذا المعنى في الوظائف المولوية والحقوق الدائرة بين الناس فإن الموالي والرؤساء إذا أمروا بشيء فكأنما يعقدون التكليف على المأمورين ويقيدونهم به عقدا لا يقبل الحل وتقييدا لا يسعهم معه الانطلاق ، وكذلك مالك سلعة كذا أو ذو حق في أمر كذا كان بينه وبين سلعته أو الأمر الذي فيه نوعا من الالتيام والاتصال الذي يمنع أن يتخلل غيره بينه وبين سلعته بالتصرف أو بينه وبين مورد حقه فيقصر عنه يده ، فإذا نازع أحد مالك سلعة في ملكها كأن ادعاه لنفسه أو ذا الحق في حقه فأراد إبطال حقه فقد استوهن هذا الإحكام وضعف هذا الإتقان ثم إذا عقد الحكم أو القاضي الذي رفعت إليه القضية الملك أو الحق لأحد المتنازعين فقد أوجد هناك حكما أي إتقانا بعد فتور ، وقوة إحكاما بعد ضعف ووهن ، وقوله : ملك السلعة لفلان أو الحق في كذا لفلان حكم يرتفع به غائلة النزاع والمشاجرة ، ولا يتخلل غير المالك وذي الحق بين الملك والحق وبين ذيهما ، وبالجملة الآمر في أمره والقاضي في قضائه كأنهما يوجدان نسبة في مورد الأمر والقضاء يحكمانه بها ويرفعان به وهنا وفتورا ، وهو الذي يسمى الحكم.

فهذه سبيل تنبه الناس لمعنى الحكم في الأمور الوضعية الاعتبارية ثم رأوا أن معناه يقبل الانطباق على الأمور التكوينية الحقيقية إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه وقدره فكون النواة مثلا تنمو في التراب ثم تنبسط ساقا وأغصانا وتورق وتثمر وكون النطفة تتبدل جسما ذا حياة وحس وهكذا كل ذلك حكم من الله سبحانه وقضاء ، فهذا ما نعلقه من معنى الحكم وهو إثبات شيء لشيء أو إثبات شيء عند شيء.

ونظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة

١١٥

التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له ، وإن كان الانتساب مختلفا باختلاف الأشياء غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثم ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة ، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشية والرزق والحسن إلى غير ذلك ، وبالجملة لما كان التأثير له تعالى كان الحكم الذي هو نوع من التأثير والجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية ، وقد أيد كلامه تعالى هذا المعنى كقوله : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » : ( الأنعام : ٥٧ يوسف : ٦٧ ) وقوله تعالى : « أَلا لَهُ الْحُكْمُ » : ( الأنعام : ٦٢ ) وقوله : « لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ » : ( القصص : ٧٠ ) وقوله تعالى : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » : ( الرعد : ٤١ ) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقب حكمه ويعارض مشيته ، وقوله : « فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ » : ( المؤمن : ١٢ ) إلى غير ذلك ، فهذه آيات خاصة أو عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى.

ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » ( يوسف : ٤٠ ) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه ما مر من الآيات غير أنه تعالى ربما ينسب الحكم وخاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى : « يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ » : ( المائدة : ٩٥ ) وقوله لداود عليه‌السلام : « إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ » : ( ـ ص : ٢٦ ) وقوله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » : ( المائدة : ٤٩ ) وقوله : « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » : ( المائدة : ٤٨ ) وقوله : « يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ » : ( المائدة : ٤٤ ) إلى غير ذلك من الآيات وضمها إلى القبيل الأول يفيد أن الحكم الحق لله سبحانه بالأصالة وأولا لا يستقل به أحد غيره ، ويوجد لغيره بإذنه وثانيا ، ولذلك عد تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم لما أنه لازم الأصالة والاستقلال والأولية فقال : « أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ » : ( التين : ٨ ) وقال « وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ » : ( الأعراف : ٨٧ ).

