الرسائل الأحمديّة - ج ٣

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

عَهَدْتُكَ ما تَصْبُو وفِيكَ شَبِيبَةٌ

[فما لَكَ بعد الشيْبِ صَبّاً مُتَيَّماً] (١)

لأنّ المضارع المقرون كاسم الفاعل المضاف إليه ( غير ) فاعطي حكمه وهو الاستغناء عن الواو.

واثنان مختلفٌ فيهما :

وهو الجملة المضارعيّة المنفيّة بـ : ( لا ) ( ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ ) (٢) ، فجملة لا نؤمن حال من ضمير المتكلّم المجرور ، ولم يقترن بالواو لما مرّ في المقرون بـ : ( ما ) ؛ لأنّ معناه : غير مؤمنين ، فكما لا يقال : ما لنا وغير مؤمنين ، لا يقال : ما لنا ولا مؤمنين.

والجملة الماضويّة التالية ل ( إلّا ) الإيجابيّة ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) (٣).

هذا عند ابن مالك (٤) والجمهور ، ويؤيّده القرآن المجيد والفرقان الحميد. وخالف البدرُ ابنُ مالك في شرح ( الألفيّة ) في المسألة الأُولى ، فجعل ترك الواو قبل ( لا ) أكثريّاً ، وأنشد على مجي‌ء الواو قول مالك بن رقيّة :

[ أمَاتُوا مِنْ دمِي وتَوَعَّدوني ]

وكنتُ ولا يُنَهْنِهُني الوعيدُ

وقول مسكين الدارمي :

[ أكْسَبَتْهُ الوَرِقُ البيضُ أباً ]

ولَقَدْ كَانَ ولا يُدْعَى لأب (٥)

وخالف شارحُ اللبّ في الثانية ، فأجاز ذكر الواو وحذفها ، وأنشد على ذكر الواو :

نِعْمَ امْرُؤٌ هَرِم لم تَعْر نائبهٌ

إلّا وكان لمرتاعٍ بها وزرا (٦)

فهذا خلاصة ما قرّره النحويّون والبيانيّون ممّا له تعلّقٌ بالمقام ، ومناسبة لهذا

__________________

(١) أوضح المسالك ٢ : ١٠٤ ، التصريح على التوضيح ١ : ٣٩٢.

(٢) المائدة : ٨٤.

(٣) يس : ٣٠.

(٤) التصريح على التوضيح ١ : ٣٩٢ ، حاشية الصبان على شرح الأشموني ٢ : ١٨٩.

(٥) شرح ألفية ابن مالك ( ابن الناظم ) : ٣٣٨ ٣٣٩.

(٦) التصريح على التوضيح ١ : ٣٩٢.

٣٨١

المطلوب والمرام ، على ما عثرنا عليه من كتب البيان ؛ كـ ( المطوّل ) و ( المختصر ) وحواشيهما للشريف والچلبي وغيرهما ، ومن كتب النحو كـ ( الألفيّة ) وشروحها على تعدّد شرّاحها ، كالشيخ ياسين ابن صلاح الدين البحراني ، وابن الناظم ، والسيوطي ، وابن هشام الأنصاري ، وخالد الأزهري. و ( الكافية ) وشروحها لعبد الرحمن الجامي وغيره ، وأشباهها من المطوّلات والمختصرات والمتون والمشروحات.

ومن البعيد جهلُ هذا الجمّ الغفير والجمع الكثير لهذا الشرط دون غيره ، وسهوهم عن ذكره.

وأنت إذا تدبّرت ما قرّروه في هذه المسالك وجدته مطابقاً لما قرّرناه هنالك ، والسبر والوجدان شاهدا عدلٍ لُاولي الأذهان.

وثانياً : أنّا لو تنزّلنا وسلمنا وجود هذا الشرط فهو حاصل على ما قلنا ؛ لأنّا إنّما ذكرنا الحاليّة في الجواب الأوّل المختصر على تقدير قطع النظر عن الشرط المحذوف ، وجعل ( إنْ ) بمعنى ( قد ) التحقيقيّة ، فتكون القطعيّة حاصلةً البتّة ، كما لا يخفى على ذي رويّة.

وكيف كان ، فالمأمول من مولانا سلّمه الله أنْ يتحفنا ببيان مَنْ ذكر هذه القطعيّة كما اتحفناه ببيان مَنْ ذكر ( إنْ ) الوصليّة.

وأمّا قوله : وهي في هذا المثال وأشباهه ، لا تفيد إلّا التردّد.

ففيه : ما لا يخفى على ذي حِجر وحِجى ، لما مرّ عليك في الجواب من إفادة القطع وتحقّق الإكرام على أي وجه كان وعلى كل حال مفروض من سائر الأحوال ، لا أنّ مفادها التردّد في الإكرام.

أمّا على احتمال كونها بمعنى ( قد ) لو صحّ فظاهر ، وأمّا على الوجه الثاني الصحيح فلأنّهم حكموا بانسلاخ ( إنْ ) في مثل هذا المقام عن الاشتراط ، وجعلوها لمجرّد الوصل والربط ، أي وصل الإكرام بحال الإهانة وعدم الإعظام ، وجعلوا الواو مفيدةً لاستقصاء الأحوال على وجه الإجمال. وقد مرّ الكلام فيه مستوفى بالتمام

٣٨٢

والكمال ، وما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال.

وأما قوله : إنّه لم يعلم ل ( إنْ ) إلّا الأربعة المعاني المذكورة في ( المغني ) وغيره.

ففيه : أنّ ( إنْ ) الوصليّة أصلها الشرطيّة ، إلّا إنّها انسلخت عن معنى الشرط وجُعلَتْ لمجرّد الوصل والربط ، كما مرّ مراراً في تحرير الجواب. وأمّا معنى الوصل فلا أظنّه يخفى على مثل السائل ، فضلاً عن أنْ يسمّى مثله بالجاهل والغافل ؛ كيف وقد صرّح به غيرُ واحدٍ من المحقّقين الأفاضل من الأواخر والأوائل ، كسَعْد التفتازاني في شرحي ( تلخيص المفتاح ) ، والسيّد عبد الله بن السيّد نور الدين بن السيّد نعمة الله ، ومجتهد العصر الشيخ مرتضى الأنصاري ، وبعض المحشّين على ( المعالم ).

