الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

أقول : وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق والتدقيق ، فيه نظر ظاهر ، لان المراد بالوجوه العقلية ان كان هو القياس ، فيخرج الاستدلال وان كان هو الاستدلال فيخرج القياس.

وان كان هما معاً ، فليسا بدليل واحد يصح الحصر ، اذ كل منهما دليل بحياله فلا يصح عدهما واحداً على قواعدهم ، فان الادلة الشرعية عندهم عبارة عن الكتاب والسنة والاجماع والقياس والاستدلال.

فأخبار أئمتنا المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين : اما (١) غير معدودة عندهم في عداد الادلة ، واما مندرجة تحت السنة. وعلى أي تقدير فالحصر غير حاصر على ما اعتبره قدس‌سره ، حيث عد كلامهم عليهم‌السلام دليل آخر من الادلة الشرعية.

فان قلت : انه أراد بأهل الرأي المجتهدين من أصحابنا الامامية ، وهم لا يقولون بالقياس ، وان كانوا يستنبطون الاحكام بالوجوه العقلية المنحصرة عندهم في أحد عشر وجهاً ، وما أراد بهم الفقهاء الاربعة ومن شائعهم من القائلين بالقياس ، فالحصر حاصر اذ الادلة حينئذ منحصرة في الثلاثة المختارة عنده وفي الاجماع ودليل العقل.

قلت : الادلة عند فقهائنا المجتهدين منحصرة في أربعة لا في خمسة ، كما صرح به جماعة ، منهم الشهيد في الذكرى ، حيث قال : الاشارة السادسة في قول وجيز في الاصول وهي أربعة ، ثم فصلها بالكتاب والسنة والاجماع ودليل العقل وقسمه على قسمين : ما لا يتوقف على الخطاب وهو خمسة ثم عدها ، وما يتوقف

__________________

(١) هذا الترديد بناءً على مذاهب العامة والخاصة ، فالاول للاول ، والثانى للثانى ولذلك قال في الذكرى : السنة طريقة النبى أو الامام المحكية عنه ، فالنبى بالاصالة والامام بالنيابة ، ثم قسمها الى قول وفعل وتقرير « منه ».

٤٦١

عليه وهو ستة ثم عدها (١).

وقال البهائي نور الله مرقده في زبدة الاصول : الادلة الشرعية عندنا أربعة : الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، ودليل العقل. وقال في الحاشية : ولا خامس للادلة عندنا ، وأما عندهم ـ وعنى بهم العامة ـ فخمسة.

وقال الفاضل الحلي طاب مثواه في بعض فوائده (٢) أدلة الاحكام عندنا منحصرة في كتاب الله العزيز وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المتواترة المنقولة عنه ، أو عن أحد من الائمة المعصومين عليهم‌السلام ، بالاحاد مع سلامة السند ، والاجماع ، ودليل العقل كالبراءة الاصلية والاستصحاب والاحتياط.

ولما اشترك الكتاب والسنة والخبر في كونها دالة بمنطوقها تارة وبمفهومها أخرى ، انقسمت الادلة السمعية الى هذين القسمين ، والمفهوم قسمان : مفهوم موافقة ، ومفهوم مخالفة. وكانت هذه الادلة كافية في استنباط الاحكام.

ودل العقل والنقل على امتناع العمل بالقياس ، على ما بين في كتب الاصول ونعني بالقياس اثبات الحكم في صورة لاجل ثبوته في صورة أخرى.

ويعتمد على أربعة أركان : الاصل ، وهو الذي يثبت فيه الحكم بدليل من نص أو غيره. والفرع ، وهو الذي يطلب اثبات مثل ذلك الحكم فيه ، والحكم الذي يدعى ثبوته في الفرع لثبوته في الاصل. والعلة ، وهي الجامع بين الاصل والفرع لمناسبة الحكم ، كما تقول : الخمر حرام ، فالنبيذ حرام بالقياس اليه ، والجامع هو الاسكار ، فالخمر هو الاصل والنبيذ هو الفرع والحكم هو التحريم والجامع هو الاسكار وهو العلة المقتضية لثبوت الحكم فيهما.

__________________

(١) الذكرى ص ٣.

(٢) وهو ما أفاد وأجاد في جواب مسألة سأله عنها المهنا المدنى نضر الله وجههما وشرف قدرهما « منه ».

٤٦٢

اذا عرفت ذلك فنقول : هذا القياس ان كان منصوص العلة ، وجب العمل به ولا يكون قياساً في الحقيقة ، بل اثبات الحكم في الفرع بالنص ، كما في قوله عليه‌السلام لما سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص اذا جف؟ قالوا : نعم ، قال : فلا اذن ، دل على أن المقتضى للمنع هو اليبوسة الموجبة للنقص ، فيعم الحكم الرطب بالتمر والعنب والتين الرطب باليابس ، وغير ذلك من النظائر.

فالاحكام التي ليست منصوصة عندنا بالخصوصية ، قد يثبت فيها الحكم : اما بطريق مفهوم الموافقة ، وهو أبلغ في الدلالة من المنطوق ، كما في قوله تعالى ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) (١) فانه يدل على الضرب بطريق أولى ، وقيل : هذا يكون مقطوعاً به.

