العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

باقر شريف القرشي

العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، هَؤُلَاءِ قَومٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِيْمانِهِمْ فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِيْنَ » (١) .

لقد وعظ الإمام عليه‌السلام أعداءه بهذه الكلمات التي تمثّل هدي الأنبياء ومحنتهم في اُممهم ، لقد حذّرهم من فتنة الدنيا وغرورها ، وأهاب بهم من التورّط في قتل عترة نبيّهم وذرّيّته ، وأنّهم بذلك يستوجبون العذاب الأليم ، والسخط الدائم .

ثمّ استرسل الإمام الممتحن في خطابه فقال :

فَانْسِبُونِي فَانْظُرُوا مَنْ أَنا ؟ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلىٰ أَنْفُسِكُمْ وَعاتِبوها ، فَانْظُروا هَلْ يَحِلُّ لَكُمْ قَتْلِي وَانْتِهاكُ حُرْمَتِي ؟!

أَلَسْتُ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ ، وَابْنَ وَصِيِّهِ ، وَابْنِ عَمِّه ، وَأَوَّلِ الْمُؤْمِنِينَ باللهِ وَالمُصَدِّقِ لِرَسُولِهِ بِما جاءَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ؟

أَوَلَيْسَ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمَّ أَبِي ؟!

أَوَلَيْسَ جَعْفَرُ الطَيَّارُ عَمِّي ؟!

أَوَلَمْ يَبْلُغْكُمْ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله لِي وَلأَخِي : هَذَانِ سَيِّدَا شَبابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بِما أَقُولُ وَهُوَ الْحَقُّ ، وَاللهِ ما تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَ مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ ، وَيَضُرُّ بِهِ مَنِ اخْتَلَقَهُ .

وَإِنْ كَذَّبْتُمُونُي فَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ إنْ سَأَلْتُمُوهُ أَخْبَرَكُمْ ، سَلُوا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصارِيَّ ، وَأبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، وسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ، وَأَنَسَ بْنَ مالِكٍ ، يُخبِرُوكُمْ أَنَّهُمْ سَمِعُوا هَذِهِ الْمَقالَةَ مِنْ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لِي وَلِأَخِي أَما فِي هَذَا حاجِزٌ لَكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي ؟ (٢) .

__________________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٠ . بحار الأنوار : ٤٥ : ٥ و ٦ . مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٢٧٨ و ٢٧٩ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ٢٥٢ و ٢٥٣ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٩٧ و ٩٨ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٢ و ٣٢٣ . مقتل الحسين عليه‌السلام : =

١٨١
 &

وكان خليقاً بهذا الخطاب المشرق أن يرجع لهم حوازب عقولهم ، ويردّهم عن طغيانهم ، فقد وضع الإمام النقاط على الحروف ، ودعاهم إلى التأمّل ولو قليلاً ليمعنوا في شأنه ، أليس هو حفيد نبيّهم وابن وصيّه ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة كما أعلن ذلك جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته ، ولكن الجيش الأموي لم يع هذا المنطق ، فقد خلد إلى الجريمة ، واسودّت ضمائرهم ، وحيل بينهم وبين ذكر الله .

وتصدّى لجواب الإمام شمر بن ذي الجوشن ، وهو من الممسوخين ، فقال له : هو يعبد الله علىٰ حرف إن كان يدري ما تقول ؟!

وحقّاً إنّه لم يع ما يقول الإمام ، فقد ران على قلبه الباطل ، وغرق في الإثم ، وقد أجابه حبيب بن مظاهر وهو من أعلام الهدى والصلاح ، فقال له : والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك .

والتفت الإمام إلى قطعات الجيش فخاطبهم :

فَإِنْ كُنْتُم فِي شَكٍّ مِنْ هٰذَا الْقَوْلِ ، أَفَتَشُكُّونَ أَنِّي ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ ؟! فَوَاللهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍّ غَيْرِي فِيكُمْ وَلَا فِي غَيْرِكُمْ ، وَيْحَكُمْ أَتَطْلُبُونَنِي بِقَتِيلٍ مِنْكُمْ قَتَلْتُهُ ، أَوْ مالٍ لَكُمُ اسْتَهْلَكْتُهُ أَوْ بِقَصاصِ جِرَاحَةٍ .

