الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

فيها ، وحكم الاخوين رضاعاً كحكم الاخوين أباً وأماً. هذا أساس (١) ما بنى عليه الكلام وأصل ما فرع عليه الاحكام ، ولنا بعون الله الملك العلام على نقض بنيانه من أصله وأساسه ليعلم منه انتقاض ما فرع عليه بقياسه.

فأقول ، وأنا العبد الآنس بربه الجليل محمد بن الحسين المشتهر باسماعيل إن هذا الذي استفاد منها (٢) وبنى عليه الكلام ، ثم فرع عليه ما في رسالته هذه من الاحكام ، انما نشأ من الذهول عن بعض الآثار المناقض لما فهمه من تلك الاخبار ، مع قلة التدبر وضعف التفكر.

اذ لا يخفى على ذي مسكة ، أن هذا الخبر المروي عن سيد البشر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « إن الله عزوجل حرم من الرضاع ما حرم من النسب » وما في معناه ، وإن كان من العام في جميع الاحكام وجملة المحرمات بالرضاع كعمومه بالنسب إلا أنه لا عموم له على وجه رام المستدل بيانه ، بل ليس مفاده على هذا الوجه.

غير أن التحريم الرضاعي انما يتعلق بالمرتضع وحده لا غير ، وذلك أن عدم ذكر المحرم عليه لو سلم أنه كان لافادة العموم ، كان حاصل المعنى أنه يحرم على كل أحد ، أو على كل مرتضع من الرضاع ما يحرم عليه بالنسب ، لا أنه يحرم على المرتضع وأقربائه من الرضاع ما يحرم عليهم من النسب ، أو يحرم على الاخوين رضاعاً ما يحرم على الاخوين نسباً ، لان حكمهما حكمهما ، كما هو مقتضى بيانه رحمه‌الله.

كيف ويحرم على كل واحد من الاخوين نسباً بنت أخ أخيه من أمه وأبيه ، ولا يحرم على واحد من الاخوين رضاعاً بنت أخ أخيه من أمه وأبيه ، كما هو صريح الخبر التي.

ويحتمل أن يكون عدم ذكر المحرم عليه لا لافادة العموم ، بل للاحتراز عن

__________________

(١) أساس كل شي‌ء أصله « منه ».

(٢) أي : من هذه الاخبار « منه ».

١٦١

العبث ، لوجود القرينة الدالة على تعينه وهي الرضاع ، فانه يشعر بأن غير المذكور هو المرتضع ، ومن المشهور بين الطلبة اذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال ، سيما اذا كان احتمالا تتبادر اليه الافهام وتتلقاه بالقبول الفحول الاعلام ، كما ستقف عليه إن شاء الله العزيز العلام.

وبالجملة قوله عليه‌السلام لا يشك من له وجدان صحيح في أنه يستدعي تقدير المحرم عليه ، فاما : أن يقدر له ذلك ، أولا. وعلى الثاني يكون الغرض مجرد الاخبار بأن الرضاع سبب التحريم ، كما أن النسب كذلك ، ويكون مفاد الخبر أن كل ما يحرم من النسب فانه يحرم من الرضاع.

وهذا على المشهور بين العلماء مما لا نزاع فيه ، اذ لا كلام لاحد يعتد بكلامه في أن كل ما يحرم بسبب النسب باحدى الوجوه السبعة المذكورة في الآية ، فانه يحرم بالرضاع اذا وجد ذلك النسب بعينه فيه.

قال مولانا الفاضل الاردبيلي قدس الله رمسه في آيات أحكامه : معنى يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أن كل من يحرم ويكون سبب تحريمه النسبية واحد أسبابه السبعة المذكورة يحرم ذلك بالرضاع اذا وجد ذلك السبب بعينه فيه ، مثل الام الرضاعية والاخت كذلك (١).

وسيأتي تفصيل كل ذلك في محله. وانما الكلام في من يحرم ذلك عليه برضاع المرتضع ، ومنه يتبين حال ما ذكره في الباب الثاني في الفصل الثاني من رسالته بعد كلام الحق ، أن المراد في الحديث المستفيض أنه كما يحصل بسبب الولادة التحريم وتوجد المحارم النسبية ويتحقق المحرمية بينهم بها ، كذلك تحصل بسبب الرضاعة تلك المحرمية ، فانها نسب ثان كما فصلناه سابقاً ، اذ لا كلام في أن الرضاعة كالولادة سبب التحريم ووجود المحارم وتحقق

__________________

(١) زبدة البيان ص ٥٢٤.

١٦٢

المحرمية بينهم بها.

وانما الكلام في نشر ذلك التحريم المتحقق بالنسبة الى المرتضع منه الى اخوته واخواته وأبويه وسائر أقربائه نسباً ورضاعاً ، فلا بد من تقدير المحرم عليه في الخبر ، ليصلح أن يكون شاهداً لما فيه النزاع ، فاما أن يقدر كل أحدكما سبق ، أو خصوص المرتضع بقرينة ذكر الرضاع ، أو الاخوان رضاعاً ، أو المرتضع وأقرباؤه من الطرفين والاولان وهما متحدان مآلا لنا لا علينا. والآخران باطلان.

أما أولا ، فلما سبق.