أو بطريق مفهوم المخالفة ، كما في قوله عليه‌السلام « في سائمة الغنم الزكاة » دل بمفهوم الخطاب على انتفاء الزكاة عن المعلوفة ، وفي كونه دليلا خلاف ، أو بطريق القياس المنصوص العلة ، كما قلنا في الرطب.

وليس شيئاً من هذه الانواع بقياس ، فلا يتوهم أنا نعدي الحكم من صورة الى أخرى الا على أحد من هذه الانواع ، فلا ينسب الينا العمل بالقياس (٢) انتهى كلامه طاب منامه.

فظهر أن هذا الكلام من ذلك العلام قدس‌سره لا ينطبق على مذهب من مذهبي العامة والخاصة ، ولا يطابق ما عليه القوم ، فهو اصطلاح جديد ليس له وجه سديد.

فان منصب الامام عليه‌السلام ووظيفته على ما صرح به الاقوام أن يحفظ الشريعة القويمة ، وترويج الكتاب والسنة ، على ما كانا عليه في عهد صاحب الشريعة

__________________

(١) سورة الإسراء : ٢٣.

(٢) أجوبة المسائل المهنائية ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

٤٦٣

صلوات الله على شارعها والمستحفظين لها بايضاح المبهمات ، وافصاح المجملات وتبيين المتشابهات ، وتعيين المنسوخات والناسخات ، وتعليم التأويل ، وتعريف التنزيل ، والاخبار عن مراد الله عزوجل ، الى غير ذلك من الاحكام والحدود والضوابط الشرعية والروابط الدينية والقوانين الملية.

فهم عليهم‌السلام في الحقيقة حافظون لحجج الله وبيناته ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » (١) لان معنى عدم افتراقهما هو أن علم الكتاب عندهم عليهم‌السلام ، فهم قائمون مقامه ، والمبينون كلامه ، فهذا وجه ما اصطلح عليه الاقوام.

وأما وجه ما ذهب اليه ذلك العلام ، فغير معلوم ولا مفهوم ، غير أن لا مشاحة في الاصطلاح ، مع أن اللازم من مذهب الاخباريين وهو قدس‌سره منهم انحصار الادلة في اثنين : الكتاب والسنة ، فبعد انضمام الإجماع ودليل العقل اليهما تصير أربعة ، مطابقة لما عليه القوم ، وهو ظاهر.

فهذا ما نعرف من ظاهر الحال ، وهو روح الله روحه أعرف بما قال ، ولكن الظاهر أنه أراد بالوجوه العقلية ما يسميه القوم بدليل العقل والعامة بالاستدلال ، المراد به ما ليس بنص ولا اجماع ولا قياس.

وقد يطلق في العرف على اقامة الدليل مطلقا ، من نص أو اجماع أو غيرهما ، ولكنه اصطلح من عنده وعد كلامهم عليهم‌السلام دليلا آخر من الادلة ، فزاد على كلا الاصطلاحين قسماً آخر.

فالحصر في طريقة العامة غير حاصر. وأما على قواعد القوم ، فيلزم منه أن يكون قسم الشي‌ء قسيمه ، لانهم ذكروا في وجه الحصر أن الدليل على الحكم الشرعي : اما وحي أولا ، الاول : اما نوع لفظه معجز أولا ، الاول الكتاب ، والثاني

__________________

(١) حديث الثقلين وهو حديث متواتر بين الفريقين ، رواه الجمهور في كتبهم.

٤٦٤

السنة. وغير الوحي اما كاشف عن تحقيق وحي أولا ، الاول الإجماع والثاني دليل العقل.

وقال مخالفونا : الوحي اما متلو وهو الكتاب ، أولا وهو السنة. وغير الوحي ان كان قول الكل فاجماع ، أو مشاركة فرع لاصل فقياس ، والا فاستدلال ، فظهر بذلك ما في كلامه قدس‌سره من الخبط والخروج عن القانون ، فلينظر الى ما فيه.

[ المناقشة في الايات الدالة على وجوب صلاة الجمعة عيناً ]

قال قدس‌سره : الباب الاول في الدليل على عينية وجوب الجمعة من كلام الله ، قال الله تعالى في محكم كتابه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١) اتفق المفسرون على أن المراد بالذكر المأمور بالسعي اليه في الآية ، صلاة الجمعة ، أو خطبتها ، أو هما معاً ، كما نقله غير واحد من العلماء.

فكل من تناوله اسم الايمان مأمور بالسعي اليها واستماع خطبتها وتعلمها (٢) وترك كل ما يشغل عنها ، فمن ادعى خروج بعض المؤمنين من هذا الامر في بعض الاوقات فعليه الدليل ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين. وفي الآية مع الامر الدال على الوجوب ضروب التأكيد وأنواع الحث ما لا يخفى.

قال زين المحققين الشهيد الثاني في رسالته التي ألفها في تحقيق هذه المسألة واثبات الوجوب العيني في زمان الغيبة ، وبسط القول فيه بما ملخصه : ان تعليق الامر في الآية انما هو على النداء الثابت شرعيته لفريضة الوقت ، أربعاً كانت أو اثنتين ، وحيث ينادى لها يجب السعي الى ذكر الله ، وهو صلاة الجمعة ركعتين

__________________

(١) سورة الجمعة : ٩.