وغدوا حيارى لا يملكون جواباً لردّه ، ثمّ التفت الإمام إلى قادة الجيش الذين دعوه بالقدوم إلى مصرهم ، فقال لهم : يا شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ ، وَيا حَجّارَ بْنَ أَبْجُرَ ، وَيا قَيْسَ بْنَ الْأَشْعَثِ ، وَيا يَزِيدَ ابْنَ الْحارِثِ ، أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ : أَنْ قَدْ أَيْنَعَتِ الثِّمارُ وَاخْضَرَّ الْجَنابُ وَطُمَّتْ الْجِمامُ ، وَإِنَّما تَقْدِمُ عَلَىٰ جُنْدٍ لَكَ مُجَنَّدٍ ، فَأَقْبِلْ ؟!

__________________________

= الخوارزمي : ١ : ٢٥٣ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٧ . ينابيع المودّة : ٣ : ٦٥ .

١٨٢
 &

وأنكر اُولئك الخونة كتبهم ، وما عاهدوا عليه الله من نصرهم للإمام ، فقالوا له : لم نفعل ذلك .

وتعجّب الإمام من ذلك وراح يقول : سُبْحانَ اللهِ ! بَلَىٰ وَاللهِ لَقَدْ فَعَلْتُمْ .

وأعرض الإمام عنهم ، ووجّه خطابه إلى جميع قطعات الجيش قائلاً : أَيُّها النّاسُ ، إِذا كَرِهْتُمُونِي فَدَعُونِي أَنْصَرِفْ عَنْكُمْ إِلىٰ مَأْمَنِي مِنَ الْأَرْضِ .

وتصدّى لجوابه قيس بن الأشعث ، وهو من رؤوس المنافقين ، وقد خلع كلّ شرف وحياء فقال له : أوَلا تنزل علىٰ حكم بني عمّك ؟ فإنّهم لن يروك إلّا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه .

فردّ عليه الإمام قائلاً : أَنْتَ أَخُو أَخِيكَ ، أَتُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَكَ بَنُو هاشِمٍ بِأَكْثَرَ مِنْ دَمِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ ؟! لَا وَاللهِ لَا أُعْطِيهِمْ بِيَدِي إِعْطاءَ الذَّلِيلِ وَلَا أَفِرُّ فِرارَ الْعَبيدِ .

عِبادَ اللهِ ، إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، أَعوُذُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكبّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (١) .

ومثّلت هذه الكلمات عزّة الأحرار وشرف الاُباة ، ولم تنفذ إلى قلوب أُولئك الجفاة الذين غرقوا في الجهل والآثام .

وتكلّم أصحاب الإمام مع معسكر ابن زياد ، وأقاموا عليهم الحجّة ، وذكّروهم بجور الأمويّين ، وما أنزلوه بهم من الجور والاستبداد ، ولم تُجدِ معهم النصائح شيئاً ، وراحوا يفخرون بنصرتهم لابن مرجانة وقتالهم لريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٩٧ و ٩٨ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٣ و ٣٢٤ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ٢٥٣ و ٢٥٤ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٧ و ٢٨٨ . البداية والنهاية : ٨ : ١٨٠ و ١٨١ .

١٨٣
 &

خطاب آخر للامام الحسين عليه‌السلام

وانبرى سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة اُخرى إلى إسداء النصحية إلى الجيش الأموي مخافة أن يدّعي أحد منهم أنّه غير عارف بالأمر ، فانطلق عليه‌السلام نحوهم ، وقد نشر كتاب الله العظيم على رأسه ، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقلّد لامة حربه ، وكان على هيبة تحكي هيبة الأنبياء والأوصياء ، فقد علت أسارير النور على وجهه الكريم فقال عليه‌السلام :

