لماذا الاختلاف في الوضوء

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-7635-77-x
الصفحات: ١٠٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٢ ـ روى البيهقي بسنده عن محمد بن عبدالله بن أبي مريم ، قال : دخلت على ابن دارة [ مولى عثمان ] منزله ، فسمعني أتمضمض ، فقال : يا محمد ، قلت : لبَّيك ، قال : ألا أخبرك عن وضوء رسول الله ؟ قلت : بلى ، قال : رأيت عثمان بن عفان وهو بالمقاعد (١) ... ثم ساق الوضوء العثماني وفيه : ومسح برأسه ثلاثاً وغسل قدميه (٢).

وأخرج الدارقطني بسنده عن محمد بن أبي عبدالله بن أبي مريم ، عن ابن دارة ، قال : دخلت عليه ـ يعني عثمان ـ منزله فسمعني وأنا أتمضمض ، فقال : يا محمد ، قلت : لبيك ، قال : ألا أحدثك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قلت : بلى ، قال : رأيت رسول الله أتي بماء وهو عند المقاعد ... ثم ساق الوضوء العثماني وفيه : ومسح رأسه ثلاثاً ، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ قال : هكذا وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحببت أن أُريكموه (٣).

٣ ـ وأخرج الدارقطني بسنده عن عمر بن عبدالرحمن ، قال : حدثني جدي : أنّ عثمان بن عفان خرج في نفر من أصحابه حتى جلس على المقاعد ، فدعا بوضوء ... ثم قال : ... كنت على وضوء ولكن أحببت أن أريكم كيف توضّأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

______________________________

(١) المقاعد : قيل هي دكاكين عثمان ، وقيل : درج. وقيل : موضع بقرب المسجد اتخذه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس والوضوء ونحو ذلك. فعثمان يقعد في الأماكن العامّة المزدحمة ليدعو إلى وضوئه الجديد.

(٢) سنن البيهقي ١ ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) سنن الدارقطني ١: ٩١/ ح ٤.

(٤) سنن الدارقطني ١: ٩٣/ ح ٨.

٤١

٤ ـ وفي صحيح مسلم بسنده عن الزهري : ولكنّ عروة يحدّث عن حمران أنّه قال : ... والله لأحدّثنّكم حديثاً ، واللّه لولا آية من كتاب الله ما حدّثتكموه ... إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا يتوضّأ الرجل فيحسن وضوءه ثم يصلي إلاّ غُفِر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها. قال عروة : الآية ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ ) إلى قوله ( اللَّاعِنُونَ ) (١).

٥ ـ وعن حمران ، قال : أتيت عثمان بوضوء (٢) ، فتوضّأ للصلاة ، ثم قال : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من توضّأ فأحسن الطهور كُفّر عنه ما تقدّم من ذنبه ، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : يا فلان ، أسمعتها من رسول الله ؟ ... حتى أنشد ثلاثة من أصحابه ، فكلّهم يقول : سمعناه ووعيناه (٣).

٦ ـ عن حمران [ مولى عثمان ] ، قال : دعا عثمان بماء فتوضّأ ، ثم ضحك ... فقال : ألا تسألوني مِمَّ أضحك ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ، ما أضحكك ؟! قال : رأيت رسول الله توضّأ كما توضأت ... (٤)

وعن حمران أيضاً : قال : رأيت عثمان دعا بماء ، [ ثم سرد وضوءه ] ، ثم ضحك ، فقال : ألا تسألوني ما أضحكني ؟ قلنا : ما أضحكك يا

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٠٦ / ح ٦ ، والآية في سورة البقرة الآية ١٥٩.

(٢) اي بماءٍ للوضوء.

(٣) كنز العمال ٩ : ٤٢٤ / ح ٢٦٨٠٠.

(٤) كنز العمال ٩ : ٤٣٦ / ح ٢٦٨٦٣.

٤٢

أميرالمؤمنين ؟ قال : أضحكني أنّ العبد إذا غسل وجهه حطّ الله عنه كلّ خطيئة أصابها بوجهه ... (١)

٧ ـ وعن عبد الرحمان البيلماني ، عن عثمان : أنّه توضّأ بالمقاعد فغسل كفّيه ثلاثاً ثلاثاً ... وغسل قدميه ثلاثاً ... وسلَّم عليه رجل و هو يتوضّأ فلم يردّ عليه حتى فرغ ، فلمّا فرغ كلّمه يعتذر ؛ وقال : لم يمنعني أن أردّ عليك إلاّ أني سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من توضّأ هكذا ولم يتكلّم ثم قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، غُفِر له ما بين الوضوءين (٢).

وعن البيلماني أيضاً : أنّه شهد عثمان يتوضّأ على المقاعد ، فسلّم عليه رجل فلم يردّ عليه ، حتّى إذا فرغ ردّ عليه ، وجعل يعتذر إليه ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ فسلّم عليه رجل فلم يردّ عليه (٣).

