الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

وكيف كان يكون هذا مبرأة لذمته عما فعل بالنسبة اليه في حياته من اخراجه عن البلد وافضاحه على رءوس الأشهاد ، على أن صحيح الخبر السابق ذكره ينافي هذا النقل ، اذ لو كان الأمر على ما نقل لما قال محمد بن يحيى : يا أبا جعفر وددت أن هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله ، ولما قال هو في جوابه : لقد حدثني قبل الحيرة بعشر سنين.

وعلى تقدير أن يكون سبب ابعاده ما قيل فيه من حيرته ، فاعادته اياه لا تدل على كذبه ، فلعله كان قد تاب ورجع عنها الى الحق ، ولكنه غير صالح للحكم بصحة رواياته على الإطلاق ، لان روايته زمن حيرته غير مقبولة بصحيح الخبر فإذا اشتبه الأمر وفقد التميز للجهل بالتاريخ لم يجز العمل برواياته ، لان الشك في وقت أدائها توجب الشك في صحتها ، والحديث المشكوك الصحة لا يوجب علماً ولا عملا.

ونعم ما أفاده الشيخ البهائي قدس‌سره في بعض فوائده ، من أن كثيراً من الرجال والرواة ينقل عنه أنه كان على خلاف المذهب ، ثم رجع وحسن ايمانه والقوم يجعلون روايته من الصحاح ، مع أنهم غير عالمين بأن أداء الرواية متى وقع منه أبعد التوبة أم قبلها.

وأنا أقول : أحمد بن محمد هذا كان على المذهب الحق في أوائل عمره ، ثم رجع عنه وتحير فيه في أواخره ، ولم يعلم أنه رجع عنه أو بقي عليه الى أوان موته ، فكيف يجعلون روايته وهم لا يعلمون بأن أداء الرواية متى وقع منه أبعد الحيرة أم قبلها من الصحاح؟ وروايته بعد حيرته كما فهم من صريح السؤال والجواب غير مقبولة.

قال الشهيد الثاني في دراية الحديث : من خلط بعد استقامته بخرق وهو الحمق وضعف العقل وفسق ، وغيرهما من القوادح ، يقبل ما روي عنه قبل الاختلاط

٣٦١

لاجتماع الشرائط وارتفاع الموانع ، ويرد ما روي عنه بعده وما شك فيه هل وقع قبله أو بعده ، للشك في الشرط وهو العدالة عند الشك في التقدم والتأخر ، وانما يعلم ذلك بالتاريخ ، أو بقول الراوي عنه حدثني قبل اختلاطه ونحو ذلك ، ومع الإطلاق وعدم التاريخ يقع الشك فيرد الحديث (١). إلى هنا كلامه رفع في عليين مقامه.

وهو كما ترى صريح فيما أسلفناه ، والحمد لله.

فان قلت : كيف خفي هذا؟ مع وضوحه وظهور صحته على هؤلاء الإعلام والفقهاء الأجلاء العظام العارفين بالأحوال الناقدين للرجال في تلك المدة المديدة والأزمنة الطويلة ، ولم يتفطنوا به مع صراحته في ذمه.

قلت : هذا محض استبعاد منك ، كأنك لم يقرع سمعك قولهم المشهور « كم ترك الأول للاخر » فهذا منه ، وليس هو بأول قارورة كسرت في الإسلام ، فانك بعد تتبعك التام تعثر على أمثاله كثيراً.

هذا وأما الثاني ، فلقول النجاشي : وكان محمد ضعيفاً في الحديث (٢).

وقول ابن الغضائري : محمد بن خالد البرقي أبو عبد الله حديثه يعرف وينكر ويروي عن الضعفاء كثيراً (٣).

وهذا مما ينبهك أن من تأخر عن الفاضل العلامة قلده في تسمية هذا السند صحيحاً من غير أن يراجع أصول الأصحاب ، والا فكيف كان يسوغ له الحكم بصحته جزماً من غير تردد منه؟ مع قول النجاشي : وكان محمد ضعيفاً في الحديث.

وأما الفاضل العلامة ، فانما حكم بصحته لذهوله عما ورد في أحمد هذا من

__________________

(١) الرعاية في علم الدراية للشهيد الثانى ص ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) رجال النجاشى ص ٣٣٥.

(٣) رجال العلامة عنه ص ١٣٩.

٣٦٢

حديث حيرته ، ولذلك وثقه في الخلاصة وقال بعد كلام نقلناه عنه سابقاً : وعندي أن روايته مقبولة (١). وكان أبوه محمد عنده ثقة ، كما صرح به في الخلاصة (٢) ولعله في ذلك اعتمد على قول الشيخ أبو جعفر الطوسي رضي‌الله‌عنه من تعديله في كتاب رجاله.

ولا شك أن قول النجاشي أنه كان ضعيف الحديث مقدم عليه ، لوجوب تقديم قول الجارح على المعدل ، وخاصة إذا كان الجارح مثل الشيخ الجليل النجاشي وطول يده وثبات قدمه في هذا الشأن.

وأما الشيخ الطوسي قدس الله روحه القدوسي ، فكثيراً ما يخلط في نقد الرجال وقلب الاحوال ، كما سنشير الى نبذة منه إن شاء الله العزيز.