تَبَّاً لَكُمْ أَيَّتُها الْجَماعَةُ وَتَرَحاً ، أَحِينَ إِسْتَصْرَختُمُونا وَالِهينَ فَأَصْرَخْناكُمْ مُوجِفِينَ (١) ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً فِي أَيْمانِكُمْ ، وَحَشَشْتُم (٢) عَلَيْنا ناراً اقْتَدَحْناها عَلىٰ عَدُوِّنا وَعَدُوِّكُمْ فَأصْبَحْتُمْ إِلْباً (٣) لِأَعْدائِكُمْ عَلىٰ أَوْلِيائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فِيكُمْ ، وَلَا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فِيهِمْ ؟! فَهَلَّا لَكُمُ الْوَيْلاتُ تَرَكْتُمونا وَالسَّيْفُ مَشِيمٌ (٤) وَالْجَأْشُ طَامِنٌ ، وَالرَّأْيُ لَمّا يُسْتَحْصَفُ ، وَلَكِنَّكُمْ أَسْرَعْتُمْ إِلَيْها كَطَيْرَةِ الدَّبا (٥) ، وَتَدَاعَيْتُمْ عَلَيْها كَتَهافُتِ الْفَراشِ (٦) ثُمَّ نَقَضْتُمُوها سَفَهاً وَضِلَّةً ، فَبُعْداً وسُحْقاً لَكُمْ يا عَبِيْدَ الْأُمَّةِ ، وَشُذّاذَ الْأَحْزابِ ، وَنَبَذَةَ الْكِتابِ ، وَمُحَرِّفِي الْكَلِمِ ، وَعُصْبَةَ الْآثامِ ، وَنَفْثَةَ الشَّيْطانِ ، وَمُطْفِئِي

__________________________

(١) موجفين : أي مسرعين في السير إليكم . لسان العرب : ١٥ : ٢٢٣ ـ وجف .

(٢) حششتم : جمعتم الحطب للنار . لسان العرب ٣ : ١٨٨ ـ حشش .

(٣) إلباً : أي مجتمعين . لسان العرب : ١ : ١٧٧ ـ ألب .

(٤) السيف مشيم : مغمد . لسان العرب : ٧ : ٢٦٢ ـ شيم .

(٥) الدِّبا : ـ بفتح الدال وتخفيف الباء ـ : الجراد قبل أن يطير . لسان العرب : ٤ : ٢٨٨ ـ دبا .

(٦) الفراش ـ بالفتح وتخفيف الراء ـ : جمع فراشة ، وهي صغار البقّ تتهافت في النار ؛ لضعف بصرها . لسان العرب : ١٠ : ٢٣٧ ـ فرش .

يقول الغزالي : ولعلّك تظن أنّ هذا لنقصان فهمها وجهلها . إنّ جهل الإنسان أعظم من جهلها لانكبابه على الشهوات والمعاصي إلى أن يغمس في النار ويهلك هلاكاً مؤبّداً .

١٨٤
 &

السُّنَنِ ، وَيْحَكُمْ أَهٰؤُلَاءِ تَعْضِدُونَ ، وَعَنّا تَتَخاذَلُونَ ؟! أَجَلْ وَاللهِ لَغَدْرٌ فِيكُمْ قَدِيمٌ وَشَجَتْ عَلَيْهِ أُصُولُكُمْ ، وَتَأْزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ (١) ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ ثَمَرٍ ؛ شَجَنٌ (٢) لِلنّاظِرِ وَأُكْلَةٌ لِلْغاصِبِ .

أَلَا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ بَيْنَ السِّلَّةِ (٣) وَالذِّلَّةِ وَهَيْهاتَ مِنّا الذِّلَّةُ ، يَأْبَى اللهُ لَنا ذلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَحُجُورٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ ، وَأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ، وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ مِنْ أَنْ تُؤَثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلَىٰ مَصارِعِ الْكِرَامِ . أَلَا وَإِنِّي زَاحِفٌ بِهٰذِهِ الْأُسْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخُذْلَانِ النّاصِرِ .