عرفنا سابقاً بعض الملامح الدالّة على البادئ بالخلاف ، إذ وضّحنا وجود مؤشرات كثيرة دالة على كون عثمان بن عفّان هو الذي بَدَأ الخلاف في الوضوء ، وأنّ المسلمين لم يأخذوا بقوله وفعله أيام حياته ؛ لما عرفت من اختلاف الناس معه ، لكنّ الحكّام ـ أمويين كانوا أم عباسيين ـ أكدوا على وضوء عثمان لمصالح ارتضوها في العصور اللاحقة.

وقد رأينا كيف أنّ عثمان بن عفّان ـ ونظرا لكثرة الناس الماسحين ،

______________________________

(١) كنز العمال ٩ : ٤٤٢ / ح ٢٦٨٨٦ ( حم والبزار حل ع و صحح ).

(٢) سنن الدارقطني ١ : ٩٦.

(٣) كنز العمال ٩ : ٤٤٣ / ح ٢٦٨٨٨ (البغوي فيه ، ص).

٤٣

وتحديثهم عن رسول الله ، وقوّة استدلالهم ـ انحسر وراح يتخذ مواقفَ دالة على ضعفه أمامهم ، مشيراً إلى قوة الاتجاه المعارض له ، حيث :

١ ـ إنّ عثمان ولم يرم « الناس » بالكذب أو البدعة أو الإحداث ، بل وصفهم بالتحديث ، ولم يشكّك فيهم ، وهذا اعتراف منه بأنهم متحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير كذّابين ولا مبتدعين ولا مُحْدِثين ، ولو كانوا كذلك لقال عنهم ما يجب القول فيهم من الكذب والبدعة وغير ذلك ، كما نسبوا هم إلى عثمان ذلك ، لا أن يتجاهل مروياتهم بقوله ( لا أدري ما هي ) ، وعثمان بقوله ذلك كشف لنا ماهيّة ومنزلة أولئك ( الناس ) إجمالاً.

٢ ـ لو كان ( الناس ) هم البادئون بالخلاف لاستعمل عثمان معهم أحد أساليب ثلاثة :

أ ـ أسلوب الردع الحاسم ، وهو ما فعله عمر بن الخطّاب مع ضبيع بن عُسل الحنظلي (١) ، وهو الأسلوب الذي استعمله عثمان على نطاق واسع مع الصحابة وفي أبسط جزئيات الأمور (٢).

______________________________

(١) وهو صحابي كان يسأل عن متشابه القرآن كالذاريات والمرسلات و النازعات ، فضربه عمر حتّى أدمى رأسه ، وضُرب مائتي سوط ، وحُمِل على قتيب ، ونفي إلى البصرة ، وحُرم عطاؤه ، ومنع الناس من مجالسته ، وصار وضيعاً بعد أن كان سيّداً. انظر : مسائل الإمام أحمد ١ : ٤٧٨ / ح ٨١ ، والإصابة ٢ : ١٩٨ ـ ١٩٩ ، وسنن الدارمي ١ : ٥٤ و ٥٥ ، ونصب الراية ٤ : ١١٨ ، والدر المنثور ٢ : ٧ ، وفتح القدير ١ : ٣١٩ ، وتاريخ دمشق ٢٣ : ٤١١.

(٢) انظر في ذلك تاريخ الطبري ٤ : ٢٥١ ، ٢٨٤ ، ٣٩٨ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٨٧ ، ١١٥ ، ١٣٧ ، ١٨١ ، المنتظم ٤ : ٣٦٠ ، البداية والنهاية ٧ : ١٧٣ ، ٢٢٤ ، انساب الاشراف ٥ : ٤٨ ، شرح النهج ٣ : ٤٧ ، ٤٩ ، ٥٠ ، ٥٤.

٤٤

ب ـ طلب النصرة ، بأن يستنصر المسلمين لنفسه استنصارا عامّاً ليقضي على ما أدخله أولئك في الدين ، كما جاء في تعليل أبي بكر في قتاله لقبيلة مالك بن نويرة وغيرها بأنهم منعوا الزكاة !!

ج ـ المحاججة ، بأن يدعو عثمان « الناس المتحدثين » ويحاججهم بالدليل ، ليقف المسلمون على عوزهم العلمي ، ولعلّ منهم من يرجع عن موقفة ، وذلك هو ما فعله الإمام علي حين أرسل ابنَ عباس لمحاججة الخوارج ، فرجع منهم من رجع.

لكننا لم نر عثمان اتخذ أيّاً من هذه الأساليب معهم ، بل ظهر في موقع المدافع المتّهم المشار إليه ، مع أنّه استعمل العنف في حياته فسيّر المعترضين على سعيد بن العاص في الكوفة ، كما سيّر أباذر ، ومنع ابن مسعود من قراءته وكَسَرَ بعض أضلاعه ، وضرب عماراً وداسه حتّى أصابه الفتق ، وهدّد علياً لمشايعته لأبي‌ذر واعتراضه على محاولة تسيير عمار (١).

فالملاحظ هو أنّ عثمان بن عفّان رغم شدته كان يبدو وديعاً عند طرحه لاجتهاداته ، وعند اعتراض بعض المسلمين عليه فيها ، فلمّا اعتُرض عليه في إتمام الصلاة بمنى مازاد على قوله « رأيٌ رأيته » (٢) ، وحين خالفه الإمام علي في أكل صيد الحرم مازاد على أن نفض يديه وقام وقال :

______________________________

(١) انظر أنساب الأشراف ٥ : ٥٥.

