الرسائل الأحمديّة - ج ٣

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

الأحكام بأنّها مذهب الإمام وإنْ وجد المخالف إذا كثرت القرائن على ثبوته من قوّة الدليل وكثرة القائلين واستغراب خلافه وغير ذلك.

وقد تخصّ حجّيّته بمَنْ حصّله خاصّة لا مَنْ نقله أو نُقل إليه ؛ لحصول الدليل للمحصِّل على دخول قول المعصوم ، بخلاف الناقل فإنّه لو حصل له سمّي محصّلاً لا ناقلاً.

تنبيه :

قال المحقّق الشيخ حسن في ( المعالم ) : ( الحقّ امتناع الاطّلاع عادة على حصول الإجماع وفي نسخة : الحقّ امتناع العلم بكون المسألة إجماعيّة (١) في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل عن الأزمنة السابقة على ذلك ، إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام ، كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم ، ويكون قوله مستوراً بين أقوالهم ، وهذا ممّا يقطع بانتفائه.

فكلُّ إجماع يدّعى في كلام الأصحاب ، ممّا يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا هذا ، وليس مستنداً إلى نقل متواتر أو آحاد حيث تعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم ، فلا بدّ أنْ يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة ).

ثمّ نقل كلام الفخر الرازي مستحسناً له مستشهداً به معبِّراً عنه ببعض علماء أهل الخلاف ، حيث قال : ( وإلى هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف ، حيث قال : الإنصاف أنّه لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع إلّا في زمن الصحابة (٢) إلى أنْ قال : واعترضه العلّامة بأنّا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزماً قطعيّاً ، ونعلم اتّفاق الأُمّة عليها علماً وجدانيّاً حصل بالتسامع وتظافر الأخبار عليه ).

ثمّ ردّ كلام العلّامة أعلى الله مقامه ، فقال : ( وأنت بعد الإحاطة بما قررناه يعني به قوله : الحقّ امتناع الاطّلاع .. إلى آخره خبيرٌ بوجه اندفاع هذا الاعتراض عن ذلك القائل ؛ لأنّ ظاهر كلامه أنّ الوقوف على الإجماع والعلم به من غير جهة النقل غير

__________________

(١) عنه في القوانين : ١٨٣.

(٢) التفسير الكبير ٤ : ٩٠. بالمعنى.

٢٠١

ممكن عادة لا مطلقاً ، وكلام العلّامة أنّما يدلّ على حصول العلم به من طريق النقل ، كما يصرّح به قوله أخيراً : علماً وجدانيّاً حصل بالتسامع وتظافر الأخبار عليه ) (١). انتهى كلامه ، عَلَتْ في الفردوس أقدامه.

وهذا الكلام هو آخر العبارة المعنيّة في السؤال التي مفادها قبوله الإجماع فيما إذا كان في زمن الشيخ.

وأمّا العبارة التي قال السائل : ( إنّ مفادها إبطاله رأساً ) فلم أقف عليها ، والظاهر أنّها قوله : ( وقد وقع الخلاف بيننا وبين مَنْ وافقنا على الحجّيّة من أهل الخلاف في مدركها ، فإنّهم لفّقوا لذلك وجوهاً من العقل والنقل لا تجدي طائلاً حتى قال : ونحن لمّا ثبت عندنا بالأدلّة العقليّة والنقليّة كما حقّق مستقصًى في كتب أصحابنا الكلاميّة من أنّ زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ للشرع يجب الرجوع إلى قوله.

فمتى أجمعت الأُمّة على قول كان داخلاً في جملتها ؛ لأنّه سيّدها ، والخطأ مأمونٌ على قوله ، فيكون ذلك الإجماع حجّة. فحجّيّة الإجماع في الحقيقة عندنا أنّما هي باعتبار كشفه عن قول المعصوم ) (٢).

ثمّ نقل كلام ( المعتبر ) مستشهداً به ، وهو إناطة الحجّيّة بكشفه عن قول المعصوم ، لا لأجل الإجماع.

وأيّ دلالة أفادت إبطاله رأساً؟ وإنّما نفى حجّيّته من حيث هو ردّاً على العامّة ، وكلّ علمائنا قائلون به ؛ لأنّ الحجّيّة عندنا منوطة بكشفه عن قول المعصوم.

وبالجملة ، فإنّي لم أقف على عبارة في ( المعالم ) تفيد إبطاله لكنّه قال : ( والحقّ إمكان وقوعه والعلم به وحجّيّته ) (٣). إلّا إنّ قوله أخيراً : ( الحقّ امتناع الاطّلاع ) (٤) .. إلى آخره ، يقيّد إمكان العلم به بزمن مشايخ الغيبة الصغرى ، وآخرهم الشيخ.

__________________

(١) معالم الأُصول : ٢٤٣.

(٢) معالم الأُصول : ٢٤٠.

(٣) معالم الأُصول : ٢٣٩.

(٤) معالم الأُصول : ٢٤٢.

٢٠٢

ثمّ نرجع لكلام الشيخ حسن والرازي فنقول : قوله : ( الحقّ امتناع الاطّلاع ) .. إلى آخره ، ليس في محلّه من وجوه :

الأوّل : أنّه مصادرة على المطلوب ، فإنّ هذا الدليل هو المدّعى.

الثاني : أنّه أنّما يتمشّى على قول العامّة من الإحاطة بقول الكلِّ ، ونحن معاشر الإماميّة أنّما نريد به ما يكشف عن قول المعصوم ، لا كلّ ذي قول.

الثالث : أنّه يحصل العلم بإجماع جميع الشيعة من تتبّع كلماتهم وملاحظة كتبهم وعباراتهم من زمن حضور الإمام إلى هذا العام ، وهو عام السبعين بعد المائتين والألف ؛ لقضاء العادة بأنّ المتصدّين لنقل الأقوال كثير حتى أقوال سائر الفرق بين الأُمّة ، فإذا لم نطّلع على قول العالم الفلاني بالنقل من كتابه اطّلعنا عليه بالنقل عنه.

