الرسائل الفقهيّة - ج ٢

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

في هذه المجموعة

١ ـ رسالة في أحكام الطلاق.................................................. ٧

٢ ـ رسالة في شرح حديث لسان القاضي بين جمرتين من نار................... ٢٣

٣ ـ رسالة في ارث الزوجة.................................................. ٣١

٤ ـ رسالة في الحبوة........................................................ ٥٧

٥ ـ رسالة في حرمة تزويج المؤمنة بالمخالف................................... ٨١

٦ ـ رسالة في استحباب كتابة الشهادتين على الكفن......................... ١١٧

٧ ـ رسالة في حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها........................... ١٢٧

٨ ـ رسالة في بيان عدد الأكفان........................................... ١٣٧

٩ ـ رسالة في جواز التداوي بالخمر عند الضرورة............................ ١٤٩

١٠ ـ رسالة في حكم الحدث الأصغر المتخلل في غسل الجنابة.................. ١٦٩

١١ ـ رسالة في في المسائل الفقهية المتفرقة................................... ١٩٩

١٢ ـ رسالة في استحباب رفع اليدين حالة الدعاء............................ ٢٨٣

١١٣ ـ رسالة في بيان علامة البلوغ........................................ ٢٩٣

١٤ ـ رسالة في من أدرك الإمام في أثناء الصلاة.............................. ٣٠٥

١٥ ـ الرسالة الهلالية..................................................... ٣١٥

٥

١٦ ـ الرسالة الذهبية..................................................... ٣٨٥

١٧ ـ الفصول الأربعة في من دخل عليه الوقت وهو مسافر فحضر وبالعكس والوقت باق    ٤٢٧

١٨ ـ رسالة في من زنا بامرأة ثم تزوج بابنتها................................ ٤٤٧

١٩ ـ رسالة في شرائط المفتي............................................... ٤٧١

٢٠ ـ رسالة في منجزات المريض........................................... ٤٩٣

٦

سلسلة آثار المحقق الخاجوئي

(٤٦)

رسالة

في احكام الطلاق

للعلامة المحقق العارف

محم اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ هـ ق

تحقيق

السيد مهدي الرجائي

٧
٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لقد سئلت عن هذه المسألة غير مرة ، لأنها كانت عامة البلوى ومبسوطة الجدوى ، فصار ذلك سببا مقدما لنا لتحريرها وتقريرها.

فأقول : وأنا العبد المذنب المفرط المقصر الجاني الفاني محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر بإسماعيل المازندراني ، أنهم عرفوا الطلاق مطبقين عليه بأنه إزالة قيد النكاح بصيغة مخصوصة.

ولا يخفى أنه بظاهره يفيد أنه يزيله ويرفعه رأسا ، من غير فرق في ذلك بين طلاق وطلاق ، إذ الرجعي منه فيه كالبائن منه ، غير أنه يجوز فيه الرجوع دونه فالقول بأنه يرفع حكم الزوجية رفعا متزلزلا يستقر بانقضاء العدة ، أقوى من القول بأن خروج العدة تمام السبب في زوال الزوجية ، فيكون النكاح الأول باقيا متزلزلا يزول بانقضائها ، لأن فيه شائبة التناقض ، فان مقتضى الطلاق كما علم زواله ، فكيف يكون بعده باقيا مستتبعا لبقاء حكم الزوجية.

قال الشهيد في شرح الإرشاد : الفراق ازالة قيد النكاح بسبب شرعي ، ويدخل فيه الطلاق ، وهو ازالة قيد النكاح بصيغة طالق من غير عوض.

والخلع : وهو ازالة قيد النكاح بعوض ، بشرط كراهية الزوجة.

٩

والمبارأة : وهي إزالة قيد النكاح بعوض مع كراهة الزوجين.

واللعان : وهو ازالة قيد النكاح بسبب الشهادات المخصوصة.