وأما ثانياً ، فلان عدم ذكر المحرم عليه كما يحتمل أن يكون لافادة العموم ، كذلك يحتمل أن يكون للاحتراز عن العبث والعدول الى أقوى الدليلين ، بناء على وجود القرينة المعينة ، فلا بد في ترجيح أحد الاحتمالين على الاخر من مرجح ، وهو موجود في الثاني دون الاول ، لان هذا القدر من التحريم المتحقق بالنسبة الى المرتضع متفق عليه ، وغيره مختلف فيه مع كونه مخالفاً لاصالة الحلية والاباحة والبراءة والاستصحاب ، وعموم بعض الآيات وخصوص بعض الروايات ، فتقدر المرتضع اولى من تقدير غيره المفيد للعموم المخالف لجميع ما ذكر مع كونه مختلفاً فيه.

وأما ثالثاً ، فلان الحذف لما كان على خلاف الاصل ومقتضى الظاهر وما هو متقرر في الاذهان ، وهو الذكر كما صرحوا (١) ، وكل ما كان المحذوف أقل كان الكلام الى الاصل ومقتضى الظاهر وما هو متقرر في الاذهان أقرب.

وهذا كما قلناه يقتضي أن يكون المحذوف وهو المحرم عليه هو المرتضع فقط ، كما هو ظاهر العلماء كلهم ، وبه يشعر ذكر الرضاع لا الاخوين رضاعاً ،

__________________

(١) كل ذلك مصرح به في شرح مختصر التلخيص ومتعلقاته « منه ».

١٦٣

أو المرتضع ومن في طبقته من أقربائه ، كما يقتضيه تقريره وبيانه قدس‌سره ، فيكون من هذه الجهة أيضاً مرجوحاً مخالفاً لقواعد الادب بعيداً عن الاذهان ، وعلى خلاف مقتضى الظاهر وما تقرر في اصول الاعيان.

وأما رابعاً ، فلان مدارهم في المقامات الاستدلالية على الظاهر المتبادر ، لا على خلافه البعيد الخطور على الخواطر ، فانهم يمنعون أن يخاطب الحكيم بشي‌ء يريد خلاف ظاهره من دون البيان ، وإلا لزم الاغراء بالجهل ، لان المخاطب العالم يوضع اللفظ يعتقد أنه يريد ظاهره ، فاذا لم يرده مع اعتقاده ارادته له كان ذلك اغراء له على ذلك الاعتقاد الجهل.

قالوا : والقول بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد يحكم حكماً ظاهرياً وهو لا يريده قول المرجئة فانهم يجوزون أن يعني من النصوص خلاف الظاهر من غير بيان ، ومذهبهم قريب من مذهب الحشوية ، وهم طائفة يجوزون أن يخاطبنا الله بالمهمل ، لان اللفظ بالنسبة الى خلاف الظاهر من غير بيان مهمل ، كذا في حواشي الكشاف ، ولعله لذلك لم يحمله أحد من السلف الى الخلف على هذا المعنى الذي حمله عليه صاحب الرسالة.

وبه يندفع ما يمكن أن يقال لعله يقول : إن هذا المعنى هو الظاهر من هذا الخبر ، كما أشار اليه في كلامه المنقول عنه آنفاً بقوله : الحق أن المراد في هذا الحديث المستفيض الى آخر ما قاله هناك.

لأنا نقول : لو كان هذا المعنى هو الظاهر منه لكان جلهم بل كلهم يحمله عليه لعين ما نقلناه عنهم آنفاً ، والحال انا لم نجد الى الآن أحداً منهم حمله عليه ، أو مال ميلا ما اليه ، فكيف يمكنه ادعاء ظهوره فيه والحال هذه؟

وأما خامساً ، فلان هذا المعنى الذي ادعى فهمه منه على هذا التقدير على تقدير تسليمه وثبوته معارض بعموم الآيات وخصوص بعض الروايات الآتية ، وبأصالة

١٦٤

الحلية والاباحة والبراءة واستصحاب الحل السابق ، فان الاول يدل على عموم التحريم ، والثاني يدل على عموم التحليل ، فاذا تعارضا تساقطاً ، فينتفي التحريم قطعاً لانتفاء سببه ، ويلزم من انتفائه ثبوت الاباحة ، اذ لا يعقل ارتفاع النقيضين وسيرد عليه كلام أبسط.

تنبيه المتنازع

المشهور ليس هو المحرمات من الرضاع ، فانها وإن كانت بنص القرآن العزيز هي الاخت والام ، لقوله تعالى ( وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ) (١) إلا أن ذكر الشي‌ء لما لم يكن نافي ما عداه وظاهر القرآن لم يفد الحصر ، انعقد الاجماع من المسلمين قاطبة على أن كل ما يحرم بالنسب من السبع المذكورات في الآية الكريمة يحرم أمثالهن من الرضاعة ، للخبر المذكور المشهور بين الفريقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقول سيدنا الصادق عليه‌السلام كل ما يحرم من النسب فانه يحرم من الرضاع (٢).

نعم أضيف الى شرذمة من العامة أنهم قالوا باختصاص التحريم بالاخت والام لظاهر الآية ، وهو لكونه مخالفاً للاجماع والاخبار منا ، ومنهم مما لا يعبأ به ولا بقائله.