الرابع : حصول اليقين لنا ببعض المسائل مع وجود الخلاف في مقابلها ، وليس إلّا لحصول الإجماع الكاشف ، بل قيل : ولا يضرّه وجود المخالف وإن كان مجهول النسب ؛ لأنّ ذلك أنّما يضرّ بما يتوقّف حصول اليقين منه على انتفاء مجهول النسب لعدم تحقّقه إلّا بالانتفاء ، وليس ذلك دائماً ، كذا قيل.

وقد أورد بعض المحشّين على قوله : ( الحقّ امتناع إلى قوله : في زماننا ) : ( إنّ قوله : ( في زماننا ) ، إنْ كان ظرفاً للحصول (١) ، أي : يمتنع الاطّلاع على الإجماع الحاصل في زماننا وما شابهه من الأزمنة من غير جهة النقل ، إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام ) (٢).

فدليله لو تمّ لدلّ على عدم حصول العلم به من جهة النقل أيضاً ؛ إذ النقل لا بدّ من انتهائه إلى مبدإ الاطّلاع حتى يحصل ابتداء ، وإذا دلّ على امتناع الاطّلاع ابتداء عُلم عدم صحّة النقل.

وإنْ جعل ظرفاً للاطّلاع ، أي : يمتنع عادة الاطّلاع في زماننا وما شابهه على

__________________

(١) في المصدر : ( ظرف لحصول ) ، بدل : ( إنْ كان ظرفاً للحصول ).

(٢) معالم الأُصول ( تعليقة سلطان العلماء ) : ٢٤٢.

٢٠٣

الإجماع مطلقاً ، حتى على الإجماع الحاصل في عصر الصحابة والتابعين إلّا من جهة النقل ، فلا يخفى ما فيه ؛ إذ بالنظر إلى الإجماع الحاصل في عصر الصحابة وأمثاله لا فائدة في هذا الكلام ، إذ ظاهره أنّ في زماننا لا يمكن الاطّلاع على ما في العصر السابق بألف سنة مثلاً إلّا بالنقل ، ولا يرتبط إليه الدليل الذي ذكره. وأمّا بالنظر إلى الإجماع الحاصل في زماننا فقد عرفت أنّه لا يستقيم استثناء النقل.

[ .. (١) ].

وقوله : ( فكلّ إجماع يدّعى ) (٢) .. إلى آخره ، كما مرّ أيضاً :

أمّا أوّلاً ، فإنّ نسبة هؤلاء الأفاضل إلى إرادتهم في الإجماع الكاشف عن رأي إمامهم ورئيسهم مجرّد الشهرة المحضة ممّا لا ينبغي نسبته إلى مَنْ هو دونهم بمراتب ، فكيف هم وهم نوّاب الأئمّة وأُمناء الأُمّة ، وحجج الله على الخلائق بعد أهل العصمة؟!.

نعم ، لا نمنع عنهم تطرّق الغفلة واشتباه الدليل عليهم ، وهذا لا يوجب بطلانه في كلّ حال.

وأمّا ثانياً ، فإنّه أنّما تجوّز في تسمية المشهور إجماعاً المتأخّرون جمعاً لاختلاف الإجماع ، وأمّا المتقدّمون فلا يطلقون الإجماع على غير الإجماع.

وقول الرازي : ( الإنصاف ) (٣) .. إلى آخره ، خطأٌ محضٌ وكذبٌ بحتٌ ، بل الإنصاف لو كان يسمع أو يعقل ، أنّ ما يجزم به من أحكامِ مذهبه بأنّه من حكم إمامه لا يشكّ فيه ، مع أنّه لم يحط بقول جميع مَنْ يعتبر قوله من أهل مذهبه ، لتفرّقهم في الأمصار وانتشارهم في الأقطار مع تأخّره عن الصحابة والتابعين ، بل تابعيّ التابعين ، وما ذاك إلّا أثر الإجماع ، وإنّما لم يحسّ به لجموده على عدم حصوله ممّا تأخّر عن زمن الصحابة إلّا من جهة النقل ، بناءً على طريقته.

__________________

(١) توجد في المخطوط كلمات غير مقروءة.

(٢) معالم الأُصول : ٢٤٢.

(٣) عنه في معالم الأُصول : ٢٤٢ ٢٤٣.

٢٠٤

ونحن نقرّه عليه ؛ لأنّه إذا اعتبر فيه الإحاطة بأقوال كلّ مجتهدي العصر لا يكاد يحصل لانتشارهم وتبدّدهم ، مع أنّ مبنى دينهم على الرأي والقياس والاستحسان. فعلى هذا يستحيل اتّفاقهم على قول ، إذ رأي كلّ واحد واستحسانه غير رأي الآخر واستحسانه ؛ ولهذا اعترضه العلّامة أعلى الله مقامه وجرّد عليه حسامه : ( بأنّا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزماً قطعيّاً ) (١) .. إلى آخره.

وقول الشيخ حسن قدس‌سره : ـ ( إنّ ظاهر كلامه يعني : الرازي أنّ الوقوف على الإجماع والعلم به ابتداء من غير جهة النقل غير ممكن عادة لا مطلقاً ، وكلام العلّامة إنّما يدلّ على حصول العلم به من طريق النقل كما يصرّح به قوله أخيراً : علماً وجدانيّاً حصل بالتسامع وتظافر الأخبار عليه ) (٢) خلاف مراد العلّامة والرازي.

أمّا كونه خلاف مراد العلّامة ، فلأنّه لا يريد صحّة حصوله من طريق النقل ، إذ ليس في ذلك إشكالٌ على الرازي ليعترض عليه العلّامة بإثباته ، أو أنّ العلّامة مع ما هو عليه من الذكاء وجودة الفهم والمعرفة بأساليب الكلام واصطلاح العلماء ، يعترض على مَنْ يذكر عدم حصول الإجماع من غير جهة النقل بحصوله منها ، وإنّما مراده عدم انحصار العلم بحصول الإجماع في زمن الصحابة ، بل هو حاصلٌ في زماننا هذا بالتسامع والتظافر.

فيعلم أنّ المسألة إجماعيّة من دون أن ينقل بداية أصل الإجماع من الزمن السابق إلى اللاحق ، بمعنى أنّه لا يزال كون حكم المسألة الفلانيّة الوجوب أو الاستحباب يطرق أسماعنا ، وينقل ذلك لنا من العالم والمتعلّم والسامع العاقل ، حتى يكون ذلك شعاراً لنا ، يعرفنا به أهل الخلاف ، ونعرف به مَنْ لم يعرف دينه قبل ذلك ، بحيث يحصل العلم الجازم بأنّ هذا مذهب الإمام عليه‌السلام لتراكم القرائن وتطابقها وبمثلها يحصل الإجماع ، وإيّاها أراد لا النقل كما ظنّ.