أقول : فكل ذلك مشترك في إزالة قيد النكاح ، ولا يقول أحد في غير الطلاق ان النكاح باق بعد ازالة قيده ولا الزوجية فما بال قوم يقولون في الطلاق الذي هو أيضا إزالة قيد النكاح انه باق بعده ، وكذا الزوجية.

وتفصيله : ان ازالة قيد النكاح لما كانت مشتركة بين الكل ، فمقتضاها ـ وهو زوال النكاح والزوجية ـ كان أيضا مشتركا بين الكل.

وذلك لان المقتضي تابع للمقتضى اشتراكا واختصاصا ، فإذا لا بد من القول بزوال النكاح والزوجية في الطلاق أيضا ، إذ لا يفهم من زوال قيد النكاح إلا زوال النكاح ، لأن إضافته إليه إضافة اللجين الى الماء.

وعلى احتمال كون الإضافة بيانية ، كان المعنى بحاله ، فزواله زواله.

فالقول ببقائه بعد الطلاق قول ببقاء الشي‌ء بعد زواله ورفعه ، وهو قول سوفسطائي ، لأن رفع كل شي‌ء نقيضه ، فبعد عروضه لمعروضه لا يبقى منه عين ولا أثر ، كالسواد العارض لمعروض البياض.

ومعلوم أن بعد زوال النكاح لا تبقى الزوجية ولا حكمها ، لأنها تابعة له ، فزواله زوالها ، كما أن بقاءه بقاؤها.

وبالجملة بقاء الزوجية بعد الطلاق ملزوم لبقاء النكاح الأول ، وقد جعل الطلاق مزيلا له ، فيلزم منه أن يكون مزيلا له وغير مزيل.

وبعضهم بعد أن صرح بأنه قد أزال قيد النكاح ، صرح بأنه باق بعده ، فلما أشعر بما قلناه ورام دفعه أخذ يقول تارة ان الطلاق ازالة قيد النكاح بالفعل وصيره بالقوة. واخرى أنه لم يزله رأسا ، وأخرى أن أثر النكاح الأول لم يزل بالكلية بل يتوقف على انقضاء العدة.

١٠

ثم بعد ذلك كله يقول : ان النكاح الأول باق غايته أنه متزلزل واستدامته غير ممتنعة ، الى غير ذلك من التكلفات المشعرة باضطرابه في توجيه القول الثاني من القولين المذكورين.

ثم قال : ويؤيد الأول تحريم وطئها بغير الرجعة ، ووجوب المهر بوطئها على قول ، وتحريمها به إذا أكمل العدة.

ويؤيد الثاني عدم وجوب الحد بوطئها ، ووقوع الظهار واللعان والإيلاء بها ، وجواز تغسيل الزوج لها وبالعكس ، فهي بمنزلة الزوجة.

أقول : لا تأييد فيه ، أما في الأول فلان وطئها وان لم يقصد به الرجوع رجوع ومنه يعلم أنه لم يجب به عليه حد ، نعم وطئها بقصد عدم الرجعة مع تذكره وعلمه بأن الطلاق قد رفع حكم الزوجية ، يوجب عليه الحد.

ومنه يعلم ما في هذا التأييد من شبه المصادرة ، فإن من يقول بأن الطلاق يرفع حكم الزوجية لا يقول بعدم وجوب الحد عليه بوطئها بقصد عدم الرجعة.

وأما في الثاني ، فلان رفع حكم الزوجية لما كان متزلزلا يمكنه رفعه بالمراجعة في العدة ، صح منه الظهار والإيلاء واللعان ، فمناط وقوعها في العدة هو كون رفع حكمها متزلزلا ، لإبقاء الزوجية والنكاح متزلزلا ، فإنه سفسطة كما سبقت.