وعلى هذا فليس في التعرض لعموم كلمة « ما » هاهنا كثير فائدة ، اذ لا نزاع في الحقيقة إلا في المحرم عليه ، ولا مدخل فيه لعمومها ولا عمومها ، بل لا طائل تحت التعرض ، لعدم ذكر المحرم عليه أيضاً ، فان عدمه إن كان للاحتراز عن العبث والعدول الى أقوى الدليلين كما أومأنا اليه فظاهر ، وإن كان ليفيد العموم كما

__________________

(١) سورة النساء : ٢٣.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٣١٣.

١٦٥

زعمه فكذلك ، اذ الظاهر أن المحذوف حينئذ هو كل أحد أو كل مرتضع ، وتقديره كما عرفت مما ينافي ما قصده المستدل ، فتأمل.

فصل

[ الاستدلال بالخبر على المدعى ]

كما ينافيه هذا ، كذلك ينافيه من جهة الخبر ما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن الحسن ، عن محمد بن الوليد ، عن العباس بن عامر ، عن يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة أرضعتني وأرضعت صبياً معي ولذلك الصبي أخ من أبيه وأمه ، فيحل لي أن أتزوج ابنته؟ قال : لا بأس (١).

فانه حديث موثق كالصحيح ، متأيد بأصالة الحلية والاباحة والبراءة واستصحاب الحل السابق ، وفيه دلالة واضحة على أن هذين المرتضعين ، أعني : السائل والصبي قد ارتضعا من لبن امرأة وزوجها ، كما هو صريح قوله : « وأرضعت صبياً معي » فحصلت بينهما علاقة الاخوة الرضاعية ، كما حصلت بينهما وبين رضيعهما أيضاً ، اذ لا فرق في ذلك بينهم أصلا ، لارتضاعهم جميعاً من لبن واحد ، فحكمهم فيما يترتب على ذلك من التحريم والتحليل حكم واحد.

فلو كانت تلك العلاقة مثل علاقة الاخوة النسبية يحرم فيها ما يحرم فيها ، وكان حكم الاخوين رضاعاً حكم الاخوين أباً وأماً ، كما ظنه وحمل الخبر عليه ، لكانت ابنة أخ الصبي من أبيه وامه ابنة أخ السائل من أبيه وامه من غير فرق ، كما ادعاه في كلامه المنقول عنه ، ومثله في ذلك الرضيع كما سبق. وابنة الاخ النسبي اذا كان

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٣ ، ح ٣٩.

١٦٦

من أبيه وامه محرمة عليه أبداً من غير خلاف.

وقوله عليه‌السلام « لا بأس » أي : عليك في تزويجها ، صريح في خلافه. ويدل على أن هذا المرتضع يجوز له النكاح في أولاد اخوة المرتضع الاخر ، فهذا الحديث مادة نقض لما ادعاه المستدل من أن كل تحريم يترتب على علاقة القرابة يترتب على علاقة الرضاعة أيضاً من غير فرق ، فان ابنة أخ الاخ من القرابة حرام ، بخلاف ابنة أخ الاخ من الرضاعة ، كما هو صريح الخبر. ومنه يظهر ما يظهر للفطن اللبيب بعد تأمله الصادق وأخذه فطانته بيده ، فتأمل فيه.

وانما قيد الاخ بالاب والام ليحترز به عن أخيه من امه فقط ، اذ لو كان له أخ منها لجاز لاخيه من أبيه ، أي : لاخيه من النسب أن يتزوج ابنة أخيه من امه فبأن يجوز ذلك لاخيه من الرضاع أولى ، فلما كان جوازه معلوماً له بطريق أولى أعرض عنه وخص ذلك بالسؤال.

والوجه فيه أن أخوة الاخ من حيث هم اخوة أخ لا يحرمون على الاخ ، وانما يحرمون عليه من حيث هم اخوة له ، لان الانسان اذا كان له أخ من أبيه واخت من امه ، جاز لاخيه المذكور نكاح اخته ، اذ لا نسب بينهما محرم ، وظاهر أن هذا المرتضع وهو السائل كما لا نسب بينه وبين اخوة المرتضع الاخر وهو الصبي ، كذلك لا رضاع بينهم ، وحينئذ لا وجه للتحريم أصلا.

فهذا قرينة واضحة دلت على أن مقصودهم عليهم‌السلام من هذا الخبر المستفيض ليس ما فهمه منه وحمله عليه من أن حكم الاخوين رضاعاً حكم الاخوين أباً واماً في ترتب التحريم ، والا لم يصرحوا بما ينافيه ويناقضه ، لان التناقض في كلامهم لعصمتهم عليهم‌السلام غير مسوغ.

ويستفاد منه ان أخ الاخ من الرضاع لا يلزم أن يكون أخاً له منه ، كما أن أخ الاخ من النسب كذلك ، أي : لا يلزم أن يكون أخاً له منه ، وكذا اخت الاخ

١٦٧

واخت الاخت وأخ الاخت وبنت أخ الاخ وبنت اخت الاخت وبنت اخت الاخ وهكذا في سائر المراتب. ولو كان حاصل معنى الخبر ما استفاده منه وبنى الامر عليه لكان ذلك كله من اللوازم ولا يخفى.

أقول : واذا جاز النكاح لاحد هذين المرتضعين في اخوة المرتضع الاخر ، فبأن يجوز لاخوة أحدهما في اخوة الاخر أولى.

ويستفاد منه أن التحريم في هذه الصورة لا ينشر من المرتضع ، ولا تصير أقاربه واخوته نسباً بمنزلة أقارب المرتضع الاخر واخوته ، فضلا عن أن يصيروا بمنزلة اخوة اخوته وأقاربهم.