ثمّ واصل كلامه عليه‌السلام بأبيات فروة بن مُسَيك المرادي :

فَـإِنْ نَهْـزِمْ فَهَزَّامُونَ قِدْمَاً

وَإِنْ نُهْزَمْ فَغَيْرُ مُهَزَّمِينَا

وَما إِنْ طِبُّنا جُبْنٌ وَلَكِنْ

مَنايانـا وَدَوْلَةُ آخَرِينا

فَأَفنِىٰ ذلِكُمْ سَرَوَاتَ قَوْمِي

كَما أَفنَـى القُـرُونَ الأَوَّلِينا

فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إِذاً خَلَدْنا

وَلَوْ بَقِـيَ الكِـرَامُ إِذاً بَقِينا

فَقُلْ لِلشّامِتِينَ بِنا أَفِيقُوا

سَيَلقَىٰ الشامِتُونَ كَما لَقِينا

إِذا ما المَوْتُ رَفَّعَ عَنْ أُناسٍ

كَلَاكِلَـهُ أَنـاخَ بِآخَرِينا

ثمّ قال : ثُمَّ أَيْمُ اللهِ لَا تَلبَثُونَ بَعْدَها إِلّا كَرَيْثَما يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتّىٰ تَدُورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحَىٰ ، وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْوَرِ ، عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيَّ أَبِي عَنْ جَدِّي ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

__________________________

(١) تأزّرت : أي نبتت عليه فروعكم وقويت به . لسان العرب : ١ : ١٣١ ـ أزر .

(٢) الشَّجَنُ : الغُصْن المشتبك . القاموس المحيط : ١٥٥٩ ـ شَجَنَ . لسان العرب : ٧ : ٣٩ ـ شَجَنَ . وفي أكثر المصادر يوجد تصحيف للكلمة .

(٣) السلّة : استلال السيوف عند القتال . لسان العرب : ٦ : ٣٤١ ـ سَلَلَ .

١٨٥
 &

وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ) (١) ، ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) . (٣)

اللّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطْرَ السَّماءِ ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلَامَ ثَقِيفٍ يَسْقِيهِمْ كَأْساً مُصَبَّرَةً ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونَا وَخَذَلُونَا ، وَأَنْتَ رَبُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) .

ومثّل هذا الخطاب الثوري صلابة الإمام ، وقوّة عزيمته ، وشدّة بأسه ، فقد استهان باُولئك الأقزام الذين كتبوا إليه يستنجدون به ، ويستغيثون لينقذهم من جور الأمويّين وظلمهم ، فلمّا أقبل إليهم انقلبوا عليه رأساً على عقب ، فسلّوا عليه سيوفهم ، وشهروا عليه رماحهم ، تقرّباً للطغاة والظالمين لهم ، والمستبدّين بشؤونهم ، في حين أنّه لم يبدو من اُولئك الحكّام أيّة بارقة من العدل فيهم .

كما أعلن الإمام عن رفضه الكامل لدعوة ابن مرجانة من الاستسلام له ، فقد أراد له الذلّ والهوان ، وهيهات أن يرضخ لذلك وهو سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والممثّل الأعلى للكرامة الإنسانيّة ، فقد صمّم على الحرب باُسرته التي مثّلت البطولات ليحفظ بذلك كرامته وكرامة الاُمّة .

وقد أخبرهم الإمام عن مصيرهم بعد قتلهم له أنّهم لا ينعمون بالحياة ، وأنّ الله

__________________________

(١) يونس ١٠ : ٧١ .

(٢) هود ١١ : ٥٦ .

(٣) تحف العقول : ٢٤٠ ـ ٢٤٢ . الاحتجاج : ٢ : ٩٧ ـ ١٠٠ . مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١١٠ . اللهوف : ٤٠ ـ ٤٢ . بحار الأنوار ٤٥ : ٨ ـ ١٠ ، الحديث ٨٣ . تاريخ مدينة دمشق : ١٤ : ٢١٨ و ٢١٩ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٦ ـ ٨ .

(٤) اللهوف : ٦٠ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٧ و ٨ .

١٨٦
 &

يسلّط عليهم مَن يسقيهم كأساً مصبّرة ، ويجرّعهم الغصص ، وينزل بهم العذاب الأليم .

وقد تحقّق ذلك فلم يمض قليل من الوقت بعد اقترافهم لقتل الإمام حتّى ثار عليهم البطل العظيم ، والثائر المجاهد ، ناصر الإسلام ، الزعيم الكبير ، المختار بن أبي عبيد الثقفي ، فقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً ، ونكّل بهم تنكيلاً فظيعاً ، وأخذت شرطته تلاحقهم في كلّ مكان ، فمن ظفرت به قتلته أشرّ قتلة ، ولم يفلت منهم إلّا القليل .

