لماذا الاختلاف في الوضوء

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-7635-77-x
الصفحات: ١٠٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: F:Book-LibraryENDQUEUELematha-Ekhtelaf-Wodhouimagesimage001.gif

١

٢

Description: F:Book-LibraryENDQUEUELematha-Ekhtelaf-Wodhouimagesimage002.gif

٣

٤



دليل الكتاب

انقسام المسلمين إلى نهجين ..........................................  ٩

التعبد والمتعبدون ................................................  ١٤

الاجتهاد والمجتهدون .............................................  ١٦

المجتهدون في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .....................................  ٢١

المجتهدون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .........................................  ٢٥

عثمان والاجتهاد ................................................  ٢٨

عثمان والوضوء .................................................  ٣٠

المخالفون لعثمان ................................................  ٣٧

من هو البادئُ بالخلاف ؟ .........................................  ٤٠

عثمان والإحداث ...............................................  ٥٣

لماذا الإحداث في الوضوء ؟ .......................................  ٥٩

علي عليه‌السلام والوضوء ..............................................  ٦٣

٥

الأمويون والوضوء ...............................................  ٦٧

العباسيّون والوضوء ..............................................  ٧٦

المنصور والوضوء ................................................  ٧٧

المهدي والوضوء .................................................  ٧٩

الرشيد والوضوء .................................................  ٨١

نهاية المطاف ....................................................  ٨٥

خلاصة ما سبق .................................................  ٩١

فهرس المصادر ...................................................  ٩٣

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسلام على محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين.

وبعد ، فإنّ هذا الكتيّب الماثل بين يدك عزيزي القارئ هو الأوّل من سلسلة « بحوث في الوضوء النبوي » ، وهو خلاصةٌ لبحث ضخم تناول فيه مؤلفه العلاّمة المحقق السيّد علي الشهرستاني من الزاوية التاريخية وملابسات الأحداث ، سرّ الإختلاف الواقع بين المسلمين اليوم في الوضوء النبوي ، مع أنّ المفروض أن لا يقع مثل هذا الاختلاف في مفردة مثل الوضوء الذي نصّ عليه القرآن المجيد بقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (١) ، كما أنّ الرسول الأكرم محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بيّن أحكامه وفروضه وكيفيته ونواقضه وموجباته أحسن بيان ، ومارَسَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعله أمام أنظار المسلمين مدة مديدة من حياته الشريفة ، كما مارسه المسلمون بتعليمه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وخلال مراحل من البحث فقد عثر المؤلف على نصّين في أنّ الاختلاف في الوضوء وقع في عهد عثمان بن عفّان ، وأكّد بأنّ السبر التاريخي دلّ على عدم وجود اختلاف في الوضوء قبل هذا الزمان ، لا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في عهد الشيخين.

بعد ذلك تبين له أنّ عثمان بن عفّان كان هو البادئ بالخلاف ، الطارح لفكرة الوضوء الجديد ، وذلك من خلال اختلافه مع كبار الصحابة في كثير من الأحكام الفقهية ، مضافاً إلى اختلافه معهم في الأحكام السياسية

______________________________

(١) المائدة : ٦.

٧

والإدارية ، خصوصاً في الستّ الأواخر من سنيّ عهده ، ولذلك ترىٰ عثمان يتجاهل المخالفين لوضوئه مع أنّهم من المحدثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك بقوله « يتحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحاديث لا أدري ماهي إلاّ أني رأيت رسول الله توضّأ ... » ثمّ يسوق وضوءه الثلاثي الغسلي. وهو في كل ذلك يتصرف تصرَّف المتّهم الباحث عن الشهود ، فيستشهد على وضوئه جماعات من أصحابه ، ويذيّل وضوءاته بالضحك والتبسم ، ويدعو الناس إليه ، ويقعد في أماكن حساسة لنشره.

