الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله ولي النعماء ، والصلاة على رسوله أشرف الأنبياء ، وعلى آله المعصومين ، ولا سيما على ابن عمه سيد الأوصياء ، ما سكنت في قرارها الأرض وتحركت في مدارها الكواكب والسماء.

وبعد : فلما اختلف أصحابنا في وجوب اعادة الغسل وعدمه على من اغتسل بعد جنابته بدون البول والاستبراء ، ثم خرج من احليله بلل ، وكان ترتب على ذلك الخلاف أحكاماً كثيرة جليلة مهمة عامة البلوى ، قصدت الإشارة الى ما هو الراجح منهما بحسب الدليل واستفادته من قانون العمل بالأخبار ذهني الكليل.

فأقول وأنا العبد الضعيف النحيف العليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل وبالله التوفيق : لا خلاف في وجوب الغسل على من علم أن البلل الخارج بعده مني ، وكذا لا خلاف في عدم وجوبه ووجوب الوضوء ان علم أنه بول.

وان علم أنه غيرهما كوذي أو ودي أو مذي ، فلا خلاف في عدم وجوب شي‌ء منهما عليه.

وانما الخلاف فيما إذا اشتبه عليه حاله هل هو بول أو مني أو ماء نزل من

٣٢١

الحبائل ، فانه قد ينزل منها إذا تعصرت؟ هل يجب عليه الغسل أو الوضوء أو يستحب والحال هذه؟

وليس حكم هذه الصورة بخصوصه مصرحاً به في الأخبار فيما علمناه ، والقوم قسموها الى صور :

منها : أن يكون الغسل بعد البول والاجتهاد ، وادعوا فيها الاتفاق على عدم وجوب شي‌ء منهما.

ومنها : أن يكون بدونهما ، والمشهور فيها وجوب الغسل ، وظاهر الصدوق في الفقيه يفيد الاكتفاء فيها بالوضوء ، لانه بعد ايراده الخبر الدال على اعادة الغسل قال : في خبر آخر ان كان قد رأى بللا ولم يكن قد بال فليتوضأ ولا يغتسل انما ذلك من الحبائل. ثم قال : اعادة الغسل أصل ، والخبر الثاني رخصة (١).

ولكن هذا الذي رواه غير معلوم السند ، فلا يكون حجة علينا ، وان كان حجة عليه لو ثبت عنده سنداً أو متناً. والظاهر أنه كذلك ، لانه تعهد في صدر كتابه وهو صدوق أن لا يذكر فيه الا ما هو حجة بينه وبين الله.

نعم ان قلنا : ان الخبر الواحد الصحيح حجة ، كما هو مذهب أكثر المتأخرين فالظاهر أنه يجوز لنا أن نحكم بصحته ، ويكون حجة علينا كما كان حجة عليه ، فان تصحيحه له وفتواه لا يقصر عن توثيق الرواة من واحد من علماء الرجال ، فان الظاهر من تصحيحهم الحديث القول بأنه قال المعصوم يقيناً أو ظناً ، مع أنه لا يحصل من توثيق واحد منهم سوى الظن.

والحق أن المرسل لا يجوز الاعتماد عليه ، وان كان المرسل مثل الصدوق وافتاه وحكمه بصحته وانه حجة بينه وبين ربه تقدس ذكره لا يجدينا نفعاً ، لما تبين من كثرة وقوع الخطأ في الاجتهاد ، وان مبنى الأمر على الظن لا على القطع

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٨٥.

٣٢٢

فالموافقة له في فتواه تقليد لا يسوغ.

مع أن المذكور في صحيحة الفضلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ان سال من ذكرك شي‌ء من مذي أو وذي ، فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ، ولا تنقض له الوضوء ، انما ذلك بمنزلة النخامة ، كل شي‌ء خرج منك بعد الوضوء فانه من الحبائل (١). يفيد أن ما نزل منها لا يوجب الوضوء ، فكيف صار هنا علة له؟ فليتأمل.

ومنها : أن يكون بدون البول فقط أما مع امكانه ، وأوجبوا عليه الغسل حينئذ ، وظاهر الشرائع (٢) والنافع (٣) عدمه. أو مع عدم امكانه ، وظاهر الأكثر عدم وجوب شي‌ء منهما حينئذ.

ومنها : أن يكون بدون الاجتهاد فقط ، والمعروف اعادة الوضوء خاصة.

والذي يظهر من التوفيق بين الأخبار عدم وجوبهما في شي‌ء من هذه الصور بل غايته استحباب اعادة الغسل ، بحمل ما دل على الإعادة عليه ، لمعارضته مما يدل على خلافه ، وهو أقوى منه ، ستقف عليه إن شاء الله العزيز.

وأنا أذكر أولا ما دل على الأول ، وأشير الى تصحيح ما يصح منه ورد ما يرد ، ثم أتبعه بما يدل على خلافه ، وذلك في فصلين ، ثم أبين ما يقتضيه قانون العمل بالأخبار على طريقة الأصحاب ، والله الموفق للسداد والصواب ومنه المبدأ واليه المآب.