قال التفتازاني في ( المطوّل ) ما لفظه : ( قد تستعمل ( إنْ ) في غير الاستقبال قياساً ، إذا كان الشرط لفظ ( كان ) نحو ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) (١) ، أي وإنْ كنتم في شكٍّ كما مرّ ، وكذا إذا جي‌ء بها في مقام التأكيد مع واو الحال لمجرّد الوصل والربط ، ولا يذكر حينئذٍ لها جزاء نحو : ( زيدٌ وإنْ كثر ماله بخيل ) و ( عمروٌ وإنْ اعطي جاهاً لئيم ) (٢).

وقال في ( المختصر ) : ( وقد تستعمل ( إنْ ) في غير الاستقبال قياساً مطرداً مع كان نحو ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) ، كما مرّ ، وكذا إذا جي‌ء بها في مقام التأكيد بعد واو الحال لمجرّد الوصل والربط دون الشرط نحو : ( زيدٌ وإنْ كثُر مالُه بخيل ) ، و ( عمروٌ وإنْ اعطي جاهاً لئيم ) (٣). انتهى.

وقال السيّد عبد الله في ( أجوبة المسائل الجبليّة ) في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة » (٤) بعد أنْ نقل عن بعض المحقّقين : إنّ أداة الشرط ليست لقصد التعليق والاشتراط ، بل لتحقيق ما يفيده الكلام السابق ما لفظه : ( وعلى هذا السرّ يدور ما في ( لو ) و ( إنْ ) الوصليّتين من المبالغة والتأكيد ) انتهى.

وقال الشيخ مرتضى في كتاب المعاملات في حكم المعاطاة بعدَ نقل عبارة

__________________

(١) البقرة : ٢٣.

(٢) المطوّل : ١٦٢ ١٦٣.

(٣) مختصر المعاني : ٩٢.

(٤) غوالي اللئالئ ١ : ٣٦٧ / ٦٥ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٨٣ / ٦٨.

٣٨٣

المحقّق في الشرائع المشتملة على معنى الوصل ، وهي قوله رحمه‌الله : ( ولا يكفي التقابض من غير لفظ وإنْ حصل من الأمارات ما دلّ على إرادة البيع ) (١) ما لفظه : ( وذكر كلمة الوصل ليس لتعميم المعاطاة لما لم يقصد به البيع ، بل للتنبيه على أنّه لا عبرة بقصد البيع من دون الفعل ) (٢). انتهى.

وأراد بكلمة الوصل قول المحقّق : ( وإن حصل من الأمارات ما دلّ على إرادة البيع ).

وكيف كان ، فإثبات هذا العنوان غنيٌّ عن البيان ، والله العالم الهادي المستعان.

اللهمّ أعنّا على طاعتك ، واهدنا من عندك ، وانشر علينا خزائن علمك ، واختم لنا برضوانك ، بحقّ محمّد وآله أُمنائك.

هذا ما سنح بالفكر الكليل وسمح به الفهم العليل ، فإنْ حصل القبول سار في الساهرة مسير الصّبا والقبول ، وإلّا فالمأمول من ذلك الجناب الموفّق إلى نهج السداد إصلاح الفساد ، وترويج الكساد ، وسدل ذيل العفو على ما يجده من الهفو.

حرّره بيمينه الجانية الفانية اعطي بها كتابه في الثانية ، فقير ربّه المنّان أحمد بن صالح بن طعان البحراني الستري المركوباني ، ساعده الله وأسعده ، وجعل خير يوميه غده.

واتّفق الفراغ بالليلة التاسعة والعشرين من شهر ربيع الثاني من السنة ١٢٧٨ ، الثامنة والسبعين والمائتين والألف من الهجرة النبويّة على مهاجرها وآله أشرف الصلاة وأفضل التحيّة ، وصلّى اللهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطاهرين ، وآخر دعواهم أن الحمدُ لله ربّ العالمين.

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٧.

(٢) المكاسب ١ : ٢٤٤.

٣٨٤

الإيرادات من السائل وجوابها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ وكفى ، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الخلفاء الحنفاء ، حلفاء الصفاء ، وألفاء الوفاء.

وبعد : فقد وقفت على ما حبّره السائل الفاضل في نقض ما أبرمناه في جواب المسائل ، فرأيتُهُ مختلّ النظام منحلّ الزمام ، بل يقبح صدور مثله عن أُولي الأحلام ، فضلاً عن فرسان الكلام ، بعد أنْ سرّحت في بيدائه بريد التأمّل التامّ ، ونظرته بعين الإنصاف والإنصات والاحتشام ، رافضاً للعصبيّة ، قاصداً محض الاستفادة والاستفهام. وعند التحقيق أنّ منشأ تلك الإيرادات وأصل تلك الاعتراضات ؛ إما استعجال يمنع من استيفاء المرسوم في ذلك المقام ، أو سبق شبهة ارتسمت في ذهنه واستحكمت أيّ استحكام ، فلا يزول ذلك الارتسام والاستحكام ولو وقعت الخضراء على الرغام ؛ أو عدم إحاطة بأساليب الكلام ، كما يتّضح من كلماته في غير مقام.

وهذا كلامه بلفظه ، وباللهِ الثقة والاعتصام.

نقض الجواب السابق

بِسمِ اللهِ تعالى

ملخّص ما قرّره الحبر المصيب والمحرّر الأديب في جواب السؤال عن معنى ( هبني ) في الدعاء ، وتركيبها في النحو ، وعن معنى ( وإنْ ) في مثل قولنا : ( لأُكرمنّ زيداً

٣٨٥

وإنْ أهانني ) ، وتركيبها ، هو : أنّ ( هبني ) فعل أمر بمعنى : اجعلني واحسبني ، وكلاهما مترادفان في المعنى بحسب ظاهر عبارته سلّمه الله تعالى وهو بحسب النظر لا يصلح نسبته له عليه‌السلام ، لأنّ التماسه من العزيز الكريم أنْ يجعله صابراً على حرّ النار ، لا يخلو من أحد أمرين :

إمّا أنْ يكون عالماً من نفسه أنّه مستحقٌّ لها ، أو مشكّك في الاستحقاق وعدمه ، وتعقيبه الكلام بكيف الاستنكاريّة المصدّرة بفاء الجزاء لا معنى له ؛ إذ المستحقّ للنار أو المشكّك في استحقاقه لها لا يستنكر من فراق الله وبعده عن رحمته ؛ لاستحالة اجتماع الأضداد أيناً ومكاناً.