وأمّا كونه خلاف مراد الإمام الرازي ؛ فلأنّ ظاهر قوله : ( الإنصاف أنّه لا طريق إلى

__________________

(١) عنه في معالم الأُصول : ٢٤٣.

(٢) معالم الأُصول : ٢٤٣.

٢٠٥

معرفة حصول الإجماع إلّا في زمن الصحابة ) عدم حصول الإجماع فيما بعد زمنهم مطلقاً لا ابتداء ولا من جهة النقل ، فصحّ اعتراض العلّامة عليه ، اللهم إلّا أنْ يقال : إنّه علم من بعض كتبه ذلك.

قال بعض المحشّين على قول الشيخ حسن : ( لأنّ ظاهر كلامه يعني : الرازي أنّ الوقوف ) .. إلى آخره : ( هذا مشعر بأنّ الوقوف على الإجماع الحاصل في زمن الصحابة أيضاً ابتدأ من غير جهة النقل غير ممكن ، والحاصل أنّه يشعر أنّ مناط كلامه أنّ الاطّلاع الابتدائيّ غير ممكن والاطّلاع من جهة النقل ممكن ) (١).

ولا يخفى أنّ ذلك مع أنّه خلاف الظاهر من كلام القائل غير صحيح ؛ لأنّ النقل لا بدّ من انتهائه إلى مبدإ يحصل ابتداء ، فإذا كان العلم الابتدائي غير ممكن مطلقاً لا يتصوّر العلم من جهة النقل أيضاً.

ويظهر من ( القوانين ) أنّ الذي دعا الشيخ حسن على الاعتراض على العلّامة رحمه‌الله هو : ( إفراد الضمير المجرور في كلمة ( عليه ) وقرينة المقام ، ومقابلة الجواب للسؤال يشهد أنّ مرجع الضمير كلّ واحد من فتاوى العلماء والمجتهدين كما لا يخفى ) (٢). وفيه تكلّف لعدم ذكر المرجع ، والله العالم.

فينبغي للمنصف المريد أنْ يخلع قلادة التقليد عن الجِيد وأنْ لا ينظر إلى مَنْ قال وينظر إلى ما قيل ، وأنْ لا يسارع إلى الردّ والاعتراض قبل أنْ يفهم المراد ، فإنّ الجواد يكبو ، والسيف ينبو ، والنار تخبو ، والمعصوم مَنْ عصم الله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

البحث السادس : في الإجماع المركّب.

وهو أنْ ينحصر مذهب علماء العصر في قولين ، بأنْ يكون موضوع المسألة كلّيّاً ، فالحكم فيها ؛ إمّا بالسلب الكلّيّ أو الإيجاب الكلّيّ ، أو السلب في بعض والإيجاب في آخر ، فإذا اختلفوا على قولين من هذه الثلاثة فحكم بعضهم بالإيجاب الكلّيّ وبعضهم إمّا بالسلب الكلّيّ أو الاقتسام ، أي الإيجاب في بعض أفراد الموضوع

__________________

(١) معالم الأُصول ( تعليقة سلطان العلماء ) : ٢٤٣.

(٢) القوانين : ١٨٤.

٢٠٦

والسلب في الآخر ، أو حكم بعض بالسلب الكلّيّ وبعض بالاقتسام ، فلا يجوز إحداث قول ثالث ؛ للجزم بأنّ المعصوم في أحد القولين ، فيكون الحقّ فيه والثاني باطلاً ، فبطلان الثالث بالطريق الأوْلى.

وذكر القولين من باب التمثيل والاكتفاء بأقلّ ما تحقّق فيه المسألة ؛ لأنّ الكلام يجري أيضاً في وقوع الاتّفاق على ثلاثة أقوال مع إحداث رابع ، كما صرّح به محقّق ( المعالم ) (١).

وهذا الحكم متّفق عليه عندنا ، والخلاف بين أهل الخلاف ، فجماعة وافقونا على عدم الجواز مطلقاً ؛ لاتّفاق الأُمّة على عدم التفصيل في مسألة العيب ، والثالث تفصيلٌ مخالف للإجماع فلا يجوز. وأُجيب بالمنع من اتّفاقهم على عدم التفصيل ؛ لأنّ عدم القول بشي‌ء ليس قولاً بنفيه.

وأمّا الإماميّة فاحتجّوا بما تقدّم من أنّ مناط الحجّيّة اشتماله على قول المعصوم ، فإذا اختلفت الأُمّة على قولين كان الإمام مع أحدهما والآخر باطلاً ، فبطلان الثالث بالطريق الأولى.

وجماعة جوّزوا مطلقاً ؛ لأنّ اختلاف الأُمّة على قولين دليل على كون المسألة اجتهاديّة ، فالمجتهد يعمل فيها بما اقتضاه اجتهاده فيجوز إحداث الثالث.

وأُجيب بأنّ الاختلاف أنّما يدلّ على جواز الاجتهاد إذا لم يكن ثمة إجماعٌ مانع ، فإذا اختلفوا على قولين ولم يستقر خلافهم كانت المسألة اجتهاديّة ، فإذا أجمعوا على الثالث لم يبقَ اجتهادٌ.

وفصّل الحاجبي (٢) ومتابعوه بين ما إذا كان الثالث رافعاً لشي‌ء متّفق عليه أو لا ، فلا يجوز على الأوّل ويجوز على الثاني ، ومثّلوا للأوّل بردّ البكر مجّاناً ، وللثاني بفسخ النكاح ببعض العيوب ، قالوا : لأنّه إذا رفع حكماً متّفقاً عليه كان باطلاً ، لمخالفته الإجماع فلا يجوز ، بخلاف ما إذا لم يرفع حكماً متّفقاً عليه ؛ لأنّه والحال هذه لم

__________________

(١) معالم الأُصول ( تعليقة سلطان العلماء ) : ٢٤٥.

(٢) عنه في القوانين : ١٨٨.

٢٠٧

يخالف إجماعاً.