وقد وجم جيش ابن سعد بعد هذا الخطاب التاريخي الخالد ، وودّ الكثيرون منهم أن تسيخ بهم الأرض .

استجابة الحرّ

واستيقظ ضمير الحرّ ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الإمام ، وجعل يتأمّل ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته ، فهل يلتحق بالحسين ، ويحفظ بذلك آخرته ، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه ، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الأموي ، وينعم بصلات ابن مرجانة ؟

واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ ، وتغلّب على هواه ، فصمّم على الالتحاق بالإمام الحسين عليه‌السلام ، وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العامّ للقوّات المسلّحة ، فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟

ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ ، فقد أسرع قائلاً بلا تردّد : إي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .

لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة ، فقال له الحرّ : أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً ؟

١٨٧
 &

واندفع ابن سعد قائلاً : لو كان الأمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبىٰ ذلك .

ولمّا أيقن أنّ القوم مصمّمون على حرب الإمام عزم على الالتحاق بمعسكر الإمام ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر بن أوس ، فقال له : والله ، إنّ أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك .

وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً : إنّي والله أُخيّر نفسي بين الجنة والنار ، ولا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت وأُحرقت .

وألوىٰ عنان فرسه نحو الإمام ، وكان مطرقاً برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الإمام ، ولمّا دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور على خدّيه قائلاً : اللّهمّ إليك أُنيب ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك ، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة ؟

ونزل عن فرسه وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الإمام ليمنحه التوبة قائلاً : جعلني الله فداك يا بن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجَعْجَعْتُ بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي : لا أُبالي أن أُطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم ، وأمّا هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك ، وأنّي قد جئتك تائباً ممّا كان مني إلىٰ ربّي مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترىٰ لي توبة ؟

واستبشر به الإمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له : نَعَمْ ، يَتُوبُ اللهُ عَلَيكَ وَيَغْفِرُ لَكَ .

وملأ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستأذنه أن ينصح

١٨٨
 &

أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ ، ويثوب إلى الرشاد ، فأذن له الإمام في ذلك .

فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته : « يا أهل الكوفة ، لأُمّكم الهَبَل (١) والعَبَر (٢) ، أدعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ؟

أمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب ، ومنعتموه من التوجّه في بلاد الله العريضة حتىٰ يأمن ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، وَحَلّأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم أُولاء قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمداً في ذريته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه » (٣) .

وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الأرض ، فهم على يقين بضلالة حربهم ، إلّا أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسيّة في حبّ البقاء ، وتوقّح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان .

السَّلَامُ عَلَى الْحُرِّ بْنِ يَزيدَ الرِّياحِيَّ

__________________________

(١) الهبل : الثكل والفقد . لسان العرب : ١٥ : ٢٠ ـ هبل .

(٢) العبر : البكاء وجريان الدمع . لسان العرب : ٩ : ١٨ ـ عبر .

(٣) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٦ . الإرشاد : ٢ : ١٠٠ و ١٠١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٩ .

١٨٩
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg

١٩٠
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0191.png

١٩١
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg

١٩٢
 &



وارتبك ابن سعد حينما علم أنّ الحرّ قد التحق بمعسكر الإمام ، وهو من كبار قادة الفِرق في جيشه ، وخاف أن يلحتق غيره بالإمام ، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الإمام ، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه ، فأطلقه صوب الإمام ، وهو يصيح : اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى (١) .

واتّخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة أنّه أوّل من رمى ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون أميره على ثقة من إخلاصه ، ووفائه للأمويّين ، وأن ينفي عنه كلّ شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين عليه‌السلام .

وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الإمام ، فلم يبق أحد منهم إلّا أصابه سهم منها ، والتفت الإمام إلى أصحابه ، فأذن لهم في الحرب قائلاً : قُومُوا يا كِرَامُ ، فَهٰذه رُسُلُ الْقَوْمِ إِلَيْكُمْ (٢) .

وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من أصحاب الإمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله ، وتذبّ عن ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحقّ ، وأنّ الجيش الأموي على ضلال ، قد سخط الله عليه

__________________________

(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٨ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٦ . الفتوح : ٥ : ١٠٠ .

