العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

باقر شريف القرشي

العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

والأشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً : إنّك لا تكذب ، ولا تنخدع ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، ولا ضارّيك (١) .

فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الأشعث ، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين من بين يديه ، وهو يحصد رؤوسهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم : ويلكم ! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفّار وأنا من أهل بيت الأبرار ، ويلكم ! أما ترعون حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذرّيّته .

إنّ هؤلاء الأجلاف قد فقدوا جميع القيم والأعراف ، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء ، وأقام لهم حضارة لم تعهدها الاُمم والشعوب ، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذرّيّته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً .

وعلى أي حال ، فإنّ جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار ، وضاق بابن الأشعث أمره ، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً : يا بن عقيل ، لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي .

ولم يعن مسلم بأمان ابن الأشعث لعلمه أنّه من اُسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء ، فردّ عليه قائلاً : يا بن الأشعث ، لا اُعطي بيدي أبداً ، وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً .

وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب ، وأخذ العطش القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً ، فجعل يقول : اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي .

وتكاثرت الجنود على مسلم ، وقد استولى عليهم الرعب والخوف ، وصاح بهم ابن الأشعث : إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة .

__________________________

(١) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .

١٤١
 &

فحمل الأوغاد اللئام على مسلم ، وجعلوا يطعنونه برماحهم ، ويضربونه بسيوفهم ، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الأحمري ضربة منكرة على شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض .

أسره عليه‌السلام

وأعيى مسلماً نزيف الدم ، وقد اُثخن بالجراح ، فانهارت قواه ، ولم يتمكّن على المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي أُولئك الأقزام ، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن ، ويحرّرهم من جور الأمويّين وظلمهم ، وطار ابن مرجانة فرحاً ، فقد ظفر بخصمه ، وتمّ له القضاء على الثورة ، وحُمل مسلم أسيراً إلى عبد الأمويّين وعميلهم ، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته وأعطته العهود والمواثيق ببيعته ، إلّا أنّهم خانوا بذلك ، وراحوا يقاتلونه .

وانتهي بمسلم إلى قصر الإمارة ، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً ، فرأى جرّة فيها ماء بارد ، فالتفت إلى من حوله ، فقال لهم : اسقوني من هذا الماء .

فانبرى له اللئيم الدنس عميل الأمويّين مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له : أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم .

ودلّت هذه البادرة وغيرها ممّا صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الإنسانيّة .

ومن المؤكّد أنّ هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الأنبياء والمصلحين ، وبهر مسلم من هذا الإنسان الممسوخ ، فقال له : مَن أنت ؟

فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً : أنا من عرف الحقّ إذ تركته ، ونصح الاُمّة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي .

١٤٢
 &

أي حقّ عرفه هذا الجلف الجافي ، وهو والأكثريّة الساحقة من المجتمع الذي عاش فيه قد غرقوا في الباطل والمنكر .

إنّ غاية ما يفخر به الوغد تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التاريخ البشري ، وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً : لاُمّك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك ، وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أوْلى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي .

وكان عمارة بن عقبة حاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه ، فدعا بماء بارد فصبّه في قدح ، وناوله إلى مسلم ، وكلّما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً ، وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال : لو كان لي الرزق المقسوم لشربته (١) .

مع ابن مرجانة

وادخل قمر عدنان على ابن مرجانة ، فسلّم على الحاضرين ولم يسلّم عليه ، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفة قائلاً : هل تسلّم على الأمير ؟

فصاح به البطل العظيم محتقراً له ولأميره قائلاً : اسكت لا اُمّ لك ، والله ليس لي بأمير فاُسلّم عليه .

وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول : لا عليك ، سلّمت أم لم تسلّم فإنّك مقتول .

إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار ، وهي محالاً تخيف الأحرار أمثال مسلم ممّن صنعوا تاريخ هذه الاُمّة ، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري ، وجرت بين مسلم وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته ، وعدم انهياره أمام الطاغية ، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التاريخ .

__________________________

(١) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .

١٤٣
 &

إلى الرفيق الأعلى

والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربه مسلم ، فقال له : خذ مسلماً ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك ، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فقد بقي رابط الجأش ، قويّ العزيمة ، مطمئنّ النفس ، فصعد به إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ويقدّسه ، ويدعو على السفكة المجرمين وأشرف به الجلّاد على موضع الحذّائين فضرب عنقه ، ورمى بجسده ورأسه إلى الأرض ، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهد دفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ودفاعاً عن كرامة الإنسان وقضاياه المصيريّة ، وهو أوّل شهيد من الاُسره النبويّة يقتل علناً أمام المسلمين ، ولم يهبّوا لانقاذه والدفاع عنه .

إعدام هانئ رضي‌الله‌عنه

وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتل مسلم ، بإعدام الزعيم الكبير ، والعضو البارز في الثورة هانئ بن عروة ، فاُخرج من السجن وهو يصيح أمام اُسرته التي هي كالحشرات قائلاً : وا مذحجاه . . وا عشيرتاه .

ولو كان عند اُسرته صبابة من الغيرة والحميّة لهبّت لإنقاذ زعيمها العظيم الذي كان لها كالأب ، والذي قدّم لها جميع الخدمات ، ولكنّها كبقيّة قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً ، ولا عهد لها بالشرف والكرامة .

وجيء بهانئ إلى ساحة يباع فيها الأغنام ، فنفّذ الجلّادون فيه حكم الإعدام ، فهوى إلى الأرض يتخبّط بدم الشهادة . . لقد استشهد هانئ دون مبادئه وعقيدته ، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الإسلام .

١٤٤
 &

السحل في الشوارع

وقام عملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيّين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانئ في الشوارع والأزقّة ، وذلك لإخافة العامّة وشيوع الارهاب بين الناس ، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره ، وقد انتهت بذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والأمن والرخاء بين الناس ، وقد خلد الكوفيّون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبوديّة ، وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلن الأحكام العرفيّة في بلادهم ، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة ، ويأخذ البريء بالمذنب ، كما فعل أبوه زياد من قبل ، وقد ساقهم كالأغنام لأفظع جريمة عرفها التاريخ البشري وهي حربهم لحفيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسين عليه‌السلام .

١٤٥
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg

١٤٦
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0147.png

١٤٧
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg

١٤٨
 &



وغادر الإمام الحسين عليه‌السلام مكّة ولم يمكث فيها ، فقد علم أنّ الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الارهابيّين لاغتياله ، وإن كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام .

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وأنّ أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدّمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علويّة في بلادهم .

وسار الإمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم‌السلام الذين يمثّلون القوّة والعزم والإباء ، وعلى رأسهم سيّدنا أبو الفضل عليه‌السلام ، فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الأحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق ، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه ، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف .

وواصل الإمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له : بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أعجلك عن الحجّ ؟

١٤٩
 &

فأحاطه الإمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً : لَوْ لَمْ أَعْجَلْ لَأُخِذْتُ (١) .

وسارع الإمام قائلاً : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يا أَبا فِرَاسٍ ؟

ـ من الكوفة .

أَخْبِرْنِي عَنِ النَّاسِ خَلْفَكَ ؟

كشف الفرزدق للإمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وأنّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً : على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني اُميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء . . وربّنا كلّ يوم هو في شأن .

واستصوب الإمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وأنّه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الإسلام ، فإن نال ما يرومه فذاك ، وإلّا فالشهادة في سبيل الله قائلاً له :

« صَدَقْتَ ، لِلهِ الْأَمرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ، وكُلُّ يَوْمٍ رَبُّنا فِي شَأْنٍ ، إِنْ نَزَلَ القَضاءُ بِما نُحِبُّ فَنَحْمَدُ اللهَ عَلَىٰ نَعْمائِهِ ، وَهُوَ الْمُستَعانُ عَلَىٰ أَدَاءِ الشُّكْرِ ، وَإنْ حالَ القَضاءُ دُونَ الرَّجاءِ فَلَمْ يَتَعَدَّ مَنْ كانَ الْحَقُّ نِيَّتَهُ وَالتَّقْوَىٰ سَرِيرَتَهُ » (٢) .