هذا ولا يذهب عليك أن بين حكم العلامة في الخلاصة بكون رواية أحمد هذا مقبولة ، وحكمه في المختلف بكونها صحيحة ، نوع منافرة ، لان المقبول من الرواية ما يقبل ويعمل بمضمونه من غير التفات الى صحتها وعدمها. وبهذا الاعتبار يدخل في القسم المشترك بين الصحيح وغيره. ويمكن جعله من أنواع الضعيف ، لان الصحيح مقبول مطلقاً الا لعارض ، بخلاف الضعيف فان منه المقبول وغيره.

ومما يرجح دخوله في القسم الأول أنه يشمل الحسن والموثق عند من لا يعمل بهما مطلقاً ، فقد يعمل بالمقبول منهما ، حيث يعمل بالمقبول من الضعيف بطريق أولى ، فيكون حينئذ من القسم العام وان لم يشمل الصحيح ، اذ ليس ثم قسم ثالث ، كذا في دراية الحديث ، فتأمل فيه.

ثم من الغريب أن الشارح المجلسي قدس‌سره في شرحه على من لا يحضره

__________________

(١) رجال العلامة ص ١٥.

(٢) رجال العلامة ص ١٣٩.

٣٦٣

الفقيه خالف المشهور ، وحكم بأن هذا السند حسن كالصحيح (١).

ولا يعرف له وجه ، لانه ان كان كغيره ذاهلا عما نقلناه في أحمد وكان أبوه محمد ثقة عنده ، فالسند كان ينبغي أن يكون صحيحاً ، كما هو المشهور عندهم ، والا فهو المنقول آنفاً ضعيف لا حسن كالصحيح.

فان قلت : فما حال أحمد بن محمد بن يحيى العطار المذكور في السند؟ فلعله سماه حسناً باعتباره.

قلت : هو من مشايخ الاجازة ، فلا يضر الجهل بحاله ، مع أن ظاهر الشهيد الثاني كما سبق تفيد توثيقه ، لانه داخل في عموم قوله « وجماعة اخرى من أفاضل أصحابنا » فحكمه بعد ذلك بأن جميعهم ثقات يشمله أيضاً لانه منهم. وكذا ظاهر الصدوق يفيد توثيقه ، فان الترضية عندهم عديل التوثيق كما قيل.

قيل : وتصحيح بعض طرق الشيخ ، كطريقه الى الحسين بن سعيد ، وطريقه الى محمد بن علي بن محبوب وغيره ، يقتضي توثيقه ، كذا في أوسط ملا ميرزا محمد أصلا وهامشاً ، ومثله تصحيحهم طريقها اليه لعله كان باعتبار أنه من مشايخ الاجازة ، فلا دلالة فيه على توثيقه ، تأمل.

أقول : فبان مما قررناه أن هذا الخبر الذي هو عمدتهم في هذه المسألة لظنهم أنه صحيح ، ضعيف ، ومع ذلك لا يدل دلالة صريحة على عدم جواز المقاصة بعد التحليف وسقوط حق المدعي في الدنيا مطلقاً ، بل غاية ما دل عليه سقوط حق الدعوى وعدم جواز المطالبة عند الحاكم ، لقوله عليه‌السلام « ذهبت اليمين بدعوى المدعي ولا دعوى له » اللهم الا أن يقال : لا فرق بين الدعوى والتقاص ، كما قال به الشارح المجلسي (٢).

__________________

(١) روضة المتقين ٦ / ١٦٧.

(٢) روضة المتقين ٦ / ١٦٧.

٣٦٤

وفيه أن مبنى الدعوى على الظاهر لا على الواقع ، والتقاص بالعكس فانه مبني على كون ذمة المنكر مشغولة بحق المدعي في الواقع ، فهو يأخذ من ماله إذا ظفر به استخلاصاً لحقه الواقع ، فاسقاط يمين أحدهما لا يستتبع اسقاطها الاخر ، فتدبر.

وعلى ما قلناه فقوله عليه‌السلام « ذهبت اليمين بحق المدعي » أراد به حق الدعوى لما سبق ، وقوله بعده « ولا دعوى له » لانه كالتفسير له ، والا لكان مقتضى الظاهر أن نقول : فلا حق له ، وإذا كان حقه باقياً في ذمته واقعاً فله مقاصه بعد التحليف كما كان له ذلك قبله من غير فرق.

والفارق على تقدير تسليم دلالته عليه ضعيف ، لا يعتمد عليه ولا تركن النفس شيئاً قليلا اليه ، لمخالفته مقتضى الأصل والاستصحاب السالمين عن المعارض ، فافهمه.

وكذا قوله عليه‌السلام « وان أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة » أي : بينة ما كان له حق ، على ما يوجد في بعض النسخ ، أراد به حق الدعوى ، لقوله عليه‌السلام قبل هذا الكلام « نعم » فان معناه : نعم لا دعوى له ، فانه تصديق لقوله « قلت : وان كانت له بينة » أي قلت : لا دعوى له وان كانت له بينة.