وقد أوقفتنا تلك البحوث على ماهية الناس المختلفين مع عثمان في وضوئه وفي باقي آرائه ، وعرفنا أنّهم من المحدّثين ومن عليّة الصحابة وكبارهم ، كما دلّت الحوادث على أن مقتل عثمان كان بسبب إحداثاته الدينية بالدرجة الأولى لا لسوء تصرفاته المالية والإدارية والسياسية.

وبما أنّ أصل هذا الكتاب لاقى ترحيباً وإقبالاً واسعاً من القراء الكرام ، فنفدت طبعاته الخمس في مدة خمس سنوات ، وطلب منّا بعض الأخوة الأفاضل والقراء الكرام تلخيصه وترتيبه وإعطاء لُبّ لبابه مختصرا ، تسهيلاً على المطالع ، وقمنا بتلخيصه وترتيبه خدمة للدين والعلم والفكر ، فإن أشكل أو غمض مطلب على القارئ كان بوسعه مراجعة أصل الكتاب للوقوف على صورة أوضح.

بعد هذا نرجو من الله تبارك وتعالى أن ينفعنا به وينفع الإسلام والمسلمين ، للتقدم إلى الأمام وعدم الجمود على قوالب صيغت في العصور المتقدمة تحت ظروف خاصة وملابسات كثيرة أرادت أن تميت الحقيقة النابضة الحية.

قيس العطار

٨



المقدّمة

انقسم المسلمون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى نهجين ، لكلّ منهما منحاهُ ومبناه.

فالبعض من الصحابة كان يدعو إلى لزوم استقاء الأحكام من القرآن والسنة المطهرة ولا يرتضي الرأي والاجتهاد قباله ، والبعض الآخر كان يذهب إلى شرعية قول الرجال ، وصحة الاجتهاد قبال النص ، لأنّهم قد عرفوا ملاكات الأحكام وروح التشريع !

وقد انتهجت الطائفة الأولى منهاج الطاعة والامتثال لمطلق الأحكام الصادر عن الله ورسوله ، وهؤلاء كانوا لا يسمحون لأنفسهم ـ ولا لغيرهم ـ العمل في الأحكام الشرعية بآراء شخصية واجتهادات غير مأخوذة من النص.

٩

أما الطائفة الثانية ـ فهي طائفة المجتهدين (١) ـ الذين كانوا يفتون بالرأي في محضره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويبتغون المصلحة مع وجود النص ، وهؤلاء وإن كانوا معتقدين برسالة الرسول لكنهم لم يعطوه تلك القدسية والمكانة التي منحها الله إياه ، فكانوا ـ في كثير من الأحيان ـ يتعاملون معه كأنه بشر غير كامل يخطئ ويصيب ، ويسبّ ويلعن ثم يطلب المغفرة للملعونين (٢).

وهذا الانقسام بين الصحابة كان من جملة الأسباب التي أدت لاختلاف المسلمين في الأحكام الشرعية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد كان هذا الانقسام منطويا على علل أخرى كثيرة ستقف على بعضها في بحوثنا الآتية.

بلى ، إنّ دعاة الاجتهاد استدلوا على شرعية هذا الاختلاف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( اختلاف أمتي رحمة ) (٣) ، لكن أحقاً أن ( اختلاف أمتي رحمة ) بالمعنى الذي

______________________________

(١) الاجتهاد الذي نهى عنه الله ورسوله وأئمّة أهل البيت هو بمعنى الإفتاء بالرأي ـ وبمثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وما شابهها ـ مع ترك النصوص القرآنية والنبوية أو التلاعب بمفاهيمها.

(٢) انظر صحيح مسلم ٤ : ٢٠٠٨ / ٩٠ ، مسند أحمد ٢ : ٣١٦ ـ ٣١٧ ، ٤٤٩ ، ٣ : ٤٠٠.

(٣) شرح النووي على صحيح مسلم ١١ : ٩١ ، الجامع الصغير للسيوطي ١ : ٤٨. وقال المناوي في فيض القدير ١ : ٢٠٩ : لم أقف له على سندٍ صحيح. وفي كنز العمال ١٠ : ١٣٦ / ح ٢٨٦٨٦ ذكره ثم قال : « نصر المقدسي في الحجة ، و البيهقي في رسالة الأشعرية بغير سند ، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ، ولَعَلَّهُ خُرِّج به في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا  » !!