وتقديره سلّمه الله ـ : فإنْ جعلتني صابراً .. الى آخره ، بعد قول الإمام عليه‌السلام : « فاجعلني صابراً على حرّ نارك » (١) كأنه من باب تعديل لكلام الإمام عليه‌السلام وتحسينه لقصره عن البلاغة والفصاحة ؛ وهذا ممّا لا يليق بشأنه. فما برح السؤال في الإشكال.

وأمّا ( إنْ ) في المثل فقد جعلها وصليّة باصطلاح أهل المعاني والبيان في كتبهم ، وليس المطلوب ذلك ، وإنّما المطلوب كونها في كتب أهل النحو كذلك ، على قدر دعواه سابقاً ، وإلّا فاصطلاحات أهل العلوم وتصرّفاتهم في الألفاظ والكلمات في النحو والتصريف والمعاني والبيان والمنطق والكلام والهندسة والحساب والحكم النظرية غير خفي على مَنْ له أدنى فطنة ومعرفة.

وأمّا كون ( الواو ) بمعنى الحال في ( وإنْ أكرمني ) فلم يثبت ، حيث إنّ استدلاله حرسه الله تعالى لم يكن إلّا في واو ( وإنْ ) وواو ( ولَوْ ) وكلاهما من باب واحد ، وهو عين المسئول عنه ، فإنْ حصل الدليل من غيرهما مثل : ( جاء زيدٌ وهو راكبٌ ) أو ( ركب زيدٌ وهو مريض ) فذاك ، وإلّا فلا.

ودعوى أنّ واو الحال لا يكون مدخولها إلّا ثابت الوقوع بظاهر اللفظ في الكلام الموجب ومنفيّاً في الكلام المنفي ، باقٍ على حاله.

__________________

(١) مصباح المتهجّد : ٧٧٨ ، باختلاف.

٣٨٦

وأمّا إعجابه حفظه الله تعالى من عدم صحّة نسبة الظنّ له سبحانه في الجواب الأوّل حين قال : ( إنّ ( هبني ) بمعنى : ظنّيتني ؛ لأنّ معنى الظنّ الشكّ والتردّد ) ، مع اعترافه في مطاوي كلامه أيده الله تعالى بعدم جواز نسبة الظنّ له من حيث عدم تسمية نفسه وتسمية حججه له بذلك ، فهو أعجب وأعجب ، على أنّ احتمال عدم التسمية له بذلك من حيث معنى الشكّ والتردّد الحاصل في الظنّ قويّ وظاهر ، وعلى أنّ الظنّ وإنْ استعمل في القطع واليقين أحياناً فلا بدّ من القرينة ، كما في قوله تعالى ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) (١) ، الآية ، بمعنى : تيقّن أنْ لن نُقتّر عليه رزقه. وغيرها من الآيات والروايات.

وأمّا جموده سلّمه الله وأعلى مقامه وأسبغ عليه وافر إكرامه على جواز نسبة الاشتقاق لاسمه تعالى الأكبر فلم يجر من السائل فيه كلام حتى يلزم معه فيه النقض والإبرام ، على أنّ الاشتقاق لهذا الاسم الجليل بالكلّيّة غير ثابت عندنا ولا مرضيّ لدينا ، بل إنّه علم جامد وإنْ زيّف فيه الكلام المخالف المعاند. فتأمّل أعلى الله تعالى لك المقام ، وحبانا وإيّاكم منه بالمنّة والإحسان والإكرام ، والسلامُ خير ختام.

جواب النقض

أقولُ بعد إبلاغ وافر السلام ، مستعيناً بالقادر العلّام ، في إبرام النقض ونقض الإبرام ـ :

أمّا قوله : ملخّص ما قرّره إلى قوله ـ : هو أنّ ( هبني ) فعل أمر بمعنى : اجعلني واحسبني وكلاهما يترادفان في المعنى بحسب ظاهر عبارته.

ففيه أوّلاً : أنّا قد ذكرنا لها خمسة معانٍ بالنظر إلى الورود في العربيّة لا إلى خصوص كونها في تلك الفقرة العليّة :

الأوّل : كونها بمعنى ( ظنّ ).

__________________

(١) الأنبياء : ٨٧.

٣٨٧

الثاني ، والثالث : كونها بمعنى ( احسَب ) و ( اعدُد ) القلبيّين.

الرابع : كونها بمعنى ( اعتقد ).

الخامس : كونها بمعنى ( اجعل ).

أمّا الأربعة الأُولى فمحقّقة الورود ، وأمّا الخامس فعلى احتمال مرجوح ، بل منظور فيه كما يحكم به صريح عبارة الجواب ، لِمَنْ كان من اولي الألباب.

فإنّي بعد أنْ ذكرت المعاني الخمسة قلتُ : إلّا إنّ في الأخير إشكالاً ، إلى أنْ قلت : ويمكن الجواب عنه بأنّ قصارى ذلك عدم الوقوف عليه ، إلى أنْ قلت : إلّا إنّ فيه أعني : الجواب الممكن نوع تأمّل لا يخفى على المتأمّل بالتأمّل التّام.

إلى أنْ قلت : وحينئذٍ فحاصل المعنى : فإنْ علمتني صابراً ، أو فإنْ وقع في علمك إنّي أصبر على عذابك ، إلى آخر ما ذكرته هناك.

وكلّ هذا صريح في أنّ معنى اجعل غير مراد ، كما لا يخفى على فطن درّاك.

وأمّا قولي : ويجوز جعلها بمعنى : ( اجعل ) إنْ ثبت تصرّف ماضيه ، فلا يدلّ على إرادته كما لا يخفى على نبيل نبيه ؛ لأنّه من باب القياس الاستثنائي ، وهو ما كان عين النتيجة أو نقيضها مذكوراً فيه بالفعل ، والمراد هنا الشق الثاني ، وترتيب تقرير الدليل منه هكذا : إنْ ثبت تصرّف ماضي ( وهب ) بمعنى : جعل ، جاز كون ( هب ) هنا بمعنى : اجعل ، لكنّه لم يثبت ، فلم يجز.