وأما في الثالث ، فلان جواز التفصيل من الطرفين لعل الوجه فيه أنه غير مشروط ببقاء الزوجية إلى الموت ، بل يكفي فيه بقاء المدة التي يجوز فيها الرجوع وذلك كإرث الزوجة ، فإنه أيضا غير مشروط ببقاء الزوجية إلى الموت ، بل قد ترث وان ارتفعت الزوجية ، كما في المريض يطلق في مرض الموت ، فان زوجته المطلقة ترثه ما لم تخرج السنة ، أو يبرأ من مرضه أو تزوج.

والظاهر أن هذه الثلاثة وما شاكلها ، كجواز الرجوع في العدة من فوائد

١١

الطلاق الرجعي ، ولا دلالة فيها ولا تأييد لبقاء النكاح والزوجية بعد الطلاق.

على أن كونها بمنزلة الزوجة لا يضرنا فيما نحن بصدده ، إذ الطلاق لما أزال النكاح بالفعل وذهب بعينه بالكلية ، وان لم يذهب بأثره كذلك ، بل جعله بالقوة المحضة ، كما هو المفهوم من كلماته المنقولة آنفا.

فحينئذ نقول : لا نسلم أنه لا يجوز النكاح المنقطع على من هي بمنزلة الزوجية الكذائية ، أي بالقوة ، فإن القدر المسلم انما هو عدم جوازه على الزوجة الدائمة ما دامت زوجة دائمة بالفعل.

فإذا خرجت عن حبالته بالفعل وصارت زوجة بالقوة ، فلا نسلم عدم جوازه عليها ، بل لا بد لنفيه من دليل ، فان جواز استدامته بالرجوع لا ينافي جواز الانقطاع بعدم الرجوع ، فله أن لا يرجع ونجعله منقطعا في زمن العدة كما له في ذلك الزمان أن يرجع ونجعله مستداما.

بل نقول : عامة النساء زوجة لعامة الرجال بالقوة على تفاوت مراتب القوة فقولهم ان الطلاق أزال قيد النكاح بالفعل وجعله بالقوة ، والرجعة سبب فاعل لحصوله بالفعل لا يضرنا.

إذ الطلاق لما أزال فعليته وجعله بالقوة ، فكما جاز أن تكون الرجعة سببا فاعلا لحصوله بالفعل ، جاز أن تكون غيرها كالنكاح المنقطع كذلك ، أي : سببا فاعلا لحصوله بالفعل.

والمحل كما هو قابل للأثر من الفاعل الأول ، وهو حصوله بالفعل وصيرورتها دائمة ، كذلك قابل للأثر من الفاعل الثاني ، وهو حصوله بالفعل وصيرورتها منقطعة.

وتوهم أن ذلك المحل لما كان قابلا للنكاح الدائم وكانت فيه قوة ، لم يكن قابلا للنكاح المنقطع ، ولم تكن فيه قوته. فاسد ، فان ذلك المحل بعد وقوع

١٢

الطلاق وخروجه من صرافة الفعل الى محوضة القوة ، صار كالمادة الاولى القابلة للصورتين على البدل ، فأيتهما سبقت الأخرى وحلت فيها قبلتها من غير مائز ، فمن ادعاه فعليه البيان.

وبالجملة فبعد رفع المانع ، وهو فعلية النكاح الدائم يؤثر المقتضي على وقف مقتضاه ، أن دائما فدائم ، وان منقطعا فمنقطع.

ثم لا يذهب عليك أن ما جعله مؤيدا ثالثا للقول الأول دليل واضح عليه ، إذ لا وجه لتحريمها بإكمال العدة على القول ببقاء النكاح الأول وعدم زوال الزوجية بعد الطلاق.

والقول بأن الطلاق الرجعي ناقص في إزالة قيد النكاح والزوجية ، وانما يصير تماما بخروج العدة ، سخيف يلزم منه الفرق من غير فارق بين طلاق وطلاق وعدة وعدة.