ويظهر منه وجه قول أصحابنا لو أرضعت امرأة ابناً لقوم وبنتاً لاخرين ، فانه يجوز أن ينكح اخوة كل واحد منهما في اخوة الاخر ، اذ لا نسب بينهم ولا رضاع.

قال الشيخ في النهاية : فاذا أرضعت المرأة صبيين ولكل واحد منهما اخوة وأخوات ولادة ورضاعاً من غير الرجل الذي رضعا من لبنه ، جاز التناكح بين اخوة وأخوات هذا واخوة وأخوات ذاك ، ولا يجوز التناكح بينهما أنفسهما (١).

وأنت خبير بأن رواية يونس بن يعقوب (٢) دليل واضح عليه.

وقال الشيخ زين الدين في شرح الشرائع : عدم التحريم هنا واضح ، لان اخوة أحد المرتضعين هنا بالنسبة الى اخوة الاخر لا رابطة بينهم بالمحرمية أصلا فانهم ليسوا بمنزلة اخوة الاخوين الذين يحتمل فيهم التحريم ، وانما هم اخوة اخوة الاخوة.

وهذا منه صريح في عدم احتمال التحريم هنا ، وهو كذلك.

__________________

(١) النهاية ص ٤٦٢.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٣ ، ح ٣٩.

١٦٨

والاولى أن يستدل عليه برواية يونس السابقة ، فانها أدل دليل عليه ، ومنها يستبين أن علاقة الرضاعة ليست بمساوية لعلاقة القرابة في ايجاب التحريم الكلي بأن يكون كل تحريم يترتب على الثانية يترتب على الاولى أيضاً من غير فرق ، كما ظنه وزعمه أنه يفهم من الخبر المشهور.

والحل أن اخوة أحد المولودين من ماء رجل وامرأته انما تصير اخوة المولود الاخر ، لتحقق النسب بينهم كما في الاول ، وهذا بخلاف اخوة أحد المرتضعين من لبن امرأة وزوجها ، فانها انما لا تصير اخوة المرتضع الاخر واخوة اخوته وأخواته ، لعدم تحقق الرضاع بينهم ، كما هو متحقق بين المرتضعين.

واذا لم يصر نفس أحد المرتضعين أخاً لاخ المرتضع الاخر ، كما هو صريح رواية ابن يعقوب ، وذلك لعدم تحقق الرضاع بينهما ، فبأن لا يصير أخوه أخاً لاخيه أولى ، لان هناك واسطة وهنا واسطتان فافهم.

فكما لا بد في تحقق الاخوة النسبية من تحقق النسب بين الاخوين النسبيين ، فكذا لا بد في تحقق الاخوة الرضاعية من تحقق الرضاع بين الاخوين الرضاعيين فحيثما تحقق تحققت ، وحيثما لم يتحقق لم يتحقق ، فالفرق في ذلك بينهما بين ، فقياس أحدهما على الاخر وجعلهما واحداً في ايجاب التحريم الكلي قياس معه فارق بالعقل والنقل كما عرفت.

وعجبي أنه اعترف في الرسالة بأن قول الشيخ في النهاية مما يجب التمسك به ، لكونه مبنياً على التمسك بالرواية والشهرة بين الطائفة ومخالفة العامة وان لم يطابق القواعد والاصول ، وغفل أن فهمه من الخبر المشهور ما فهم وبنى عليه ما بنى ينافيان ما في النهاية ، اذ لا يجوز بناءاً عليه التناكح بين اخوة وأخوات هذا واخوة وأخوات ذاك ، كما هو واضح.

هذا ومما قررناه في خبر يونس السابق ذكره ، ظهر أن ما قالوه في بيان

١٦٩

تحليل اخوة المرتضع ولادة على اخوته رضاعاً أن أخت الاخ لا تحرم على الانسان الا اذا كانت أختاً له من أبيه أو من أمه ، فان أخت الانسان من الام تحل على أخيه من الاب ، لعدم كونها أختاً له لا من أبيه ولا من أمه ، وهؤلاء بعضهم على بعض ، هكذا على ما في الرسالة.

ليس مجرد وجه اجتهادي وخيال اعتباري من غير نص في خبر ولا ذكر في أثر كما ظنه فيها ، ونسبه الى عين القياس الباطل عند علمائنا أجمع ، بل هو كالمنصوص في هذا الخبر والمذكور في هذا الاثر.

كما يشير اليه ما أفاده وأجاده التقي المتقي المجلسى قدس‌سره في حاشية له معلقة على هذا الخبر بقوله قوله ابنته ، أي : ابنة الاخ ويدل على أن كل منزلة ليست محرمة كما في النسب ، فانه لا يلزم أن يكون أخ الاخ أخاً ، ولا شك في أن الرضاع أضعف منه ، فأخت الرضاعة امرأة رضعت معك من امرأة ، وأما أختها فليست باختك من الرضاعة ولا بنتها بنت أختك. الى هنا كلامه رفع مقامه.

وعلى ما أصله صاحب الرسالة فيها تكون اختها اختك وبنتها بنت اختك ، ولا يكون الرضاع أضعف من النسب بل هو مساو له ، يحرم فيه ما يحرم فيه ، كما صرح به بقوله : وعلاقة الرضاعة مساوية لعلاقة القرابة في ايجاب التحريم الكلي يترتب عليها ما يترتب عليها من التحريم من غير فرق ، وصريح الخبر يدفعه.