١٠

أريد أن يفسَّر به ؟ أم أنّ له معنى آخر ؟ ولو صح ذلك فكيف نفسر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا تفترقوا فتهلكوا ) (١) ، وقوله : ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ) (٢) ؟

ولماذا يكون الاختلاف بين المسلمين إلى هذا الحد ، وكتابهم واحد ، ونبيّهم واحد ؟

فترى هذا يسدل يديه في الصلاة والآخر يقبضهما ، والثاني يُفرّج بين رجليه في الصلاة والآخر يجمع بينهما ، والثالث يغسل رجليه في الوضوء والآخر يمسحهما ، والرابع يجهر بالبسملة والآخر لا ينطق بها مجهورة ، وهذا يقول بالتأمين وذلك لا يقول به. والعجيب أنّهم جميعاً ينسبون أقوالهم

______________________________

وقد صحّ إسناد هذا الحديث عند أهل البيت وفسّره الإمام الصادق بأن المراد اختلافهم في البلدان بعد تفقّههم لينذروا الناس ويعلموهم الأحكام. انظر : علل الشرايع ١ : ٨٥ ، ومعاني الأخبار : ١٥٧ فانظر كيف يأخذون به مع عدم صحة اسناده عندهم.

(١) المصنف لابن أبي شيبة ٨ : ١٦١ / ح ٢٧.

(٢) انظر الحديث بألفاظ متقاربة ومعنى واحد في : تحفة الاحوذي ٧ : ٣٣٣ ، المعجم الكبير للطبراني ١٨ : ٥١ ، كنز العمال ١ : ٣٧٧ / ح ١٦٣٧ ، شواهد التنزيل ١ : ٢٧٠ ، تفسير القرطبي ٢ : ٩.

وفي مستدرك الحاكم النيسابوري ٣ : ٥٤٧ بسنده عن عوف بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ستفترق امتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسمون الأمور برأيهم ؛ فيحرمون الحلال ويحللون الحرام. وهو في المحلى لابن حزم ١ : ٦٢ ، والمستدرك للحاكم أيضاً ٤ : ٤٣٠ ، ومجمع الزوائد ١ : ١٧٩ ، والمعجم الكبير للطبراني ١٨ : ٥١ ، ومسند الشاميين ٢ : ١٤٣.

١١

وأفعالهم ـ على ما فيها من تضارب ظاهر ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله !

أفيكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قالها جميعاً ، أو فعلها جميعاً ، وصحّ عنه النقلان ـ أو النقول كلّها ـ كما يقولون ؟! أم أنّ فعله كان واحداً في كلّ هذه الحالات ؟!

وإذا كان ذلك كذلك ، فمن أين جاء الاختلاف الذي يعسر دفعه وإنكاره ؟! أترانا مكلّفين في شريعة الله أن نقف على الرأي الواحد ، أم أنّا قد أُمرنا بالاختلاف ؟! بل بمَ يمكن تفسير ظاهرة اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ؟!

ولِمَ ظهرت رؤيتان في الشريعة ، إحداهما تدعو إلى التعددية ، والأُخرى تنادي بالوحدوية ؟!

فلو كانت التعدديّة هي مطلوب الشارع ، فلِمَ حصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الفرقة الناجية من أُمته بواحدة من الثلاث والسبعين وقال في الباقي أنّها في النار ؟!!

ألم يُلزَمْ على التفسير السابق القول : الجميع ناجية وواحدة في النار ؟!! بل لا يبقى مجال لافتراض حتى فرقة واحدة في النار !!!

وإذا كانت الوحدوية هي مطلوب الشارع ، فلِمَ تصحَّح التعددية وتلتزم ؟! وهل يصح ما قيل في اختلاف الأمة باعتباره رحمة ؟ وما معنى تأكيده سبحانه على وحدة الكلمة إِذَن ؟!