الفصل الأول

[ ما دل من الأخبار على اعادة الغسل

في التهذيب : عن أحمد بن محمد ، عن عثمان بن عيسى ، عن عبد الله بن

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٢١ ، ح ٥٢.

(٢) شرائع الإسلام ١ / ٢٨.

(٣) المختصر النافع ص ٣٣.

٣٢٣

مسكان ، عن سليمان بن خالد.

والسند على المشهور موثق ، لان ابن عيسى هذا كان واقفياً ، واضطرب فيه العلامة ، فحسن طريق الصدوق الى سماعة وفيه ابن عيسى هذا ، وفي الخلاصة : الوجه عندي التوقف فيما ينفرد به (١). وفي كتب الاستدلال جزم بضعفه ، كل ذلك في الأوسط لملا ميرزا محمد.

والقول بأن الشيخ صرح في العدة بأن الأصحاب يعملون برواياته ، كما في الذخيرة ، على اطلاقه غير صحيح.

لانه قال فيه : وإذا كان الراوي من الواقفة نظر فيما يرويه ، فان كان هناك خبر يخالفه من طريق الموثوقين وجب اطراحه ، والعمل بما رواه الثقة وان لم يكن ما يخالفه ولا يعرف من الأصحاب العمل بخلافه ، وجب العمل به إذا كان متحرجاً في روايته موثوقاً به في أمانته ، ولذلك عمل الأصحاب بأخبار الواقفة ، مثل عثمان بن عيسى (٢).

وقد عرفت أن الصدوق عمل بخلاف ما رواه لو أبقي على اطلاقه ، بحيث يشمل صورة الاشتباه مع القول بوجوب الإعادة. ولو خص بما علم أو ظن أن الخارج مني ، فلا يكون دليلا على المدعى ، وستعرف أن هنا من طريق الموثوق به خبر يخالفه ، وليس على وفقه خبر صحيح يؤكده ، فوجب اطراحه ، ومنه يعلم ضعف ما في المدارك صحيحة سليمان بن خالد (٣).

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول ، فخرج منه شي‌ء ، قال : يعيد الغسل ، قلت : فالمرأة يخرج منها شي‌ء بعد الغسل

__________________

(١) الخلاصة ص ٢٤٤.

(٢) عدة الأصول ص ٣٨١.

(٣) مدارك الأحكام ١ / ٣٠٤.

٣٢٤

قال : لا تعيد ، قلت : فما الفرق بينهما؟ قال : لان ما يخرج من المرأة انما هو من ماء الرجل (١).

وهو محمول على ما إذا لم تعلم أو تظن المرأة أن الخارج ماءها.

قال الفاضل المجلسي قدس‌سره في حاشيته على فروع الكافي المتعلقة بهذا الحديث : لا خلاف بين الأصحاب ظاهراً في أنه إذا خلط ماء الرجل والمرأة وخرج وعلم أن الخارج مشتمل على ماء المرأة يجب عليها الغسل وأما إذا شكت فقرب في الدروس الوجوب ، وهو مشكل بعد ورود هذا الخبر وتأيده بأخبار يقين الطهارة والشك في الحدث (٢).

وقال السيد السند صاحب المدارك فيه بعد قول المصنف قدس‌سره « أو الاستبراء كيفيته أن يمسح من المقعدة الى أصل القضيب ثلاثاً ، ومنه الى رأس الحشفة ثلاثاً ، وينثره ثلاثاً » : في استحباب الاستبراء للمرأة قولان ، أظهرهما : العدم. وما تجده من البلل المشتبه فلا يترتب عليه وضوء ولا غسل ، لان اليقين لا يرتفع بالشك ، ولاختصاص الروايات المتضمنة لإعادة الغسل أو الوضوء بذلك بالرجل (٣).

ولا يذهب عليك أن الدليل الأول مشترك بين المرأة والرجل ، وحينئذ فلا بد من حمل الروايات المتضمنة لاحدهما المختصة بالرجل : اما على الاستحباب ، أو على ما إذا علم أو ظن أن الخارج مني أو بول ، وبه يجمع بين الأخبار من غير تكلف ولا طرح ، كما سيأتي إن شاء الله العزيز.

ولعل نظر السيد السند صاحب المدارك قدس‌سره كان على ما نقل عن الكشي

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ١٤٣ ، ح ٩٥ ، فروع الكافي ٣ / ٤٩ ، ح ١.

(٢) مرآة العقول ١٣ / ١٤٦.

(٣) مدارك الأحكام ١ / ٣٠١.

٣٢٥

أنه نقل قولا بأن عثمان بن عيسى ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه لكن القائل غير معلوم حاله ، والجرح مقدم على التعديل ، وخاصة إذا كان الجارح مثل العلامة ، فلا يثبت صحة ما رواه ، بل هو ضعيف على ما حكم به في كتبه الاستدلالية.

وقال صاحب الذخيرة فيه : وهذه الرواية جعلها بعضهم من الصحاح.

وهذا منه قدس‌سره إشارة الى ما في المدارك.