فان غير الرجعي من طلاق سبب تام في إزالة قيد النكاح والزوجية من غير مدخل فيه لخروج ، فليكن الرجعي منه أيضا كذلك تحقيقا وتحصيلا للعدة لمفهوم الطلاق ، والا فما الفارق؟ وبم صار هذا الطلاق ناقصا في مفهومه مستضعفا في أثره.

وكذا لا وجه لتحريم وطئها بغير الرجعة سوى زوال النكاح الأول بالطلاق ، ورفع حكم الزوجية به ، فهو أيضا دليل واضح عليه ، فلا وجه لجعله مؤيدا له ، وكذا وجوب المهر بوطئها.

والعجب من هذا القائل في هذا الموضع بأن وطئها بغير الرجعة يوجب عليه مهر المثل ، لظهور أنها بانت بالطلاق ، إذ ليس هناك سبب غيره ، وهنا نسب وجوبه الى قول وجعله مؤيدة للقول برفع حكم الزوجية ، وهو دليل واضح عليه.

١٣

أقول : وكذا عرفوا الرجعة بأنها رد نكاح زال بطلاق بملك الزوج رفعه في العدة ، وهذا كسابقه صريح في أنه يزيله ويرفعه رأسا ، وبعد زواله يزول حكم الزوجية لأنها تابعة له ، فإذا زال زالت.

وأما قولهم ان النكاح لو زال لكان العائد بالرجعة ، أما الأول وهو يستلزم اعادة المعدوم ، أو غيره وهو منتف ، والا لتوقف على رضاها فالنكاح الأول باق.

ففيه أن القائل بزوال النكاح الأول لا يقول انه لا يعود بالرجعة ليلزم منه اعادة المعدوم ، بل يقول : ان الرجعة نكاح مبتدأ ، ولا يتوقف على رضاها ، لان رفع حكم الزوجية لما كان متزلزلا يستقر بانقضاء العدة ، فما لم تنقض لم يستقر ، بل يمكن رفعه بالرجعة ، فلا تتوقف على رضاها لعدم اختيارها وقتئذ ، وانما تصير مختارة بعد انقضائها.

وحينئذ لو تجدد نكاح يتوقف على رضاها ، وأما قبل ذلك فلا. نعم لها قبله اختيار بالنسبة الى غير النكاح ، كالنكاح المنقطع ، فيتوقف صحته على رضاها.

على أن هذا الدليل مبني على امتناع اعادة المعدوم ، وذلك لم يثبت ، بل ظاهر بعض الاخبار والآثار يدل على إمكانها.

ثم أقول : ان الطلاق الخلعي يزيل النكاح وأثره بالكلية ، ويزول أحكام الزوجية بالمرة ، وهو اتفاقي ، ثم انها ان رجعت في البذل في العدة صار الطلاق رجعيا والعدة رجعية ، فلو لزم بقاء النكاح والزوجية فيها ، للزم هنا أيضا مع زوالهما وهو يستلزم اعادة المعدوم ان كان العائد برجوعها في البذل في العدة هو النكاح الأول.

وبتقرير آخر : أن العائد بصيرورة الخلعي يكون رجعيا بعد رجوعها في البذل ، أما الأول وهو يستلزم اعادة المعدوم أو غيره وهو منتف ، والا لتوقف على رضاها بل على رضاهما.

١٤

اللهم الا أن يقال : ان رجوعها في البذل ما دامت في العدة بمنزلة النكاح مبتدأ متزلزل ، يستقر برجوعه فيها ، فان لم يرجع حتى انقضت العدة بطل هذا النكاح ولا رجعة له بعده فتأمل.

واعلم أن القائل بأن الرجعة كالعقد المستأنف لا يقول بإمكان طلاقها ثلاثا بعد الرجعة بدون الوقاع ، وانما يقوله من يقول ببقاء الزوجية ، والنكاح الأول بعد الطلاق.

ومع عزل النظر عن هذا الخلاف ، فالأولى بل الأحوط أن لا يطلقها بعد الرجعة إلا بعد الوقاع ، كما هو مذهب بعض أصحابنا ودل عليه بعض أخبارنا ، ولما كانت الرجعة نكاحا مبتدأ جاز وطؤها بنية الرجوع بغير لفظ يدل عليه.