(٢) في المصدر : وفعلها.

٤٦٥

واستماع خطبتها ، وكأنه قال : اذا نودي للصلاة عند الزوال يوم الجمعة فصلوا الجمعة ، أو فاسعوا الى صلاة الجمعة وصلوها.

قال : وهذا واضح الدلالة لا اشكال فيه ، ولعله السر في قوله تعالى ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) ولم يقل فاسعوا اليها ، وانما علقه على الاذان حثاً على فعله لها (١) حتى ذهب بعضهم الى وجوبه لها لذلك ، وكذا القول في تعليق الامر بالسعي ، فانه أمر بمقدماتها على أبلغ وجه ، واذا وجب السعي اليها وجبت هي أيضاً بطريق الاولى ، ولا معنى لايجاب السعي اليها مع عدم ايجابها ، كما هو ظاهر انتهى كلامه (٢).

أقول (٣) : وبالله التوفيق « اذا » الشرطية ليست بناصة في العموم لغة ، لكونها من سور المهملة ، ودعواهم أن المستعملة في الايات الاحكامية تكون بمعنى « متى » و « كلما » فتفيد العموم عرفاً ، نحو ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا

__________________

(١) في المصدر : على قبلها.

(٢) الشهاب الثاقب ص ١٥ ـ ١٦.

(٣) الغرض من هذا التفصيل الايماء الى كيفية الاستدلال بالاية ، وطريقة الاستنباط منها ، وفيه تعريض على المستدل ، فان المراد بكون آية مثلا دليلا على حكم ، أنه يستنبط من منطوقها أو مفهومها ذلك الحكم ، ويستدل بها عليه بعد العلم بضوابط الاستدلال من غير أن يستعان فيه بقول زيد وعمرو.

كما يستدل مثلا بقوله تعالى ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) على الضرب والشتم واللطم وبقوله عليه‌السلام « في سائمة الغنم الزكاة » على انتفائها عن المعلوفة. وبقوله « فلا اذن » عن أن المقتضى للمنع هو اليبوسة الموجبة للنقص ، فيعم الحكم الرطب باليابس ، وذلك ظاهر.

ألا ترى الى ما سبق من الفاضل الحلى أنه كيف قسم الادلة السمعية وبين كيفية استنباط الاحكام في الكتاب والسنة ، والخبر تارة بالمنطوق وأخرى بالمفهوم ، الى آخر ما ذكره فارجع اليه وتأمل فيه ثم اذعن بما ذكرناه « منه ».

٤٦٦

وُجُوهَكُمْ ) (١) ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ) (٢) ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا ) (٣) غير مسلمة ، وعموم الاوقات في الايات ليس لدلالتها عليه ، بل للإجماع والاخبار.

والمراد بالنداء الاذان ، يعني : اذا أذن في يوم الجمعة للصلاة. واللام فيها للعهد ، والمعهود صلاة الظهر المذكورة في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (٤) وأمثالها ، وهي ـ أي : الظهر ـ أول صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي الصلاة الوسطى التي خصها الله من بين الصلوات اليومية بالامر بالمحافظة عليها ، بعد الامر بالمحافظة على الجميع ، كما دلت عليه الاخبار وصرحت به الاخبار وسيأتي مفصلا.

وذلك لان اللام منها لا يحتمل أن يكون للجنس ولا للاستغراق ، وهو ظاهر ولا للعهد الذهني لانه موضوع للحقيقة المتجددة في الذهن ، وارادة الفرد المنتشر منه محتاجة الى القرينة ، وليست فليست ، مع أنه غير مستلزم للمطلوب ، فتعين كونه للعهد الخارجي ، ولا عهد في موضع من القرآن بصلاة الجمعة.

فان قلت : العهد الخارجي على ثلاثة أقسام : الذكري ، وهو الذي تقدم لمصحوبه ذكر ، نحو ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (٥) والعلمي ، وهو الذي تقدم لمدخوله علم ، نحو ( بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) (٦) ( إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) (٧) لان ذلك كان معلوماً عندهم. والحضوري ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

(٢) سورة النحل : ٩٨.

(٣) سورة النساء : ٨٦.

(٤) سورة الاسراء : ٧٨.

(٥) سورة المزمل : ١٦.

(٦) سورة طه : ١٢.

(٧) سورة الفتح : ١٨.

٤٦٧

نحو ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) فيجوز أن يكون المراد هنا الثاني ، اذ لا مانع له دون الاول.

قلت : هذا مع أنه خارج عن موضع استدلالهم انما يصح أن لو ثبت بطريق صحيح أن نزول الآية انما كان بعد علمهم بوجوب صلاة الجمعة ، واشتهارها وشيوعها فيما بينهم ، ودون ثبوتها خرط القتاد ، وكيف لا؟ وهم انما يثبتون أصل وجوبها بالاية ، فكيف يصح هذا الاحتمال والحال هذه؟ بل صرح بعض مثبتي وجوبها بأنها ما كانت معهودة ولا مشروعة قبل نزولها.