هذا إذا دلّ الدليل على انحصار الحقّ في أحدهما ، فلو لم يكن مع أحدهما دليل قاطعٌ لم يتعيّن اتّباع أحدهما ، بل إذا أدّاه الدليل إلى قول ثالث تعيّن العمل عليه حينئذ ؛ لعدم تحقّق الإجماع المركّب حينئذ ؛ وإلّا لحصل القطع بأحد القولين أو كليهما ، والتماس دليل غيرهما على ذلك ، كما فعله أبو الحسن الشيخ سليمان الماحوزي في المخالف ، فإنّه في رسالته الصلاتية قال بالطهارة مع قوله بالكفر ، وهو مستلزمٌ لخرق الإجماع ؛ لأنّ الأُمّة إمّا على الإسلام والطهارة أو الكفر والنجاسة ، فالقول بالكفر والطهارة خرقٌ للمركّب ، وما ذاك إلّا لعدم وضوح الدليل أو عدم تحقّق الإجماع ، وإلّا فلا يجوز مخالفة الأصحاب والإجماع بسيطاً أو مركّباً إلّا بعد ظهور الدليل القطعي كما هنا على حكمه ، وفقده على خلاف حكمه.

فإنْ قلت : كلام الشهيد الثاني في ( المسالك ) صريحٌ في جواز المخالفة لا مطلقاً ، وهذا يلزم منه خرق الإجماع البسيط والمركّب ، قال فيه عند قول الماتن : ولو أوصى له بأبيه فقبل الوصيّة انعتق عليه إجماعاً ما معناه : الإجماع أنّما يكون حجّة مع تحقّق دخول قول المعصوم في جملة أقوال المجمعين ، ودخول قوله في جملة أقوالهم في هذه المسألة وأمثالها من المسائل النظريّة غير معلوم.

ثمّ نقل كلام المحقّق في أوّل ( المعتبر ) المتقدّم مضمونه مستشهداً به ، ثمّ قال : ( وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخّر لغيره من المتقدّمين في المسائل التي ادّعوا عليها الإجماع إذا قام له الدليل على خلافهم ) (١) .. إلى آخره.

قلنا : إنّما قال هذا في الموضع الذي دلّ الدليل فيه على عدم تحقّق الإجماع المدّعى ولم يدلّ على خلاف حكمه ، وأمّا إذا دلّ الدليل على خلاف حكمه ولم يدلّ على عدم تحقّقه فلا يقول به أحدٌ من الأصحاب ، حتى هو قال في ( المسالك ) أيضاً في قول الماتن : المرأة المطلّقة إذا تزوجها الأجنبي ثمّ طلّقها وتزوّجها الأوّل ،

__________________

(١) مسالك الأفهام ٦ : ٢٩٨ ٢٩٩.

٢٠٨

إنّ ذلك يهدم الطلاق السابق .. إلى آخره. بعد تقرير دليل عدم الهدم وتقويته ـ : ( ولا يخفى عليك قوّة هذا الجانب لضعف مقابله ، إلّا إنّ عمل الأصحاب عليه ، فلا سبيل للخروج عنه ) (١). انتهى.

فانظر كيف منع من المخالفة مع عدم قيام دليل صارف عنه ومانع منه! وقال في حدّ الجوار بعد نقله مذهب المشهور وغيره : ( والرواية دالّة على أربعين للدار ، ولو لا شذوذ هذا القول بين الأصحاب لكان القول به حسناً ) (٢). انتهى.

ألا تراه كيف أطّرح النصّ لمّا ظهر له مخالفة الأصحاب! وكثيراً ما يقول في شرحي ( اللمعة ) (٣) و ( الشرائع ) (٤) : ( ولو لا الإجماع على كذا لكان القول بخلافه متعيّناً ).

ومن أمثلة الإجماع المركّب أنّ قول الشيعة منحصر في استحباب الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة والقول بحرمته ، فالقول بوجوبه خرق للمركّب.

ومنها : أنّ قولهم في عدّة الحامل منحصر في أبعد الأجلين والوضع ، فالقول بالاكتفاء بالأشهر قبل الوضع خرقٌ للمركّب.

ومنها : ردّ البكر الموطوءة بعيب ، فقيل بالردّ مع الأرش ، وقيل بالعدم ، فالقول بردِّها مجّاناً خرق له.

ومنها : فسخ النكاح بالعيوب ، فقيل بعدم الفسخ بشي‌ء منها ، وقيل بالفسخ ، فالقول به ببعض دون بعض خرقٌ له.

ومنها : وجوب الغسل بالوطي دبراً ؛ فمَنْ قال بوجوبه في المرأة قال به في الغلام ، ومَنْ لم يقل لم يقل ، فالقول بوجوبه به في دبر المرأة فقط خرق للمركّب ، وأمثالها كثير لا تخفى على المتتبّع.

البحث السابع : في الإجماع السكوتي.

وهو أنْ يقول بعض علماء العصر بقول ويعرفه الباقون ولم ينكروه ، فإنْ كان بعد

__________________

(١) مسالك الأفهام ٩ : ١٧١.

(٢) مسالك الأفهام ٥ : ٣٤٤.

(٣) الروضة البهية ١ : ٣٠١.

(٤) مسالك الأفهام ٢ : ٤٤٩.

٢٠٩

تقرير المذاهب فليس بحجّة إجماعاً ، وإن كان في أثناء الخلاف فاختلف فيه ، فقيل : ليس إجماعاً ولا حجّة. وقيل : إنّه حجّةٌ لا إجماعٌ. وقيل بالعكس. وقيل : حجّة وإجماعٌ بعد انقراض أهل العصر. وقيل : حجّةٌ وإجماعٌ مطلقاً.

احتجّ الأوّلون بأنّ الإجماع هو الوفاق لا عدم العلم بالخلاف لجواز كون مذهب الساكت التصويب ، وإنّما لم ينكر على ذلك القائل ؛ لأنّ مذهبه كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ ، أو أنّ اجتهاده أدّاهُ إلى التوقّف لتعارض الأدلّة ، أو للتمهّل في النظر ، أو لخوف الفتنة بالإنكار ، أو إنّ عدم الإنكار لظنّ أنّ غيره ينكر عليه. وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.