ومنه يعلم أن استدلالهم على بقاء النكاح الأول وعدم زوال أثره بالكلية بقولهم ضعيف ، ومن ثم جاز وطؤها بنية الرجوع بغير لفظ يدل عليه ولا شي‌ء ممن (١) ليست بزوجة يجوز وطؤها ، كذلك ضعيف.

لأنها لو كانت زوجة وكان النكاح الأول باقيا لجاز وطئها بغير نية الرجوع ، بل لا معنى حينئذ للرجوع ونيته ، لكنه لا يجوز وطئها بغير نية الرجوع ، فيظهر منه أنها ليست بزوجة ، وان النكاح الأول غير باق ، وانها وان لم تكن بعد الطلاق زوجة يجوز وطيها الا أنها بالرجعة التي هي نكاح مبتدأ صارت زوجة يجوز وطئها بغير لفظ دال عليه.

هذا. ويتفرع على الخلاف المذكور مسائل :

منها : ما لو عقد عليها زوجها في زمن عدتها عقدا منقطعا ، فإنه على القول الأول صحيح دون الثاني ، ولعل الصحة أقوى كما أومأنا إليه ، إذ لا شبهة في أن الطلاق محرم للنكاح ، وبعد تحريمه فكما صح تحليله بالرجعة وتصير حينئذ مستدامة ، صح تحليله بغيرها من النكاح المنقطع ونحوها ، إذ المقصود من الرجعة هو

__________________

(١) كذا في الأصل.

١٥

الاستباحة ، وانحصار طريقها فيها غير مسلم ، بل لها طرق أخر.

وبالجملة ينفسخ النكاح بالطلاق وان كان رجعيا ، لأن فائدة الرجعي جواز الرجوع فيه ، لإبقاء النكاح والزوجية ، والا لم تبن بانقضاء العدة.

فإذا انفسخ النكاح بالطلاق وصار مرتفعا في زمان العدة ورفع حكم الزوجية وصارت أجنبية في ذلك الزمان وحرم عليه وطئها فيه ، وحصلت الحيلولة بينهما فله أن يستبيح وطئها ، ويستحل فرجها بأي طريق شاء من الطرق المبيحة المحللة بالرجعة ، أو بالعقد ، أو بالاشتراء ، أو الاستحلال ، ان كانت زوجته المطلقة أمة غيره.

نعم تأخير العقد عليها الى أو ان انقضاء العدة لتصير صحته خارجة عن الخلاف لعله الأولى أو الأحوط لو سلم ذلك لهم.

وأما أنه لو عقد عليها قبل ذلك ، كان عقده هذا باطلا يحتاج الى تجديده بعد الانقضاء ، أو تصير الزوجة المطلقة بوطئها بعد ذلك العقد دائمة لكونه راجعة ، الى غير ذلك من الاحكام ، كالتوارث ، ووجوب النفقة والقسمة وغيرها ، فلا ، بل يجري عليها أحكام العقد المنقطع.

هذا ومما قررناه يستبين أن لا مانع على القول الأول أن يقول في حضور العدلين طلقتك ، ثم يقول بعده برضاها : متعتك. بل على القول الثاني أيضا لا مانع منه على بعض الوجوه التي أشرنا اليه ، والله تعالى يعلم.

ثم أقول : ومن المسائل المتفرعة على الخلاف المذكور ما لو طلقها رجعية فارتدت ، فان جعلنا الرجعة نكاحا مبتدأ لم تصح كما لا يصح ابتداء الزوجية ، بخلاف ما لو قلنا انها استدامة وازالة لما كان طرأ عليه من السبب الذي لم يتم ، فإنها تصح على هذا القول ، وقد عرفت قوة الأول.