هذا و « من » اما للابتداء وعلامته صحة ايراد « الى » أو ما يفيد معناه في مقابلتها أي : اذا نودي نداءً ناشئاً من مؤذني يوم الجمعة الى الصلاة ، فعليكم السعي الى ذكر الله. فاللام هنا مفيدة لمعنى الانتهاء ، كالباء في قولنا « أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » واما بمعنى « في » كما أومأنا اليه ، فانه في الظروف كثيراً ما يقع بمعناه ، نحو « من بيننا وبينك حجاب ، وكنت من قدامكم » ولعله من أظهر الوجوه فان المراد بالنداء هنا ما يقع في وسط يوم الجمعة وعرضه ، لا ما يقع في أوله وابتدائه تأمل فيه.

واما للتعليل مثله ( مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ) (٢) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (٣).

واما للتبيين ، وهو اظهار المقصود من أمر مبهم ، فهو هنا بيان لـ « اذا » لان قولك وقت نداء الصلاة « وجب عليكم السعي اليها » مبهم ، فاذا قلت : الذي هو يوم الجمعة ، ظهر المقصود ورفع الابهام.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

(٢) سورة نوح : ٢٥.

(٣) عوالى اللئالي ١ / ٤٤ ، برقم : ٥٥.

٤٦٨

واما للتبعيض ، ومعناه : اذا نودي بعض يوم الجمعة. واما زائدة على القول بجوازها في الايات.

وفي الآية صنوف التأكيد وضروب الحث والمبالغة في طلب الخير والاستباقة اليه ، حيث عبر عن الذهاب الى ذكر الله بالسعي المفيد للاسراع في المشي والمبالغة فيه ، ثم أمر بترك البيع ، ثم قال : السعي والترك أنفع لكم عاقبة ان كنتم من أهل العلم ، وهو مشعر بأن من لم يفعلهما فهو ليس من أهله ، بل هو ممن لم يميز بين الخير والشر والصلاح والفساد ، ولم يفرق بين الضار والنافع.

ولعل الوجه فيه أن يوم الجمعة يوم مبارك مضيق على المسلمين ، وهو يوم العمل والتعجيل ، وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً الا أعطاه ، وفيه يضاعف العمل ، ويغفر للعباد ، وينزل عليهم الرحمة ، من وافق منكم يوم الجمعة فلا يشتغلن بشي‌ء غير العبادة ، ولكن الناس لما لم يحيطوا به علماً وكانوا فيه من الزاهدين ، ومنه ومن فضائله من الغافلين ، حثهم عليه وأمرهم بترك جميع أسباب المعاش في ذلك الوقت ، وقال « هو خير لكم » لان ما عندكم ينفد وما عند الله باق والعاقل لا يؤثر الفاني على الباقي.

هذا والاضافة في ذكر الله للعهد ، لان تعريفها باعتباره ، لا تقول غلام زيد الا لغلام معهود باعتبار تلك النسبة ، لا لغلام من غلمانه ، والا لم يبق فرق بين النكرة والمعرفة ، والمعهود هو الصلاة ، لانه لم يسبق غيرها.

ولذلك قال المستدل قدس‌سره بعد ما بلغ الى درجة الفهم والانصاف ، وتخلى عن التعصب والاعتساف في تفسير الصافي وهو كاسمه : فان الاسماء تنزل من السماء ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) يعني : الى الصلاة كما يستفاد مما قبله ومما بعده ولم يقيدها بالجمعة ، ولا استدل بها على وجوبها ، بل اكتفى بذكر نبذ من الاخبار كما هو دأبه في هذا التفسير ، ولذلك وضعه ثم قال : والاخبار في وجوب الجمعة

٤٦٩

أكثر من أن تحصى (١).

وقد عرفت أن المراد بالصلاة في الآية هو الظهر ، فمن ادعى أن المراد بالذكر صلاة الجمعة أو خطبتها أو هما معاً فعليه الدليل ( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ).

اللهم الا أن يقولوا انا وجدنا آبائنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون ، وقول المفسرين على تقدير اتفاقهم (٢) ليس بحجة (٣) ، اذ الادلة الشرعية منحصرة في أربعة أو خمسة ، وقد مرت اليه الاشارة ، وما عد قولهم منها ، مع أنهم أخذوا بعضهم من بعض تقليداً من غير نظر دقيق ، أو فكر عميق ، وليس في الاخبار ما يدل على المراد به الصلاة أو خطبتها أو هما معاً ، كما ادعاه القائلون بالوجوب العيني.

__________________

(١) الصافي ٥ / ١٧٥.

(٢) فان اتفاقهم ليس باجماع ، وهو اجتماع رؤساء الدين في هذه الامة في عصر على أمر فضلا عن أن يكون اجماعاً معتبراً عندهم ، وهو ما علم دخول المعصوم فيه خصوصاً على طريقة المستدل ، فانه غير قابل به مطلقا ، ولا يكون هو عنده حجة ، كما مر في مقدمة كتابه.

والغرض اما الرد عليه ، مع أن المفسرين ما استدلوا على ما ادعوه بدليل يعتمد عليه ولا استندوه الى قول من يركن النفس اليه ، بل اكتفى بعضهم بمجرد أن قال : المراد بالذكر هنا الخطبة ، وفسره الآخرون بصلاة الجمعة من غير دليل وبيان ولا حجة وبرهان « منه ».