ولو كانت الفُرقة هي مطلوب الشارع ، فماذا يعني قوله تعالى : ( وَلَوْ

١٢

كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (١) ، وكان قوله : ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٢).

إن القول بالتعددية أو الايمان بالوحدوية يرجع ـ في نظرنا ـ إلى ما عزوناه من أسباب في انقسام المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهمها انقسامهم إلى نهجين رئيسيَّين :

١ ـ نهج التعبّد المحض = الوحدويّة.

٢ ـ نهج الاجتهاد والرأي = التعدّديّة.

وقد فصّلنا الحديث عن هذين النهجين في دراستنا لأسباب منع تدوين الحديث ، موضحين فيه جذور الرأي والاجتهاد عند العرب قبل الإسلام ، وتصوّراتهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيفية تعاملهم معه كأنّه شخص عادي يخطئُ ويصيب ، ويقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا ، بل وحسب فهم بعضهم ، ما هو إلاّ سلطانٌ جاهد فانتصر ، وإنّ تعاليمه ما هي إلاّ مقرّرات أصدرها من عند نفسه ولم يُنزل الله سبحانه فيها شيئاً.

والإسلام ـ ولكي يوحّد الأُمة ـ جاء بشهادة ( أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ) إذ أنّ الشهادة الاولى كانت تعني جمع العرب ـ ومن ثم العالم ـ على اعتقاد واحد ، بوحدانية المعبود وترك الآلهة والأصنام

______________________________

(١) النساء : ٨٢.

(٢) الأنعام : ١٥٣.

١٣

الموجودة عندهم ، والشهادة الثانية تعني إنهاء حالة التعددية القيادية والمناحرات القبلية ، والاجتماع على قائد واحد ، وهو رسول الإنسانية ، أي إنّ الإسلام أراد توحيدهم بالله سبحانه وتعالى اعتقادياً ، وبمحمد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائداً روحياً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، لأنّ وحدة الفكر والقيادة من الأمور التي تقوّي الأمة وترفع شأنها ، بخلاف التعددية المؤدّية إلى الفرقة والاختلاف والضعف.

وإليك الآن بعض الشيء عن التعبّد والمتعبّدين والاجتهاد والمجتهدين ، ودور كل واحد منهما في الوضوء النبوي على سبيل الإجمال.

التعبد والمتعبدون

قثلنا لك بأنّ القرآن المجيد والسنة النبوية لم يقبلا بالتعددية بل جاءا ليحطّما الاعتقاد الجاهلي ـ المبتني على حبّ الذات والطمع في الرئاسة ـ إذ أكّد سبحانه في القرآن المجيد مراراً وبعدة أساليب على وجوب اتّباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمّي ؛ بمثل قوله : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) (١) ، وقوله : ( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (٢) ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ... ) (٣) ، وقوله : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ

______________________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) النور : ٥٢.

(٣) محمّد : ٣٣.

١٤

الْمُفْلِحُونَ ) (١) ، وقوله : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (٢) ... إلى غيرها من الآيات الكريمة الآمرة باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعته ، مقرونة في أكثرها بطاعة الله سبحانه وتعالى ، ممّا يعني أنّ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أمر الله سبحانه وتعالى.

ناهيك عن الآيات المصرِّحة بعظمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه لا يتكلّم إلاّ عن الله ، كقوله تعالى ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٣) ، والآيات الكثيرة المادحة للمتعبّدين بما يقول الرسول تعبّداً محضاً ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) (٤).

وجاءت السنة النبوية الكريمة بالأوامر المتكررة ، بوجوب اتّباع أقوال وأفعال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه التعبّد والالتزام المطلق أيضاً ، ففي حديث الأريكة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحدَّثُ بحديث من حديثي فيقول : « بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه » ، ألا وإنّ ما حرّم

______________________________

(١) النور : ٥١.

(٢) الاحزاب : ٣٦.

(٣) النجم : ٣ و ٤.

(٤) النور : ٦٢.

١٥

رسول الله مثل ما حرّم الله (١) ، إلى غير ذلك.