ويحتمل أن يكون المراد به أنه لا يثبت بتلك البينة الواقعة بعد الاستحلاف حق ، لانها فرع صحة دعواه ، واليمين قد أبطلت دعواه ، فلا يثبت له حق بتلك البينة المبنية على تلك الدعوى الباطلة ، على أن كلمة « حق » غير موجودة هنا في بعض النسخ ، وفيما رواه الشيخ في التهذيب كما سيأتي.

وعلى تقدير وجودها فلا دلالة لها على سقوط حقه الدنيوي مطلقاً حتى لا يجوز له المقاصة ، كيف؟ وهم مصرحون بأن المنكر لو أكذب نفسه بعد الحلف وجاء بالحق بعده يحل له أخذه منه ، بل يجوز له مطالبته ومقاصته أيضاً على ذلك التقدير

٣٦٥

لو امتنع عن أداء الحق ، لعموم دليل المقاصة ، فعموم أدلة السقوط مخصوصة بالعقل والنقل ، وإذا جاز تخصيصه بهذا جاز تخصيصه بصورة الامانة ، وعدم القول المذكور في رواية الحضرمي الاتية.

والأولى ابقاؤها على عمومها ، وحمل السقوط على سقوط الدعوى ، أو على كراهة المقاصة بعد الاستحلاف ، توفيقاً بينها وبين صحيحة الحضرمي الموافقة لأصالة بقاء الحق بعد التحليف على ما كان عليه قبله.

والحق أن ضعفه يغني عن أمثال هذه التوفيقات ، للاتفاق على أن الضعيف من الأخبار لا يثبت به حكم.

وانما طولنا الكلام في هذا المقام ليظهر حال الخبر الذي هو العمدة في اثبات هذه المسألة ، وأقوى ما تمسك به فيه أولئك الاعلام ، والعلم عند الله الملك العلام وعند أهله محمد وآله العلماء العظام الكرام عليهم‌السلام.

ومن أدلتهم على هذه المسألة ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد ، عن أبي عبد الله الجاموراني ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن عبد الله بن وضاح. والسند كما ترى في غاية الضعف.

قال النجاشي في كتابه : محمد بن أحمد كان ثقة في الحديث ، الا أن أصحابنا قالوا : كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمن أخذ ، وما عليه في نفسه مطعن في شي‌ء ، وكان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمد ابن أحمد ما رواه عن أبي عبد الله الرازي الجاموراني (١).

وبمثل ذلك قال الشيخ في الفهرست (٢). فدل على ضعف الجاموراني وعدم اعتبار روايته.

__________________

(١) رجال النجاشى ص ٣٤٨.

(٢) الفهرست ص ١٤٥.

٣٦٦

وقال الشيخ ابن الغضائري : محمد بن أحمد الجاموراني أبو عبد الله الرازي ضعفه القميون ، واستثنوا من كتاب نوادر الحكمة ما رواه ، وفي مذهبه ارتفاع (١).

وقال محمد بن مسعود : سألت علي بن الحسن بن فضال عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني ، فقال : كتاب ملعون رويت عنه أحاديث كثيرة ، وكتبت عنه تفسير القرآن كله من أوله الى آخره ، الا أني لا استحل أن أروي عنه حديثاً واحداً (٢).

وقال ابن الغضائري : الحسن بن علي بن أبي حمزة واقف ابن واقف ، ضعيف في نفسه ، وأبوه أوثق منه. ثم قال وقال علي بن الحسن بن فضال : اني لأستحي من الله أن أروي عن الحسن بن علي (٣). وفيه ذموم أخر تركناه مخافة التطويل.

ومن الغريب أن الشارح المجلسي قدس‌سره عد هذا السند في شرحه على الفقيه قوياً. (٤) ولا يعرف له وجه ، فان القوي في اصطلاح القوم يطلق على الموثق لقوة الظن بجانبه بسبب توثيق راويه وان كان مخالفاً ، وقد يطلق على مروي الامامي الغير الممدوح ولا المذموم ، كذا في الدراية وشرحها للشهيد الثاني.

وقد علم أن الحسن بن علي مع أنه واقف كذاب ملعون أضعف من أبيه ، وقد ورد فيه ما فيه. ومثله أبو عبد الله الجاموراني ضعفه القميون ، حيث لم يعتبروا مروياته في كتاب نوادر الحكمة. فإذا كان هذا شأن الراوي ، فكيف يعتمد على روايته ونقله في اثبات حكم شرعي ، فلعله كان كاذباً في روايته عن عبد الله بن

__________________

(١) رجال العلامة ص ٢٥٦.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨٢٧ برقم : ١٠٤٢.

(٣) رجال العلامة ص ٢١٣.

(٤) روضة المتقين ٦ / ١٦٩.

٣٦٧

وضاح الثقة.

قال : كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة ، فخانني بألف درهم ، فقدمته الى الوالي ، فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف يميناً فاجرة ، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت أن أقبض الالف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها.

فكتبت الى أبي الحسن عليه‌السلام فأخبرته أني قد حلفته فحلف وقد وقع له عندي ، فان أمرتني أن آخذ منها الالف درهم التي حلف عليها فعلت.

فكتب عليه‌السلام : لا تأخذ منه شيئاً ، ان كان ظلمك فلا تظلمه ، ولو لا أنك رضيت بيمينه فحلفته لامرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه ، فقد مضت اليمين بما فيها ، فلم آخذ منه شيئاً ، وانتهيت الى كتاب أبي الحسن عليه‌السلام (١).