(٢) انظر تفنيد الصحابة لدعاوى عثمان وذرائعه التي تذرع بها في إتمام الصلاة بمنى ، وقوله لهم في نهاية المطاف « هذا رأيٌ رأيته ». انظر ذلك في أنساب الأشراف ٥ : ٣٩ ، وتاريخ الطبري ٤ : ٢٦٨.

٤٥

« مالك لا تدعنا ! (١) » ؟ مع أنّ الظروف الموضوعية والأهميّة الشرعية تقتضي استعمال القوة فيما لو كان هو صاحب الفكرة الحقة.

وهذه الوداعة نفسها أبداها عثمان في جميع وضوءاته وطروحاته فيه ، فراح يركّز الفكرة بالهدوء والاستفادة من مصطلح « أحسن الوضوء » ، ودعوته مواليه و ... كما علمت وستعلم.

كما أنّ عثمان لم يطلب النصرة من المسلمين ولا استصرخهم ، بل هم الذين استصرخ بعضُهم بعضا للقضاء على إحداثات عثمان حتّى قتلوه ، فلو أنّ « الناس المتحدثين » كانوا هم البادئين لاَندفع المسلمون ـ والرواة منهم بدافع الحرص على الدين ووضّحوا للناس الأمر ، وأسقطوا التكليف عن الخليفة وكفوه المواجهة ، كما رأينا ذلك في منع الزكاة وتصدّي الصحابة لنشر ما سمعوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مانعي الزكاة وعقوبتهم ووجوب أدائها.

هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نرى مؤشّرات معاكسة لهذا المفروض ، تدلّنا على أن الخليفة هو البادئ بالخلاف ، وتلك المؤشرات هي :

أ ـ إنّ عثمان لم يصرّح ولا باسمِ واحد من معارضيه ، ممّا يدل على تخوّفه من أمرٍ مّا.

ب ـ مرّ عليك سابقاً أنّه لم يرمهم بالكذب والابتداع ، بل اقتصر على وصفهم بأنّهم يتحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ تجاهلهم وتجاهل مرويّاتهم !!

______________________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ : ٤٦.

٤٦

ج ـ إننا لم نجد حتّى لأصحاب عثمان المقربين منه ـ كمروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت ـ دفاعات عن وضوئه ، فإنّهم لم يَقْدموا على ذلك ، مع أنّ منهم من دافع عنه يوم الدار.

٣ ـ إنّ عثمان بن عفّان اتّخذ أساليب غير مألوفة في إعلانه عن وضوئه الجديد ، ممّا يؤكّد وقوفه في موقف المتّهم الذي يريد طرحَ شيءٍ جديد ، وذلك عبر النقاط التالية :

أ ـ إنّ عثمان راح يجنّد مواليه لنقل فكرته الوضوئية عنه ، كحمران وابن دارة ، مع أنّ حمران كان يهوديّاً من سَبْي عين التمر (١) وقد أسلم في السنة الثالثة من خلافة عثمان ، وهذا يدل على أنّ صدور نقله للوضوء عن عثمان جاء متأخراً عن هذا التاريخ ، وهو ممّا يؤكد صدور الوضوء من عثمان في الستّ الأواخر من حكمه ، شأنه شأن باقي آرائه واجتهاداته التي نقمها عليه المسلمون. وهو الذي جعل الإمامَ عليّاً يقول عنه ( حتّى أجهَزَ عليه عملُه ) (٢).

ب ـ ابتداء عثمان ـ ولأدنى الأسباب ـ بتعليم الوضوء تبرّعاً وبدون سؤال سائل ، كمسارعته لتعليم ابن دارة وضوءه الغسلي بمجرّد سماع

______________________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ٧ : ١٤٨ ، تهذيب الكمال ٧ : ٣٠٣ ، تاريخ الاسلام للذهبي : ٣٩٥ ، مختصر تاريخ دمشق ٧ : ٢٥٣ ، وفيات الاعيان ٤ : ١٨١ ، تاريخ بغداد ٥ : ٣٣٢ ، تاريخ الطبري ٣ : ٤١٥ ، الأخبار الطوال : ١١٢ ، معجم البلدان ٥ : ٣٠١ ، المعارف لابن قتيبة : ٢٤٨.

(٢) نهج البلاغة ١ : ٣٥ / الخطبة ٣.

٤٧

مضمضته (١) ، وكجلوسه على المقاعد وطرحه لوضوئه الغسلي (٢).

كما أنّ هناك عبارة « أحببت أن أريكموه » (٣) ، وهي صريحة في التبرّع والمبادرة ، وقد استعملها معاوية أيضا في الوضوء الغسلي بزيادته مسحَ الرأس بغرفة من ماء حتّى يقطر الماء من رأسه أو كاد يقطر ، وأنّه أراهم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ! ونفس العبارة جاءت في وضوء نُسِبَ للبراء بن عازب (٥) ، هذا مع خلوّ أغلب روايات الوضوء المسحي عن هذا التبرّع الذي يكمن وراءه شيءٌ !