والآيات المشتملة على نسبة الحكم إلى غيره تعالى بإذن ونحوه ـ كما ترى ـ تختص بالحكم الوضعي الاعتباري ، وأما الحكم التكويني فلا يوجد فيها ـ على ما أذكر ـ ما يدل على نسبته إلى غيره وإن كانت معاني عامة الصفات والأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره نوعا من الانتساب بإذنه ونحوه كالعلم والقدرة والحياة والخلق والرزق والإحياء والمشية وغير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.

١١٦

ولعل ذلك مراعاة لحرمة جانبه تعالى لإشعار الصفة بنوع من الاستقلال الذي لا مسوغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطة كما أن القضاء والأمر التكوينيين كذلك ، ونظيرتها في ذلك ألفاظ البديع والبارئ والفاطر وألفاظ أخر يجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبئ عن نوع من الاختصاص ، وإنما كف عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية.

ولنرجع إلى ما كنا فيه من تفسير الآية فقوله تعالى : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » أريد بالحكم فيه القضاء التكويني ، والجملة تعليل للنفي في قوله : « ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » والمعنى ـ على ما يعطيه السياق ـ أن الحكم لله وحده وليس إلي أن أقضي بيني وبينكم ، وهو الذي تستعجلون به باستعجالكم بما تقترحون علي من الآية.

وعلى هذا فقوله : « ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » مستعمل استعمال الكناية كأنهم باقتراحهم إتيان آية أخرى غير القرآن كانوا يقترحون عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقضي بينه وبينهم ولعل هذا هو السر في تكرار لفظ الموصول والصلة في الآية التالية حيث يقول تعالى : « قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » وكان مقتضى ظاهر السياق أن يقال : لو أن عندي ذلك ، وذلك أنه أريد بقوله : « ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » في الآية الأولى لازم الآية وهو القضاء بينه وبينهم على ما جرت به السنة الإلهية ، وفي الآية الثانية نفس الآية ، ومن المحتمل أيضا أن يكون أمر الكناية بالعكس من ذلك فيكون المراد بما تستعجلون به هو القضاء بالصراحة في الآية الأولى ، والآية بالتكنية في الآية الثانية.

وقوله : « يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ » قرأ عاصم ونافع وابن كثير من السبعة بالقاف والصاد المهملة من القص وهو قطع شيء وفصله من شيء ومنه قوله تعالى : « وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ » : ( القصص : ١١ ) وقرأ الباقون بالقاف والضاد المعجمة من القضاء ، وقد حذف الياء من الرسم على حد قوله تعالى : « فَما تُغْنِ النُّذُرُ » : ( القمر : ٥ ) ولكن من القراءتين وجه ، ومآلهما من حيث المعنى واحد فإن قص الحق وفصله من الباطل لازم القضاء والحكم بالحق وإن كان قوله : « وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ » أنسب مع القص بمعنى الفصل.

وأما أخذ قوله « يَقُصُّ الْحَقَ » من القص بمعنى الإخبار عن الشيء أو بمعنى تتبع الأثر على ما احتمله بعض المفسرين فمما لا يلائم المورد :

١١٧

أما الأول فلأن الله سبحانه وإن قص في كلامه كثيرا قصص الأنبياء وأممهم غير أن المقام خال عن ذلك فلا موجب لذكر هذا النعت له وتوصيفه تعالى به.

وأما الثاني فلأن محصل معناه أن سنته تعالى أن يتبع الحق ويقتفي أثره في تدبير مملكته وتنظيم أمور خليقته ، والله سبحانه وإن كان لا يحكم إلا الحق ولا يقضي إلا الحق إلا أن أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتباع والاقتفاء إليه تعالى ، وقد قال تعالى فيما قال : « الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ » : ( آل عمران : ٦٠ ) ولم يقل : الحق مع ربك ، لما في التعبير بالمعية من شائبة الاعتضاد والتأيد والإيهام إلى الضعف.