ان قلت : ضعف هذه الأخبار منجبر بالشهرة بين الأصحاب وعملهم بها.

قلت : جوابه يعلم مما أفاده الشهيد الثاني في شرح الدراية ، وهو انا نمنع من كون هذه الشهرة مؤثرة في خبر الضعيف ، فان هذا انما يتم لو كانت الشهرة متحققة قبل زمن الشيخ ، والامر ليس كذلك ، فان من قبله من العلماء كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقاً كالمرتضى والاكثر على ما نقله جماعة ، وبين جامع للاحاديث من غير التفات الى تصحيح ما يصح ورد ما يرد.

وكان البحث عن الفتوى مجرده بين الفريقين قليلا جداً ، كما لا يخفى على من اطلع على حالهم ، فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قبل زمن الشيخ على وجه يجبر ضعفه ليس بمتحقق ، ولما عمل الشيخ بمضمونه في كتبه الفقهية جاء من بعده من الفقهاء واتبعه منهم عليه الاكثر تقليداً له منهم الا من شذ منهم.

ولم يكن منهم من يسبر الاحاديث وبعنت على الأدلة بنفسه ، سوى الشيخ

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ، ح ٩.

٣٦٨

المحقق ابن ادريس ، وقد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقا ، فجاء المتأخرون بعد ذلك ووجدوا الشيخ ومن تبعه قد عملوا بمضمون ذلك الخبر الضعيف لامر ما رواه في ذلك لعل الله تعالى يقدرهم فيه ، فحسبوا العمل به مشهوراً ، وجعلوا هذه الشهرة جابرة لضعفه ، ولو تأمل المنصف وحرر المنقب لوجد مرجع ذلك كله الى الشيخ ومثل هذه الشهرة لا يكفي في خبر الضعيف.

قيل : وفيه نظر ظاهر ، فان الشيخ صرح في الفهرست (١) بأن في الأخبار الضعيفة ما هو معتمد بين الطائفة ، وكذا الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، وهذا أمر واضح لهم في العمل بها ، وان كان لا يجدينا نفعاً ، لما تبيناه من كثرة وقوع الخطأ في الاجتهاد ، وان مبنى الامر على الظن لا على القطع ، فالموافقة لهم على ما قالوه تقليد لا يسوغ.

وبما أفاده في آخر كلامه يندفع ما ربما يقال : ان رواية ابن أبي يعفور السابقة وان كانت ضعيفة السند ، الا أن الشيخ الصدوق قال بكونها حجة بينه وبين الله ، ولذا أوردها في الفقيه في باب بطلان حق المدعي بالتحليف ، مع التزامه في صدر الكتاب أن لا يروي فيه الا ما يعمل به ، فدل على أنها معتمد عليها بين الطائفة.

وجه الاندفاع : أن عملهم بها لا يجدينا ، لانه كان مبنياً على الظن والاجتهاد فالموافقة لهم عليه تقليد وهو غير جائز ، بل لا بد لكل فقيه في كل مسألة ترد عليه من اجتهاد فيها.

أقول : ومما ينبهك وقوع الخطأ في الاجتهاد وعدم جواز تقليدهم على ما قالوه أنهم أطبقوا على صحة رواية ابن أبي يعفور ، وكان مدار عملهم عليها ، لظنهم أنها صحيحة صريحة في حرمة المقاصة ، ووجوب رد البينة بعد التحليف ، وقد تبين

__________________

(١) اقول : بل صرح في العمدة في مبحث العمل بالأخبار.

٣٦٩

مما قررناه أنها ضعيفة لا يسوغ العمل بها على حال ، فافهمه.

واعلم أن الشيخ تارة يشترط في قبول الرواية الايمان والعدالة ، كما قطع به في كتبه الأصولية ، وهذا منه يقتضي أن لا يعمل بالأخبار الحسنة والموثقة. واخرى يكتفي في العدالة بظاهر الاسلام ولم يشترط ظهورها ، ومقتضاها العمل بها مطلقا كالصحيح.

ووقع له في كتب الحديث غرائب ، فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقا ، حتى أنه يخصص به أخباراً كثيرة صحيحة حيث يعارضه باطلاقها. وتارة يصرح برد الحديث لضعفه وأخرى يرد الصحيح معللا بأنه خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملا ، كما عليه المرتضى وأكثر المتقدمين.

ومن اضطرابه في معرفة الاحوال ونقد الرجال ، فانه يقول في موضع ان الرجل ثقة ، وفي آخر أنه ضعيف ، كما في سالم بن مكرم الجمال ، وسهل بن زياد الادمي الرازي. وقال في الرجال محمد بن علي بن بلال ثقة (١). وفي كتاب الغيبة انه من المذمومين (٢).

وفي عبد الله بن بكير أنه ممن عملت الطائفة بخبره بلا خلاف ، كذا في العدة (٣) وفي الإستبصار في أواخر الباب الأول من أبواب الطلاق صرح بما يدل على فسقه وكذبه وأنه يقول برأيه (٤).

وفي عمار الساباطي انه ضعيف لا يعمل بروايته كذا في الإستبصار ، وفي العدة أن الطائفة لم تزل تعمل بما يرويه. وأمثال ذلك منه كثير جداً.