وأنشأ الإمام هذه الأبيات :

لَئِنْ كانَتِ الدُّنْيا تُعَدُّ نَفِيسَةً

فَإِنَّ ثَوَابَ اللهِ أَعْلَىٰ وأنبَلُ

وَإِنْ كانَتْ الأَبْدانُ لِلمَوْتِ أُنشِئَتْ

فَقَتلُ امرئٍ بِالسَّيفِ فِي اللهِ أَفضَلُ

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٦٧ . البداية والنهاية : ٨ : ١٦٩ .

(٢) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٩٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٦ . البداية والنهاية : ٨ : ١٦٨ . الصواعق المحرقة : ١٩٦ .

١٥٠
 &

وَإِنْ كانَتِ الأَرزَاقُ قِسْماً مُقَدَّراً

فَقِلَّةُ حِرصِ المَرءِ فِي الرِّزْقِ أَجْمَلُ

وَإِنْ كانَتِ الأَموالُ لِلتَّركِ جَمْعُها

فَما بالُ مَترُوكٍ بِهِ المَرءُ يَبخَلُ (١)

ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وأنّه مصمّم أشدّ ما يكون التصميم على الجهاد والشهادة في سبيل الله .

إنّ التقاء الإمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحقّ ، فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعيّاً ، ووعياً ثقافيّاً متميّزاً رأى ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة ، قد تظافرت قوى الباطل على حربه ، فلم يندفع إلى نصرته والالتحاق بموكبه ، واختار الحياة على الشهادة ، فإذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم .

وصول النبأ بمقتل مسلم عليه‌السلام

وسارت قافلة أبي الأحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتّى انتهت إلى ( زرود ) (٢) ، وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الإمام الحسين عليه‌السلام عدل عن الطريق وقد وقف الإمام يريد مسألته ، فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الإمام عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الأسديّان ، فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الإمام في سؤاله ، فأدركاه وسألاه عن خبر الكوفة ، فقال لهما : إنّه لم يخرج حتّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتّى التحقا بالإمام ، فلمّا نزل

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ٧٢ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي :١ : ٢٢٣ . وسيلة المآل : ١٨٨ . الصراط السوي في مناقب آل النبيّ : ٨٦ .

(٢) زَرُودُ : لعلها سميت بذلك لابتلاعها المياه التي تمطرها السحاب ؛ لأنّها رمال بين الثعلبية والخُزَيمية بطريق الحاج من الكوفة . معجم البلدان : ٣ : ١٥٦ .

١٥١
 &

الثعلبيّة (١) قالا له : رحمك الله ، إنّ عندنا أخباراً ان شئت حدّثناك بها علانية ، وإن شئت سرّاً .

ونظر الإمام إلى أصحابه الممجّدين ، فقال : ما دُونَ هَؤُلَاءِ سِرٌّ .

ـ أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس ؟

ـ نَعَم ، وقَدْ أَرَدْتُ مَسأَلَتَهُ .

ـ قد والله استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي ، وصدق وعقل ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانئ ورآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما (٢) .

وتصدّعت قلوب العلويّين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتّى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل (٣) ، وشاركت السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الإمام ، وأنّهم سيلاقون المصير الذي لاقاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل ، فقال لهم : ما تَرَوْنَ ، فَقَدْ قُتِلَ مُسْلِمٌ ؟

ووثبت الفتية ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريّتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين : لا والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم .

وراح أبو الأحرار يقول بمقالتهم : لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هٰؤُلاءِ (٤) .

__________________________

(١) الثعلبية : من منازل طريق مكّة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيمية ، وهي ثلثا الطريق . معجم البلدان : ٢ : ٩١ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٤ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ .

(٣) الدرّ المسلوك : ١ : ١١١ .

(٤) الإرشاد : ٢ : ٧٥ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٠ .