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٠ . اللهوف : ٦٠ .

١٩٣
 &

وأحلّ به نقمته .

لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً ، وأربعون راجلاً من أصحاب الإمام عليه‌السلام مع عشرات الآلاف من الجيش الأموي ، وكانت تلك القلّة المؤمنة كفؤاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح ، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب .

الحملة الاُولى

وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عامّاً واسع النطاق على أصحاب الإمام عليه‌السلام وخاضوا معهم معركة ضارية ، وقد اشترك فيها المعسكر الأموي بكامل قطعاته ، وقد انبرى إليهم أصحاب الإمام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الأرض ، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر ، وقد أنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات .

وقد استشهد نصف أصحاب الإمام عليه‌السلام في هذه الحملة (١) .

المبارزة بين المعسكرين

ولمّا سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام عليه‌السلام صرعى على أرض الشهادة والكرامة ، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة ، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة ، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها ، وقد بادر عمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وهو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً : يا حمقى ! أتدرون مَن تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر وقوماً مستميتين مستقلين ، فلا يبرزنّ لهم

__________________________

(١) مع الحسين في نهضته : ٢٢٠ .

١٩٤
 &

منكم أحد فإنّهم قليل وقلّما يبقون ، والله لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم (١) .

وحكت هذه الكلمات ما اتّصف به السادة أصحاب الإمام الحسين عليه‌السلام من الصفات البارزة ، فهم فرسان أهل المصر ، وذلك بما يملكونه من الشجاعة ، وقوّة الإرادة ، وأنّهم أهل البصائر ، فلم يندفعوا إلى نصرة الإمام عليه‌السلام ، إلّا على بصيرة من أمرهم ، وليسوا كخصومهم الذين تردّوا في الغواية ، وماجوا في الباطل والضلال ، كما أنّهم قوم مستميتون ولا أمل لهم في الحياة .

لقد توفّرت في أصحاب الإمام جميع النزعات الخيّرة ، والصفات الكريمة من الإيمان والوعي والشجاعة وشرف النفس ، ويقول المؤرخّون : إنّ ابن سعد استصوب رأي ابن الحجّاج ، فأوعز إلى قوّاته بترك المبارزة معهم (٢) .

وشنّ عمرو بن الحجّاج هجوماً عامّاً على من تبقّى من أصحاب الإمام ، والتحموا معهم التحاماً رهيباً ، واشتدّ القتال أشدّ ما يكون القتال عنفاً .

وقد استنجد عزرة بن قيس بابن سعد ليمدّه بالرماة والرجال قائلاً : ألا ترىٰ ما تلقىٰ خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة ؟! ابعث إليهم الرجال والرماة .

وطلب ابن سعد من المنافق شبث بن ربعي القيام بنجدته ، فأبى ، وقال : سبحان الله ، شيخ مضر وأهل المصر عامّة تبعثه في الرماة ، لم تجد لهذا غيري ؟!

ولمّا سمع ذلك ابن سعد منه دعا الحصين بن نمير ، فبعث معه المجفّفة وخمسمائة من الرماة ، فسدّدوا لأصحاب الحسين عليه‌السلام السهام ، فأصابوا خيولهم فعقروها ، فصاروا كأنّهم رجّالة ، ولم تزدهم هذه الخسارة إلّا استبسالاً في القتال ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٣ . أنساب الأشراف : ٣ : ٤٠٠ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢١ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ١٥ . المنتظم : ٥ : ٣٣٩ .‌

(٢) الإرشاد : ٢ : ١٠٣ . أنساب الأشراف : ٣ : ٤٠٠ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٣١ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٠ .

١٩٥
 &

واستهانة بالموت ، فثبتوا كالجبال الشامخات ، ولم يتراجعوا خطوة واحدة ، وقد قاتل معهم الحرّ بن يزيد الرياحي راجلاً ، واستمرّ القتال كأعنف وأشدّ ما يكون ضراوة ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أشدّ قتال حدث في التاريخ ، وقد استمرّ حتّى انتصف النهار (١) .