ومن هذا اضطرابه كيف يسوغ تقليده في معرفة أحوال الرجال؟ أم كيف

__________________

(١) الرجال ص ٤٣٥.

(٢) الغيبة ص ٢١٤.

(٣) عدة الأصول ١ / ٣٨١.

(٤) الإستبصار ٣ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

٣٧٠

يفيد اخباره بأن في الأخبار الضعيفة ما هو معتمد بين الطائفة ظناً على حال من الاحوال.

والظاهر أن صدور أمثال ذلك منه قدس‌سره كان للعجلة الدينية اللازمة له رحمه‌الله ، مع عدم وفاء الوقت للمراجعة والمعاودة ، تجاوز الله عنا وعنهم بمنه وكرمه انه جواد كريم ، ولما صدر عن عباده غفور رحيم.

الفصل الثانى

[ التحقيق في أخبار المسألة سنداً ومتناً ]

أبو بكر الحضرمي مشترك بين محمد بن شريح وعبد الله بن محمد ، والأول ثقة كما نص عليه النجاشي (١). وأما الثاني ، فكوفي تابعي سمع من أبي الطفيل عامر بن واثلة ، روي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ، حسن العقيدة صحيح المذهب.

روى الشيخ في باب المحتضرين من التهذيب بطريق صحيح عن أبي بكر هذا أنه قال : مرض رجل من أهل بيتي فأنيته عائداً له ، فقلت : يا بن أخي ان لك عندي نصيحة أتقبلها؟ فقال : نعم ، فقلت : قل أشهد أن لا اله الا الله فشهد بذلك ، فقلت : وقل ان محمداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشهد بذلك ، فقلت : هذا لا تنتفع به الا أن يكون على يقين منك ، فذكر أنه منه على يقين.

فقلت : قل أشهد أن علياً وصيه وهو الخليفة من بعده والامام المفترض الطاعة من بعده فشهد بذلك ، فقلت : انك لن تنتفع بذلك حتى يكون منك على يقين ، فذكر أنه منه على يقين ، ثم سميت له الأئمة عليهم‌السلام رجلا رجلا ، فأقر بذلك وذكر أنه منه على يقين.

__________________

(١) رجال النجاشى ص ٣٦٦.

٣٧١

فلم يلبث الرجل أن توفي ، فجزع عليه أهله جزعاً شديداً ، قال : فغبت عنهم ثم أتيتهم بعد ذلك ، فرأيت عزاءً حسناً ، فقلت : كيف عزاؤك أيتها المرأة؟ فقال : والله لقد أصبنا بمصيبة عظيمة بوفاة فلان رحمه‌الله ، وكان مما سخى بنفسي لرؤيا رأيتها الليلة ، قلت : وما تلك الرؤيا؟ قالت : رأيت فلاناً تعني الميت حياً سليماً ، فقلت : فلاناً؟ قال : نعم ، فقلت : انك ميت ، فقال لي : ولكني نجوت بكلمات لقنيهن أبو بكر ، ولو لا ذلك كدت أهلك (١).

وعن عمرو بن إلياس قال : دخلت أنا وأبي إلياس بن عمرو على أبي بكر الحضرمي وهو يجود بنفسه ، فقال : يا أبا عمرو ليست هذه بساعة الكذب ، أشهد على جعفر بن محمد عليهما‌السلام أني سمعته يقول : لا تمس النار من مات وهو يقول بهذا الامر (٢).

هذا ونحوه يشهد بحسن اعتقاده ومدحه ، ولذلك عدوا حديثه حسناً إذا لم يكن في الطريق قادح من غير جهته.

والحق أن تتبع حاله يعطي أنه كان ثقة عندهم ، كما أشار اليه الفاضل القهپائي في حاشية كتابه الموسوم بمجمع الرجال عند ترجمة عبد الله هذا ناقلا عن الكشي وتقدم في البراء بن عازب بقوله فيه : ان عبد الله هذا من أصحابنا الجليل القدر العظام والصفي منهم حتى يرتقى حاله الى سنام التوثيق (٣).

وفي الكشي في ترجمة البراء بن عازم قال الكشي : روى جماعة من أصحابنا منهم أبو بكر الحضرمي ، وأبان بن تغلب ، والحسين بن أبي العلاء ، وصباح المزني ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٢٨٧ ، ح ٥.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧١٦ ، برقم : ٧٨٩.

(٣) مجمع الرجال ٤ / ٤٤.

٣٧٢

الحديث (١).

قال الفاضل المذكور في حاشيته على هذا الموضع : فيه ذكر عبد الله بن محمد أبي بكر الحضرمي وفلان وفلان وعدهم على وجه يظهر اعتبارهم جداً حتى يرتقى الى ذروة التوثيق ، فتأمل حتى يظهر لك وجه ذلك فتذعن (٢).