ألا ترى أنّ نقيض النتيجة ، وهو قولنا : جاز جعلها بمعنى : ( اجعل ) ، مذكور في القياس الاستثنائي ، كما لا يخفى على مَنْ له أدنى معرفة بالحكم المنطقي ، فيؤول المعنى إلى قولنا : يجوز جعلها بمعنى : ( اجعل ) إنْ ثبت تصرّف ماضيه ، لكنه لم يثبت ، فلم يجز.

وهل بين هذا الكلام وبين الدلالة على الجواز إلّا ما بين الأهواز وشيراز ، وإنّما طوّلت بذكر كلماتٍ من الجواب حذراً أنْ يقف على إيراده مَنْ لم يقف على كلامنا فيه ، فيقع في باله أنّ إيراده في حيّز القبول والصواب.

٣٨٨

وثانياً : أنّ قوله : ( وكلاهما مترادفان في المعنى بحسب ظاهر عبارته ) ، كلام خالٍ عن التحصيل فيا ليته لم يسطّره في التسجيل.

أمّا أوّلاً ؛ فلما قرّرناه من أنّ معنى ( اجعل ) غير مراد أصلاً ، لا في التفريع ولا التأصيل.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ ( اجعل ) من أفعال التصيير ، و ( احسب ) من أفعال القلوب ، من الحسبان بمعنى : العلم والإيقان. وأين ذلك من الترادف؟! ولا ينبّئك مثل خبير.

وأما قوله : وهو بحسب النظر لا يصلح نسبته له عليه‌السلام إلى قوله ـ : لاستحالة اجتماع الأضداد.

ففيه ، أوّلاً : أنّ المعنى الذي قدّره مبنيٌّ على جعل ( هب ) بمعنى : ( اجعل ) ، وقد عرفت ما فيه.

وثانياً : انّه لو صحّ جعلها بمعنى : ( اجعل ) لم يؤول معناها إلى الالتماس ، وإنّما يؤول إلى الفرض والتنزّل ؛ لأنّه المتعارف من معانيها بحسب المحاورات الخطابيّة والمعهود بين أهل العربيّة ، فيصير حاصل المعنى على تقدير الثبوت : فإنْ جعلتني صابراً على عذابك ؛ بأنْ أعطيتني القوّة على احتمال ذلك ، وأوزعتني الصبر على ما يصدر عليّ من جنابك ، فكيف أصبر على فراقك؟ لأنّه أعظم عليّ من جميع ما هنالك. وإنّما كان أعظم عليه لما قرّرناه في تلك المسالك.

وثالثاً : أنّ تعجّبه عليه‌السلام وجعلني فداءه من الآلام من الصبر على الفراق والنظر إلى كرامة الخلّاق ، وذكره لمثل هذا الكلام المشتمل على تلك المشاق ، ليس لكونه عالماً من نفسه الاستحقاق أو مشكّكاً فيه وفي عدمه ، كما لا يخفى على مَنْ له مِنَ المعرفة أدنى خلاق. كيف وهو القائل : « لو كُشفَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً » (١)؟! ( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (٢).

وإنّما الوجه في صدور هذه الكلمات منه ومن أبنائه المعصومين الهداة ما ذكرناه

__________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم : ٥٦٦.

(٢) النساء : ١١٢.

٣٨٩

في متن الجواب ، كما لا يخفى على اولي الألباب ، وليس صدور مثل هذا الكلام وما كان أعظم منه بمراتب ؛ من الخضوع والخشوع والتذلّل بين يدي الملك العلّام ، ببدع منه ومن أبنائه عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام ، كما شهدت به أدعيتُهم وأورادُهم الواردة في ذلك المقام ، ممّا تكلّ عن إحصائه الأقلام. والله أسأل العصمة من زلل الأفهام والتوفيق لإزالة الإبهام.

وأمّا قوله : وتقديره سلّمه الله تعالى فإنْ جعلتني صابراً .. إلى آخره ، بعد قول الإمام عليه‌السلام : « فاجعلني صابراً على حرّ نارك » (١).

ففيه : أنّ هذا الكلام ليس من كلام الجواب ولا من كلام الإمام ، ويا ليت شعري من أين استفاده وأيّ لفظ أفاده؟! وكأنّه أراد قولنا : فحاصل المعنى : فإنْ علمتني صابراً .. الى آخره. فغيّره لوجه لا نعلمه ، والله العالم العاصم.

وأمّا قوله : كأنّه من باب تعديل كلام الإمام إلى قوله ـ : وهذا ممّا لا يليق بشأنه عليه‌السلام.

ففيه ، أوّلاً : أنّ هذا أنّما هو من باب التأويل ، وهو بابٌ واسع في العربية لا تُحصى شواهده ولا تُقْتَنَصُ شوارده ، سيّما في القرآن المجيد والفرقان الحميد ، ولا يخفى على اولي الإتقان أنّ كلامهم عليهم‌السلام كالقرآن ، كما صُرِّح به في غير مكان (٢).

وثانياً : أنّ التأويل لو أخلّ بالفصاحة والبلاغة للزم خروج القرآن عن حيّزهما واتّصافه بخلافهما ، واللازم باطلٌ فالملزوم مثله في البطلان. وبيانُ الملازمة غنيّ عن الإفصاح والبيان ، ظاهر لكل إنسان. أَلا ترى ما وقع في كثير من الآيات من الوجوه المتعدّدة والأقوال المختلفة ، وتكثّر التأويلات ، كقوله تعالى ( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) (٣).

حيث إنّ القاعدة المقرّرة ل ( لو ) أنّها إذا دخلت على مثبوت كان منفيّاً وبالعكس ، ولهذا حكموا بخروج قول امرئ القيس :

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٧٧٨ ، باختلاف.

(٢) البحار ٧ : ٣٢٤ ، و ٣٩ : ٢٧٢ ، و ٧٩ : ١٩٩.

(٣) الكهف : ١٠٩.

٣٩٠

ولو أنّما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال (١)

عن باب التنازع لفساد المعنى باجتماع النقيضين ؛ لكون السعي لأدنى معيشة مع الكفاية منفياً لا مثبتاً في سياق ( لو ) ، وكون طلب القليل من المال مثبتاً ؛ لأنّه منفي في سياق جوابها ، فيؤول إلى إثبات الشي‌ء ونفيه في كلام واحد ، وهو باطل.

وعلى هذه القاعدة يلزم أنّ كلمات الله قد نفدت ، وليس كذلك.

ومثلها ما رووه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم العبدُ صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه » (٢) ، فإنّه يقتضي أنّه خاف وعصى ، وعصى مع الخوف.