(٣) ومن أراد أن يعرف أن قول المفسرين واتفاقهم واجماعهم ليس بحجة ، وانه لا يجوز تقليدهم ولا الاعتماد على قولهم ، فعليه بمطالعة ما ذكره المستدل قدس‌سره في ديباجة تفسيره الصافي ، فانه قد بين ذلك فيه بما لا مزيد عليه ، ولانى لا عجب منه أنه كيف اعتمد في هذا المقام على قولهم؟ وبنى أساس الاستدلال ومداره عليه ، مع ما قاله في هذا الكتاب ، ولعل ذلك منه قدس‌سره كان بعد أن وصل الى مقام التحقيق والتدقيق وكان هذا قبله « منه ».

٤٧٠

وكيف يكون قولهم حجة؟ مع ما هو المشهور بين الطلبة أنه لا يجوز تفسير القرآن بغير نص وأثر.

وقد نقل في مجمع البيان أنه قد صح عن النبي وعن الائمة عليهم‌السلام أن تفسير القرآن لا يجوز الا بالاثر الصحيح والنص الصريح. وروت العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ (١).

وفي طريق الخاصة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس شي‌ء بأبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن (٢).

وفي ذلك تحير الخلائق أجمعون الا من شاء الله ، وانما أراد الله لنعمته في ذلك أن ينتهوا الى بابه وصراطه وأن يعبدوه وينتهوا في قوله الى طاعته بكتابه ، والناطقين عن أمره وأن يستنبطونه منهم. فأما غيرهم فليس يعلم ذلك أبداً ، واياك واياك وتلاوة القرآن برأيك ، فان الناس غير مشتركين في علمه ، كاشتراكهم فيما سواه من الامور ، ولا قادرين عليه ولا على تأويله الا من حده ، وبابه الذي جعله الله له ، فافهم واطلب الامر من مكانه تجده انشاء الله.

وفي حديث سليم بن قيس الهلالي قال قلت لامير المؤمنين عليه‌السلام : اني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً في تفسير القرآن وأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير ما في أيدي الناس ، ثم سمعت منك تصديق ما سمعته منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الاحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم تخالفونهم وتزعمون أن ذلك كله باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمدين ، ويفسرون القرآن بآرائهم.

قال عليه‌السلام : ان في أيدي الناس حقاً وباطلا وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٣.

(٢) تفسير العياشى ١ / ١٧.

٤٧١

وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً ، وقد كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عهده حتى قام خطيباً ، فقال : أيها الناس قد كثرت علي الكذابة ، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، ثم كذب عليه من بعده الحديث (١).

ويستفاد منه أن لا اعتماد على شي‌ء من تفاسير العامة اذا لم يكن على طبقه في طريقنا خبر صحيح ولا سيما في المتشابهات.

وبالجملة الاستدلال بالاية على وجوبها العيني موقوف على اثبات تلك المقدمات الممنوعة ، ودون اثباتها خرط القتاد. وعلى تقدير دلالتها عليه ، فهو مخصوص بأهل زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

لما تقرر في الاصول من أن الخطابات العامة المشافهة الواردة على لسان الرسول ليست خطابات لمن بعدهم ، وانما يثبت حكمها لهم بدليل آخر من نص أو اجماع أو غيرهما ، وأما بمجرد الصيغة فلا ، وسيأتي تفصيله.

فالاية بانفرادها لا تدل على وجوبها العيني في هذا الزمان ، بل لا بد في الدلالة عليه من انضمام أمر آخر من نص أو اجماع ، وهما غير ظاهرين.

أما الثاني فظاهر ، بل المشهور أن الإجماع منعقد على خلافه كما سيأتي.

وأما الاول فتعرف حاله ، ومنه يظهر أن الاستدلال بهذه الآية وتاليها على تلك المسألة لا يجدي نفعاً ، بل العمدة فيها هي الاخبار ، فان تمت دلالتها يثبت المدعى والا فلا.

وهم وتنبيه :

جعل بعضهم من باب الاضطرار حديث أبي أيوب الخزاز فيما سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا

__________________

(١) سليم بن قيس ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

٤٧٢

مِنْ فَضْلِ اللهِ ) قال : الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت (١). مؤيداً ومفسراً للاية.

وأنت وكل سليم العقل خبير بأنه ليس فيه عين ولا أثر لما ادعاه ، بل الوجه فيه ما روى المعلى بن خنيس عنه عليه‌السلام أيضاً أنه قال : من وافق منكم يوم الجمعة فلا يشتغلن بشي‌ء غير العبادة ، فان فيه يغفر للعباد ، وتنزل عليهم الرحمة (٢).

فكان ينبغي للعاقل أن يصرف تمام وقته في ذلك اليوم في الطاعة والعبادة ، وبعد انقضائه فله الانتشار من الارض والابتغاء من فضل الله.

يؤيده ما في خطبة علي عليه‌السلام الا أن هذا اليوم يوم جعل الله لكم عيداً ، وهو سيد أيامكم ، وأفضل أعيادكم ، وقد أمركم الله في كتابه بالسعي فيه الى ذكره فلتعظم رغبتكم فيه ، ولتخلص نيتكم فيه ، وأكثروا فيه التضرع والدعاء ومسألة الرحمة والغفران ، فان الله عزوجل يستجيب لكل من دعاه ويورد النار من عصاه وكل مستكبر عن عبادته ، قال الله عزوجل ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً الا أعطاه (٣).