واحتجّ مَنْ قال بالحجيّة فقط بأنّ الأصل والظاهر خلاف ذلك كلّه ، لما علم من أنّ عادتهم ترك السكوت في موضع الإنكار ، كما قال معاد لعمر حين أمر بجلد الحامل : ( ما جعل الله على ما في بطنها سبيلاً ) (١).

ولأنّ احتمال التصويب والتمهّل والتوقّف وغير ذلك احتمالٌ مرجوحٌ وهو لا يضرّ بالاستدلال إلّا إذا كان راجحاً أو مساوياً.

واحتجّ مَنْ قال : إنّه إجماعٌ فقط ، ومَنْ قال : إنّه إجماعٌ وحجّةٌ ، بوجوه :

منها : أنّ الساكتين لا بدّ أنْ يعتبر فيهم دخول المعصوم كاعتباره في كلّ إجماع عندنا ؛ إذ بدونه لا يكون الإجماع حجّة عندنا سواء كانوا متّفقين أو مختلفين ساكتين أو ناطقين.

ومنها : أنّه لا بدّ من علمه واطّلاعه على الأقوال وبدونهما ليس إجماعاً ، سواء كان سكوتيّاً أو غيره ؛ لأنّهم لا يخفى عليهم شي‌ءٌ من أفعالنا وأقوالنا ؛ لأنّ لهم مع كلّ وليّ اذُناً سامعة وعيناً ناظرة ، فإذا قال القائل بحكم فلا بدّ من اطّلاع الحجّة عليه ؛ لقوله عليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كيما إنْ زاد المؤمنون ردّهم وإنْ نقصوا أتمّه لهم » (٢) ، ولا يجوز سكوته عليه‌السلام في مثل هذه الحال ، ولا كتمان علمه عند ظهور البدعة.

__________________

(١) المغني ( ابن قدامة ) ٨ : ١٧١.

(٢) الكافي ١ : ١٧٨ / ٢.

٢١٠

وأمّا احتمال التصويب فممنوعٌ ؛ لأنّه ليس ممّن يرضى بالتصويب لحكمه بتخطئة المخطئ ، وكذا ما قالوه من احتمال التوقّف والتمهّل وخوف الفتنة بالإنكار ، إذ لا يجوز عليه التوقّف لسعة علمه ؛ لأنّه حجّة الله ولا يكون حجّة حتى يعلم ما يحتاج إليه الرعيّة ممّا كان أو يكون ، ولأنّ التوقّف والتمهّل إنّما ينشأ من تعدّد الأدلّة ودليله واحدٌ ، بل هو حكمٌ عدلٌ وقولٌ فصلٌ ، ولأنّ التمهّل في النظر مرتبة أهل الاستنباط ، وليس عليه‌السلام منهم.

فإنْ قلت : كلامك هذا يخالف ما سبق في المسألة الاولى من تفسير قوله تعالى ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (١) بأهل البيت عليهم‌السلام.

قلت : المراد بالاستنباط هنا هو ما يتوقّف على النظر وترتيب المقدّمات الاصطلاحيّة ، وهم عليهم‌السلام منزَّهون عن ذلك ؛ إذ علمهم لا يحتاج إلى هذا ، إذ هو بتعليم الله ووراثة من جدِّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد باستنباطهم عليهم‌السلام هو مجرّد أخذ الحكم من الكتاب العزيز ، وهو المراد به هناك ، فلا منافاة بين الكلامين بغير شكّ ولا مين.

هذا ، ولا مانع مع وجود المقتضي من الإنكار بنفسه أو بواسطة كتابة أو إلهام وتقرير ، وتقرير المعصوم وقوله وفعله سواء ، إلّا أنْ تثبتوا له عليه‌السلام عدم العلم أو القول بالتصويب أو التوقّف والتمهّل والإخلال بالحسبة ، وهو ممنوعٌ. فإذا لم يحصل الصارف علم أنّه عليه‌السلام قد أقرّهم عليه فصار إجماعاً ، وإذ ثبت كونه إجماعاً وانضمّ المعصوم إليه ثبتت حجّيّته.

لا يقال : من أين نعلم سكوت الباقين أو سكوت الإمام بعينه؟ ولعلّ الإنكار وقع ولم نعثر عليه لتبدّد العلماء وتعدّد الأقطار ، وقلتم : إنّ مجرّد وجود المخالف مبطلٌ له لكونه عدم علم الخلاف لا الوفاق كسائر الإجماعات ، وإذا فرض وجود المخالف جاز كونه الإمام أو واسطته.

فإنْ قلتم : يحتمل بطلان قول القائل ولم يكن قائل بخلافه ، لم يصدق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا

__________________

(١) النساء : ٨٣.

٢١١

تزال طائفةٌ من أُمّتي على الحقّ حتى تقوم الساعة » (١) ، ولا قوله عليه‌السلام : « كيما إنْ زاد المؤمنون ردّهم » (٢).

لأنّه يقال : يعلم ذلك باستفراغ الوسع وكثرة التفتيش ؛ لأنّ مَنْ كان من أهل الاستنباط والاستيضاح إذا بذل جهده واستفرغ وسعه في التفتيش لا بدّ أن يقع على ما يتأدّى به ما يراد منه ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق أو سقوط التكليف ، وأيضاً يعلم سكوت الباقين بما مرّ من عدم جواز إخلال الإمام عليه‌السلام بالواجب ، ولا يجعل عليه‌السلام نائباً عنه ويهمل ما يحتاج إليه مع علمه به وتمكّنه منه.

ولأنّ الطالب المستنبط إذا جلس ومعه كتب العلماء السابقين من شرق الأرض وغربها ، وقد علم أنّهم بحثوا وفتّشوا وتصدّوا لنقل الأقوال والخلاف وألّفوا الكتب المشتملة على خلاف العلماء ، كأنّه مع مصنّفيها ، كلّ منهم يورد عليه ما عثر عليه ، ويحرّر له ممّا صحّ لديه ، فكيف يخفى عليه قول معتبرٌ؟! وبهذا قد ظهر كون السكوتي إجماعاً وحجّة ، والعلم عند الله وأوليائه.