فهو وما شاكله يدل على بطلان ما فهمه منه وجعله معيار التحريم وميزان التفريع وآلة الملاحظة في سائر ما يتعلق بهذا المبحث ، لان بطلان الاصل بطلان الفرع.

وبالجملة لو كان حاصل معنى الخبر ما استفاده منه وحمله عليه ، لكان بين قول سيدنا الصادق عليه‌السلام في رواية أبي بصير كل ما يحرم من النسب ، فانه يحرم من الرضاع. وقوله في رواية يونس بن يعقوب لا بأس ، أي : عليك في تزويج ابنة

١٧٠

الاخ تناف وتناقض.

فان الاول وما في معناه على ما فهمه منه يفيد ان تلك الابنة محرم عليه تزويجها فانها في حكم ابنة أخيه النسبي وابنته محرمة عليه. والثاني صريح في أنها غير محرمة عليه ، بل يجوز له نكاحها بخلاف ما ذكرناه من معنى الخبر ، فانه لا منافاة بينهما على هذا الوجه بوجه كما هو واضح.

تنبيه

قد استبان مما قررناه ونقلناه أن هذا الحديث وهو قوله عليه‌السلام « كل ما يحرم من النسب فانه يحرم من الرضاع » ليس باقياً على عمومه ، اذ قد يحرم من النسب ما لا يحرم من الرضاع ، فان ابنة أخ الاخ من النسب اذا كان من أبيه وامه محرمة عليه ، بخلاف ابنة أخ الاخ من الرضاع فانها ليست بمحرمة ، كما هو صريح الخبر.

وأيضاً فان الاخت النسبية من قبل الام النسبية محرمة بلا خلاف ، وليست الاخت الرضاعية من قبل الام الرضاعية كذلك ، على القول باشتراط اتحاد الفحل في حصول نشر الحرمة بين المرتضعين.

نعم هو باق على عمومه في هذه الصورة على قول أبي علي الطبرسي صاحب التفسير ، فانه لم يشترط في نشر الحرمة اتحاده ، بل اكتفى باتحاد المرضعة ، مستدلا عليه بعموم الاخبار الدالة على اتحاد الرضاع والنسب في حكم التحريم.

وأجيب بأنه متجه لو لا ورود النصوص الدالة على اشتراط اتحاد الفحل في حصول النشر ، فتكون تلك النصوص مخصصة لعموم تلك الاخبار ، كما لا يخفى على ذوي الابصار.

أقول : واذا ثبت أن هذا الذي ادعاه غير منظور من الخبر ، وثبت أن علاقة

١٧١

الاخوة الرضاعية ليست كعلاقة الاخوة النسبية ، ثبت أن ما يحرم فيها ليس بلازم أن يحرم فيها ، فاثبات التحريم لكونه خلاف الاصل في المواضع التي ادعى ثبوته فيها يحتاج الى دليل.

فكل موضع دل الدليل على ثبوته فيه وجب اتباعه ، وحيث لا دليل فيه على التحريم كما في أولاد المرضعة والفحل وأولاد أب المرتضع الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن وجب القول فيه بالاباحة ، لانه يلزم من انتفاء دليل التحريم ثبوت الاباحة ، اذ لا يعقل ارتفاع النقيضين ، ولانها كانت ثابتة قبل الرضاع والاصل بقاؤها ، ولان الاصل في الاشياء الاباحة الى أن يمنع الشرع بالنهي عنه ، ولم يثبت هنا منعه منه.

ولان كلما فيه نفع ولم يقع في الشرع على تحريمه دليل ، فلا ريب في اباحته لقوله تعالى ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (١) وقولهم عليهم‌السلام : كل شي‌ء مطلق ـ أي : مباح ـ حتى يرد فيه نهي (٢) فحيث لا رضاع ولا منزلة ، فالاصل والبراءة والاستصحاب يقتضي فيه الحل والاباحة.

فصل

[ تحكيم المرام من الخبر والاثر ]

الظاهر أن هذا الحديث الشريف لم يكن في نظره وقت التأليف ، أو كان ولم يتفطن بمنافاته لما رام اثباته من التحريم الكلي ، ولعل الثاني أظهر ، لانه حديث معروف مشهور مذكور في التهذيب وفي الرسائل المعمولة لبيان مسائل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣١٧ ، ح ٩٣٧.

١٧٢

الرضاع ، فبعيد أن يكون بصره قد زاغ عنه.

ويدل على ما قلناه ما سيأتي في كلام له بعد أن أورد ايراداً على نفسه ، بأن ورود أكثر الاخبار في خصوص المرتضع بالنسبة الى الفحل والمرضعة وأقربائهما يؤيد القول باختصاص التحريم به بالنسبة اليهم.

ثم أجاب عنه وساق الكلام الى أن قال : نعم لو ورد خبر دال على عدم النشر من المرتضع ، أو في تحليل بعض محارمه نسباً على رضيعه ومن هو بحكمه لامكن التشبث به ، لكنه مفقود رأساً بل لا اشعار بذلك في الاخبار أصلا.

فانه صريح في أن هذا الحديث الدال على عدم النشر من المرتضع وتحليل بعض محارمه نسباً على رضيعه ومن هو بحكمه ما كان في نظره وقتئذ ، أو كان ولم يتفطن بما دل عليه ، والا لقال به بل بذلك الاختصاص أيضاً ، ولم يكن يقول بذلك العموم والتحريم الكلي.