ثم قال : وطريقها في الكافي والتهذيب عثمان بن عيسى ، وهو واقفي الا أنه نقل الكشي قولا بأنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه.

أقول : هذا مما ذكره ملا ميرزا محمد في رجاله الأوسط في ترجمة عثمان هذا ، وهو منه رحمه‌الله غلط في الفهم ، وتبعه فيه غيره من غير تأمل صحيح أو فكر عميق فيما في الكشي.

فان المذكور فيه هكذا : ذكر نصر بن الصباح أن عثمان بن عيسى كان واقفياً وكان وكيل موسى أبي الحسن عليه‌السلام ، وفي يده مال فسخط عليه الرضا عليه‌السلام ثم تاب عثمان وبعث اليه بالمال ، وكان شيخاً عمر ستين سنة ، وكان يروي عن أبي حمزة الثمالي ولا يتهمونه في رواياته (١) مطلقا فعبر عنه بقوله.

ونقل الكشي قولا بأنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. وليس هذا معناه ، بل معناه أنهم لا يتهمونه في روايته عن أبي حمزة الثمالي ، فانه أدركه حين امكان روايته عنه ، بخلاف رواية الحسن بن محبوب عنه ، فان فيها الإرسال البتة زيادة على تهمته ، لما يعلم من تاريخهما المذكور في الكشي والنجاشي. قال الكشي : مات الحسن بن محبوب في آخر سنة أربع وعشرين

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨٦٠ برقم : ١١١٧.

٣٢٦

ومائتين ، وكان من أبناء خمس وسبعين سنة (١).

وقال النجاشي : مات أبو حمزة الثمالي في سنة خمسين ومائة (٢).

فكيف يمكن رواية ابن محبوب عنه بلا واسطة؟ وهو حين وفاته كانت له سنة واحدة ، ولذلك قال الكشي في ترجمة ابن محبوب وأصحابنا يتهمونه في روايته عنه (٣).

فمعنى قوله هنا « وكان يروي عن أبي حمزة الثمالي ولا يتهمونه » ما ذكرنا لا ما فهموه ، فتأمل.

ومما قررنا ظهر وجه تضعيف العلامة هذه الرواية في كتبه الاستدلالية ، وان توقفه فيها في الخلاصة في غير موقفه ، وان تحسينه طريق الصدوق الى سماعة وفيه ابن عيسى غير حسن ، وبالله التوفيق.

وفيه عن أحمد بن محمد ، عن أبيه ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن الحسين بن عثمان ، وذكر الحديث كما سبق (٤).

وابن أبان المذكور في السند مهمل لا مدح فيه ولا قدح ، فما رواه غير محكوم عليه بالصحة على قانون الرواية ، فقول صاحب الذخيرة فيه : ويدل عليه ما رواه الشيخ عن منصور بن حازم في الصحيح. محل نظر.

فان قلت : لعل نظره على ما في كتاب ابن داود في باب محمد بن اورمة (٥) ،

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨٥١ ، برقم : ١٠٩٤.

(٢) رجال النجاشى ص ١١٥.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٩٩ ، برقم : ٩٨٩.

(٤) تهذيب الأحكام ١ / ١٤٨ ، ح ١١٢.

(٥) رجال ابن داود ص ٤٩٩.

٣٢٧

فانه وثق ابن أبان هناك ، وكثيراً ما يسمى العلامة الحديث صحيحاً وهو في طريقه.

قلت : في شرح الفاضل الأردبيلي على الإرشاد ، والفاضل المجلسي على الفقيه ، وفي حواشي مولانا عبد الله التستري على أوائل التهذيب واللفظ له : انا لا نعتمد على ما ذكره ابن داود من توثيقه ، لان كتابه مما لم نجده صالحاً للاعتماد عليه ، لما ظفرنا عليه من الخلل الكثير في النقل عن المتقدمين ، وفي نقد الرجال والتمييز بينهم ، الى هنا كلامه (١).

اللهم الا أن يقال : ان ابن أبان من مشايخ الإجازة ، فجهالته لا تضر في الحكم بصحة روايته ، ولعل العلامة لذلك سمى الحديث صحيحاً وهو في طريقه فتأمل فيه.

وفيه في موثقة سماعة قال : سألته عن الرجل يجنب ، ثم يغتسل قبل أن يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل ، قال : يعيد الغسل ، فان كان قد بال قبل أن يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجي (٢).

وفيه عن أحمد بن محمد ، عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، ومحمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد ، عن حريز ، عن محمد.

والسند على المشهور صحيح وضعيف على ما تقرر عندنا ، لان أحمد بن محمد مشترك بين ابن خالد البرقي وابن عيسى الأشعري ، ولا قرينة هنا معينة ، لا من جهة من رويا عنه وهو ابن سعيد ، ولا من جهة من روى عنهما وهو ابن عبد الله وابن الصفار.

__________________

(١) التعليقة على تهذيب الأحكام للعلامة التستري ـ مخطوط.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ١٤٤ ، ح ٩٧.

٣٢٨

وفي ابن عيسى كلام أوردناه في بعض حواشينا على أصول الكافي.