أقول : وجهه ظاهر ، فان تخصيص الكشي هؤلاء المذكورين من بين جماعة من أصحابنا بالذكر يفيد أنهم من مشاهيرهم المعتمدين عليهم ، ومن أعيانهم المعروفين بالصدق والثقة والصلاح ، الذين يقبل قولهم ونقلهم ، ولا يقدح فيهم قادح ، ولا ينكر نقلهم منكر ، والا لكان تخصيصهم من بينهم بالذكر لغواً لا وجه له ، وهو خلاف المتعارف ، فيدل على جلالة قدرهم وكمال اعتبارهم في أبواب الروايات والنقول حتى يرتقى حالهم الى سنام التوثيق ، كما أفاد وأجاد ، وهو كذلك.

نظيره أن فقيهاً إذا قال : قال بالمسألة الفلانية جماعة من أصحابنا منهم الصدوق والشيخان والمرتضى ، يفهم منه أنهم من أعيان الفقهاء المعتمدين على فقههم واجتهادهم في أبواب الفقه ، وذلك كأنه ظاهر بأدنى تأمل.

فبان أن أبا بكر هذا من أفاضل الرواة المعتمدين عليهم والموثوقين بهم ، بل يستفاد بحسب العرف من تقديمه ذكراً في مثل هذا الموضع على جماعة الموثقين المنتجبين من بين جماعة من أصحابنا أنه أوثقهم وأورعهم وأصدقهم في الرواية ، وأشهرهم في الاعتماد على قوله ونقله.

وقد عد آية الله العلامة في المختلف في مسألة العقد على الاختين روايته من الصحاح ، حيث قال : احتج ابن الجنيد بما رواه أبو بكر الحضرمي في

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ١ / ٢٤٢ ، برقم : ٩٤.

(٢) مجمع الرجال ١ / ٢٥١.

٣٧٣

الصحيح ، قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام الحديث (١). فلا يضر عدم التصريح بتوثيقه.

واليه أشار الشارح الأردبيلي قدس‌سره في شرحه على الارشاد ، بعد نقل رواية ابن مسكان عن أبي بكر ، قال قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي ان وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ قال فقال : نعم ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو؟ قال : تقول اللهم اني لم آخذه ظلماً ولا خيانة وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزدد شيئا عليه (٢). بقوله : ولا يضر عدم التصريح بالامام وعدم التصريح بتوثيق أبي بكر ، ثم قال : ومثلها رواية سيف ابن عميرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣).

أقول : أما عدم اضرار الأول ، فلما في السند الثاني من التصريح بالامام عليه‌السلام فيعلم منه أن المراد بالمضمر في السند الأول هو عليه‌السلام ، على أن عدم العلم به فيه غير مضر ، لان المتن في السندين والراوي فيهما واحد ، فإذا صرح في أحدهما بالامام كفى ذلك حجة.

وأما عدم اضرار الثاني ، فلما عرفته من حال أبي بكر هذا وجلالة قدره.

وبالجملة هذا الحديث منقول في التهذيب ، وكذا في الإستبصار (٤) بسندين صحيحين : أحدهما عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن ابن مسكان ، عن أبي بكر ، لان ابن مسكان وان كان مشتركاً بين عمران وعبد الله ومحمد والحسين.

والاولان ثقتان جليلان ، دون الاخيرين فانهما مجهولان ، ولا سيما للأول

__________________

(١) مختلف الشيعة ص ٧٨ كتاب النكاح.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ / ٣٤٨ ، ح ١٠٣.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ / ٣٤٨ ، ح ١٠٤.

(٤) الإستبصار ٣ / ٥٢ ، ح ٢ و ٣.

٣٧٤

منهما فانه مجهول مطلق ، الا أنهم ذكروا في باب الالقاب بالابن أن أكثر اطلاق ابن مسكان انما هو على عبد الله الثقة.

ثم ان الحسين بن سعيد من تلامذة صفوان بن يحيى البجلي ويروي عنه كثيراً ، وصفوان هذا من تلامذة عبد الله بن مسكان ويروي عنه ، كل ذلك مع ظهوره بأدنى تتبع مستفاد من الفهرست أيضاً.

فهذا ونحوه قرائن بها يقطع المشتركة ، ويتعين أن المراد بابن مسكان في أمثال هذا السند هو عبد الله لا غير ، لان عمران بن مسكان الثقة يروي عنه حميد ، والحسين بن مسكان المجهول يروي عنه جعفر بن محمد بن مالك أحاديث فاسدة كما صرحوا به.

وأما رواية صفوان عنهما ، أو عن محمد بن مسكان ، فغير معهودة في كتب الأخبار والمطلق ينصرف الى المشهور المعروف فيهم ، وهو عبد الله الثقة ، فتوقف الشارح الأردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الارشاد في أمثال هذا السند ، لاشتراك ابن مسكان ، ليس في موقفه. والظاهر أنه لما ذكرناه من القرائن اشتهر بين الأصحاب في أمثال هذا السند أنها صحيحة ، فتأمل.

والثاني : عن الحسن بن محبوب ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي بكر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

قيل : في مثل هذا السند انه صحيح على الظاهر ، مع احتمال توثيقه بابن عميرة. وفيه أن المشهور بين أصحابنا أن روايات سيف هذا صحيحة إذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهته ، ولذلك روى الشهيد الثاني روايته صحيحة في غير موضع من شرحه على اللمعة ، ووثقه الشيخ في الفهرست (١) ، والنجاشي

__________________

(١) الفهرست ص ٧٨.

٣٧٥

في كتابه (١).