١٥٢
 &

وقال متمثّلاً :

سَأَمْضِي وَمَا بِالمَوتِ عَارٌ عَلَى الفَتَى

إذَا مَا نَوَىٰ حَقّاً وَجَاهَدَ مُسْلِمَا

وَآسىٰ الرِّجالَ الصّالِحينَ بِنَفْسِهِ

وَفارَقَ مَثبُوراً وَخالَفَ مُجْرِما

فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ

كَفَىٰ بِكَ عَاراً أَنْ تَذِلَّ وتُرْغَمَا (١)

لقد مضيت يا أبا الأحرار قدماً إلى الموت بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ولم تلن لاُولئك الأقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات .

النبأ المفجع بشهادة عبد الله

وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى ( زبالة ) (٢) ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبد الله بن يقطر ، الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة .

فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس : اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الإمام الحسين عليه‌السلام ـ ابن الكذّاب ، حتّى أرى رأيي فيك (٣) .

وظنّ ابن مرجانة أنّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلّاديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الأحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الاُمّة .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ ـ ٨١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٢ و ٣٨٣ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ . الفتوح : ٥ : ٧٩ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ . الدرّ النظيم : ٥٤٩ .

(٢) زُباله ـ بضمّ أوّله ـ : وهو منزل معروف بطريق مكة من الكوفة ، وهي قرية عامرة لها أسواق بين واقصة والثعلبية . معجم البلدان : ٣ : ١٤٥ .

(٣) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٣ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٨ .

١٥٣
 &

واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً : أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعي .

واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الأموي الذي عمد إلى إذلال الإنسان المسلم ، وسلب حريّته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة ، وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة (١) .

ولمّا علم أبو الأحرار بمصرع عبد الله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتّبعوه طلباً للعافية لا للحقّ ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني اُميّة قائلاً :

بِسْمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ

« أَمّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَانَا خَبَرٌ فَظِيعٌ قُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ ، وَهَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ ، وَعَبدُ اللهِ بْنُ يَقْطُرٍ ، وَقَدْ خَذَلَنا شِيعَتُنا ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ الْإِنْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ عَلَيْهِ وَلَا ذِمامٌ » (٢) .

وتفرّق ذوو الأطماع الذين اتّبعوه من أجل الغنيمة والظفر ببعض مناصب الدولة ، وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجّدين الذين اتّبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أيّة أطماع .

لقد صارح الإمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٧١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٧٩ . تاريخ الاُمم والملوك ٤ : ٣٠١ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٥ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠١ .

١٥٤
 &

إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وأنّ من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الإمام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الأمر لأنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه .

لقد كان الإمام عليه‌السلام ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلّي عنه في كلّ موقف ، والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالأمر .

الالتقاء بالحرّ

وسار موكب الإمام يطوي البيداء حتّى انتهى إلى ( شراف ) (١) وفيها عين ماء ، فأمر الإمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فانبرى بعض أصحاب الإمام بالتكبير ، فاستغرب الإمام منه ، وقال له : اللهُ أَكْبَرُ ، لِمَ كَبَّرْتَ ؟!

ـ رأيت النخل .

وأنكر عليه رجل من أصحاب الإمام ممّن عرف الطريق ، فقال له : ليس هاهنا نخل ، ولكنّها أسنة الرماح ، وآذان الخيل .

وتأملها الإمام فطفق يقول : وَأَنا أَرَىٰ ذَلِكَ ، أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ، وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الأموي جاءت لحربه ، فقال لأصحابه : أَما لَنا مَلْجَأٌ نَلْجَأُ إِلَيْهِ فَنَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنا ، ونَستَقْبِلُ القَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ؟

وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق ، فقال له : بلى هذا ( ذو حُسَم ) (٢) إلى

__________________________

(١) شَرَاف ـ بفتح أوّله ـ : ماء بنجد بين واقصة والقرعاء . معجم البلدان : ٣ : ٣٧٥ .

(٢) حُسَم ـ بضمّ الحاء وفتح السين ـ : اسم موضع ، وقد ذكره لبيد في شعره :

لِيَبْكِ عَلَى النُّعْمَانِ شَرْبٌ وَقَينَةٌ

وَمُخْبِطَاتٌ كَالسَّعَالِي أَرَامِلُ

بِذِي حُسَمٍ قَدْ عُرِّيَتْ وَيَزِينُها

دِمَاثُ فُلَيجٍ رَهْوها وَالمَحَافِلُ

=

١٥٥
 &

جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد (١) .