( كلام في معنى حقيقة فعله وحكمه تعالى )

فعله وحكمه تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له ، بيان ذلك أن الشيء إنما يكون حقا إذا كان ثابتا في الخارج واقعا في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالإنسان الذي هو أحد الموجودات الخارجية والأرض التي يعيش عليها والنبات والحيوانات التي يغتذي بها ، والخبر إنما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن إدراكنا والحكم والقضاء إنما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر الآمر بشيء أو قضى القاضي بشيء فإنما يكون حكم هذا وقضاء ذاك حقا مطلقا إذا وافق المصلحة المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون ، ويكون حقا نسبيا إذا وافق المصلحة النسبية المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العام العالمي.

فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لأن نظام الكون يهدي الأشياء إلى سعادتها وخيرها ، وقد قضى على الإنسان أن يعيش اجتماعيا ، وقضى على كل مجتمع مركب من أجزاء أن يتلاءم أجزاؤه ولا يزاحم بعضها بعضا ، ولا يفسد طرف منه طرفا ، حتى ينال ما قسم له من سعادة الوجود ، ويتوزع ذلك بين أجزائه المجتمعين ، فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة ، ويطابقها الأمر بالعدل والنهي عن الظلم فكل منهما حكم حق ، ولا يطابقها الأمر بالظلم والنهي عن العدل فهما من الباطل ، والتوحيد حق لأنه يهدي إلى سعادة الإنسان في حياته الحقيقية ، والشرك باطل لأنه يجر الإنسان إلى شقاء مهلك وعذاب خالد.

وكذلك القضاء بين متخاصمين إنما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى

١١٨

فيه المصلحة الإنسانية المطلقة أو مصلحة قوم خاص أو أمة خاصة ، والمصلحة الحقيقية ـ كما عرفت ـ مأخوذة من السنة الجارية في الكون مطلقا أو نسبيا.

فقد تبين أن الحق أيا ما كان إنما هو مأخوذ من الكون الخارجي والنظام المنبسط عليه والسنة الجارية فيه ، ولا ريب أن الكون والوجود مع ما له من النظام والسنن والنواميس فعله سبحانه منه يبتدئ وبه يقوم ، وإليه ينتهي ، فالحق أيا ما كان والمصلحة كيفما فرضت يتبعان فعله ويقتفيان أثره ، ويثبتان بالاستناد إليه لا أنه تعالى يتبع الحق في فعله ويقفو أثره فهو تعالى حق بذاته وكل ما سواه حق به.

ونحن معاشر الآدميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا ورفع حوائج حياتنا ، وكانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا وربما خالفت اضطررنا في ذلك إلى رعاية جانب المصلحة التي نذعن بأنها مصلحة أي فيها صلاح حالنا وسعادة جدنا وأدى ذلك إلى الإذعان بقوانين جارية وأحكام عامة ، واعتبار شرائع وسنن اجتماعية لازمة المراعاة واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الإنسانية وموافقتها السعادة المطلوبة.

وأدى ذلك إلى الإذعان بأن للمصالح والمفاسد ثبوتا واقعيا وظروفا من التحقق منحازا عن العالمين : ـ الذهن والخارج ـ منعزلا عن الدارين : ـ العلم والعين ـ وهي تؤثر أثرها في خارج الكون بالموافقة والمخالفة فإذا طابقت أفعالنا أو أحكامنا المصالح الواقعية الثابتة في نفس الأمر ظهرت فيها المصلحة وانتهت إلى السعادة ، وإذا خالفتها وطابقت المفاسد الواقعية الحقيقية ساقتنا إلى كل ضر وشر ، وهذا النحو من الثبوت ثبوت واقعي غير قابل للزوال والتغير فللمصالح والمفاسد الواقعية وكذا لما معها من الصفات الداعية إلى الفعل والترك كالحسن والقبح وكذا للأحكام المنبعثة منها كوجوب الفعل والترك مثلا لكل ذلك ثبوت واقعي يتأبى عن الفناء والبطلان ، ويمتنع عن التغير والتبدل وهي حاكمة فينا باعثة لنا إلى أفعال كذا أو صارفة ، والعقل ينال هذه الأمور النفس الأمرية كما ينال سائر الأمور الكونية.