وابن خالد البرقي ضعيف ، كما يظهر مما في الكافي في باب النص على الأئمة الاثنا عشر عليهم‌السلام في حديث طويل هكذا : وحدثني محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبي هاشم مثله سواء ، قال محمد بن يحيى فقلت لمحمد بن الحسن : يا أبا جعفر وددت أن جاء هذا الخبر من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله ، قال فقال : حدثني قبل الحيرة بعشر سنين (١).

والطريق صحيح ، وفيه دلالة على ذمه ، وعدم اعتباره في أقواله الا بتاريخ يميزها ، وهو هنا غير معلوم.

فقول صاحب المدارك ، ومثله صاحب الذخيرة والعبارة له : عن محمد بن مسلم في الصحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج من احليله بعد ما اغتسل شي‌ء ، قال : يغتسل ويعيد الصلاة ، الا أن يكون بال قبل أن يغتسل فانه لا يعيد غسله ، قال محمد وقال أبو جعفر عليه‌السلام : من اغتسل وهو جنب قبل أن يبول ثم يجد بللا ، فقد انتقض غسله. وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا ، فليس ينقض غسله ، ولكن عليه الوضوء لان البول لم يدع شيئا (٢) محلا نظر.

وفي متن هذا الحديث أيضاً نظر لو أبقى على اطلاقه ، إذ لا وجه لإعادة الصلاة الواقعة قبل خروج البلل من احليله ، فلا بد من تقييده بما وقع بعد الخروج لو علم أو غلب على ظنه أن الخارج مني أو بول. وأما في صورة الاشتباه ، فيستحب اعادة الغسل أو الوضوء والصلاة بعد أحدهما ، لما سنبينه إن شاء الله العزيز.

وبالإسناد المذكور آنفاً عن فضالة ، عن معاوية بن ميسرة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في رجل رأى بعد الغسل شيئاً ، قال : ان كان بال بعد جماعة

__________________

(١) أصول الكافي ١ / ٥٢٦ ـ ٥٢٧.

(٢) مدارك الأحكام ١ / ٣٠٥ ، التهذيب ١ / ١٤٤ ، ح ٩٨.

٣٢٩

قبل الغسل فليتوضأ ، وان لم يبل حتى اغتسل ثم وجد بللا فليعد الغسل (١).

وقد عرفت ضعف هذا الإسناد ، ويزيده ضعفاً هنا جهالة ابن ميسرة ، فانه مهمل لا قدح فيه ولا مدح ، غير أن له كتاباً.

هذا جملة ما استدلوا به على وجوب الإعادة. وقد علم مما قررناه أن لا رواية فيها يحكم بصحتها على قانون الرواية ، فالعمل بها على اطلاقها مع كونه مخالفاً للأصول المقررة عندهم كما ستقف عليه ، وخاصة بعد ورود أخبار فيها ما هو صحيح على خلافها ، مشكل ، ولنذكر الآن ما ورد على خلافها.

الفصل الثانى

[ ما يدل من الأخبار على عدم وجوب الإعادة ]

في التهذيب عن محمد بن علي بن محبوب ، عن علي بن السندي ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تصيبه الجنابة ، فينسي أن يبول حتى يغتسل ، ثم يرى بعد الغسل شيئاً أيغتسل أيضاً؟ قال : لا قد تعصرت ونزل من الحبائل (٢).

ظاهره يفيد عدم الفرق بين العامد والناسي في عدم وجوب شي‌ء ، فان قوله عليه‌السلام « قد تعصرت ونزل من الحبائل » تعليل لما قد نفاه ، وقد تقرر أن الحديث المعلل ، وخاصة إذا كان صحيحاً وغيره غيره مقدم عليه.

والتفرقة بينهما كما فعله الشيخ في التهذيب ، ولعله أراد به التوفيق بين الأخبار فأتى بما هو خلاف الأصل وهو التخصيص ، ولا حاجة فيه اليه كما ستعرفه ، غير

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ١٤٤ ، ح ٩٩.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ١٤٥ ، ح ١٠٠.

٣٣٠

جيد ، إذ لا فرق بينهما بوجه ، لان الخارج من الإحليل ان ثبت شرعاً أنه مني وجبت عليه اعادة الغسل ، ناسياً كان في ترك البول قبله أم عامداً ، والا فلا وجه لالزام وجوبه عليه.

والأصل مع اليقين بحصول ما برأت به الذمة وهو الغسل ، والشك في حدوث ما ينقضه بعد ورود هذا الخبر الصحيح. وقيل : حسن كالصحيح ينفيه ، لان علي ابن اسماعيل السندي من أصحاب الرضا عليه‌السلام وثقه نصر بن صباح ، وقال : علي ابن اسماعيل يقال علي بن السندي ، فلقب اسماعيل بالسندي.

والفاضل العلامة لما اشتبه عليه الأمر ، أو كان في نسخته ابن السري ، أورده في علي بن السري الكرخي ، وهو مذكور على حدة في رجال الصادق عليه‌السلام ، وهذا في رجال الرضا عليه‌السلام.