وكقوله تعالى ، في آيتي أهل الجنّة والنار ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٣) ، حيث إنّه تعالى أوعد كلّاً من الفريقين بالخلود ؛ إمّا في الجنّة ، أو النار ذات الوقود.

وقد أكثر فيهما المفسّرون (٤) من الوجوه والتأويلات ، وكذا في ما شابههما من الآيات ، كما لا يخفى على من مارس كتب الأعاريب ، وإنْ كنت في شكّ فعليك بـ ( مغني اللّبيب ) ، فإنّ فيه غنية للأديب الأريب.

وأمّا وقوع مثل ذلك في كلمات الأئمّة الأطهار فقد انتشر أيّ انتشار ، ويكفي في ذلك ما وقع في كلمة الشهادة التي بُني عليها أصل الإسلام ، حيث قد اضطربت في إعرابها وتأويلها ثاقباتُ الأفهام ، حتى أفردها بالتأليف جماعةٌ من العلماء الأعلام.

ومثله ما وقع لهم في معنى قول الصادق عليه‌السلام في صحيحة إسحاق بن عبد الله

__________________

(١) مغني اللبيب ١ : ٣٣٨ ، شرح شذور الذهب : ٢٢٧ ، حاشية الصبّان على شرح الأشموني ٤ : ٤٠.

(٢) المطوّل : ١٦٨ ، كنز العمال ١٣ : ٤٣٧ / ٣٧١٤٦.

(٣) هود : ١٠٦ ١٠٨.

(٤) التبيان ٦ : ٦٦ ٧٢ ، مجمع البيان ٥ : ٢٥٠ ٢٥٣ ، التفسير الكبير ١٨ : ٥٠ ٥٤.

٣٩١

الأشعري « لا ينقض الوضوء إلّا حدث ، والنوم حدث » (١) ، اتّسعت في تطبيقه على الأشكال المنطقيّة دائرة الخلاف ، واختلفوا في بيان النتيجة منه اختلافاً لا يرجى معه ائتلاف ، حيث إنّ المقدّمة الأُولى الصغرى اشتملت على قضيّتين مختلفتين في الكيف هي السلب والإيجاب ، أحدهما : ( لا ينقض الوضوء ما ليس بحدث ) ، وهي سالبة. والثانية : ( الناقض للوضوء حدث ) ، وهي موجبة. وانتظام كلّ من السالبة والموجبة مع الكبرى لا ينتج شيئاً في الشكل الثاني ؛ لعدم تكرّر الوسط على الأوّل ، وعدم اختلاف مقدّمته كيفاً على الثاني. ومثله ما وقع لهم في تأويل ما ورد : « إنّ نيّة المؤمن خيرٌ من عمله » (٢).

ولو لا ما أوعز لنا من كراهة التطويل ، لأوردنا كثيراً من هذا القبيل ، وإنْ كان بالنسبة إلى غيره أقلّ القليل. والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

وأمّا قوله : فما برح السؤال في الإشكال.

فأقول : إنّ الإشكال بحمد الله قد زال أيّ زوال ، ووقع في حيّز العدم والاضمحلال ، لولا هناتٌ في نفس ذلك المفضال ، فيا قاتل الله الاعتساف كيف يُفضي بصاحبه إلى الخروج عن جادّةِ الحق والإنصاف ، ويوقعه في مهاوي التمحّلات والانحراف. ولعمري لقد ألجأنا إلى تصديق الشيخ المقتول حيث يقول :

ضاع الكلام فلا كلام

ولا سكوت يعجب.

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

وأمّا قوله : وأمّا ( إنْ ) في المثل فقد جعلها وصليّة باصطلاح أهل المعاني والبيان .. الى آخره.

ففيه ، أوّلاً : أنّ غاية ما ذكرناه تسمية ( إنْ ) في مثل هذا الكلام وصليّة عند أهل العربيّة ، وذلك لا ريب فيه عند ذي رويّة.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٦ / ٥ ، الإستبصار ١ : ٧٩ / ٢٤٦ ، الوسائل ١ : ٢٥٣ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ٣ ، ح ٤.

(٢) الكافي ٢ : ٨٤ / ٢ ، غوالي اللئالئ ١ : ٣٧ / ٢٦ ، الوسائل ١ : ٥٠ ، أبواب مقدمة العبادات ، ب ٦ ، ح ٣.

٣٩٢

وثانياً : أنّا لم نذكر من كلام أهل المعاني والبيان إلّا كلام التفتازاني في شرحي ( التلخيص ) ، وأمّا الباقون ممن صرّح باسم الوصليّة ، فكلامهم ظاهر في أنّ تسميتها بذلك غير مختصّ بالصناعة البيانيّة ، بل بالنظر إلى ورودها في علم النحو والعربيّة. ألا ترى أنّ السيّد عبد الله بن السيّد نور الدين أنّما سمّاها بذلك في إعراب قوله عليه‌السلام : « اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة » (١).

وهو في تلك الحال ناظر إلى اصطلاح النحاة المعربين ، فهو حينئذٍ منهم لا من البيانيّين.

وأمّا الشيخ مرتضى (٢) أيّده الله وأمدّه بالرضا فقد سمّاها بذلك في البحث عن تلك المسألة الفقهيّة من غير تخصيص لها باصطلاح أهل الصناعة البيانيّة ، فلازم ذلك أنّها كذلك عند أهل الصناعة النحويّة.

وثالثاً : أنّ بعضاً من الثقات قد شهدوا بأنّ تسميتها بذلك من اصطلاحات النحاة ، قال المحقّق القمّي في القوانين بعد أنْ نقل معنى الشرط عن اللغويّين ما هذا لفظه بحقّ اليقين : ( واستعمله النحاة في ما تلا حرف الشرط مطلقاً ، أومأ علّق عليه جملةٌ وجوداً ، يعني : حكم بحصول مضمونها عند حصوله ، وقد يستعمل في العلّة. وفي مصطلح الأُصوليّين : ما يستلزم انتفاؤه انتفاء المشروط به ، ولا يستلزم وجوده وجود المشروط ، فمن مصاديق الاستعمال الأوّل وعنى به مصطلح اللغويّين النذر والعهد ونحوهما ، والشرط في ضمن العقد مثاله : ( أنكحتك ابنتي وشرطت عليك أنْ لا تخرجها من البلد ). ومن مصاديق الثاني وعنى به مصطلح النحويين ـ : ( ما عملت من خير تجز به وإنْ كان مثقال ذرّة ) ، وقد تسمّيه النحاة ( إنْ ) الوصليّة ) (٣). انتهى كلامه ، علت في الخلدِ أقدامه.