واحتج على عدم الصحة أيضا بأن الرجوع تمسك بعصم الكوافر ، وهو

١٦

منهي عنه ، وان الرجعة إثبات لما صار بالقوة بالفعل ، إذ الطلاق أزال قيد النكاح بالفعل ، والرجعة سبب فاعل لحصوله بالفعل فكان كالمبتدإ.

وشرط تحقق الأثر من الفاعل قبول المحل ، وبالارتداد زال القبول ، وبأن المقصود من الرجعة الاستباحة ، وهذه الرجعة لا تفيد الإباحة ، فإنه لا يجوز الاستمتاع بها ولا الخلوة معها ما دامت مرتدة.

ويتفرع على ذلك أيضا ما لو طلق المرتدة في زمن العدة ، فإن جعلنا النكاح مرتفعا زمن العدة لم يقع بالأجنبية والا وقع.

ومنها : ما لو كانت عنده ذمية فطلقها رجعيا ، ثم راجعها في العدة ، فعلى القول بأن الرجعة كالعقد المستأنف لا تجوز ، وعلى القول بأنها لم تخرج عن زوجيته فهي كالمستدامة جازت ، وقد سبق الكلام مفصلا.

وقد بلغني بواسطة أظنها صادقة حاكية عن بعض الطلبة أن بعض معاصريه الذين كانوا من قبل زمانه هذا ، وسماهم فلانا وفلانا ، وظني أنهم لم يكونوا بالغي درجة الاجتهاد ، ولا لهم قوة تصرف في المسائل الاجتهادية ، كانوا يمنعون الناس عن ذلك ويحكمون بالبطلان (١).

والظاهر أن ذلك منهم كان بمحض تقليدهم بعض متأخري أصحابنا ، فإن ظاهرهم حيث قالوا ببقاء الزوجية ما دامت في العدة ، وعدم زوال أثر النكاح الأول بالكلية المنع من النكاح المنقطع قبل انقضاء العدة.

ولكن هذا لو صح فإنما يصح من أهله ، لا ممن لا يعرف الهر من البر ، كأكثر أهل دهرنا هذا ، فإنهم يفتون الناس مشافهة ومكاتبة ، وبينهم وبين درجة الاجتهاد بعد المشرقين أو أكثر ، وانما يأخذون ما يفتون من غير مأخذه من أفواه الرجال ، أو ما يجدونه مكتوبا في بعض الكتب.

__________________

(١) أي : عن العقد المنقطع في زمان الغدة.

١٧

وقل ما يكون فيهم من يستطيع الرجوع الى كتاب فقهي ، بل لا علم له بما فيه ولا بمدركه ومأخذه ، ولا بصحته وسقمه ، وانما يقول ما يقول من مقولة الرجم بالغيب.

وبهذه الأهواء المضلة يضلون ويضلون ولا يهتدون ، فذرهم في غمرتهم يعمهون حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

فإن المروي عن سيدنا أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنه قال : لا تحل الفتيا لمن لا يستغني (١) من الله بصفاء سره وإخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربه في كل حال ، لان من أفتى فقد حكم ، والحكم لا يصح الا بإذن من الله وبرهان. ومن حكم بالخبر بلا معاينة فهو جاهل مأخوذ بجهله ومأثوم بحكمه (٢).

ونحن نشرح هذا الحديث بهذا التقريب لتكون فائدته أتم ، والحجة على هؤلاء الغاغة أقوم.

فنقول : الفتيا بالياء وضم الفاء ، والفتوى بالواو وفتح الفاء ، ما أفتى به الفقيه.

وفيه دلالة على أن صفاء السر والعلانية وإخلاص العمل علة موجبة لان يفيض من الله عز اسمه على المفتي ما يغنيه في باب الإفتاء عن غيره تعالى ، بأن يعطيه الله من فضل رحمته قوة يتمكن بها من رد الفرع إلى أصولها واستنباطها منها.