ثم لما وجدوا أن الأحكام والشرائع الإلهية لا تفارق الأحكام والقوانين الإنسانية المجعولة في المجتمعات من جهة معنى الحكم ، وكذا أفعاله تعالى لا تختلف مع أفعالنا من جهة معنى الفعل حكموا بأن الأحكام الإلهية والأفعال المنسوبة إلى الله سبحانه كأفعالنا في الانطباق

١١٩

على المصالح الواقعية والاتصاف بصفة الحسن ، فللمصالح الواقعية تأثير في أفعاله تعالى وحكومة على أحكامه وخاصة من حيث إنه تعالى عالم بحقائق الأمور بصير بمصالح عباده.

وهذا كله من إفراط الرأي ، وقد عرفت مما تقدم أن هذه أحكام وعلوم اعتبارية غير حقيقية اضطرنا إلى اعتبارها وجعلها الحوائج الطبيعية وضرورة الحياة الاجتماعية لا خبر عنها في الخارج عن ظرف الاجتماع ، ولا قيمة لها إلا أنها أمور متقررة في ظرف الوضع والاعتبار يميز بها الإنسان ما ينفعه من الأعمال مما يضره ، وما يصلح شأنه مما يفسده ، وما يسعده مما يشقيه.

وقد ساقت العصبية المذهبية الطائفتين الباحثتين عن المعارف الدينية في صدر الإسلام إلى تقابل عجيب بالإفراط والتفريط في هذا المقام فطائفة ـ وهم المفوضة ـ أثبتوا مصالح ومفاسد نفس أمرية وحسنا وقبحا واقعيين هي ثابتة ثبوتا أزليا أبديا غير متغير ولا متبدل وهي حاكمة على الله سبحانه بالإيجاب والتحريم ، مؤثرة في أفعاله تكوينا وتشريعا بالحظر والترخيص فأخرجوه تعالى عن سلطانه ، وأبطلوا إطلاق ملكه.

وطائفة ـ وهم المجبرة ـ نفت ذلك كله ، وأصرت على أن الحسن في الشيء إنما هو تعلق الأمر به ، والقبح تعلق النهي به ، ولا غرض ولا غاية في تكوين ولا تشريع ، وأن الإنسان لا يملك من فعله شيئا ولا قدرة قبل الفعل عليه كما أن الطائفة الأولى ذهبت إلى أن الفعل مخلوق للإنسان وأن الله سبحانه لا يملك من فعل الإنسان شيئا ولا تتعلق به قدرته.

والقولان ـ كما ترى ـ إفراط وتفريط فلا هذا ولا ذاك بل حقيقة الأمر أن هذه ونظائرها أمور اعتبارية وضعية لها أصل حقيقي وهو أن الإنسان ـ ونظيره سائر الحيوانات الاجتماعية كل على قدره ـ في مسيره الحيوي الذي لا يريد به إلا إبقاء الحياة ونيل السعادة ناقص محتاج يرفع جهات نقصه وحاجته بأعماله الاجتماعية الصادرة عن الشعور والإرادة فاضطره ذلك إلى أن يصف أعماله والأمور التي تتعلق بها أعماله في طريق الوصول إلى غاية سعادته والتجنب عن شقائه بأوصاف الأمور الخارجية من حسن وقبح ووجوب وحرمة وجواز وملك وحق وغير ذلك ويجري فيها نواميس الأسباب والمسببات فيضع في إثر ذلك قوانين عامة وخاصة ، ويعتقد لذلك نوعا من الثبوت الذي يعتقده للأمور الحقيقية حتى يتم له بذلك أمر حياته الاجتماعية.

١٢٠