أداء فريضة الظهر

وانتصف النهار وحان ميقات صلاة الظهر ، فوقف المؤمن المجاهد أبو ثمامة الصائدي ، فجعل يقلّب وجهه في السماء كأنّه ينتظر أعزّ شيء عنده ، وهي أداء صلاة الظهر ، فلمّا رأى الشمس قد زالت التفت إلى الإمام قائلاً : نفسي لنفسك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتّى اُقتل دونك ، واُحبّ أن ألقى ربّي ، وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها .

لقد كان الموت منه كقاب قوسين أو أدنى ، وهو لم يغفل عن ذكر ربّه ، ولا عن أداء فرائضه ، وجميع أصحاب الإمام عليه‌السلام كانوا على هذا السمت إيماناً بالله ، وإخلاصاً في أداء فرائضه .

ورفع الإمام رأسه ، فجعل يتأمّل في الوقت فرأى أن قد حلّ وقت أداء الفريضة ، فقال له : ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ ، جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصَلِّينَ الذَّاكِرِينَ . نَعَمْ هَذَا أَوَّلُ وَقْتِها .

وأمر الإمام عليه‌السلام أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم ، فسألوهم ذلك ، فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً : إنّها لا تُقبل .

فقال له حبيب بن مظاهر بسخرية : زعمت أنّها لا تقبل الصلاة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________________

(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٤٠١ و ٤٠٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٣١ و ٣٣٢ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩١ .

١٩٦
 &

وتقبل منك يا حمار .

وحمل عليه الحصين ، فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشبّت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه (١) .

واستجاب أعداء الله ـ مكيدة ـ لطلب الإمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة ، وانبرى الإمام للصلاة ، وتقدّم أمامه سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الإمام وأصحابه بالصلاة ، فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتّقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام ، ولا الرماح والحجارة التي اتّخدته هدفاً لها ، ولم يكد يفرغ الإمام من صلاته حتّى اُثخن سعيد بالجراح ، فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه ، وهو يقول : « اللّهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيك مني السلام ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك » .

والتفت إلى الإمام قائلاً له بصدق وإخلاص : أوفيت يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فأجابه عليه‌السلام شاكراً له : نَعَمْ ، أَنْتَ أَمامِي فِي الْجَنَّةِ .

وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الإمام ، ثمّ فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها ، فقد اُصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن (٢) .

وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء والإيمان والولاء للحقّ .

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٣٥ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩١ .

(٢) اللهوف : ٦٦ . إبصار العين : ١٦٥ ـ ١٦٧ . أنساب الأشراف : ٣ : ٤٠٣ .

وفي تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٣٧ . ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ١٧ : « أنّه أبو ثمانة الصائدي » .

١٩٧
 &

مصرع بقيّة الأنصار

وتسابقت البقيّة الباقية من أصحاب الإمام من شيوخ وشباب وأطفال إلى ساحات المعركة ، وقد أبلوا بلاءً حسناً يقصر عنه كلّ وصف وإطراء ، وقد جاهدوا جهاداً لم يعرف التاريخ له نظيراً في جميع عمليّات الحروب التي جرت في الأرض ، فقد قابلوا على قلّة عددهم الجيوش المكثّفة ، وأنزلوا بها أفدح الخسائر ، ولم تضعف لأي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضّبوا جميعاً بالدماء ، وهم يشعرون الغبطة بالفخار .

وقد وقف الإمام العظيم على مصارعهم ، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم ، فيراهم مضمّخين بدم الشهادة ، فكان يقول : قَتْلَانا قَتْلَى النَّبِيِّينَ وَآلِ النَّبِيِّينَ (١) .

لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى ، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله ، فقد سجّلوا شرفاً لهذه الاُمّة لا يساويه شرف ، وأعطوا للإنسانيّة أفضل ما قُدّم لها من عطاء على امتداد التاريخ .

وعلى أي حال ، فقد شارك أبو الفضل العبّاس الأنصار الممجّدين في جهادهم ، وخاض معهم غمار الحرب ، وكانوا يستمدّون منه البسالة ، وقوّة الإرادة ، والعزم على التضحية ، وقد أنقذ بعضهم حينما وقع عليه التفاف من بعض قطعات الجيش الأموي .