البحث الثامن : ذكروا أنّه يمكن حصول ما هو في صورة الإجماع في صور :

الاولى : أنْ نرى فتوى الصدُوقَين والشيخين والكلينيّ والسيّد وأضرابهم في حكم ولم نَرَ به نصّاً ، فهذا الاتّفاق حجّة ؛ لأنّ اتّفاقهم لا يكون إلّا عن نصّ قاطع ، لما عُلم من طريقهم ، وإلّا لَمَا اتّفقوا على مثله.

الثانية : أنْ يرد الحديث ويتكرّر في الأُصول ولا معارض له فيجب العمل به ؛ لأنّه مجمعٌ على قبوله.

الثالثة : أنْ يرد حديثان ويعمل بأحدهما القدماء دون الثاني ، فيجب العمل به ؛ لأنّ عملهم كاشفٌ عن كون الثاني مورد التقيّة ، وأمّا الأوّل فهو كاشفٌ عن حكم الله الواقعي.

__________________

(١) غوالي اللئلئ ٤ : ٦٢ / ١٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥ / ١٠.

(٢) الكافي ١ : ١٧٨ / ٢.

٢١٢

إلّا إنّ الملّا محسن (١) تنظّر في الصورة الأُولى ، وكأنّ وجه النظر أنّ الاعتماد على مثل هذا يوجب عدم اجتهاد الغير ، بل هو تقليد محضٌ لهم.

وقد يذكر الإجماع ويراد به غير المصطلح كإجماع اللغويّ والعرفيّ والأُصوليّ ، كقولهم : أجمعتْ الشيعة على تصحيح ما يصحّ عن فلان ، وليس كاشفاً عن قول الحجّة ، إلّا إنّه ممّا يعتمد عليه في مقام الترجيح.

هذا ما يسعه الوقت في جواب هذه المسألة ، وإنْ وفّق الكريم المنّان ، وساعد الدهر الخوّان ، عملنا رسالة في هذا العنوان مبسوطة بذكر القيل والقال ، والله الموفّق وإليه المرجع والمآل.

__________________

(١) الأُصول الأصيلة : ١٤٦.

٢١٣

مسألة في الاجتهاد والتقليد

قال أنار الله بهجته ، وصان عن المؤذيات مهجته ـ : ( مسألة : قد كان في الاشتهار كالشمس في رابعة النّهار أنّه لا بدّ من التقليد ولو مطلقاً ، ولا ريب في أنّ كلَّ مجتهد جائزُ الخطأ ، فكيف يجوز تقليد جائز الخطأ سيّما في المسائل العارية من النصوص؟! فلا مناص من توهّم الإغراء بالجهل ).

الجواب وبالله إصابة الصواب ـ : اعلم أنّ الاجتهاد لغةً : هو استفراغ الوسع في فعل شاقّ (١). وهو مطلوب في تحصيل الطاعات وترك المنهيّات ، وتحصيل العلم من الكتاب والسنّة عقلاً ونقلاً ، وبفضله نطق الكتاب والسنّة وصرّحت به علماء الأُمّة ، وهذا ليس في محلّ النزاع.

واصطلاحاً : هو استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ لحكم شرعي ، كما صرّح به العلّامة في ( التهذيب ) وفاقاً للحاجبي (٢) ، وله حدودٌ اخرى ترجع لهذا الحد.

وحدّه البهائي في ( الزبدة ) وتبعه شارحها الجواد (٣) بأنّه : ( ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلاً أو قوّةً قريبة ) (٤).

وهذا الحدّ حسنٌ إنْ أُريد بالملكة النور المقذوف كما في الحديث المعروف ـ

__________________

(١) لسان العرب ٢ : ٣٩٧ جهد.

(٢) عنهما في زبدة الأُصول : ١١٥ ، القوانين : ٣١٧.

(٣) عنه في القوانين : ٣١٨.

(٤) زبدة الأُصول : ١١٥.

٢١٤

وهو المعبّر عنه في حديث ( مصباح الشريعة ) (١) بصفاء السرّ وإخلاص العمل والعلانية ، والبرهان من الربّ ، من باب ذكر السبب وإرادة المسبّب مجازاً ، فإنّ المفهوم منه أنّ هذه الأُمور سببٌ لحصول هذا النور وبالأصل الكتاب والسنة فقط.

والاجتهاد بهذا المعنى هو المتنازع فيه بين الفريقين ، فأثبته المجتهدون ونفاهُ المحدِّثون ، وأوّل مَنْ وضعه بالاتّفاق علماء العامّة كأبي حنيفة وأتباعه ؛ لخلعهم رِبْقَة الانقياد إلى أوامر خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستكبارهم عن الحقّ وحبّاً للرئاسة ، واتّكالاً على النكراء الكاسدة والآراء الفاسدة ، زعموا أنّه فوّض إليهم العمل بالظنون ، وأنْ يقولوا على الله ما لا يعلمون ، وهو يناديهم ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٢) ، ( فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (٣) ، ( فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (٤) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « شرّ الأُمور محدثاتها ، [ وكلّ محدثة بدعة (٥) ] ، وكلّ بدعة ضلالة » (٦).

وأمّا قدماء الأصحاب فحرَّموا الاجتهاد وخلعوا رِبْقَته عن الأجياد (٧) ، وأوجبوا التمسّك أُصولاً وفروعاً بالروايات الواردة عن الأمجاد ، المتضمّنة للقواعد القطعيّة بدل الخيالات الظنّية ، كما صرّح به جملة من المحدِّثين والمجتهدين (٨).

بل قال المحدِّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح : إنّ مَنْ تقدّم على العلّامة إلى زمن الشهيد لا يقولون إلّا بما عليه نصّ ، ثمّ تداعى الحال إلى أنْ خاض معهم بعضٌ منّا لمصلحة رأوها ومماشاة مع مخالفيهم لمنفعة رعوها.

كما نقل عن بعضهم أنّ سبب تدوينهم لتلك القواعد والأُصول أنّما وقع جرياً ومماشاة مع أُولئك الأشرار حيث أزروا عليهم بالعمل بمجرّد الأخبار ، وأَلّا دقّة لهم في الأنظار فدوّنوها لا لاعتمادٍ عليها ، وإنّما عملهم على أخبار الأطهار ، ثمّ سرت

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٦. (٢) المائدة : ٤٧.

(٣) المائدة : ٤٥. (٤) المائدة : ٤٤.

(٥) من المصدر.