ومال موكب الإمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتّى أدركه جيش مكثّف بقيادة الحرّ ابن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الإمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الإمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثمّ انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملأون القصاص والطساس ، فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت ، وسقى الآخر حتّى سقوها عن آخرها (٢) .

لقد تكرّم الإمام عليه‌السلام على أُولئك الوحوش الأنذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الأريحيّة وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله ، حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ .

خطاب الامام عليه‌السلام في الجيش

وخطب الإمام عليه‌السلام خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وإنّما جاءهم محرّراً ومنقذاً لهم من جور الأمويّين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والإسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف :

__________________________

= معجم البلدان : ٢ : ٢٥٨ . وفي بعض المصادر : ( ذو جشم ) ، ( ذو حُسمَىٰ ) .

(١) الإرشاد : ٢ : ٧٦ و ٧٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٠ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٧ و ٧٨ . الأخبار الطوال : ٢٤٨ ـ ٢٤٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٣ . الخطط المقريزية : ١ : ٤٢٩ .

١٥٦
 &

أَيُّها النّاسُ ، إِنَّها مَعْذِرَةٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَيْكُمْ ، إِنِّي لَمْ آتِكُمْ حَتَّى أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ بِها عَلَيَّ رُسُلُكُمْ أَنْ أقْدِمْ عَلَيْنا فَإِنَّهُ لَيْسَ لَنَا إِمَامٌ ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنا بِكَ عَلَى الهُدَىٰ ، فَإِنْ كُنْتُمْ عَلَىٰ ذَلِكَ فَقَدْ جِئْتُكُمْ ، فَإِنْ تُعْطُونِي مَا أَطْمَئِنَّ بِهِ مِنْ عُهُودِكُمْ وِمِواثِيقِكُمْ أَقْدِمُ مِصْرَكُمْ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وكُنْتُمْ لِمَقْدَمِي كارِهِينَ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى الْمَكانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ إِلَيكُمْ .

وأحجموا عن الجواب لأنّ أكثرهم ممّن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل .

وحضر وقت صلاة الظهر ، فأمر الإمام مؤذّنه الحجّاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الإمام إلى الحرّ ، فقال له : أَتُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ بِأَصْحابِكَ ؟

فقال الحرّ بأدب : « بلى نصلّي بصلاتك .

وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى أخبيتهم ، ولمّا حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالإمام في الصلاة ، وبعد الانتهاء منها خطب الإمام الحسين عليه‌السلام خطاباً رائعاً ، فقد قال ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ :

أَمّا بَعْدُ أَيُّها النَاسُ ، إِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا اللهَ ، وَتَعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ يَكُنْ أَرْضَىٰ للهِ عَنْكُمْ ، ونَحنُ أَهْلُ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَأَوْلىٰ بِوِلَايَةِ هٰذَا الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ مِنْ هٰؤُلَاءِ الْمُدَّعينَ ما لَيْسَ لَهُمْ ، وَالسّائِرينَ فِيكُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا كَراهِيَةً لَنا ، وَالْجَهْلَ بِحَقِّنا ، فَكانَ رَأْيُكُمُ الْآنَ عَلَىٰ غَيرِ ما أَتَتْنِي بِهِ كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ بِهِ عَلَىَّ رُسُلُكُمُ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ (١) .

لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فإنّ في ذلك رضاً لله

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٧٩ و ٨٠ . اللهوف : ٤٧ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ . الفتوح : ٥ : ٧٨ .

١٥٧
 &

ونجاة لأنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت عليهم‌السلام روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الإسلام ، وهم أوْلى وأحقّ بولاية اُمور المسلمين من بني اُميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم ، فإنّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه .

وانبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الإمام ، فقال له : ما هذه الكتب التي تذكرها ؟

فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها ، فأخرج خرجين مملوئين صحفاً ، فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للإمام : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك .

ورام الإمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه ، فمنعه الحرّ ، وقال له : إنّي لا اُفارقك إذا لقيتك حتّى اُقدمك الكوفة على ابن زياد .

ولذعت الإمام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به : الْمَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِن ذَلِكَ .

وأمر الإمام أصحابه بالركوب ، فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجّه إلى يثرب ، فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين : ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ ما تُرِيدُ ؟

وأطرق الحرّ برأسه إلى الأرض وتأمّل ، ثمّ رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب : ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه .

وسكن غضب الإمام ، وأعاد عليه القول : ما تُرِيدُ مِنَّا ؟

ـ اُريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد .

ـ وَاللهِ لَا أَتَّبِعُكَ .

ـ إذن والله لا أدعك .

١٥٨
 &

إنّي لم اُؤمر بقتالك ، وإنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك (١) .

واتّفقا على هذا الأمر ، فتياسر الإمام عن طريق العذيب والقادسيّة ، وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الإمام عن كثب ويراقبه أشدّ ما تكون المراقبة .

خطاب الإمام عليه‌السلام

وانتهى موكب الإمام إلى ( البيضة ) (٢) فألقى الإمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات :

أَيُّها النَاسُ ، إِنَّ رَسولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالَ : مَنْ رَأَىٰ سُلْطاناً جَائِراً مُسْتَحِلّاً لِحُرَمِ اللهِ ، ناكِثاً لعَهْدِ اللهِ ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ كانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ .

أَلَا وَإِنَّ هٰؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيْطانِ وتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمٰنِ ، وَأَظْهَرُوا الْفَسادَ ، وعَطَّلُوا الْحُدُودَ ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ ، وَأَحَلُّوا حَرامَ اللهِ ، وحَرَّمُوا حَلَالَهُ ، وَأَنا أَحَقُّ مِمَّنْ غَيَّرَ (٣) ، وَقَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ أَنَّكُمْ لَا تُسْلِمُونِي ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٠ و ٣٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ . الفتوح : ٥ : ٧٨ ـ ٧٩ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ .

(٢) البيضة : ـ بكسر الباء ـ : موضع بين العذيب وواقصة في أرض الحزن من ديار بني يربوع ابن حنظلة . معجم البلدان : ١ : ٦٣١ ـ ٦٣٢ .

(٣) وفي الفتوح : ٥ : ٨١ : « وَأَنَا أَحَقُّ مِن غَيْرِي بِهٰذَا الْأَمْرِ ؛ لِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله » .

١٥٩
 &

وَلَا تَخْذُلُونِي ، فَإِنْ أَقَمْتُمْ عَلَىٰ بَيْعَتِكُمْ تُصيبُوا رُشْدَكُمْ وَأَنا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نَفْسِي مَعَ أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِي مَعَ أَهْلِيكُمْ ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ ، وَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي ، فَلَعَمْرِي ما هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوها بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ ، فَالْمَغْرُورُ مَن اغْتَرَّ بِكُمْ ، فَحَظُّكُمْ أَخْطَأْتُمْ ، وَنَصِيبُكُمْ ضَيَّعْتُمْ ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ، وَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ ، وَالسَّلامُ (١) .

وأعلن أبو الأحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على حكومة يزيد ، وأنّها لم تكن من أجل المطامع والأغراض الشخصيّة الخاصّة ، وإنّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأي حال من الأحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإنّ من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فإنّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره .

كما ندّد عليه‌السلام بالأمويّين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والإمام عليه‌السلام أحقّ وأوْلى من غيره بتغيير الأوضاع الراهنة وإعادة الحياة الإسلاميّة المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين .

وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الإمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون .

ولمّا أنهى الإمام خطابه قام إليه الحرّ ، فقال له : إنّي اُذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ .

وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً : أَفَبِالْمَوتِ تُخَوِّفُنِي ؟! وَهَلْ يَعدُو بِكُمُ الْخَطْبُ أَنْ

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ و ٣٠٥ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ .

١٦٠