وهو صريحٌ في المطلوب غاية ، بل نصٌّ فيه نهاية.

وقال الفاضل الذكي السيّد إبراهيم القزويني في ( نتائج الأفكار ) بعد أنْ عرّف

__________________

(١) غوالي اللئالئ ١ : ٣٦٧ / ٦٥ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٨٣ / ٦٨.

(٢) المكاسب ١ : ٢٤٤.

(٣) القوانين : ٨٣ ـ ٨٤.

٣٩٣

الشرط في مصطلح اللغويّين والأُصوليّين والعرف العام ما لفظه : ( وفي عرف النحاة يطلق على ما تلا حرف الشرط في الجملة ، لكن في مثل ما تلا ( إنْ ) الوصليّة ، وفي ما لم يكن سبباً بل ملزوماً ، مثل : ( إنْ كان هذا إنساناً كان حيواناً ) ، وجهان ) انتهى كلامه ، زيد إكرامُه.

وهو ظاهر في المراد ظهور الشمس في ساعة الرادّ ، ألا تراه كيف صرّح بأنّ الشرط عندهم ما تلا حرف الشرط في الجملة ، فيدخل فيه الوصليّة ، كما هو صريح إطلاق القمّي في ( القوانين ) (١) ؛ لأنّ أصل الوصليّة هي الشرطيّة ، وانسلاخُها عنه لعارض لا يخرجها عن تلك المزيّة.

وأمّا السيّد القزوينيّ فإنّما أجاز الوجهين ؛ نظراً إلى أصل الشرطيّة ، وإلى ما سيقت له من معنى الوصليّة.

ورابعاً : أنّ عدم وقوفنا عليه في ما لدينا من كتب النحو بالخصوص لا يدلّ على عدم وجوده في غيرها من المطوّلات ؛ إذ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود بشي‌ء من الدلالات. هذا مع ما شهد لنا به ذوا عدل من أُولي الإيمان ، وقد أمر الله بالحكم بشهادتهما في محكم القرآن (٢) ، ولا يخفى أنّ صريح كلامهما نصٌّ في حصول الإجماع ؛ لأنّ النحاة جمعٌ محلّى باللّام ، فيفيد العموم بلا نزاع.

وأمّا قوله : وأمّا كون الواو بمعنى الحال في ( وإنْ أكرمني ) فلم يثبت ، حيث إنّ استدلاله حرسه الله تعالى لم يكن إلّا في واو ( وإن ) وواو ( ولو ) ، وكلاهما من بابٍ واحد ، وهو عين المسئول عنه.

ففيه : أنّ هذا الكلام ينقض بعضُهُ بعضاً ، فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه حلّاً ونقضاً ، فإنّه إذا اعترف بأنّ المسئول عنه الواو في مثل ( وإنْ ) ( ولو ) ، وحصل الجواب عنه بوجوه ، منها الحالية. فلا وجه للاعتراض ولا مزيّة إلّا ممّن ليس له حظٌّ من الفطنة

__________________

(١) القوانين : ٨٣ ٨٤.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : .. ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) ، الطّلاق : ٢.

٣٩٤

والرويّة ، أو مَنْ تمسّك بأسباب التعنّت والعصبيّة. ونحن نجلّ السائل سلّمه الله عن تلك الخلال الرديّة.

وأما قوله : فإنْ حصل الدليل من غيرهما ، مثل : ( جاء زيد وهو راكبٌ ) أو ( ركب زيدٌ وهو مريض ) فذاك ، وإلّا فلا.

ففيه : أنّه لا ريب ولا إشكال في أنّ الواو في مثل ذينك التركيبين واو الحال ، فإنْ كان تسليم الحاليّة في ذلك المثال موقوفاً على الحاليّة في هذين فقد زال الإشكال بلا مين.

وأمّا قوله : ودعوى أنّ واو الحال لا يكون مدخولها إلّا ثابت الوقوع إلى قوله ـ : باق على حاله.

ففيه ، أوّلاً : أنّه غير مستقيم المعنى بسبب اختلالٍ في المبنى ، والظاهر أنّ مراده أنْ يقول : لا يكون مدخولها إلّا ثابت الوقوع بظاهر اللفظ في الكلام الموجب ، ومنفي الوقوع في الكلام المنفيّ ، فأسقط المضاف سهواً.

فيقال له : إذا كان مرادكم بالقطعيّة التي اعترضتم بها على الحاليّة هذا المعنى فهذا ممّا لا نزاع فيه ، ولم نخرج عن مقتضاه ، بل كان حاصلاً على أتمّ وجه وأجلاه ؛ لأنّا إذا قطعنا النظر عن الشرط المحذوف وجعلنا ( إنْ ) بمعنى ( قد ) التحقيقيّة على الاحتمال المرجوح ، فلا إشكال في تحقّق القطعيّة ، وكذا على الحكم على ( إنْ ) بالوصليّة ، كما حقّقناه في الجواب على وجه يقشع سحائب الارتياب.

وأين هذا المعنى الذي ذكره هنا من الدعوى التي ادّعاها هناك؟! ولكنّه لمّا ضاق به العَطَنُ (١) عن إثبات تلك الدعوى عدل إلى هذا المعنى ، وهو غير خالٍ من الحُسن والحسنى.

وثانياً : أنّ القطعيّة بهذا المعنى ، أي كون اللفظ ثابت الوقوع في الكلام الموجب

__________________

(١) عَطَنُ الإبل : موضعها الذي تتنحَّى إليه إذا شربت الشربة الاولى فَتَبْركُ فيه ، ثم يُملأ الحوض لها ثانياً فتعود من ( عَطَنِهَا ) إلى الحوض فَتَعُلُّ أي تشربُ الشربة الثانية. المصباح المنير : ٤١٧ العَطَنُ.

٣٩٥

ومنفية في المنفيّ ، لا اختصاص لها بمدخول الواو الحاليّة ، بل هو حاصل في كلِّ قضيّةٍ خلت من حرف السلب أو قرنت به ، كما لا يخفى على مَنْ له أدنى ممارسة للعلوم الأدبيّة.