وهو كما ترى ناص بالباب ، والله يهدي من يشاء الى الصراط السوي والطريق الصواب ، فانه صريح في أن المراد بالذكر في آية الدعاء والتضرع ومسألة الرحمة والغفران والاستكانة عند الرحمن.

نعم يمكن أن يجعل مؤيداً لقول المفسرين ما في علل الشرائع عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : اذا قمت الى الصلاة انشاء الله فأتها سعياً ، وليكن عليك

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٢٨٩.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ٦٥ ، ح ١١.

(٣) وسائل الشيعة ٥ / ٦٥ ، ح ١٢.

٤٧٣

السكينة والوقار ، فما أدركت فصل وما سبقت به فأتمه ، فان الله عزوجل يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) قال : ومعنى فاسعوا هو الانكفاء (١) ، فتأمل.

واعلم أن الامر اذا علق على علة ثابتة عليتها بالدليل ، مثل ان زنا فاجلدوه ، فالاتفاق على أنه يجب تكرر الفعل بتكرر العلة ، للإجماع على وجوب اتباع العلة واثبات الحكم بثبوتها.

وان علق على غيرها ، أي : على أمر لم يثبت عليته ، نحو اذا دخل الشهر فاعتق عبداً من عبيدك. فالمختار عند المحققين أنه لا يقتضي تكرر الفعل بتكرر ما علق به ، لان السيد اذا قال لعبده : اذا دخلت السوق فاشتر كذا ، مقتصراً عليها غير مكرر لها بتكرار دخول السوق ، عد ممتثلا ، وذلك معلوم قطعاً. ولو وجب تكرر الفعل بتكرر ما علق به لما كان كذلك.

فنقول : لا ريب في أن النداء ليس بعلة ثابتة عليتها بالدليل لوجوب السعي لانه ليس بواجب ، فتعليقه عليه يدل على أنه ليس بواجب أيضاً ، لان تعليق الواجب على المندوب ينافي وجوبه.

وبهذا ينهدم أساس ما بني من أن الامر للوجوب ، وانه اذا وجب السعي اليها وجبت هي أيضاً ، الا أن يقول : لما كان السعي واجباً ، فتعليقه عليه يوجب وجوبه أيضاً.

وفيه أنه قال : تعليق السعي عليه يستلزم وجوبه ، فاذا قال بوجوب النداء لتعليق السعي عليه جاء الدور ، مع أنه مناف للقاعدة المذكورة آنفاً. وأيضاً لو كان النداء علة لوجوبه ، كما ينادى به قوله : وحيث ينادى لها يجب السعي ، فاذا لم بتحقق النداء لم يجب السعي بل يحرم ، كما أنه اذا لم يتحقق الزنا لم

__________________

(١) علل الشرائع ص ٣٥٧.

٤٧٤

يجب الجلد بل يحرم.

اللهم الا أن يقول : وجوب السعي فرع النداء ، فاذا نودي وجب ، واذا لم يناد لم يجب ، فاذن ترك النداء المندوب يستلزم ترك السعي الواجب ، ضرورة استلزام انتفاء العلة انتفاء المعلول.

ويمكن الجواب بأن مفهوم الشرط ليس بمعتبر عند بعضهم. وعلى تقدير اعتباره انما يعتبر اذا لم يكن للتقييد به وجه آخر سوى عدم الحكم في المسكوت وهنا يمكن أن يكون السبب في تعليقه عليه الحث على فعله والترغيب به ، كما أشار اليه المستدل ، فتأمل.

ولكن يمكن أن يكون المراد به نداءً خاصاً ، كما أشار اليه الشهيد في شرح الارشاد ، حيث قال بعد الاستدلال بالاية على الوجوب التخييري : ويشكل بارادة نداء خاص قيد فيه الامر بالسعي (١).

واعلم أيضاً أن المقرر في الاصول أن الواجب اذا كان مقيداً بمقدمة ، أي : بما يتوقف ذلك الواجب عليه ، فتلك المقدمة أيضاً واجبة ، لا أنه اذا كانت مقدمة الشي‌ء واجبة فذلك الشي‌ء أيضاً واجب ، كما هو المفهوم من كلامه.

وبالجملة فهو كما ترى كلام مضطرب مشوش ، لا يلائم أوله آخره ، فتأمل فيه.

وهم وتنبيه :

أنت خبير بأن مقتضى ظاهر سياق الآية الكريمة أن يقال : فاسعوا اليها الا أنها عبر عنها بالذكر اشارة الى أنها ذكر الله ، وانه ينبغي القصد بفعلها أنها ذكر الله ، لا لان يكون اشارة الى أن المراد به صلاة الجمعة والسعي اليها ،

__________________

(١) روض الجنان ص ٢٩٠.

٤٧٥

كما فهمه زين المحققين ، وجعله سراً ونكتة لخلاف مقتضى الظاهر ، وما يفهم هذا المعنى من الآية الا باستعانة الرمل ، لابل بالوحي ونزول جبرئيل عليه‌السلام.