وهذه القوة هي العمدة في هذا الباب ، والا فتحصيل مقدمات الاجتهاد كما قيل قد صار في هذه الأزمان لكثرة ما حققه العلماء والفقهاء فيها وفي بيان استعمالها سهلا.

__________________

(١) في المصباح : لا يصطفي.

(٢) مصباح الشريعة ص ١٦.

١٨

وهذه القوة بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده ، بشرط ما سبق من صفاء سريرته وعلانيته ، وإخلاص عمله ونيته.

ويؤيده ما ورد في الخبر عن سيد البشر : ليس العلم بكثرة التعلم ، انما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه.

وفي خبر آخر : من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

وفي آخر : العلم نور وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه وينطق به لسانهم.

وفي آخر : ما من عبد الا ولقلبه عينان ، وهما غيب يدرك بهما الغيب ، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عيني قلبه ، فيرى ما هو غائب عن بصره.

وفي آخر : النور إذا دخل في القلب انشرح وانفسح ، قيل : يا رسول الله هل ذلك من علامة؟ قال : نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله.

ويظهر منها ومما شاكلها أن العلم للعالم انما يحصل من الله جل ذكره إذا تبتل اليه تبتيلا ، واتخذ بالذكر والفكر اليه سبيلا ، على قدر صفائه وقبوله وقوته واستعداده.

ولا يحصل الا بعد فراغ القلب وصفاء الباطن وتخليته عن الرذائل ، خاصة عن رذيلة الدنيا وحبها وزهراتها وزخارفها ، فإنها رأس كل رذيلة ، والمانع من كل حصول الاجتهادية وغيرها ، مع تقارب المدارك منها مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش وغالب الأحكام إلزام.

فبالانشاء تخرج الفتوى لأنها اخبار ، وبتقارب المدارك في المسائل الاجتهادية يخرج ما يضعف مدركه جدا ، كالعول والتعصيب وقتل المسلم بالكافر ، فإنه لو حكم به حاكم وجب نقضه ، وبمصالح المعاش تخرج العبادات ، فإنه لا مدخل

١٩

للحكم فيها ، فلو حكم به حاكم بصحة صلاة زيد مثلا يلزم صحتها ، بل ان كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك ، والا فهي فاسدة.

وكذا الحكم بأن مال التجارة لا زكاة فيها ، وان الميراث لا خمس فيه ، فان الحكم فيه لا يرفع الخلاف ، بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك.

نعم لو اتصل بها أخذ الحاكم ممن حكم عليه بالوجوب مثلا لم يجز نقضه ، فالحكم المجرد عن اتصال الأخذ اخبار كالفتوى ، وأخذه للفقراء حكم باستحقاقهم فلا ينقض إذا كان في محل الاجتهاد.

هذا ولعل المراد بالمعاينة غلبة ظنه بأن الحكم الفلاني يستنبط منه بعد استعماله شرائط الاستنباط كأنه يعاينه ، لا القطع واليقين ، فان ذلك مشكل في كثير من الاحكام.

وكذا المراد بمعرفة الاحكام في قولهم عليهم‌السلام : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فاجعلوه بينكم حاكما هو غلبه ظنه بأن تلك الاحكام تستنبط من أخبارهم وآثارهم ، لا العلم واليقين بذلك.

فان الاستنباط هو الاستخراج بالاجتهاد المشار اليه بقوله تعالى ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (١) لا يفيد الجزم ، وفي كثير من الاخبار دلالة على جواز استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، منها حديث من انقطع ظفره وجعل عليه مرارة كيف يصنع بالوضوء؟ فقال عليه‌السلام : تعرف هذا وأشباهه من كتاب الله ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢).

وفيه أيضا دلالة على جواز العمل بالظواهر القرآنية ، والمرارة في الأصل

__________________

(١) سورة النساء : ٨٣.

(٢) سورة الحج : ٧٨ ، وسائل الشيعة ١ / ٣٢٧ ، ح ٥.

٢٠