ج ـ محاولة عثمان استشهاد جماعة على صحّة وضوئه لاكتساب الشرعية واقتطاب أكبر عدد ممكن لتأكيد الوضوء الجديد ، فالرواية تقول أنّه كان يقول : أكذلك يا فلان ؟ قال : نعم ، ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟ قال : نعم ، حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال : الحمد لله الذي وافقتموني على هذا (٦) ، حتّى ادّعي في بعضها ـ كما قلنا ـ أنّه استشهد

______________________________

(١) سنن البيهقي ١ : ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) سنن الدارقطني ١ : ٩١ / ح ٤.

(٣) سنن الدراقطني ١ : ٩١ / ٤ ، و ١٢ / ٨.

(٤) اُنظر : مسند أحمد ٤ : ٩٤.

(٥) مسند أحمد ٤ : ٢٨٨. وفيه أن البراء قال لهم : اجتمعوا فلأريكم كيف كان رسول الله يتوضّأ ... فجمع بنيه وأهله ودعا بوضوء ...

(٦) كنز العمال ٩ : ٤١ / ٢٦٨٨٣ عن الدارقطني ١ : ٨٥ / ٩ ، واُنظر مسند أحمد ١ : ٥٧ و ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ، وكنز العمال ٩ : ٤٤١ / ٢٦٨٨٣. وقد عرفت في الحديثين الواردين قبل قليل : الرقم (٣) و (٥) أنّ الذين شهدوا له هم أصحابه الباثّين لاجتهاداته لا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٤٨

طلحة والزبير وعليّاً وسعداً فشهدوا له (١). هذا مع أنّ الصحابة لم يكونوا بحاجة لتعلّم الوضوء ، لوضوحه عندهم ، فضلاً عن أنّ المذكورين هم من المعارضين لعثمان في فقهه ـ وبعضهم في وضوئه وفقهه ـ فكيف شهدوا له ؟! فهذه الأحاديث تدل على قوة المعارضة المحدّثة ، وضعف موقف عثمان في وضوئه الجديد.

د ـ إنّ عثمان كان يذيّل وضوءاته الثلاثية الغسلية بجم ثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لينتقل منها ـ طبق الرأي والاستحسان ـ إلى تقرير وضوئه الجديد ، أي أنّه كان ينتقل من معلوم إلى مجهول يراد إثباته ، فهو يذيّل وضوءه تارة بقوله : « من توضأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى ركعتين كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » (٢) ، وأخرى بقوله : « من توضأ فأحسن الطهور كُفّر عنه ما تقدم من ذنبه » (٣).

ويذهلنا ثالثة حين يقول : والله لأحدِّثنكم حديثا ، والله لولا آية في كتاب الله ما حدّثتكموه ... إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « لا يتوضأ الرجل فيحسن وضوءه ثمّ يصلي إلاّ غُفر له ما بينه وبين الصلاة التي

______________________________

(١) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٤٧ / ٢٦٩٠٧. وهذه الرواية رواها أبو النضر سالم بن أبي أمية ، وهو لم يسمع عن عثمان ولكنّه كان يُرسِلُ ، كما صرح بذلك ابن أبي حاتم والهيثمي والدارقطني. ( انظر : تهذيب التهذيب ٣ : ٤٣٢ ، ومجمع الزوائد ١ : ٢٢٩ ، وعلل الدارقطني ٣ : ١٧ ). فيبدو أنّ هذا الرجل وضع هذا الحديث خدمةً لعثمان والأمويين.

(٢) كنز العمال ٩ : ٤٤٧ / ح ٢٦٩٠٧.

(٣) كنز العمال ٩ : ٤٢٤ / ح ٢٦٨٠٠.

٤٩

تليها » ، قال عروة : الآية ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ ) ... إلى قوله ( اللَّاعِنُونَ ) (١).

فهل إنّ الوضوء وإحسانه يستدعي كل هذا الخوف والإحجام لولا آية في كتاب الله ؟ مع أنّ عشرات الصحابة رووا هذا المضمون ـ أي استحباب إحسان الوضوء ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وسيتبين لك كيف أن الأمويين عبر أم المؤمنين عائشة وأبي هريرة استغلوا مفهوم إحسان الوضوء وربطوه بإسباغه وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويل للأعقاب من النار ، ثمّ أرادوا له أن يفيد الغَسل لا غير ، حيث إنهم كانوا قد فسّروا الإسباغ بتثليث غسل الأعضاء ، كما فسروا جملة ( ويل للأعقاب من النار ) بغسل الأرجل.

ه‍ ـ ضحكات وتبسّمات عثمان عند الوضوء ، فإنّه كان يضحك عندما يأتونه بماء للوضوء ويقول : ألا تسألوني ممّ أضحك ؟ ثمّ يجيب معلِّلاً تارةً بأنّه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ وضوءه (٢) ، وأخرى بأنّه لغفران ذنوب

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٠٦ / ح ٦. والآية : ١٥٩ من سورة البقرة.