هذا ، مضافاً إلى الأحاديث النبوية الشريفة المادحة للمتعبدين بأقوال وأفعال وتقارير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر قريش ، لتنتهن أو ليبعثن عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن الله قلبه للإيمان ، قالوا : من هو يا رسول الله ؟

وقال أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟

وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو خاصف النعل. وكان قد أعطى عليّاً نعله يخصفها (٢).

وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عمار بن ياسر : إنّ عماراً مُلئ إيمانا إلى مشاشه. وقوله فيه أيضاً : من عادى عمّاراً عاداه الله ، ومن أبغض عمّاراً أبغضه الله (٣). وقوله في حنظلة حين خرج في أُحد ملبّياً نداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للحرب ، وكان قد أعرس بزوجته ، فخرج جُنُباً واستُشهد في أحد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ صاحبكم تغسله الملائكة ، فاسألوا صاحبته ، فقالت : خرج وهو جُنب لمّا سمع الهيعة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لذلك تغسّله الملائكة (٤).

______________________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١٣٢ : سنن ابن ماجة ١ : ٦ / ١٢ : سنن أبي داود ٤ : ٢٠٠ / ٢٦٠٤ ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ٣٣١ ، الاحكام لابن حزم ٢ : ١٦١ ، الكفاية للخطيب : ٩ ؛ المستدرك ١ : ١٠٨ ، الفقيه والمتفقه ١ : ٨٨.

(٢) كنز العمال ١ : ١٠٨ و ١٠٧ و ١١٥.

(٣) الاصابة ٢ : ٥١٢.

(٤) الاصابة ١ : ٣٦١.

١٦

الاجتهاد والمجتهدون

كان مسار التعبّد هو المسار الصحيح الذي أراده الله لعباده المؤمنين ، أن يؤمنوا بالله ورسوله ، ويتّبعوا خطوات الرسول وأوامره ، وينتهوا عن زواجره ونواهيه ، وأن ينقادوا له انقياد طاعة وامتثال دون إعمال للآراء الشخصية أو تأثّر بالآراء الموروثة ، لكنّ الواقع المحسوس آنذاك ظلّ ينبئ عن وجود صحابة كانوا يسمحون لأنفسهم بتخطئة الرسول والوقوف أمام أقواله وأفعاله ، ولم يكن ذلك بدعاً في الديانات ، لأنّ القرآن الكريم والسنة المباركة أخبرانا أنّ ذلك سنة التاريخ في الديانات السالفة ، فقد آمن الناس بأنبيائهم ، وكان منهم الخصيصون والمقربون والحواريون ، كما كان هناك المكذّبون بهم ، وكانت هناك طائفة أخرى من الّذين آمنوا بالأنبياء لكنّهم اختلفوا ولم يفهموا ما يأتيهم به أنبياؤهم على وجهه الصحيح أو فهموه لكن كانت لهم فيما فهموه أهواء ... تمّ آراء ... ثمّ أخطاء !

وكيفما كان ، فإنّ القرآن المجيد كشف لنا بلا ريب عن وجود صحابة أسلموا وآمنوا بالله والرسول ، لكنّهم ظلّوا على قسطٍ وافر من عدم التعبّد ، وعدم إدراكهم لقداسة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومدى دائرة وجوب إطاعته ، إذ كانوا يعاملونه في بعض الأحيان كأدون الناس شأناً ، وكانوا يعارضونه ويعترضون عليه ، ويرفَعون أصواتهم فوق صوته ، الى غير ذلك !

وقد وضّح القرآن وعالج الكثير من تلك الحالات غير المسؤولة ، فقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا

١٧

مُّبِينًا ) (١) وقال تعالى ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٢) و قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (٣) ، وفي هذه الآية تصريح بأنّ المخاطبين مؤمنون ينطقون الشهادتين ، وأنهم لم يأتوا بالزنا أو القتل أو غيرهما ، بل رفعوا أصواتهم على صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا ينادونه بما يكشف عن أنهم كانوا لا يلتزمون بما يقتضيه شأن النبوّة ، ولا يعتبرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ شخصاً عادّياً مثلهم ، فلا حاجة إذن ولا ضرورة للتعبد بما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كنبي ، وهذا هو الذي أوجب التهديد لهم بالإحباط لأعمالهم.