وقال الشهيد في شرح الارشاد في نكاح الامة باذن المولى : وربما ضعف بعضهم سيفا.

والعجب منه في هذا كثيراً ، فانه ثقة مجمع عليه الشيخان ، وكأن هذا منه اشارة الى ما في كتاب ابن شهر آشوب من أن سيف بن عميرة من أصحاب الكاظم عليه‌السلام واقفي (٢). ومنه يظهر وجه قوله « مع احتمال توثيقه بابن عميرة ».

واعلم أن طريق الشيخ في التهذيب الى كل منهما ، أعني : ابن سعيد وابن محبوب صحيح ، كما يظهر من النظر في مشيخته (٣).

ثم قال الشارح الأردبيلي رحمه‌الله متصلا بما نقلنا عنه آنفاً : وهذه ـ أي : رواية أبي بكر الحضرمي ـ قد دلت على جواز الاخذ وان حلف ، فكأنه محمولة على أنه حلف من غير أن يحلفه صاحب الحق عند الوالي ، فانه لو أحلفه يسقط حقه في الدنيا ، وليس له أن يدعيه ويأخذه على المشهور ، لصحيحة عبد الله بن أبي يعفور في الفقيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) ونقلها كما سبقت.

ثم قال : ولصحيحة سليمان بن خالد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ، ثم وقع له عندي مال أفآخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع هو؟ فقال : ان خانك فلا تخنه ، فلا تدخل فيما عبته عليه (٥).

__________________

(١) رجال النجاشى ص ١٨٩.

(٢) معالم العلماء ص ٥٦.

(٣) مشيخة التهذيب ص ٦٣ ـ ٦٩ و ٥٢ ـ ٥٤.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٦١ ـ ٦٢.

(٥) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٤٨ ، ح ١٠١.

٣٧٦

وحملت على الاستحلاف ، لما تقدم من صحيحة عبد الله بن أبي يعفور ، ولرواية ابراهيم بن عبد الحميد عن خضر بن عمرو النخعي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده ، قال : ان استحلفه فليس له أن يأخذ بعد اليمين شيئاً وان حبسه فليس له أن يأخذ منه شيئاً ، وان تركه ولم يستحلفه فهو على حقه (١).

ونقل مثلها بعينه في لفظ عن الشيخ في الحسن عن ابراهيم بن عبد الحميد النخعي (٢) ، وهو غلط ، فانه ليس بالنخعي بل هو خضر ، وهو موجود في الكافي (٣) والفقيه وفي نسختي من التهذيب أيضاً ، وفي أكثر النسخ عن النخعي ، فكأن « عن » ساقط عن نسخته.

ولخضر هذا نوادر روى عنه النجاشي (٤) باسناده عن ابراهيم المذكور فهو تلميذه ، فحسن الخبر غير ظاهر ، اذ لم يعلم من حال خضر غير ذلك ، ومع قطع النظر عنه ابراهيم قيل : ثقة ، وقيل : واقفي ، ذكره المصنف في الخلاصة (٥) ، وعلى تقدير توثيقه فالخبر صحيح ، وحسن في الكافي ، نعم هو حسن في التهذيب لابراهيم بن هاشم ، الا أن يراد أن سبب حسنه ابراهيم بن عبد الحميد ، كما أشار اليه عند ذكره عيسى بن أبي منصور في الخلاصة.

أقول : صحيحة سليمان بن خالد مثل صحيحة أبي بكر الحضرمي من غير مائز ، فحمل احداهما على الاستحلاف دون الاخرى تحكم بحت وتعسف صرف

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ / ١٨٥ برقم : ٣٦٩٥.

(٢) التهذيب ٨ / ٢٩٣ ، وفيه : ابراهيم بن عبد الحميد عن خضر النخعى.

(٣) فروع الكافي ٧ / ٤١٨ ، ح ٢.

(٤) رجال النجاشى ص ١٥٣.

(٥) الخلاصة ص ١٩٧.

٣٧٧

اذ المتبادر من قولهم « فلان أنكر حق فلان وحلف عليه » أنه حلف باستحلاف صاحب الحق عند الوالي وبأمره.

يدل على ذلك صريحاً ما سبق في كلام الشيخ في أوائل الرسالة من قوله « إذا حلف المدعى عليه ثم أقام المدعي البينة بالحق لم يحكم له بها » اذ لا شك أن المراد به كما هو المتبادر منه أيضاً إذا حلف المدعى عليه باستحلاف المدعي كما يفهم من هذا هذا ، فكذا يفهم من ذاك ذاك من غير فرق.

ولذلك أوله رحمه‌الله الى ما أوله اليه ، وجعل الباعث عليه قولهم المشهور المستند الى رواية ابن أبي يعفور ، والباعث على ذلك كما عرف ضعيف ، وطريق التوثيق بينهما غير منحصر فيما ذكره ، لجواز حمل الثانية على الكراهة والأولى على الجواز ، أو بالحمل على جواز المقاصة مع القول المذكور في صحيحة الحضرمي ، وعدمه مع عدمه.