ولعمر الحبيب أنه بهذا التفسير ألحقها بالالغاز والمعميات ، وما هذا الا التفسير بالرأي الممنوع شرعاً ، وهذا ظاهر لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام ثم أخذ فطانته بيده ولا حظ المقام.

والحاصل أن ارادة صلاة الجمعة من ذكر الله خلاف ظاهر الآية ، ومن المقررات والمسلمات في الاصول امتناع أن يخاطب الله بشي‌ء يريد خلاف ظاهره (١) من دون البيان ، والا لزم الاغراء بالجهل ، لان اطلاق اللفظ الظاهر الدلالة على معنى يوجب اعتقاد سامعه العالم بوضعه ارادة لافظه منه ذلك المعنى ، وذلك معلوم بالوجدان الصحيح.

فاذا لم يكن ذلك المعنى مراد اللافظ ، كان اعتقاد السامع ارادته له جهلا ، فاطلاقه مع عدم ارادته معناه الظاهر اغراء للسامع بذلك الاعتقاد الجهل ، ولانه بالنسبة الى غير ظاهره مهمل ، ولذلك كان مدار الاستدلال والاحتجاج بالايات والروايات من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر.

وقد عرفت أنهم عليهم‌السلام ما بينوا الذكر في الآية بصلاة الجمعة في شي‌ء من الاخبار المذكورة في الاصول المتداولة بين الاصحاب ، والا لكان الاستدلال به أولى من الاستدلال بقول المفسرين ، وخصوصاً على طريقة المستدل ، بل الظاهر المتبادر من أغلب الروايات الواردة في ذلك الباب أنه باق على عمومه ، وقد

__________________

(١) ولم يخالف ذلك الاشر ذمة قليلة من الحشوية والمرجئة ، فالاولون يجوزون أن يخاطب الله بالمهمل ، والآخرون يجوزون أن يعنى في النصوص خلاف الظاهر من غير بيان ، ومذهبهم قريب من مذهب الحشوية ، لان اللفظ بالنسبة الى معنى خلاف ظاهره في غير بيان مهمل « منه ».

٤٧٦

مرت اليه اشارة اجمالية ، فذكر وتفكر.

نعم طريقة الاستدلال وضوابط العربية تخصانه بالصلاة المذكور قبله ، وقد علم أن المتبادر منها هو الصلاة المذكورة في سائر الايات.

نعم لو كان ورد نص في أن المخالفين في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا متثاقلين في ذهابهم الى صلاة الجمعة ، فنزلت حثاً لهم على ذلك وترغيباً ، لكان لما ذكروه وجه ، وليس فليس ، هذا ما عندنا والعلم عند الله وعند أهله.

قال قدس‌سره : وقال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) (١) وقد فسر الذكر هنا أيضاً بصلاة الجمعة ، فسماها الله تعالى ذكراً في السورتين ، وأمر بها في احداهما ، ونهى عن تركها والاهمال بها والاشتغال عنها في الاخرى. وندب الى قراءتهما فيها : اما وجوباً ، أو استحباباً ليتذكر السامعون مواقع الامر والنهي ، وموارد الفضل والخسران ، حثاً عليها وتأكيداً للتذكر (٢) بها ، ومثل هذا لا يوجد في غيره من الفروض ، فان الاوامر بها مطلقة مجملة غالباً ، خالية عن هذا التأكيد والتصريح بالخصوص (٣).

أقول : وبالله التوفيق هذه الآية كاختها السابقة واللاحقة ، بل لا دلالة فيها على ما رامه المستدل أصلا. وأما ما ذكره في ذيلها ، فهو من قبيل الموعظة والنصيحة اللتين هما من دأب هؤلاء القائلين بالوجوب العيني ، وليس فيه ما يصلح للاستدلال أو يطمئن به البال ، بل لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولا يأمن من خوف.

مع أنه كلام قلد فيه الشيخ الحسين بن عبد الصمد الحارثي ، فانه قال في

__________________

(١) سورة المنافقون : ٩.

(٢) في المصدر : للذكر.

(٣) الشهاب الثاقب ص ١٦.

٤٧٧

رسالة له مسماة بالعقد الطهماسبي : ما أكد الله ولا رسوله ولا أهل بيته عليهم‌السلام على أمر أكثر من التأكيد على الصلاة ، ووقع النص والإجماع على أنها أفضل الاعمال وصلاة الجمعة داخلة في ذلك. ثم قال : وذهب كثير من العلماء الى أنها هي الصلاة التي أمر الله بالمحافظة عليها.

وهذا الرجل الحارثي أيضاً قد قلد في كلامه هذا ـ أعني في قوله وذهب كثير من العلماء رحمهم‌الله ـ زين المحققين ، كما سيأتي مع ما فيه.

ثم ذكر كلاماً خطابياً أو شعرياً لا يؤول الى طائل ، وحاصله ما ذكره المستدل ملخصاً ، الا أنه قال في آخر كلامه : وهل شي‌ء أحسن من أن يأمر الشاه بها في أيام دولته ، فيكون ثوابها وثواب من يصليها في صحائفه الى يوم القيامة ، ولعل توفيقات الالهية اقتضت كون هذه السنة العظيمة مكتوبة في صحائفه ، لا زال مسدداً مؤيداً الى يوم الدين.