ومثل ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ) (٤) وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ ) (٥) ، وقوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ) (٦).

______________________________

(١) الاحزاب : ٣٦.

(٢) النساء : ٦٥.

(٣) الحجرات : ٢.

(٤) التوبة : ٣٨.

(٥) الاحزاب : ٥٧.

(٦) المجادلة : ٨.

١٨

بل نقل الطبرسي في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أنّ ابن جنّي صرّح بأنّ معناه ؛ لا تفعلوا ما تؤثرونه وتتركوا ما أمركم الله ورسوله به ، وهذا معنى القراءة المشهورة ، أي لا تقدِّموا أمرا على ما أمركم الله به (١).

هذا ، إلى غيرها من الآيات الكريمة التي لوّحت أو صرحت بما لايقبل الشك بوجود هذه الفئة في المجتمع الإسلامي في صدر الرسالة الإسلامية ، وإذا لوحظت تلك الآيات وأسباب النزول عُلم أنّ تلك الفئة غير قليلة وذلك الاتجاه كان كبيراً كماً وكيفاً ، بحيث شغل حيزاً كبيراً من تفكير المسلمين.

ولم يقتصر الدلالات على القرآن الكريم فقط ، بل صرحت السنة النبوية المباركة قولاً وعملاً بوجود هذا الاتجاه وانتقدته وفندّته ـ أيّما انتقاد وتفنيد ـ لأنّ تلك الفئة لم تحدّد عملها واجتهادها في كلام النبي وإنّما راحت تتعداه إلى القرآن الكريم.

فلذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض أصحابه : ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ؟! بهذا هلك مَن كان قبلكم (٢). وفي نص آخر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أيُتلعّب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟! (٣) وفي نص ثالث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبهذا أُمرتم أو لهذا خُلقتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضا ببعض ، انظروا ما أُمرتم به

______________________________

(١) مجمع البيان ٥ : ١٢٩.

(٢) كنزل العمال ١ : ١٩٣ / ح ٩٧٧.

(٣) كنز العمال ١ : ١٧٥ عن مسلم.

١٩

فاتبعوه ، وما نُهيتم عنه فانتهوا (١).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حذّر أصحابه من هذا التهافت المقيت في تعاملهم مع النصوص القرآنية والنبوية ؛ إذ الإيمان بالله ورسوله يقتضي التسليم والانقياد لما يقوله الله ويأمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعدم التسليم بقدسية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله وأفعاله يتقاطع مع الإيمان المطلق بالله والرسول.

لقد حذّر الله من عواقب هذا النوع من التفكير ، وأنبأَ أنّه سينجرّ إلى ( الفتنة ) ، فعن الزبير بن العوام ـ في تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ ... ـ إلى قوله ـ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ) (٢) ـ قال : لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها ، فإذا تحن المعنيّون بها (٣).

وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل (٤).

وبما أنّ ولادة مثل هذا الفكر في مجتمع حديث عهد بالإسلام أمرٌ يوافق سيرة التاريخ وإخبارات القرآن عن سنن الأمم الماضية ، راح الشارع

______________________________

(١) مسند أحمد ٢ : ١٩٦ ، ومسند أبي يعلى ٥ : ٤٢٩ / ح ٣١٢١ ، وكنز العمال ١ : ٣٨٣ / ح ١٦٦١. وفي سنن النسائي ٦ : ١٤٢ / ح ٣٤٠١ بسنده عن محمود بن لبيد ، قا : أُخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام غضباناً ثمّ قال : أَيُلعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟! حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ، ألا أقتله ؟!

(٢) الانفال : ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) تفسير ابن كثير ٢ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

(٤) تفسير ابن كثير ٢ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

٢٠