(٦) الأمالي ( الطوسي ) : ٣٣٧ / ٦٨٦ ، البحار ٢ : ٣٠١ / ٣١ ، المعجم الكبير ( الطبراني ) ٩ : ٩٨ / ٨٥٢٣.

(٧) الجِيدُ : العُنُق ، والجمع أجْيَاد. الصحاح ٢ : ٤٦٢ باب الدال / فصل الجيم.

(٨) رسالة المحكم والمتشابه ( السيد المرتضى ) : ٩٦.

٢١٥

الشبهة في المتأخّرين فعكفوا عليها غفلة عن أوّل الأمر واصلة وحسن ظنّ بأهله ، أو لعين تلك المصلحة ، فخاضوا معهم في تلك الفضول وعملوا بالقواعد المحدثة والأُصول.

والصواب ما دلّ عليه الكتاب ونادت به أخبار الأطياب وجرى عليه قدماء الأصحاب الأنجاب ، من تحريم القول على الله بغير علم قطعيّ ولا دليل ضروريّ ، وأنّ الاجتهاد المعروف من الأخبار هو الرجوع إلى المعصوم ولو بواسطة أو وسائط ، واستنباط الحكم من محكمات الكتاب وأحاديث الأئمّة الأطياب إنْ كان له قدرة الاستنباط. وأمّا العوام ففرضهم الرجوع إلى رواة الحديث المأمور باتّباعهم أحياءً أو أمواتاً.

وهذا ليس تقليداً ، بل أخذاً عن المعصوم بالواسطة على حدّ قوله تعالى ( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ ) (١) فالقرى المباركة هم الأئمّة ، والقرى الظاهرة علماؤهم ، كما ورد به تفسيرهم عن الباقر والسجّاد والقائم عليهم‌السلام (٢).

والظاهر أنّ هذا معنى ما استفاض من أنّ « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة » (٣) ، وإلّا فلا معنى له على قولهم ؛ لأنّ الكلّيّة صريحة في العينيّة. والحمل على الاستحباب خلاف ظاهر معنى الفريضة ، مع دلالة الأخبار على الوجوب العيني وإنْ كان منه ما يجب طلبه بعد التكليف وجوباً مضيّقاً كالمعارف الخمس وأحكام الطهارة والصلاة ، ومنه ما لا يجب إلّا عند الحاجة كمسائل الزكاة والحجّ والجهاد والمعاملات. وهذا لا يلزم منه حرجٌ ؛ لأنّا لا نريد الاجتهاد المصطلح عليه ، ولعلّ مراد الحلبيّين بوجوب الاجتهاد هذا.

ولهذا قيل : إنّ أصحاب القول المذكور على طريقة الأخباريّين من الرجوع إلى

__________________

(١) سبأ : ١٨.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة ٢ : ٤٨٣ / ٢ ، الاحتجاج ٢ : ١٤٠ / ١٧٨ ، و: ١٨٤ / ٢٠٨.

(٣) الكافي ١ : ٣٠ / ١ ، وليس فيه : « ومسلمة ».

٢١٦

النصّ الخاصّ أو العامّ لا ظنّ المجتهد. ومعلومٌ أنّ القدماء أخباريّون كما صرّح به البهائي في مشرقه (١) ، ونقل عن العلّامة التصريح به.

إلّا إنّهم كما قيل يسمّون الاستدلال بالأخبار وترجيح بعضها على بعضٍ للقرائن التي تظهر لهم في الصحّة وعدمها على الاصطلاح القديم اجتهاداً ، حتى إنّ البهائي رحمه‌الله سلك بجدّ هذا الاصطلاح الذي أغنى في بيان حقّيّته الصباح عن المصباح ، حيث نُقل عنه أنّه عبّر عن الصدوق ببعض المجتهدين مع أنّه رئيس المحدّثين.

وحيث تقرّر معنى الاجتهاد فقد زال غيهب الإشكال واتّضح فجر الحال ، لما تقرّر من أنّ هذا المسمّى بالمجتهد اجتهاداً لغويّاً أنّما ينقل الحكم لذلك المستفتي عن المعصوم عليه‌السلام ، فهو ليس مقلِّداً له ، بل آخذاً بقول المعصوم المنقول إليه من الثقة ، وقد قالوا عليهم‌السلام : « لا يسع أحدٌ من موالينا التشكيكَ فيما يرويه عنّا ثقاتنا ».

كما رواه الكشّيّ عن علي بن محمّد بن قتيبة ، عن أحمد بن إبراهيم المراغيّ ، قال :

ورد توقيع يعني : من المهدي عليه‌السلام على القاسم بن العلاء ، وذكر توقيعاً شريفاً يقول فيه : « فإنّه لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرَّنا ، ونحمِّلهم إيّاه » (٢).

وقعت ألفاظ الحديث منّي ، فرويت الحديث بالمعنى ، ولا بأس به لصحيح محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أسمع الحديث منك ، فأزيد وأنقص ، قال : « إن كنت تريد معانيه فلا بأس » (٣).

وروى الشيخ في ( الغيبة ) عن أبي محمّد الحسن بن علي عليهما‌السلام ، وقد سئل عن كتب ابن فضّال ، فقال عليه‌السلام : « خذوا بما رووا ، ودعوا ما رأوا » (٤).

ومن الواضح البيّن والواجب المبيّن أنّه لا يجوز توهّم الخطأ للإمام ؛ لثبوت

__________________

(١) مشرق الشمسين : ٢٩ ٣٠.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٨١٦ / ١٠٢٠ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

(٣) الكافي ١ : ٥١ / ٢ ، الوسائل ٢٧ : ٨٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٨ ، ح ٩.

(٤) الغيبة : ٣٨٩ / ٣٠٠.

٢١٧

عصمته عليه‌السلام بالدليل التامّ العامّ على الدوام ، وأمّا جواز خطأ الناقل فالأصل عدمه ، وإلّا لم يجب علينا الأخذ بهذه الأخبار بل لم يجز ؛ لجواز خطأ الناقل في النقل ، وهو ممّا يشهد ببطلانه العقل والنقل.

أمّا الأوّل أي العقل فلاستلزامه ؛ إمّا العدول عن هذه الأخبار المعصوميّة ، أو عدم التكليف بالكلّيّة ، أو حصول الإمامة المطلقة المعصوميّة.