وأمّا قوله سلّمه الله تعالى ـ : وأمّا إعجابه حفظه الله تعالى من عدم صحّة نسبة الظنّ له سبحانه إلى قوله ـ : فهو العجب وأعجب.

ففيه ، أوّلاً : أنّه لا داعي للعجب فضلاً عن الأعجبيّة ؛ لظهور السبب ، فإنّ العجب انفعال نفسانيٌّ يعرض للنفس عند ظهور شي‌ءٍ خفيّ سببه ، ولهذا قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب.

وغاية ما قلناه : إنّ عدم صحّة معنى الظنّ في ( هب ) ليس لما ذكره السائل من رجوع الظنّ بالآخرة إلى التردّد ؛ لأنّ احتمال النقيض لا يخرج الظنّ من حيثُ هو عن قاعدته الكلّيّة المقرّرة من رجحان أحد طرفي النسبة إلى قاعدة الشكّ التي هي التردّد الخالي عن الرجحان ، إذْ عدم التردّد مأخوذٌ في حقيقة الظنّ ، كما أنّ التردّد مأخوذ في حقيقة الشكّ في العرف ؛ ولهذا منع البعض من مقوليّة الشكّ بالتشكيك على التساوي والرجحان ، كما بيّناه في الجواب بما لا مزيد عليه ، بل لما ذكرناه من توقّف الوصف والتسمية به على الورود عن الشارع ، وليس فليس ، ولا عجب فيه لظهور السبب.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّه لا تناقض بين ذكر معنى الظنّ أوّلاً ثمّ نفيه ثانياً لعدم شرطه ، إذ التناقض لا يكون إلّا باجتماع الوحدات الثمان التي قرّرها علماء علم الميزان (١) ، ولا يخفى عدم حصول شي‌ء منها هنا على اولي الأذهان ؛ لأنّ ذكر معنى الظنّ بالنظر إلى اللغة ونفيه بالنظر إلى الشرع ، فلم تتّحد الجهة والمكان.

وأمّا قوله : على أنّ احتمال عدم التسمية له بذلك من حيث معنى الشكّ والتردّد الحاصل في الظنّ ، قويٌّ وظاهرٌ.

__________________

(١) حاشية ملّا عبد الله : ١٢٨.

٣٩٦

ففيه : أنّا لو أجزنا معنى الظنّ في ( هب ) لوروده في الشرع لجعلناه بمعنى العلم اليقيني المانع من النقيض الذي لا شكّ فيه ولا تردّد أصلاً ، فيشرق فجر الحال ويزول غَيْهَبُ الإشكال.

وأمّا قوله : وعلى أنّ الظنّ وإنْ استعمل في القطع واليقين أحياناً فلا بدّ من القرينة .. إلى آخره.

ففيه : أنّ القرينة كما قامت في تلك المواطن قامت هنا بطريق أوْلى ، لما لا يخفى على ذي ذكى.

وأمّا قوله أدام الله مجده وأقام سعده ـ : وأمّا جموده سلّمه الله تعالى ، وأعلى مقامه ، وأسبغ عليه وافر إكرامه على جواز نسبة الاشتقاق لاسمه تعالى الأكبر ، فلم يجر من السائل فيه كلام حتى يلزم معه فيه النقض والإبرام.

ففيه : أوّلاً : أنّا لم نتعرّض للاسم الأكبر ؛ لكونه غير مذكور في الفقرة المسئول عنها ، وإنّما ذكرنا اشتقاقات لفظ ( إله ) وهو في الفقرة المذكورة ، فاستدعى المقام أنْ نشرحها بما يزيل عنها الإبهام ، والظاهر أنّ السائل قد غفل عن أصل السؤال فقال هذا القال ، على أنّ كلمة ( إله ) وإنْ لم يسأل عنها بخصوصها لكنّها داخلة في المسئول عنه ؛ لتوقّف تمام الإعراب عليها وعلى ما بعدها من الألفاظ الشريفة ، والشي‌ء بالشي‌ء يذكر.

وأرى نفسي تنازعني في نقل كلامٍ للصفدي في ( شرح اللّاميّة الطغرائيّة ) ، يليق ذكره في هذا المقام وإنْ أفضى إلى التطويل ، قال في جملة كلام طويل : ( فمهما استطرد الكلام إليه وفيت حقّه ، ومهما تعلّق به ملكته رقّه.

طوراً يَمَانٍ إذا لاقيتُ ذا يَمَنٍ

وإن لَقِيتُ مَعَدِّيّاً فعدناني

فقد يتسلسل الاستطراد والقلم معه ، ويتشعب الكلام فلا أدعه يجد دعة فاترك كثيراً ممّا طلب ، وأتطلَّب ما يحقّ له الفرار والهرب.

ولا بدع فالمعاني بعضها ببعض مشتبك ، والمباحث نافرها لا يزال في شرك

٣٩٧

الذهن يرتبك. ومَنْ وقف على كتاب ( الحيوان ) للجاحظ ، وغالب تصانيفه ورأى تلك الاستطرادات التي يستطردها ، والانتقالات التي ينتقل إليها ، والجمل التي يعترض بها في غضون كلامه ، ويدرجها في أثناء عباراته بأدنى ملابسة وأيسر مشابهة ، علم ما يلزم الأديب وما يتعيّن عليه من مشاركة المعارف ، هكذا هكذا ، وإلّا فلا ) (١). انتهى ما أردنا نقله منه ، وهو قويّ متين ، بل درّ ثمين.

وثانياً : أنّا لم نتعرّض للسائل بنقض ولا إبرام ، وإنّما قصارى الأمر ذكر اشتقاقات لفظ ( الإله ) ومعناه ، وهذا لا بأس به ولا نكر فيه بين أحدٍ من اولي الأفهام لما مرّ عليك في الكلام.

وأمّا قوله : على أنّ الاشتقاق لهذا الاسم الجليل بالكلّيّة غير ثابت عندنا ولا مرضيّ لدينا ، بل إنّه علم جامدٌ وإنْ زيّف فيه الكلام المخالفُ المعاند.

ففيه : أنّ الاشتقاق إنْ كان غير ثابت عنده فهو ثابت ومرضيٌّ عند الإمام الصادق والكتاب الناطق وبحر العلم الدافق ، وقوله أوْلى بالاتّباع عند الموافق والمنافق ؛ لأنّه من أهل الذكر المنصوص في الذكر عليهم ، والمأمور بسؤالهم وعند التنازع إليهم.