ومثل ذلك ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده ١ : ٦٧ بسنده عن حمران [ مولى عثمان ] ، قال : كان عثمان يغتسل كل يوم مرّة منذ أسلم ، فوضعت وضوءاً له ذات يوم للصلاة فلمّا توضّأ قال : إنّي أردتُ أن أحدّثكم بحديث سمعته من رسول الله ثم بدا لي أن لا أحدّثكموه ، فقال له الحكم بن أبي العاص : يا أمير المؤمنين ، إن كان خيرا فنأخذ به أو شرّاً فنتّقيه ، قال : فقال : فإني محدّثكم به ؛ توضّأ رسول الله هذا الوضوء ثم قال : من توضّأ هذا الوضوء فأحسَنَ الوضوء ثم قام إلى الصلاة فأتِمّ ركوعها وسجودها كفّرت عنه ما بينها وبين الصلاة الأخرى ...

(٢) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٣٦ / ٢٦٨٦٣.

٥٠

وحطِّ خطايا المتوضي (١) ، وثالثة بأنه لغفران ذنوب من توضّأ وضوءه ثمّ دخل في صلاته (٢) ، ورابعة بأنّه ضحك وسأل أصحابه عن سرّ ضحكه لأنّه رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قريباً من مكانه ـ قد ضحك وسأل أصحابه عن سرّ ضحكه (٣) ، ثمّ علل سبب الضحك تارة بأنّ الوضوء الغسلي وحده ، وتارة بأنّه مع الصلاة ، سببٌ لحطِّ الذنوب.

وهذه العنايات كلّها تدل على أنّه كان يريد أن يضيف شيئاً إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشتّى الحجج ، وإلاّ فلماذا لم تنقل تلك التبسمات والضحكات بهذه الكثرة عن غيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نقلهم لوضوئه المسحي ؟! ولماذا لم يضحك لغير ذلك التعليم ؟!

و ـ إن جميع وضوءات عثمان البيانية هي ثلاثية الغسلات ، ولم يأت عنه خبر في باب الوضوء مرّة ومرتين ، مع ورود أخبار عن عمر وعلي وابن عباس وجابر وغيرهم فيه.

فهل كان عثمان يرى عدم إجزاء المرّة والمرتين ؟!

أم أنّ تثليثه كان يستبطن أمراً جديداً ؟! وهو التأكيد على الوضوء

______________________________

(١) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٤٢ / ٢٦٨٨٦ ( حم والبزار حل ٤ وصحح ). ومسند أحمد ١ : ٥٨ و ٦١.

(٢) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٣٩ / ٢٦٨٧٢ ( كر ).

(٣) فعن حمران ، قال : كنت عند عثمان ، فدعا بوضوء فتوضّأ ، فلمّا فرغ قال : توضّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما توضّأتُ ، ثمّ تبسَّم وقال : أتدرون مِمَّ ضحكتَ ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : إن العبد المسلم ... كنز العمال ٩ : ٤٣٩ / ح ٢٦٨٧٢. وقد علمت أنّ عثمان اختلق هذا التبسّم ونسبه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليبرّر ضحكاته الوضوئية.

٥١

الثلاثي الجديد واعتباره هو الإسباغ فقط ـ والذي طوره عثمان من بعد حتّى صار يغسل رجليه ، وطوّره معاوية فغسل رأسه ـ وبذلك فلم يكن للمسح حكم في المذاهب الأربعة لا في الرأس ولا في القدمين لتجويزهم الغسل بدله فيها (١) !!

ويؤيد ما قلناه ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال ـ بعد أن توضأ الوضوء الثلاثي الغسلي ـ : فمن زاد على هذا أو نقص فلقد أساء وظلم (٢) ، فهل يُعقَل أن يكون من توضأ مرّة أو مرتين قد أساء وظلم ، مع ثبوت ذلك الوضوء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكبار الصحابة ؟!

يبدو أنّ عثمان ومتابعيه أرادوا التأكيد على الثلاثي فقط وفقط واعتباره هو الإسباغ المقصود دون غيره.

ز ـ إنّ وضوءات عثمان تحمل في طياتها إشارات تشير إلى إحداثه ، وتعدّيه في الوضوء.

منها : قوله : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ نحو أو مثل وضوئي هذا (٣) ، وقوله : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ وضوئي هذا (٤) ، ولا تراه يقول مثلاً :

______________________________

(١) اُنظر في ذلك الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري ١ : ٥٧ ـ ٦٢ مثلاً.

(٢) سنن أبي داود ١ : ٣٣ / ح ١٣٥. واُنظر : سنن البيهقي ١ : ٧٩ وسنن ابن ماجة ١ : ١٤٦ / ح ٤٢٢. واُنظر تعليق السيوطي على هذا الحديث في هامش النسائي ١ : ٨٨.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٥١ ، سنن أبي داود ١ : ١٠٦ ، سنن البيهقي ١ : ٤٨ ، سنن النسائي ١ : ٦٤ و ٦٥ ، سنن الدارقطني ١ : ٨٣ / ١٤ ، صحيح مسلم ١ : ٢٠٥.