قال ملا ميرزا محمد في رجاله الأوسط : جميع ما وصل الينا من نسخ أخبار الشيخ من الكشي يتضمن أنه علي بن اسماعيل ، وقد نقله العلامة في الخلاصة علي بن السري ، قال : ويؤيده ما ذكرناه أنه أورد ذلك على حدة في رجال الكاظم والرضا عليهما‌السلام ، وابن السري من رجال الصادق عليه‌السلام ثم قال : وفي كتب الأحاديث في مواضع شتى علي بن السندي في مرتبة رجال الرضا عليه‌السلام (١).

أقول : هذا حق لا شبهة فيه ، فان ابن أبي عمير في طبقة رجال الكاظم والرضا عليهما‌السلام ، بل قال الشيخ في الفهرست : انه لم يرو عن الكاظم عليه‌السلام (٢) وان كان الواقع خلافه ، لانه روى عنه روايات كنى في بعضها ، فقال : يا أبا أحمد.

نعم انه لم يدرك من الصادق عليه‌السلام ولم يرو عنه بلا واسطة باتفاق أئمة الرجال فرواية ابن السندي قرينة واضحة على أنه في هذه الطبقة ، وقد علم أن ابن السري في طبقة رجال الصادق عليه‌السلام ، فأين هذا من ذاك؟!

__________________

(١) الرجال الوسيط للميرزا محمد ـ مخطوط.

(٢) الفهرست ص ١٤٢.

٣٣١

ثم الظاهر أن من هنا ، أي : مما ذكره العلامة في الخلاصة سرى الوهم الى غيره ، كصاحب المدارك فيه ، حيث حكم فيه بضعف السند وعلله باشتماله على علي بن السندي ، قال : وهو مجهول (١).

فان قلت : لعله حكم بذلك ، لان نصر بن الصباح أبا القاسم البلخي كان غالي المذهب ، فلا يعتبر قوله في الجرح والتعديل.

قلت : هو وان كان كذلك ، الا أنه كان عارفاً بالرجال والأحوال غاية المعرفة كما صرح به بعض متأخري أرباب الرجال ، ويظهر ذلك أيضاً لمن له أدنى قدم في هذا الشأن ، وهو قد لقى جلة من كان في عصره من المشايخ وروى عنهم ، كما في الكشي ، وكان من مشايخ العياشي فانه يروي عنه.

ويظهر من ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن قبة من النجاشي (٢) أنه كان من الفضلاء والأكابر ، فيعتبر قوله في أمثال هذه الأمور ، ولا سيما إذا لم يكن على خلاف قوله قول ، إذ لم يقدح في ابن السندي هذا أحد من أئمة الرجال ، فإذا صرح بتوثيقه من هو عارف بالرجال والأحوال قبل قوله فيه ، وان كان فاسد الاعتقاد ، كما يقبل روايات كثير من الرواة وهم على عقيدة باطلة.

ألا ترى أنهم يعتبرون قول أهل اللغة وغيرهم من أرباب الصنائع ، وأكثرهم فاسدون في اعتقاداتهم ، وذلك أن أهل كل صفة يسعون في تصحيح مصنوعاتهم وصيانتها عن مواضع الفساد بحسب كدهم وجدهم وجهدهم وقدر طاقتهم ومعرفتهم بصنعهم ، لئلا يسقط محلهم عندهم ، ولا يشهروا بقلة الوقوف والمعرفة في أمرهم ، وان كان فاسقاً في بعض الأفعال.

نعم صحة المراجعة اليهم يحتاج الى اختبارهم والاطلاع على حسن صنعتهم

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ / ٣٠٦.

(٢) رجال النجاشى ص ٣٧٦.

٣٣٢

وجودة معرفتهم والثقة بقولهم ، وذلك يظهر بالنظر (١) وتصديق المشاركين.

وقد عرفت أن الكشي والعياشي وجلالة قدرهما في هذا الشأن وغيرهما من أئمة الرجال وأرباب الوقوف بالاحوال كثيراً ما ينقلون عنه ، ويعتمدون عليه في قوله ونقله وجرحه وتعديله ، فهذا وما شاكله ينهيك أنه كان ثقة عندهم في قوله ، معتمداً عليه في نقله ، والا يلزم أن يكون كثيراً من كتاب رجال الكشي عبثاً بلا نفع وفائدة ، فانه قد أكثر النقل عنه في كتابه في أبواب من يروي ومن لم يرو ، كما لا يخفى على الناظر في كتابه.

ثم كيف يصح القول بأنهم لا يعتبرون قوله في الجرح والتعديل؟ وهم قد اعتبروه ، حيث حكموا بصحة رواية عثمان بن عيسى بناءً على ما فهموه من قوله « وكان يروي عن أبي حمزة الثمالي ولا يتهمونه » فقالوا : انه وان كان واقفياً ، الا أنه نقل الكشي قولا بأنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، ومرادهم بهذا القائل هو نصر بن الصباح ، كما أشرنا اليه آنفاً فتذكر.