وأمثال هذه الكلمات والتملقات في رسالته هذه أكثر من أن يحصى ، والغرض مفهوم ، والمدعى معلوم على الفطن العارف.

تنبيه نبيه :

اعلم أنهم لم يفسروا الذكر هاهنا بصلاة الجمعة ، قال في الكشاف بعد أن أبقى الذكر في مقام التفسير على عمومه ولم يفسره بشي‌ء : قيل : ذكر الله الصلوات الخمس ، وعن الحسن جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله. وقيل : القرآن ، وعن الكلبي الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وزاد في مجمع البيان قوله وقيل : ذكره شكره على نعمائه ، والصبر على بلائه ، والرضا بقضائه. ثم قال : وهو اشارة الى أنه لا ينبغي أن يغفل المؤمن

__________________

(١) الكشاف ٤ / ١١١.

٤٧٨

عن ذكر الله في بؤس كان أو نعمة ، فان احسانه في جميع الحالات لا ينقطع (١).

وقد نسج على منوالهم المستدل في تفسيره الصافي ، حيث قال : أي : لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام بها عن ذكره ، كالصلاة وسائر العبادات (٢).

وهو دليل على عدم عثوره في ذلك على خبر ولا أثر ، لانه وضع تفسيره هذا على ذلك.

ويدل عليه أيضاً أنه ما فسر هذه الآية عبد علي بن جمعة الحويزي في تفسيره المسمى بنور الثقلين بشي‌ء ، بل لم يتعرض لها أصلا ، فانه كان قد تعهد في تفسيره هذا أن يذكر في بيان الايات ما يعثر عليه من الاخبار والروايات ، فكل ما خصصه به هؤلاء تفسير بالرأي.

والحق مع الزمخشري عليه من الرحمن ما يستحقه ، حيث أبقاه على حاله ولم يفسره بشي‌ء ، ونعم ما فعل « كذلك يفعل الرجل البصير » (٣) لان الذكر يعم الثناء والدعاء والصلاة وقراءة القرآن والحديث وذكر الحلال والحرام ، وأخبار الانبياء والاوصياء عليهم‌السلام والصالحين ، وهو أعم من أن يكون باللسان أو الجنان أو الاركان.

وبالجملة كلما كان لله سبحانه ، وهو غايته من الاعمال والتروك فهو ذكر ،

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٢٩٥.

(٢) تفسير الصافي ٥ / ١٨٠.

(٣) مصرع من أبيات موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن فضل حيث يقول :

أرباً واحداً أم ألف رب

أدين اذا تقسمت الامور

تركت اللات والعزى جميعاً

كذلك يفعل الرجل البصير

وقال الدوانى : انه كان رسولا مبعوثاً على نفسه ، وعرف الرسول بأنه إنسان مبعوث من الحق الى الخلق ، وهو أعم من أن يكون ذلك الخلق مغايراً له بالذات أو بالاعتبار « منه ».

٤٧٩

حتى المباحات لو قصد فيها لله تعالى وفعل توصلا الى عبادته انسلك سلك الذكر.

ولما كان لله تعالى مدخلية في كل الاشياء جواهرها وأعراضها التي من فعل الله ، أو من فعل العباد ، من حيث الخلق أو الاقدار والتمكين والحكم والامر والنهي ، كان كل شي‌ء صالحاً لان يقع موقعاً لذكر الله ، فالاعتبار اذن بالقصد والملاحظة لله سبحانه أو لغيره ، فتأمل واعتبر ولا تكن من الغافلين.

فكيف يمكن تخصيص الذكر بصلاة الجمعة في مقام الاستدلال؟ مع عدم النص والقرينة ، وهل هذا الا مجرد دعوى خال عن البينة والبرهان « قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وبما ذكرناه ظهر فساد قوله قال الله تعالى في محكم كتابه (١).

وأما قوله قدس‌سره « وندب الى قراءتهما » فأقول : في أي موضع من القرآن ندب اليها ، وانه لا عين له ولا أثر في موطن من مواطنه ، ولا في باطن من بواطنه. نعم ورد ذلك في بعض الاخبار المأثورة عن الائمة الاطهار صلوات الله عليهم ما بقي الليل والنهار.

اللهم الا أن يقرأ ندب على هيئة المفعول ، وهو عن سياق كلامه قدس‌سره بعيد غاية البعد ، ومع ذلك يلزم منه التفكيك وهو أيضاً قبيح.

واعلم أن القائل بوجوب قراءة الجمعتين في ظهر يوم الجمعة والصدوق في الفقيه قال فيه : اقرأ في صلاة الظهر سورة الجمعة والمنافقين ، فان نسيتهما أو واحدة منهما وقرأت غيرهما ثم ذكرت فارجع اليهما ما لم تتعد نصف السورة ،

__________________

(١) اذ الذكر ليس نصاً ولا ظاهراً في صلاة الجمعة ، وهو المعنى بالمحكم ، بل هو مشترك بين معان كثيرة كما عرفت ، وهو المراد بالمتشابه ، فالاية من المتشابهات لا من المحكمات فتدبر « منه ».

٤٨٠