(٤) سنن النسائي ١ : ٦٥ ، سنن البيهقي ١ : ٤٨.

٥٢

توضأت كما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ ، أو نحو أو مثل وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الجمل لها دلالة نفسية على جعل وضوئه هو الميزان والقول الفصل.

ومنها : انحصار القبول وغفران الذنوب بالوضوء الثلاثي ـ خصوصاً مع عدم نقله للوضوء الثنائي والأحادي الغسلات ، رغم ورود ذلك عن جم غفير من الصحابة والتابعين ـ فهو يشير إلى تبنّي عثمان للوضوء الثلاثي الغسلي لا غير.

ومنها : وجود جملة « لا يحدّث نفسه بشيء » (١) في وضوءاته ، والتي احتملنا كونها جاءت لتزكية نفسه وإبعاد الشبهة عنه ، إمعاناً في إضفاء المشروعية على وضوئه.

ومنها : عدم تكلّم عثمان في أثناء وضوئه ، ليطبع عليه طابع الهالة والقدسية ، حتّى أنّه لم يكن يردّ سلام المسلِّم في أثناء وضوئه ، معلِّلاً ذلك بما رواه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّ من توضّأ وتشهّد ولم يتكلّم بينهما غفر له ما بين الوضوءَين ، مع أن ردّ السلام واجب وليس هو كسائر الكلام ـ على فرض صحة رواية عثمان (٢) ـ.

______________________________

(١) ففي سنن النسائي ( المجتبى ) ١ : ٦٥ ، وسنن البيهقي ١ : ٤٨. عن حمران أنّه رأى عثمان توضّأ وضوءه الجديد ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توضّأ وضوئي هذا ، ثم قال [ عثمان ] : من توضّأ مثل وضوئي هذا ثم قام فصلّى ركعتين لا يحدّث نفسه بشيء غفر الله له ما تقدّم من ذنبه. وانظر قول عثمان هذا في سنن الدارمي ١ : ١٧٦.

(٢) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٤٢ / ٢٦٨٨٧ و ٢٦٨٨٥ و ٢٦٨٨٨ ، وسنن الدارقطني

٥٣

كل تلك الأدلة والقرائن والشواهد جعلتنا نطمئنّ إلى أن عثمان كان هو البادئ بالخلاف ، والآتي بالوضوء الثلاثي الغسلي الجديد.

عثمان والإحداث

بقي علينا أن نوضّح السبب ـ أو الاسباب ـ التي دعت عثمان إلى إحداث هذا الوضوء الثلاثي الجديد ، وللإجابة عن ذلك رأينا أوّلاً أن ننظر في سبب مقتله ، لأننا توصلنا إلى أنّ السبب الأكبر الذي دعا قاتليه إلى قتله هو إحداثاته في الدين ، لا مجرّد تصرّفاته وسوء سياسته المالية والإدارية ، وذلك من خلال ملاحظة القضايا الرئيسية التالية :

١ ـ إن طلحة والزبير كانا من أوائل المؤلّبين عليه والمفتين بقتله ، مع أنّ عثمان أغدق عليهما الأموال بشكل عجيب (١) ، وكذلك الأمر بالنسبة لعبدالرحمن بن عوف (٢) ، مضافا إلى وعد عثمان إياه بالخلافة (٣) ، وهكذا

______________________________

١ : ٩٢ / ح ٥.

(١) فقد وهب لطلحة خمسين الفاً كما في الطبري ٤ : ٤٠٥ ، ووصله بمائتي الف وكثرت مواشيه وعبيده ، وقد بلغت غلته من العراق وحدها الف دينار يومياً ، ولمّا مات كانت تركته ثلاثين مليوناً من الدراهم ، وكان النقد منها مليونين ومائتي الف درهم ومائتي الف دينار. وانظر في أموال الزبير وضخامتها كتاب : الفتنة الكبرى ١ : ١٤٧.

(٢) كانت أموال ابن عوف الف بعير ومائه فرس وعشرة آلاف شاة وأرضاً كانت تزرع على عشرين ناضحاً. انظر : مروج الذهب ٢ : ٣٣٣.

(٣) حيث قال له الإمام علي يوم السقيفة : والله ما فعلتها إلاّ لأنك رجوت منه ما

٥٤

كان عثمان يغدق الأموال على باقي الصحابة ـ إلاّ نفراً يسيراً ـ فمن غير المنطقي أن يقتلوه لإيثاره أقرباءه فقط مع حصولهم على نصيب وافر من المال ، بل هناك أسباب دينية وابتداعات جعلتهم يقتلونه ـ ربّما يكون بعضها في الأشياء الكثيرة التي كره الطبري ذكرها (١) ، وربّما كانت من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله ، والتي ترك ابن الأثير ذِكرَ كثيرٍ منها (٢).

٢ ـ إنّ سياسة عثمان الماليّة الطبقية كانت تستوجب عزله لا قتله (٣) ، وبما أنّ الصحابة بين قاتل وخاذل له ـ حسب تعبير ابن عمر (٤) ـ كان لابدّ من وجود سبب مبيح لدمه ، ولعله الإحداث في الدين لا في التصرفات الخارجية حَسْبُ.