تبيان :

يدل على صحة مضمون الخبر المذكور أمور :

منها : أن كون هذا البلل المشتبه الخارج من الإحليل منياً أو بولا موجباً لإعادة الغسل أو الوضوء غير معلوم ، كما هو المفروض ، والأصل عدمه وعدم وجوب هذا التكليف ، وبقاء الغسل المبيح للعبادة ، على ما كان عليه الى أن يعلم زواله ولم يعلم ، لانه بعد الغسل مثلا وقبل خروج المني كان على يقين منه ، فإذا خرج منه مشتبهاً فغايته حصول الشك في نقضه ، واليقين لا ينقض أبداً بالشك.

قال بعض متأخري أصحابنا : اليقين أقوى من الشك فلا يتعارضان ، بل متى

__________________

(١) في الأصل : بالنامع.

٣٣٣

تيقنا شيئاً ثم شككنا في زواله وجب الحكم ببقائه واطراح الشك ، طهارة كان أو نجاسة ، حلا كان أو حرمة ، وقد استفاض النقل عن الأئمة عليهم‌السلام بذلك ، وأجمع عليه جميع فرق الإسلام.

وساق الكلام الى أن قال : وهذا في الحقيقة راجع الى أصل بقاء الشي‌ء على ما كان عليه وهو الاستصحاب. ويتفرع على ذلك كثير من مسائل الفقه ، كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث لا يلتفت ، وبالعكس تجب الطهارة ، ومن تيقن طهارة بدنه أو ثوبه وشك في عروض النجاسة لا يلتفت ، وبالعكس يجب التطهير. هذا وأمثاله مما لا خلاف فيه.

أما تخيل خروج بول أو مني من غير أن يجد رطوبة ، فهذا وهم فاسد وخيال ردي شيطاني ، يتحتم الإعراض عنه ، بل وان وجد رطوبة ما لم يعلم أنه مني أو بول.

ثم قال : ورويت بسندي الى عنبسة بن مصعب قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : رجل احتلم ، فلما قام وجد بللا قليلا على ما ذكره ، قال : ليس عليه شي‌ء ان علياً عليه‌السلام كان يقول : انما الغسل من الماء الأكبر (١).

ومنها : ما روى الشيخ في التهذيب عن عبد الله بن هلال في القوي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجامع أهله ، ثم يغتسل قبل أن يبول ، ثم يخرج منه شي‌ء بعد الغسل ، قال : لا شي‌ء عليه ان ذلك مما وضعه الله عنه (٢).

ومنها : ما رواه عن زيد الشحام عنه عليه‌السلام قال : سألته عن رجل أجنب ، ثم اغتسل قبل أن يبول ثم رأى شيئاً ، قال : لا يعيد الغسل ليس ذلك الذي رأى شيئاً (٣).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ١١٩ ، ح ٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ١٤٥ ، ح ١٠٢.

(٣) تهذيب الأحكام ١ / ١٤٥ ، ح ١٠٣.

٣٣٤

ومنها : ما في الفقيه : سئل عن الرجل ينام ثم يستيقظ فيمس ذكره فيرى بللا ولم ير في منامه شيئاً أيغتسل؟ قال : لا انما الغسل من الماء الأكبر (١).

فانه أيضاً يدل على عدم وجوب الغسل بالبلل ، لتوقفه على العلم بكون ذلك من الماء الأكبر ، والمفروض أنه غير معلوم.

فان قلت : ما ذكرته أولا اجتهاد في مقابلة النص.

قلت : ليس كذلك ، بل هو مضمون رواية صحيحة صريحة في ذلك ، فيدل على أن الأخبار المطلقة الدالة على الإعادة محمولة : اما على الاستحباب ، كما مر في صورة الاشتباه ، أو على الوجوب لا مطلقاً ، بل إذا حصل له العلم أو الظن بكون الخارج مني ، وبه يوفق بين الأخبار.

فأما إذا حملنا قوله عليه‌السلام « فليعد الغسل » ونحوه على الاستحباب يكون المراد بقوله « لا » أي : لا يعيد الغسل قد تعصرت ونزل من الحبائل ، نفي الوجوب ، فيكونان متوافقين غير مختلفين.

ويستفاد من ذلك استحباب الوضوء أيضاً ، لان موجبه البول دون ما يخرج من الحبائل ، فوجه استحباب الوضوء احتمال كونه بالبول ، وفي الغسل احتمال كونه مخلوطاً بالمني.

فقول من قال حمل الأخبار الدالة على الإعادة على الاستحباب غير لازم ، لعدم صلاحية المعارض للمعارضة ضعيف ، لانا لو قطعنا النظر عن صحيحة جميل وقلنا بكون علي بن السندي الواقع في طريقها غير موثق ، لكفانا في مقام المعارضة هذا الحديث الصحيح الذي أشرنا اليه ، مع براءة الذمة عن وجوب الإعادة الى أن يقوم على خلافه نص صحيح صريح أو دليل آخر ولم يقم.

أما الثاني ، فظاهر. وأما الأول ، فلما عرفت من عدم صحة الأخبار الدالة عليه ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٨٦ ، برقم : ١٨٩.