اذ المسلم عنده في قوله « نعم » الى آخره أن هذا القدر من الدلالة يكفي في اثبات القول بالاختصاص ونفي القول بالعموم والتحريم الكلي ، لكنه لما زعم أنه ليس بذلك في الاخبار عين ولا أثر وفهم من الخبر المستفيض ما فهم ، صار ذلك سبباً لاقدامه على ما أقدم عليه.

وانما قلنا بأن هذا الحديث دل على تحليل بعض محارمه نسباً على رضيعه ومن هو بحكمه ، لانه لا فرق بناءاً على ما فهمه من الخبر بين هذين المرتضعين من لبن امرأة وزوجها ، وبين رضيعهما في الاخوة الرضاعية وما يترتب عليها ، فحكم كل منهم في تحريم شي‌ء عليه وعدمه حكم الاخر.

فاذا دل خبر على تحليل بعض محارم أحدهم نسباً على الاخر ، فقد دل على تحليله على ذلك الاخر أيضاً ، لانه بحكمه مع أنه قدس‌سره قد صرح في مواضع

١٧٣

من رسالته بعدم الفرق بين المرتضع ورضيعه في صدق الولدية بالرضاع وتحريم محارم كل منهما نسباً على الاخر.

وقال : ان هذا هو الذي يظهر من أخبار الائمة الابرار وأقوال قدماء علمائنا الاخيار ، فاذا ثبت تحليل بعض محارم أحد المرتضعين نسباً على الاخر ولا فرق بينه وبين رضيعه في ذلك ثبت تحليله عليه أيضاً ، فظهر أن هذا الحديث قد دل على تحليل بعض محارم المرتضع نسباً على رضيعه ومن هو بحكمه وهو المرتضع الاخر.

وهو قدس‌سره قد اعترف في كلامه المنقول عنه بأن ذلك مثبت لما نحن بصدده من الاختصاص ، واعتراف الخصم حجة عليه ، فلو لم يكن لنا على بطلان ما فهمه من الخبر المستفيض دليل الا هذا لكفى.

فكيف؟ وقد دلت عليه أدلة وامارات منها أن أحداً من علماء الاسلام والفقهاء العظام لم يحمله من زمن وروده الى زماننا هذا على ما حمله عليه ، أما من لم يقل منهم بتحريم أولاد المرضعة والفحل على اخوة المرتضع وأخواته فظاهر.

وأما من قال منهم به ، فلانه لم يستنده الى هذا الخبر ، وانما استنده الى أخبار المنزلة الواردة في أب المرتضع ، كالشيخ في الخلاف والنهاية ، وتبعه في ذلك بعضهم كما سنوضحه إن شاء الله العزيز.

فلو كان معناه ما فهمه منه لكان تمسكهم به فيه أولى من تمسكهم بأحاديث المنزلة ، لان تعديتها من أب المرتضع الى أولاده الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن قياس غير مسوغ ، ولذلك لم يقل به عامتهم.

ومنهم من قال بالاجتناب عن أولاده من باب النزاهة ، كصاحب النخبة قدس‌سره ، فانه قال فيها : وان اجتنب أولاد أب المرتضع الذين لم يرتضعوا من

١٧٤

هذا اللبن أولاد الفحل ولادة ورضاعاً ، فقد بالغوا في النزاهة.

وفيه أن أحداً منهم لم يقل بالتنزه عن نكاح أخت الاخ من النسب اذا لم تكن أختاً له من أبيه أو أمه ، بأن يكون له أخ من الاب وأخت من الام ، فانه يجوز للاخ من الاب نكاح الاخت من الام كما سبق.

فاذا لم يكن الاجتناب عن نكاح أخت الاخ من النسب تنزهاً ، وقد علم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل النسب أصلا للرضاع ، فيكون أضعف منه تنزيهاً وتحريماً ، فبأن لا يكون الاجتناب عن نكاح أخت الاخ من الرضاع تنزهاً أولى.

وبالجملة ما فهمه صاحب الرسالة من الخبر وحمله عليه لما كان مخالفاً للظاهر منافياً لعموم الايات ، مبايناً لصريح بعض الروايات ، بعيداً عن الافهام حتى لم يفهمه منه في تلك الاعصار المتطاولة والقرون الخالية ذو فهم من ذوي الافهام ، ولا أحد من العلماء الاعلام ، وأذهانهم الثاقبة وأفكارهم الصائبة : اما لبعده ، أو لكونه خلاف الامر نفسه.

وقد تقرر عندهم أن مدار الاستدلال بالايات والروايات من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر لا على خلافه البعيد عن الخواطر ، وسيما اذا كان مصادماً لاصالة الحلية والاباحة والبراءة واستصحاب الحل السابق ، بل صريح الخبر الموثق كالصحيح ، ولذا تردد هو نفسه في كونه صحيحاً ومراداً ، وفي بيانه حتى بنى الامر فيه على الاستخارة ، كما هو المذكور في ديباجة الرسالة ، وهو (١) غريب لا يصار اليه ولا يكون حجة الا عليه بل لا حجية فيه أصلا ، لان خلاف الظاهر هو الاحتمال المرجوح من احتمالي اللفظ.