٣ ـ وجود مبتدعات دينية فقهية يقينية صدرت من عثمان بن عفان ،

______________________________

رجا صاحبكما [ يعني عمر ] من صاحبه [ يعني أبا بكر ] دق الله بينكما عطر منشم ، شرح نهج البلاغة ١ : ١٨٨.

(١) اُنظر تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٧ ، حيث قال في سبب الخلاف بين عثمان وأبي‌ذر الغفاري وموته غريباً بالربذة : فإنّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة ، وأموراً شنيعة كرهتُ ذكرها !!!

(٢) اُنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٧ ، حيث قال : قد ذكرنا سبب مسير الناس إلى قتل عثمان ، وقد تركنا كثيرا من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك !! ترى ماهي العلل التي كره ابن الأثير ذكرها ؟

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٧.

(٤) اُنظر : شرح نهج البلاغة ٣ : ٨.

٥٥

احتج عليها الصحابة كلٌّ بطريقته ، لكنّ عثمان لم يرتدع عنها ، كإتمام الصلاة بمنى (١) ، وكزيادته النداء الثالث في يوم الجمعة في السنة السابعة من عهده وقد كان « الناس » عابوا عليه ذلك وقالوا : بدعة (٢) ، وكتقديمه الخطبة على الصلاة في العيدين (٣) ، وغيرها ، مما يؤكد صدور الابتداع عن عثمان في بعض المسائل الفقهية ، فلا غرابة في أن يسرّي ذلك إلى مفردات ومسائل أخرى كالوضوء.

٤ ـ إنّ تصرفات عثمان وإحداثاته العملية كانت تستتبع إحداثات علمية ودينية ، يكمن وراءها الخطر على الإسلام وأحكامه ، فعدم إقامته الحدّ على الوليد بن عقبة يعني إبطال الحدود وتوعّد الشهود (٤).

ومثله تأييده لنظرة سعيد بن العاص في أن السواد بستان لقريش وبني أمية ، فإنّها تعني إبطال قانون توزيع الفيء الذي يفيئه الله على المسلمين بأسيافهم (٥).

وإعطاء فدك وخُمس أفريقية لمروان (٦) ، يعني سحق قانون الميراث إن كانت فدك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده لورثته ، أو تدمير قانون الفيء إن كانت فيئاً

______________________________

(١) اُنظر كلام ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٢) أنساب الاشراف ٥ : ٣٩ ، المنتظم ٥ : ٧ ـ ٨.

(٣) فتح الباري ٢ : ٣٦١ ، نيل الأوطار ٣ : ٣٦٢ ، تاريخ الخلفاء : ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٤) اُنظر : أنساب الأشراف ٥ : ٣٤ ، الإمامة والسياسة ١ : ٣٧ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٣١ / ح ٣٨.

(٥) شرح النهج ٣ : ٢١ و ٣٥ ، الكامل في التاريخ ٣ : ١٣٧ ـ ١٤١ ، تاريخ الطبري ٤ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٦) اُنظر : المعارف : ١١٢ ، وأنساب الاشراف ٥ : ٢٥ ، والإمامة والسياسة ١ : ٣٥.

٥٦

للمسلمين ، وهكذا باقي إحداثاته.

٥ ـ والّذي يؤكّد ذلك ، هو النصوص التي صدرت عن الصحابة المعاصرين لتلك الإحداثات والإبداعات ، والتي تدل على إحداثاته في الدين.

كقول طلحة لعثمان : إنك أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها (١) ، وقوله له أيضاً : إن الناس قد جمعوا لك ، وكرهوا البدع التي أحدثت (٢).

وكقول الزبير في حقّه : اقتلوه فقد بدّل دينكم (٣).

وكقول عبدالله بن مسعود : ما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدّل ، وفي آخر عنه : إنّ أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدث بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار (٤) ، وفي ثالث : إنّ دم عثمان حلال (٥).

وقول عمار في خطبة له بصفين : فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت دنياهم ولو درس هذا الدين : لِمَ قتلتموه ؟ فقلنا لإحداثه .. (٦).

وقوله لعمرو بن العاص : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه (٧).

______________________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٢٩.

(٢) الفتوح ١ : ٣٥.

(٣) شرح النهج ٩ : ٣٦.

(٤) حلية الأولياء ١ : ١٣٨ ، أنساب الأشراف ٥ : ٣٦ ، شرح النهج ٣ : ٤٢.

(٥) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦.

(٦) صفين : ٣١٩.

(٧) صفين : ٣٣٨ ، شرح النهج ٨ : ٢٢.

٥٧

وقول سعد بن أبي وقاص في قتل عثمان : وأمسكنا نحن ، ولو شئنا دفعناه عنه ، ولكن عثمان غيَّر وتغيَّر (١).

وقول هاشم المرقال : أحدث الأحداث وخالف حكم الكتاب (٢).

وقول الأشتر : إنّ عثمان قد غيّر وبدّل (٣).