٣٣٥

وأيضاً فان الشك في حصول الحدث مع اليقين بالطهارة لا يوجب الطهارة ، فإذا انضم هذا الى ما دل على عدم الإعادة من الأخبار وفيها ما هو صحيح وبعضها قوي ، صار المعارض قوياً في كمال القوة.

وبالجملة ان الحكم بوجوب الإعادة في صورة الاشتباه بعد ورود هذه الأخبار الدالة على العدم وتأيدها بأخبار يقين الطهارة والشك في الحدث ، وبقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : اليقين لا ينقض أبداً بالشك ولكن ينقضه يقين آخر (١). وبأصالة عدم كونه منياً ، وبراءة الذمة وجوب هذا التكليف ، وهو اعادة الغسل ، ولا خبر صحيح ولا دليل آخر يدل على وجوبه ، مشكل.

فان قلت : ان الاحتياط اعادة الغسل والوضوء في صورة الاشتباه ، قلت : ان الاحتياط ليس بدليل شرعي ، وانما كلامنا فيه وفي من لم يعد الغسل أو الوضوء في هذه الصورة ، وصلى بهما صلوات كثيرة ، أو حج بذلك الغسل حجة أو عمرة وصلى بهما صلاة الطواف الى غير ذلك ، ثم راجع الفقيه في ذلك أو راجعه في أول الأمر ، هل يجوز له الزامه باعادة الغسل والوضوء ، أو اعادة تلك الصلوات الكثيرة ، أو قضاءها ، أو قضاء الحجة أو العمرة ، ولا دليل له عليه شرعاً.

وإذا لم يمكنه اعادة الغسل لمانع شرعي ، هل يحكم بكونه جنباً وما يتبعه من الأحكام الكثيرة؟ وهل يلزمه التيمم بدلا عن الغسل ، أو يجوز له الوضوء أو التيمم بدلا منه؟ الى غير ذلك من الأحكام المترتبة على هذا الخلاف.

وبمثل ما ذكرنا يمكن نفي وجوب الوضوء إذا خرج منه البلل بعد البول بدون الاستبراء ، لأنه بعد الوضوء وقبل خروجه كان على يقين منه ، فإذا خرج مشتبهاً عليه ، فغايته حصول الشك في نقضه ، وقد عرفت أن اليقين لا ينقض أبداً بالشك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٨ ، ح ١١.

٣٣٦

وأيضاً فان هذا البلل الخارج من الإحليل مما لم يعلم كونه بولا ، وكل ما لم يعلم كونه بولا ، وجب الحكم بطهارته وعدم كونه بولا ، فلا يكون ناقضاً للوضوء ولا تجب اعادته به.

أما الأولى ، فظاهرة على هذا الفرض.

وأما الثانية ، فلما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم (١). فأرشد الى عدم مبالاته بغير المعلوم ، والمشتبه داخل فيه ، وعليه يحمل الأخبار الدالة على عدم اعادة الوضوء بوجدان البلل بعده.

كصحيحة عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل بال ثم توضأ وقام الى الصلاة فوجد بللا ، قال : لا شي‌ء عليه ولا يتوضأ (٢).

ويخصصه بصورة الاستبراء ، وليس بأولى من حمل ما دل بمفهومه على وجوب الوضوء على من بال ولم يستبرء.

كصحيحة ابن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يبول ، قال : ينتره ثلاثاً ثم ان سال حتى يبلغ السوق فلا يبالي (٣).

وحسنة محمد بن مسلم قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام : رجل بال ولم يكن معه ماء قال : يعصر أصل ذكره الى طرف ذكره ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فان خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من البول ولكنه من الحبائل (٤).

ورواية عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يبول ثم يستنجي

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٢٥٤ ، ح ٢٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٦٤ ، برقم : ١٤٧.

(٣) تهذيب الأحكام ١ / ٢٧ ، ح ٩.

(٤) تهذيب الأحكام ١ / ٢٨ ، ح ١٠.

٣٣٧

ثم يجد بعد ذلك بللا ، قال : إذا بال فخرط بعد ما بين المقعدة والأنثيين ثلاث مرات وغمز ما بينهما ثم استنجى ، فان سال حتى يبلغ السوق فلا يبالي (١).

على ما إذا علم أو ظن أن الخارج هو البول ، بل هذا أولى لتأيده بأخبار يقين الطهارة والشك في الحدث ، وصحيحة زرارة السابقة ، وبأصالة براءة الذمة ، وبهذه الأخبار الدالة على العدم.

وبعضهم جمع بين صحيحة ابن أبي يعفور وهذه الأخبار بالحمل على الاستحباب ، خصوصاً إذا انقطعت درة البول ، كما يظهر من الأخبار الصحيحة كقول الصادق عليه‌السلام : والمستنجي يصب الماء إذا انقطعت درة البول (٢). مع الأصل عدم كونه بولا.

مع قوله عليه‌السلام في الموثق : إذا استيقنت أنك قد توضأت فاياك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنك قد أحدثت (٣).

وأما ما روي من اعادة الوضوء بالخارج بعد الاستبراء ، مثل رواية الصفار عن محمد بن عيسى ، قال : كتب اليه رجل هل يجب الوضوء مما خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب : نعم (٤).