ومن البين أن الاحتمال المرجوح على تقدير تسليم كونه من محتملات الخبر في جنب الاحتمال الراجح مما لا يلتفت في مقام الاستدلال اليه الا بدليل يدل

__________________

(١) هذا جزاء « لما » « منه ».

١٧٥

عليه ، فكيف اذا كان هناك ما يمانعه من الخبر والاباحة والبراءة وغيرها مما سبق.

ومنها أن ظاهر الخبر يفيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل النسب أصلا للرضاع في التحريم ، كما صرح به بعض الاصحاب وسيأتي ، فكما أن في التحريم النسبي يعتبر أن يكون بين المحرمين نسب محرم حتى يصير أحدهما على الاخر محرماً ، فكذا لا بد وأن يعتبر في التحريم الرضاعي أيضاً أن يكون بينهما رضاع محرم حتى يصير أحدهما محرماً على الاخر.

وعلى ما حمل الخبر عليه يلزم منه أن لا يكون بينهما رضاع أصلا ، ومع ذلك يكون أحدهما على الاخر حراماً رضاعاً ، فان اخوة المرتضع الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن لا رضاع بينهم وبين أولاد الفحل ، ولا يجري فيهم أخبار المنزلة الا قياساً ، سيما اذا أرضعت امرأة ابناً لقوم وبنتاً لاخرين ، فان اخوة أحد المرتضعين هنا بالنسبة الى الاخر لا رابطة بينهم بالمحرمية أصلا لا رضاعاً ولا منزلة ، ومع ذلك يلزم من حمله هذا أن يكون بينهم تحريم رضاعي مع عدم تحقق الرضاع بينهم بوجه كما هو واضح.

وهذا ما لا ينبغي أن يقول به فقيه ، اذ لا يصح هو في نفسه ولا يستفاد من الخبر المستدل به عليه ، فان كلمة « ما » مسلم أنها تفيد العموم ، ولكن معناه أن الرضاع مثل النسب في جميع ما يحرم بالنسب من الامهات والبنات والاخوات والعمات والخالات وبنات الاخ وبنات الاخت ، والجمع في النكاح بين المرأة وعمتها وخالتها وأختها من الرضاع وتحريم ملك الاقارب وبيعهم وثمنهم الى غير ذلك.

وبالجملة معناه كما سبق أنه كلما يحرم بسبب النسب باحدى الوجوه السبعة المذكورة في الآية ، فانه يحرم بالرضاع اذا وجد ذلك النسب بعينه فيه ، مثل الام الرضاعية والاخت الرضاعية وهكذا.

وليس معناه أن علاقة الرضاعة مساوية لعلاقة القرابة ويكون حكم الاخوين

١٧٦

رضاعاً حكم الاخوين أباً وأماً ، فان ذلك مع أنه غير مفهوم من الخبر غير مقصود منه كما عرفت ، بل المقصود منه بيان أن الرضاع كالنسب علة للتحريم ، ولذلك علق الحكم على محض الرضاع وأتى بـ « من » التعليلية ليشعر بأنه علته ، فحيثما تحقق تحقق ، وحيثما انتفى انتفى. فهذا دليل الخصوص لا قرينة العموم.

اللهم الا أن يدل دليل بخصوصه على التحريم حيث لا رضاع ، فحينئذ يجب اتباعه فيه واقتصاره عليه كما سيأتي ، وانما لم يذكر المحرم عليه لا ليفيد العموم بل للاحتراز عن العبث والعدول الى أقوى الدليلين ، اذ القرينة على تعيينه قائمة فكأن ذكره معها كأنه ضايع عبث.

ولذلك قال شيخ الطائفة في المبسوط أن التحريم متعلق بالرضاع وحده ومن كان من نسله دون من كان من طبقته فأشعر ، حيث قال : انه متعلق بالمرتضع (١).

ولم يقل أنه مخصص به بأن عدم ذكر المحرم عليه لتعينه لا ليفيد العموم ، وهذا كأنه واضح والمنازع كأنه مكابر.

نقل كلام لتقرير مرام

اعلم أن أصل براءة الذمة مما لم يخالف فيه أحد ، على ما صرح به الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي في العقد الطهماسبي (٢) ، قال : وفرع العلماء عليه ما لا يتناهى من المسائل ، بل مدار أكثر فروع الفقيه عليه ، وهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بالدليل العقلي.

ثم قال بعد كلام : والحاصل انا اذا حكمنا بتحريم شي‌ء بغير دليل شرعي

__________________

(١) المبسوط ٥ / ٢٩٢.

(٢) العقد الطهماسبى ـ مخطوط.

١٧٧

وقعنا في الاثم (١) ، لان ذلك بدعة وادخال في الدين ما ليس منه ، وقد نهى الله ورسوله والائمة المعصومون عليهم‌السلام عنه ـ الى هنا كلامه طاب منامه.

ولا يذهب عليك أن أكثر ما أفاده صاحب الرسالة فيها من تحريم ما حرمه من هذا القبيل ، اذ ليس له عليه دليل شرعي يعتمد عليه ، أو تركن النفس شيئاً قليلا اليه ، بل هو مجرد شكوك وشبهات ضعيفة واحتمالات بعيدة مخالفة لعموم الايات وصريح بعض الروايات ، وسيما ما فهمه من الخبر المشهور وجعله معيار التحريم وميزان التفريع ، فانه لا يصلح أن يكون دليلا على تحريم شي‌ء ، كما لا يخفى على الناقد البصير الناظر في الرسالة.