وقول عائشة ، وقد أخرجت قميص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا قميصه وشعره لم يَبلَ وقد بَلِيَ دينهُ (٤) ! وقولها : هذا ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته (٥) ! وقولها مشبّهة له برجل من اليهود : اقتلوا نعثلاً فقد كفر (٦).

وقول علي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الشورى : أما إنّي أعلم أنّهم سيولّون عثمان ، وليحدثنّ البدع والأحداث (٧).

بل كتَبَ أصحابُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعضهم إلى بعض أن أقدموا ، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد (٨). فَعَدُّوا قتال عثمان جهاداً ، ولا يستقيم ذلك إلاّ لحفظ الدين من التحريف والتلاعب.

وعرف المسلمون جميعاً ابتداعات عثمان ، الّتي أراد أن يتلافاها بمثل

______________________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٤٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٣.

(٣) انساب الأشراف ٥ : ٤٥ ، الإمامة والسياسة ١ : ٣٨.

(٤) المختصر في أخبار البشر ١ : ١٧٢.

(٥) شرح النهج ٣ : ٩.

(٦) الفتوح ١ : ٦٤.

(٧) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٠.

(٨) تاريخ الطبري / حوادث سنة ٣٤ ه‍.

٥٨

توسعته للمسجد الحرام ، فقالوا : يُوسِّع مسجدَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويغيّر سنّته (١).

بل منعوا من دفنه في مقابر المسلمين (٢) ، حتّى دُفن ليلاً في حشّ كوكب ـ وهي من مقابر اليهود (٣) ـ وتحت الخوف ، إذ حملوه على باب وإنّ رأسه على الباب ليقول « طق طق » (٤) ، وأراد الذين دفنوا عثمان أن يُصَلُّوا عليه فَمِنُعُوا (٥).

وهذا لا يكون من الصحابة والناس والمسلمين إلاّ بعد فراغهم عن انحرافات عثمان وابتداعاته الدينية لا مجرّد سوء تصرّفاته ، وتدهور الاقتصاد واختلال النظام الإداري.

فمن كل هذا نعلم أنّ عثمان كان ذا جنوح إلى الإحداث والتغيير ، فلا غرابة في أن يطرح رأياً وضوئياً جديداً كما طرح آراءً من قبل في منى وصلاة الجمعة وصلاة العيدين وغيرها ، مضافاً إلى أنّ هناك عوامل تربوية ونفسية وسياسية واجتماعية أخرى حَدَت به إلى الإبداع الوضوئي ، والنزوع إلى تثليث الغسلات ، وغسل الممسوحات من بعد ،

______________________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٨.

(٢) في تاريخ الطبري ٣ ٦ ٤٤٠ « فقالوا [ نفر من الأنصار ] : لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً. فدفنوه في حش كوكب ».

(٣) قال الطبري في تاريخه ٣ : ٤٣٨ هو حائط بالمدينة يقال له حش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم.

(٤) تهذيب الكمال ١٩ : ٤٥٧. وفي تاريخ المدينة لابن شبّة ١ : ١١٣ « وحملوه على باب أسمعُ قرع رأسه على الباب كأنّه دبّاءة ويقول : دبْ دبْ ».

(٥) تهذيب الكمال ١٩ : ٤٥٧.

٥٩

منها :

لماذا الإحداث في الوضوء ؟

١ ـ إنّ عثمان كان يرى لنفسه أهليّة التشريع ، كما كانت من قبل للشيخين ، فإنّه ليس بأقل منهما شأناً ، فلماذا يجوز لهما الإفتاء بالرأي ولايجوز له ؟! مع أنّهم جميعاً من مدرسة واحدة هي مدرسة الاجتهاد ، وكلّ منهم خليفة !!

٢ ـ إنه كان من المتشدّدين بظواهر الدين تشدّدا منهيّاً عنه ، حتّى أنّه عند بناء مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه ، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه ، فإذا أصابه شيء من التراب نفضه ، وذلك كلّه لأنّه كان رجلاً نظيفاً متنظّفاً (١) ، مع أنّ عماراً كان على ضُعفه يحمل لبنتين.

وكان عثمان يغتسل كل يوم مرة (٢) ، ولا يردّ سلام المؤمن إذا كان في

______________________________

(١) اُنظر : العقد الفريد ٥ : ٩٠ عن أمّ سلمة.

(٢) عن حمران [ مولى عثمان ] أنّه قال : كان عثمان يغتسل كل يوم مرة منذ أن أسلم ( مسند أحمد ١ : ٧٦ ، خصائص الصحابة لأحمد ١ : ٤٦٦ ).

وقال ابن حزم في المحلى ٢ ٦ ١٦ : فقد ثبت بأصح اسناد أن عثمان كان يغتسل كل يوم ، فيوم الجمعة يوم من الايام بلا شك.

وقد يستظهر من رواية مسلم ١ : ٢٠٧ ح ٢٣١ أنّه كان يغتسل كل يوم خمس مرات حيث جاء في أول الخبر : قال حمران : كنت أضع لعثمان طهوره ، فما اتى يوم إلا وهو يفيض عليه نطقه ...

٦٠