فمحمول على التقية ، كما حمله عليها الشيخ في الإستبصار ، لان العامة يوجبون الوضوء عما يخرج من الذكر غير المني ، وكيف لا يكون محمولا عليها؟ وابن ادريس ادعى الإجماع على عدم انتقاض الوضوء لو استبرأ ثم رأى البلل.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٦٥ ، برقم : ١٤٨.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٣٥٦ ، ح ٢٨.

(٣) تهذيب الأحكام ١ / ١٠٢ ، ح ١١٧.

(٤) الإستبصار ١ / ٤٩ ، ح ٣.

٣٣٨

تذنيب :

اني حين ما شرعت في كتابة هذه المسألة كنت ذاهلا عما أشار اليه الفاضل الأردبيلي في شرحه على الإرشاد ، والفاضل التفرشي في حواشيه على الفقيه.

وكنت أظن بتفردي بذلك ومخالفته المشهور ، بل الإجماع الذي ادعى بعضهم كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، فبعد ما أسست أساسها ، وشيدت أركانها ، وأحكمت قواعدها وبنيانها. فلما راجعتهما وجدتهما موافقين لي في بعض ما خطر بخاطري الفاتر وذهني القاصر ، فكأني كنت معقولا فحل عقالي ، فنقلت موضع الحاجة من كلامهما تيمناً وتبركاً.

قال آخوندنا مراد التفرشي قدس‌سره بعد كلام : والذي بقتضيه النظر مع قطع النظر عما فيه من الروايات أن البلل الخارج من الإحليل إذا لم يعلم كونه ما ذا؟ لا يوجب غسلا ولا وضوءاً ، لان الأصل أن لا يكون منياً ولا بولا ، مؤيداً بأصل آخر ، وهو براءة الذمة.

لا يقال : وقوعه بعد خروج المني من دون توسط بول أو استبراء امارة كونه بقية ذلك المني ، ومع توسط أحدهما امارة كونه بولا ، الحاقاً للفرد بالغالب.

لانا نقول : الغالب في مثله أن لا يكون بولا ، لندوره من غير أن يجتمع قدر يعتد به منه في محله ثم يقصد دفعه ، ولا منياً لندوره أن يفارقه الدفع والشهوة وأن يبقى منه بقية في الطريق زماناً يسع الغسل ومقدماته ، بل قد يتوسط بين الجنابة والغسل زمان كثير جداً ، مع أنهم لم يفرقوا بين توسط زمان قليل وكثير بينهما فالأصل المذكور مؤيد بهذا الظاهر أيضاً.

ثم امكان البول لا دخل له في كون الخارج منياً ، بل ربما كان له مدخل في

٣٣٩

كونه بولا ، لان امكانه يدل على وجوده في محله ، فخروجه أقرب من خروجه بعد الحدوث.

ويؤيد ذلك ما في خبر جميل بن دراج ولعله صحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تصيبه الجنابة فنسي أن يبول حتى يغتسل ، ثم يرى بعد الغسل شيئاً أيغتسل أيضاً؟ قال : قد تعصرت ونزل من الحبائل. فان ظاهر النسيان كونه ممكناً قبل الغسل بحيث لو لا النسيان لفعله ، ويتأيد به الأصل المذكور أيضاً وبرواية عبد الله بن هلال ، ورواية زيد الشحام ، ونقلهما كما سبقا.

ثم قال : وترك الاستفصال يفيد شموله لمن لم يستبرء ولم يبل. والاستدلال على وجوب الإعادة بخبر سليمان بن خالد بعد ما عد صحيحاً وفي طريقه عثمان بن عيسى وفيه قول ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام وبصحيحة محمد ونقلهما كما سبقا.

ثم قال : وحمل أمثال تلك الأحاديث على الاستحباب واضح ، وحينئذ فالمراد بانتقاض الغسل ، كما هو المذكور في رواية محمد بن مسلم انتقاض كماله ، اذ لا مجال لحمله على انتقاض نفس الغسل وهو ظاهر ، ولا على انتقاض أثره مطلقاً لصحة الصلاة المتقدمة على البلل قطعاً ، بل على انتقاض أثره بالنسبة الى ما بعد البلل ، فكما يمكن حمله على الانتقاض رأساً ، يمكن حمله على الانتقاض كمالا.

ويمكن حمل شي‌ء وبللا في خبري سليمان ومحمد على ما يظن كونه من النواقض جمعاً بين الأخبار ، واثبات الإجماع فيه دونه خرط القتاد ، وطريق الاحتياط أسلم (١) ، انتهى كلامه طاب منامه.

أقول : حكمه بصحة خبر جميل وعدم صحة خبر سليمان حق. وأما حكمه بصحة خبر محمد وان طريق الاحتياط أسلم ، ففيهما ما عرفته فتذكر.

وقال مولانا أحمد الأردبيلي طاب رمسه بعد كلام : وأما ايجاب الغسل على

__________________

(١) الحاشية على الفقيه للمحقق التفرشى ـ مخطوط.

٣٤٠