على انا نقول : فدلالة صحيحة سليمان بن خالد على عدم جواز المقاصة بعد التحليف مطلقا ممنوعة ، وانما دلت عليه في صورة كون مال الغريم عنده أمانة كما يدل عليه قوله عليه‌السلام « ان خانك فلا تخنه » فهذا قرينة أن المالين كانا عند الرجلين بطريق الامانة ، فتدل على عدم جواز الخيانة في الامانة ، ولو في صورة التقاص ، لا على عدم جواز المقاصة بعد الاحلاف ، كما هو المطلوب.

ونحن نقول بالأول ، لدلالة أخبار كثيرة صحيحة عليه. منها : صحيحة معاوية ابن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ودخلت عليه امرأة وكنت أقرب القوم اليها ، فقالت لي مسألة ، فقلت : عما ذا؟ فقالت : ان ابني مات وترك ما لا في يد أخي فأتلفه ، ثم أفاد مالا فأودعنيه ، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي‌ء؟ فأخبرته بذلك ، فقال : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أد الامانة الى من ائتمنك ولا تخن من خانك » (١) كذا

__________________

(١) التهذيب ٦ / ٣٤٨ ، ح ١٠٢ وفيه عن ابن أخى الفضيل بن يسار.

٣٧٨

في شرح الارشاد للاردبيلي.

ولعله رحمه‌الله نقلها عن غريب ، فانها فيه في كتاب المكاسب بسند مجهول هكذا : الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابي أخي الفضيل بن يسار قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم اليها الحديث (١) من غير تفاوت في المتن ، والابن المذكور مجهول غير مذكور في الرجال في باب الالقاب بالابن. وهذا أيضاً غريب ، وكونه في وقتين وبالنسبة الى امرأتين أغرب.

ولنرجع الى ما كنا فيه فنقول : إذا لم يجز المقاصة من الامانة في غير صورة التحليف ، ففي صورته أولى. وأما رواية ابراهيم بن عبد الحميد ، فمع اضطرابها في السند وجهالتها في التهذيب ، سواء كان الراوي خضر بن عمر النخعي كما في الكافي ، أو النخعي كما في التهذيب ، أو ابراهيم بن عبد الحميد كما نقله العلامة في المختلف عن الشيخ وحسنه ، وذلك أن خضر النخعي على ما فهمه رحمه‌الله مهمل فالسند مجهول.

وقد عرفت فيما سبق أن ابراهيم هذا مختلف فيه ، فذكره الكشي في ثلاث مواضع من كتابه من غير توثيق ووثقه الشيخ في الفهرست ، وأثبت له أصلا ثم أسنده بسنده اليه. وسكت عن قدحه ومدحه النجاشي ، الا أنه قال : له كتاب نوادر يرويه عنه جماعة ، ثم أسنده باسناده اليه.

وأنت تعرف أن الجرح مقدم على التعديل ، وخاصة إذا كان الجارح مثل الكشي وثبات قدمه ومعرفته الاحوال ونقد الرجال ، والشيخ كثيراً ما يضطرب في قبولهم ونقدهم ، كما أومأنا الى جملة منه في بعض رسائلنا ، وقد سبق ما فيه كفاية لللبيب فلا عليه كثير اعتماد في هذا الباب ، والله أعلم بالصواب.

__________________

(١) نفس المصدر.

٣٧٩

لا تدل دلالة صريحة على عدم جواز المقاصة بعد التحليف ، لان قوله عليه‌السلام « فليس له أن يأخذ منه بعد اليمين شيئاً » يعني : بطريق الدعوى إذا لم تكن له بينة على ما ادعاه نسيها وقت التحليف ، لانه ذهبت اليمين بدعوى المدعي ، فلا دعوى له.

ثم لا يذهب عليك أن حكمه رحمه‌الله بصحة هذه الرواية على تقدير توثيق ابراهيم ، مع أنهم لم ينصوا على توثيق خضر ، كما اعترف به فيما تقدم منه وهو من رجال هذا السند ، مبني على أنه أراد بصحته فيما عداه ، فانهم كثيراً ما يوصفون الخبر بالصحة بهذا المعنى ، كما صرح رحمه‌الله به في غير موضع من شرحه على الارشاد. ومثله الشهيد الثاني في شرحه على اللمعة في أوائل القول في شرائط القصاص.

والظاهر أن هذا مراد الشارح المجلسي في شرحه على الفقيه ، حيث قال : وروى الشيخ والكليني في الصحيح عن ابن أبي عمير ، عن ابراهيم بن عبد الحميد عن خضر النخعي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) ، ونقل الحديث كما سلف. ويظهر منه أن خضر كان موجوداً في نسخته من التهذيب ، كما كان موجوداً في نسخة الشارح الأردبيلي على ما مر ، وسقط هو وكلمة « عن » كلاهما عن نسخة الفاضل الحلي ولذلك حكم بحسن الخبر لابراهيم بن هاشم ، لان ابراهيم بن عبد الحميد وقتئذ كان ثقة عنده كما مر في كلام الشيخ.

والسند في التهذيب هكذا : علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير عن ابراهيم بن عبد الحميد عن النخعي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢).

أقول : وفوق هذا كلام ، وهو أن خضر بن عمرو لما كان امامياً لا قدح

__________________

(١) روضة المتقين ٦ / ١٦٨.

(٢) التهذيب ٨ / ٢٩٣.

٣٨٠