ومن الغريب أنه جعل في مقام ذكر أدلة الاصحاب التي استندوا اليها في اثبات مطلبهم مرجع الاباحة الاصلية والبراءة الاصلية والاستصحاب الذي يجري مجرى الاصل واحداً.

ثم قال : انها لا تنفع فيما نحن فيه (٢) ، اذ الحق ـ كما بين في موضعه ـ أنها على القول بحجيتها ليست دليلا يقوى على معارضة غيرها من الادلة الشرعية ، فحينئذ فما وجد في الشريعة ما يتضمن خلافها لزم للمتدين تركها.

وعلى هذا فاذا ثبت في موضع تحقق الرضاع الشرعي المحرم ، وقد دل ظاهر الخبر المستفيض على النشر مطلقاً والعموم الذي ذكرناه سيما مع التأييد بما قلناه ، لزم علينا أن نحكم فيه بالتحريم على الاطلاق من غير استثناء لاحد مما يشمله العموم ، ولا تخصيص ببعض كالمرتضع ونسله ما لم يقم دليل شرعي مثبت للاستثناء ومخصص لهذا العموم ، فلا مدخل لاصالة الاباحة هاهنا ، بل الحق أن

__________________

(١) والاولى أن يقال : لان الله انما أحل ما أحل لمصلحة ، كما أنه انما حرم ما حرم لمفسدة ، فيلزم من تحريم ما أحل الله قلب المصلحة مفسدة ، فيكون المحرم آثماً قلبه « منه ».

(٢) اشارة الى أن الاخبارية لا يقول بحجيتها « منه ».

١٧٨

الاصل في هذا المقام التحريم لا الاباحة.

أقول : وهل الكلام الا في ثبوت هذا العموم ، وكونه مراداً من هذا الخبر المستفيض ، فان القوم لم يقولوا بثبوته وكونه مراداً منه ، ولذلك لم يحكموا بالتحريم على الاطلاق في موضع ثبت فيه تحقق الرضاع الشرعي المحرم ، فان الخبر لم يفد العموم ولم يدل على النشر مطلقاً ، بل أفاد التحريم المتعلق بخصوص المرتضع ونسله.

وحينئذ فلا تخصيص ولا استثناء حتى يحتاج الى اقامة دليل شرعي مخصص ومثبت ، لانهما فرعا العموم ولا عموم هنا كما مر لما مر ، والكلام في كون الاصل هنا التحريم ، وفي وجدان ما يتضمن في الشريعة خلاف الاباحة والبراءة و

الاستصحاب ، وفي كون مرجعها جميعاً واحداً هذا الكلام ، فانهم لم يقولوا بشي‌ء من ذلك ، وخاصة بكون مرجع الثلاثة واحداً ، فان أصل براءة الذمة وكونها حجة مما لم يخالف فيه أحد كما سبق.

وأما الاباحة الاصلية والدليل على حجيتها أن تكليف الحكيم بالاجتناب وعدم البيان عند الحاجة شي‌ء لا يجوز العقل نسبته اليه ، فما لم يظهر حرمة أمر بخصوصه أو باندراجه في وصف جعله الشارع علامة للحرمة فالظاهر فيه الحلية ، وهذا هو المراد بكون الاصل في الاشياء الاباحة. فللامامية (١) فيه ثلاثة أقوال ، فكيف يكون مرجعهما واحداً ، وأحدهما وفاقي والاخر خلافي.

فجماعة منهم المرتضى على أن الاشياء الغير الضرورية مما لا يدرك العقل قبحها كشم الورد غير محرمة عقلا ، اذ هي منافع بلا مفسدة والاذن في التصرف معلوم عقلا ، كالاستظلال بجدار الغير ، وبعضهم كالمفيد على التوقف ، وبعضهم على التحريم.

__________________

(١) هذا جزاء « أما » « منه ».

١٧٩

هذا كله قبل ورود الشرع. وأما بعد وروده فكلما فيه نفع ولم يقم على تحريمه دليل ، فلا ريب في اباحته لقولهم عليهم‌السلام : كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي (١) وقوله تعالى ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ). (٢).

قال في الكشاف : وقد استدل به على أن الاشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المخطورات في العقل خلقت في الاصل مباحة مطلقاً لكل أحد أن يتناولها وينتفع بها (٣).

وقال البيضاوي ما حاصله : ان الآية تقتضي اباحة الاشياء النافعة قبل ورود الشرع ، فما أخرجه فهو خارج ، وما سواه على الاباحة الاصلية (٤).

واليه أشار في جوامع الجامع بقوله : وفي هذا دلالة على أن الاصل في الاشياء الاباحة الى أن يمنع الشرع بالنهي عنه وجائز لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها (٥).

ومما يدل على أصل الاباحة من طريق الخبر زائداً على ما مر ما رواه الشيخ في باب الزيادات من التهذيب عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كل شي‌ء يكون منه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (٦).

وهذا حديث صحيح صريح في تغليب الحلال على الحرام ، بناءاً على أن الاصل في الاشياء الحل ، كما صرح به الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي في

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣١٧.

(٢) سورة البقرة : ٢٩.

(٣) الكشاف ١ / ٢٧٠.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ٦٢.

(٥) جوامع الجامع ص ١١.

(٦) تهذيب الاحكام ٩ / ٧٩ ، ح ٧٢ ، و ٧ / ٢٢٦.

١٨٠