روى ثقةُ الإسلام ، وعلمُ الأعلام محمّد بن يعقوب الكليني في موضعين من جامعه ( الكافي ) ، والمنهل العذب الصافي ، في الحسن ، بل الصحيح على الصحيح ، عن هشام بن الحكم ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها : الله ممّا هو مشتقّ؟ فقال لي : « يا هشام ، اللهُ مشتقٌّ من إله ، والإله يقتضي مألوهاً » (٢). إلى آخر كلامه عليه أفضل صلاة الله وسلامه.

وهو نصٌّ صريحٌ في الباب لا يجسر على مخالفته أحدٌ من اولي الألباب ، بل دلّ أيضاً على أنّ الاشتقاق هو المعروفُ بين أصحاب الأئمّة الأطياب ، ولهذا لم يسأل عن نفس الاشتقاق ؛ لكونه معلوماً بلا شقاق ، وإنّما سأل عمّا منه الاشتقاق ، كما هو

__________________

(١) الغيث المسجم في شرح لامية العجم ١ : ١١ ـ ١٢.

(٢) الكافي ١ : ١١٤ / ٢.

٣٩٨

صريح السياق ، وإنّما سأل عنه هشام الذي هو من الأجلّة العظام لمّا رأى فيه كثرة اختلاف الأوهام ، فأراد بيان الصواب من الإمام عليه‌السلام.

وقال الإمام العسكري عليه‌السلام في تفسيره المشهور بين علماء الإسلام : « الله هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلُّ مخلوق ، وعند انقطاع الرجاء من كلِّ مَنْ دونه ، وتقطّع الأسباب من جميع مَنْ سواه » (١). ثمّ روى مثل هذا الحديث بعده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

والتقريب : أنّ هذين الإمامين عليهما‌السلام بعدد تعاقب الجديدين ، قد فسّرا هذا الاسم الكريم بالذي يتألّه إليه المشتقّ من قولهم : ( تألّهت إلى فلان ) إذا تضرّعتُ إليه ، كما مرّ في الجواب الاستشهاد عليه ؛ للمناسبة الظاهرة بين هذين اللفظين. وهذا هو معنى الاشتقاق بلا مين.

فإنْ قيل : إنّ الاشتقاق المبحوث عنه سابقاً هو اشتقاق لفظ ( إله ) ، والقائل بأنّ لفظ ( الله ) علم من أصله لا يسلّم أنّ أصله ( ألِه ) ، فحذفت الهمزة وعوّض عنها حرف التعريف ، بل يدّعى أنّه وضع بهذه الهيئة والمادّة للذات المقدّسة البحت الباتّ.

قلنا : إنّ المشاركة والمناسبة في المعنى والتركيب حاصلةٌ بين لفظ الله وبين تلك الأُصول المذكورة بأسرها وإنْ تفاوتت ظهوراً وخفاءً وقوّة وضعفاً ، ولازم ذلك هو اشتقاقه من بعضها كما في سائر المشتقّات ، كما صرّح به غير واحد من علمائنا الثقات.

وليت شعري كيف عدل عن التمسّك بما ورد عن المعصومين الهداة ، سادات القادات ، وقادات السادات ، واشتهر بين أصحابهم السراة ، وعوّل على قول شاذٍّ نادرٍ لبعض البريّات ، مع أنّهم عليهم‌السلام هُمُ المؤسّسون لتلك العلوم ، والمؤصّلون لتلك الرسوم ، والموصلون لمرادات الحيّ القيّوم ، والمفصّلون لأحكام ما أُجمل من تلك الرقوم.

ولو لا ما أوعز لنا من كراهة الإطناب لأوردنا جميع ما تمسّك به النافي للاشتقاق ،

__________________

(١) التفسير المنسوب للإمام العسكري : ٢١ / ٥.

(٢) التفسير المنسوب للإمام العسكري : ٢٧ / ٩.

٣٩٩

وجعلناه كالسراب ، ولكن فيما ذكرناه كفاية لُاولي الألباب ، والمنصف تكفيه الإشارة ، والمتعنّت لا ينتفع ولو بألف عبارة.

بقي الكلام في بيان قول الصادق عليه‌السلام : « الله مشتقّ من إله » (١).

فأقول مجملاً : يجوز أنْ يجعل ( إله ) اسماً على فِعال بمعنى : مفعول ( مألوه ) ، وأنْ يجعل فعلاً ماضياً كضرب وتعب بمعنى : عبد ، وأنْ يجعل مصدراً على ( فَعْل ) بإسكان العين. فعلى الوجه الأوّل يكون ما بعده والإله على وزن فعال ، ويكون معناه ما ذكرناه في الجواب من أنّ إطلاق هذا الاسم واستعماله بين الأنام يقتضي أنْ يكون في الوجود ذات معبود يطلق عليه هذا الاسم. وعلى الوجهين الأخيرين يكون على ( فَعْل ) بسكون العين ، ومعناه أنّ العبادة تقتضي وجود معبود في حيّز الوجود ؛ إذ لا يكفي مجرّد إطلاق الاسم من دون أنْ يكون له مسمّى ، فإنّ الاسم غير المسمّى. والله العالم العاصم.

فيا أيّها العالمُ الجليلُ والعَلَم النبيل والخائض في بحار التحصيل ، لا تنظر إلى مَنْ قال وانظر إلى ما قيل ، وتمسّك بذيل الإنصاف يظهر لك الحقّ بالتفصيل ، وتعرف القول الحقيق بالتفضيل ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

حرّره فقيرُ ربّه المنّان أحمد بن صالح بن طعّان ، عامله الله بالعفو والإحسان ، وقد استتمّ تحريرُ هذه الرسوم ، واستتبّ تحبير هذه الرقوم بالليلة الثالثة والعشرين من شهر شعبان من السنة الثامنة والسبعين بعد المائتين والألف ، من هجرة المصطفى علّة الإمكان والأكوان ، صلى‌الله‌عليه‌وآله الأعيان ، وأصحابه الممدوحين في القرآن ، والتابعين لهم بإحسان ، واستغفر الله من السهو والغلط والنسيان ، وزلّات القلم والجَنان واللسان ؛ فإنّه ذو الفضلِ والطولِ والامتنان.

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٤ / ٢.

٤٠٠