مصارع آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

وبعدما سقطت الصفوة الطيّبة من أصحاب الإمام عليه‌السلام صرعى وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، هبّ أبناء الاُسرة النبويّة كالاُسود الضارية للدفاع عن ريحانة

__________________________

(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٨٠ . عوالم العلوم : ١٧ : ٣٤٧ .

١٩٨
 &

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذبّ عن عقائل النبوّة ومخدّرات الرسالة .

وأوّل مَن تقدّم إلى البراز منهم شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خَلقاً وخُلقاً ، عليّ الأكبر عليه‌السلام ، فقد آثر الموت وسخر من الحياة في سبيل كرامته ، ولا يخضع لحكم الدعيّ بن الدعيّ ، ولما رآه الإمام أخذ يطيل النظر إليه ، وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وأشرف على الاحتضار ، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء ، وراح يقول بحرارة وألم ممض :

اللّٰهُمَّ اشْهَدْ عَلَىٰ هٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَشْبَهُ النّاسِ بِرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله خَلْقاً وَخُلُقاً وَمَنْطِقاً ، وَكُنّا إِذا اشْتَقْنَا إِلىٰ رُؤْيَةِ نَبِيِّكِ نَظَرْنَا إِلَيْهِ . اللّٰهُمَّ امْنَعْهُمْ بَرَكاتِ الْأَرْضَ ، وَفَرِّقْهُمْ تَفْرِيقاً ، وَمَزِّقْهُمْ تَمْزِيقاً ، وَاجْعَلْهُمْ طَرائِقَ قِدَداً ، ولَا تُرْضِي الْوُلَاةَ عَنْهُمْ أَبَداً ، فَإِنَّهُمْ دَعَوْنا لِيَنْصِرُونا ، ثُمَّ عَدوا عَلَيْنا يُقاتِلُونَنا .

لقد تجسّدت صفات الرسول الأعظم النفسيّة والخُلقيّة بحفيده عليّ الأكبر عليه‌السلام ، وأعظِم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان ، وقد تقطّع قلب الإمام عليه‌السلام على ولده ، فصاح بابن سعد :

ما لَكَ ؟! قَطَعَ اللهُ رَحِمَكَ ، وَلَا بارَكَ لَكَ فِي أَمْرِكَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْكَ مَنْ يَذْبَحُكَ بَعْدِي عَلَىٰ فِراشِكَ ، كَما قَطَعْتَ رَحِمِي وَلَمْ تَحْفَظْ قَرابَتِي مِنْ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثُمَّ تلا قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) . (٢)

وشيّع الإمام عليه‌السلام فلذة كبده وهو غارق بالأسى والحسرات ، وخلفه عقائل النبوّة ،

__________________________

(١) آل عمران ٣ : ٣٣ و ٣٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤٢ ـ ٤٣ . الفتوح : ٥ : ١١٤ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣٠ .

١٩٩
 &

وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي ستتناهب جسمه السيوف والرماح .

وبرز الفتى مزهوّاً إلى حومة الحرب ، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبأس حمزة عمّ أبيه ، وإباء الحسين ، وتوسّط حراب الأعداء ، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً :

أَنا عَلِيُّ بْنُ الحُسَينِ بْنِ عَلِي

نَحْنُ وَرَبِّ البَيْتِ أَولىٰ بِالنَّبِي

تاللهِ لا يَحْكُمُ فِينا ابنُ الدَعِي (١)

أجل يا بن الحسين فخر هذه الاُمّة ، ورائد نهضتها وكرامتها ، أنت وأبوك أحقّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوْلى بمركزه ومقامه من هؤلاء الأدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق .

وأعلن عليّ بن الحسين عليه‌السلام في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وأنّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي بن الدعيّ ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الاُباة في الأرض ، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله ، وقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً ، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصر عنه الوصف ، ويقول المؤرّخون : إنّه ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو أشجع إنسان خلقه الله ، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً (٢) سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش ، وأضرّ به الظمأ ، فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء ، ويودّعه

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٤٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٣ . الإرشاد : ٢ : ١٠٦ . مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٩ . الفتوح : ٥ : ١١٤ و ١١٥ ، وفي الجميع اختلاف بالأُرجوزة وعدد الأبيات .

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣٠ .

٢٠٠