وطريق بطلان هذه الشقوق واضحةٌ جليّة ، أمّا الأوّل ؛ فلأنّ العمل بما عن الله ورسوله واجبٌ ، ولا شي‌ء عن الله ورسوله إلّا هذه الأخبار ، ولأنّ الدين قد ختم بشريعة سيّد المرسلين ، وأحكامها منحصرةٌ في أخبار أهل بيته المعصومين عليهم‌السلام ، ولأنّ التكليف بالعلم أو باللاعلم حصرٌ ضروريٌّ لاستحالة ارتفاع النقيضين ، وقد قضت الضرورة بانحصار حصول العلم في هذه الأخبار لتحقّق انتهائها إلى الله ورسوله المختار ، فتعيّن انحصار العمل فيها وعدم وجود غيرها الظنّي لعدم التعبّد به لظنّيّته.

ومع فرض غيرها فالمحذور واقعٌ أيضاً ؛ لعدم المشافهة ، فيلزم التسلسل ، ولما رواه الثقة في ( الكافي ) بسنده إلى يزيد بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال : « تزاوروا ، فإنّ في زيارتكم إحياءً لقلوبكم ، وذكراً لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فإنْ أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإنْ تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها ، وأنا بنجاتكم زعيم » (١) ، وهو نصّ صريح في الباب ، كما لا يخفى على اولي الألباب.

وأمّا الثاني ؛ فلقيام الدليل والبرهان على وجود حجّة الرحمن ، وهو مستلزم لوجود التكليف في هذا الزمان.

وأمّا الثالث ؛ فلانحصار الإمامة المطلقة والعصمة في أهل البيت ، علّة الأكوان وأشرف نوع الإنسان ، عليهم سلام الملك الديّان.

وأمّا الثاني ؛ فللخبرين المتقدّمين مضافاً لما ثبت من أمر الأئمّة عليهم‌السلام باتّباعهم وأخذ

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٨٦ / ٢ ، الوسائل ٢٧ : ٨٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٨ ، ح ٣٨.

٢١٨

معالم الدين منهم والنهي عن الردّ عليهم ، فعن المقبولة عن الصادق عليه‌السلام : « ينظران مَنْ كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخفَّ بحكم الله ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله » (١).

وفي التوقيع المهدويّ : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم » (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام : « إيّاكم أنْ يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه بينكم حكماً ، فإنّي قد جعلته حاكماً ، فتحاكموا إليه » (٣).

وروى الثقة عن أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته مَنْ أُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول مَنْ أقبل؟ فقال : « العمري ثقتي ، فما أدّى إليك فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون ».

وبالإسناد أيضاً عنه ، أنّه سأل أبا محمد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال : « العمري وابنه ثقتان » (٤) .. إلى آخر الحديث بلفظ التثنية.

وروى الكشّي عن يونس بن عمّار ، أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له في حديث : « أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام فلا يجوز لك أن تردّه » (٥).

وعن علي بن المسيّب ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فعمّن آخذ معالم ديني؟ قال : « من زكريا بن آدم القمّي ، المأمون على الدين والدنيا » (٦).

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ / ٥١٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ١.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة ٢ : ٤٨٤ / ٤ ، الاحتجاج ٢ : ٥٤٣ / ٣٤٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٩.

(٣) الفقيه ٣ : ٢ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١ ، ح ٥.

(٤) الكافي ١ : ٣٣٠ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٤.

(٥) رجال الكشّي ١ : ٣٤٦ / ٢١١.

(٦) رجال الكشّي ٢ : ٨٥٨ / ١١١٢ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٢٧.

٢١٩

وعن مسلم بن أبي حيّة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث أنّه قال له : « ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّي حديثاً كثيراً ، فما رواه لك فاروه عنّي » (١). ومثله ورد في محمّد بن مسلم (٢) ويونس بن عبد الرحمن (٣) ، وغيرهما.

قيل : ( وقد تواتر الأمر من الأئمّة عليهم‌السلام بالرجوع إلى جماعة مخصوصين من الثقات ، وبعضهم لم يكن من الاثني عشريّة ، وفي بعض تلك الروايات دلالة على جواز ذلك مع التمكّن من سؤال الإمام عليه‌السلام ). انتهى.

وحينئذٍ ، فلا يجوز لنا توهّم الإغراء بالجهل ؛ لأنّ من صفات الإمام أن يرعى رعيّته كما يرعى الراعي الأغنام ويذودهم عن مراتع الهلاك وموارد الحِمام ، على أنّه لا وجه للاعتراض ؛ لأنّهم لم يأمرونا باتّباع مَنْ يجوز عليه الخطأ ، وهو مَنْ يأخذ بالقياس والاستحسانات والآراء.

ثمّ إنّ ما ذُكر من الجواب عن الإشكال فإنّما يجري على اصطلاح المحدِّثين الأبدال مطلقاً أُصولاً وفروعاً ، ويدخل فيه غيرهم في المسائل المنصوص عليها ، وأمّا على الاصطلاح المتأخّر في معنى الاجتهاد في المسائل والفروع الاجتهاديّة ، فهو إنّما يتمّ على مذهب المصوّبة القائلين بأنّ أحكام الله تابعة لظنّ المجتهد ، وأنّ كلّ مجتهد مصيب ، والأخبار في ردّه كثيرة :

ومنها : المرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام المتضمّن لحال القضاة ، حيث قال عليه‌السلام : « تَرِدُ على أحدهم القضيّةُ في حكم من الأحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثمّ تَرِدُ تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجتمع القضاةُ بذلك عند الإمام الذي استقضاهم ، فيصوِّب آراءهم جميعاً ، وإلهُهُم واحدٌ! ونبيُّهم واحدٌ! وكتابُهم واحدٌ! أفأمَرَهُمُ اللهُ بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهُم عنه فعصوه؟!

__________________

(١) رجال الكشّي ٢ : ٦٢٣ / ٦٠٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٣٠.

(٢) رجال الكشّي ١ : ٣٨٣ / ٢٧٣.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٧٧٩ / ٩١٠ ، و: ٧٨٤ / ٩٣٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٧ ١٤٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٣٣ ، ح ٣٤.

٢٢٠