الرسائل الأحمديّة - ج ٣

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

لا يصدر من العقلاء ؛ لقضاء العقل الصحيح بأنّ الشارع في فعل اختياري لا بدّ أن يعتقد أوّلاً أنّ في ذلك الفعل فائدة ما ، سواء كان جزماً أو ظنّاً راجحاً أو مرجوحاً ، وإلّا لامتنع الشروع فيه ، لأنّ الأفعال الاختيارية لا تصدر عن فاعلها إلّا بعد تصوّر الفائدة المترتّبة عليها.

وما يقال من أنّ كثيراً من الأفعال الاختياريّة قد تصدر بدون ملاحظة الفائدة وتوهّمها كالملاعبة باللحية ، فهو ممنوع ؛ لترتّب بعض الفوائد عليها عند الفاعل وإن لم يعتدّ بها غيره ، لأنّ المدار في الفائدة المعتدّ بها على اعتقاد الفاعل ، سواء اعتدّ بها في نفس الأمر أو لا ، ولا بدّ مع اعتقاد مطلق الفائدة أو الفائدة المعتدّ بها عنده من اعتقاد أنّها هي الفائدة المترتّبة على ذلك الفعل ، وإلّا لربّما زال اعتقاده بعد شروعه فيه ؛ لعدم المناسبة بين معتقده وشروعه ، فيصير سعيه عبثاً في نظره ، بخلاف ما إذا علم الفائدة المعتدّ بها المترتّبة عليه ، فإنّه يرغب فيه تمام الرغبة ، ويجتهد في تحصيله غاية الاجتهاد ، ويعتدّ له نهاية الاعتداد.

وأمّا توقّفه على معرفة مرتبته ؛ فلأنّ لبعض العلوم تقدّماً على بعضٍ باعتبار الأُمور الطارية عليها بعد اشتراكها في القدر الجامع لها ، وهو الشرف من حيث العلميّة ، والاطّلاع على الأُمور الخفيّة ، وذلك قد يكون بحسب الشرف ، وقد يكون بحسب التعليم.

والأوّل يختلف بحسب اختلاف الموضوعات في الشرف ، فإنّ للعلوم باعتبار موضوعاتها ثلاث مراتب : باعتبار كون الموضوع في بعضها أعمّ من موضوع جميع العلوم ، أو أعمّ من بعض وأخصّ من بعض ، أو أخصّ من موضوع الجميع.

فالأوّل أعلى ، والثاني وسط ، والثالث أدنى. وشرفها بحسب مراتبها واختلاف الغايات وشدّة الحاجات وقوّة الدلالات ، كعلم التوحيد بالنسبة إلى علم الفقه ، وكهما بالنسبة إلى غيرهما.

وقد يكون التقديم والتأخير فيه استحسانيّاً.

٨١

إمّا لسهولة العلم وظهور مقدّماته ، فيناسبه تقديمه في التعليم لسهولة تحصيله ؛ ليقوى استعداد المتعلّم للعلوم ويحصل له ملكة في الإدراكات.

وإمّا لكون أدلّته أحكم وأقوى وأبعد عن الخطأ ؛ ليعتاد الطالب بعدم الإذعان إلّا بعد وضوح البرهان وكمال الإيقان ، وذلك كتقديم العلوم الرياضيّة على سائر الفنون الحكميّة.

وإمّا لتقدّم الموضوع والغاية رتبةً ، كتقدّم علم النحو على الصرف ، وهما على علوم البلاغة.

وقد يكون لتوقّف العلم المتأخّر عليه :

إمّا لاشتماله على مبادي غيره ، فيتوقّف المصرّح بمسائله عليه ؛ لاشتماله على إثبات مواد المقدّمات المأخوذة في أقيسة العلم الآخر ، كتقدّم علم الأُصول على الفقه. أو على إثبات الموضوع للآخر ، كتقدّم العلم الإلهي على الطبيعي والرياضي.

وإمّا لاشتماله على كيفيّة النظر والاستدلال ، كتقدّم المنطق على غيره.

وحيث ثبت هذه الترتّبات والتقدّمات وإنْ كانت قد تختلف باختلاف المقامات فلا بدّ للشارع في علمٍ من معرفة مرتبته ؛ ليقدّم ما حقّه التقديم ، ويؤخّر ما حقّه التأخير ، لئلّا يخالف قوانين الحكيم البصير ، ولا ينبّئك مثل خبير.

إذا تقرّر هذا ، فنقول : إنّ لهذا العلم حدّين باعتبار ماله من المعنيين ، ولا ريب أنّ المقصود هنا أنّما هو المعنى الأفرادي العلمي لا التركيبيّ الإضافيّ ، ولكن قد جرى السلف رضوان الله عليهم على بيان تعريفه بكلا المعنيين ؛ إمّا لبيان المناسبة كما هو الحقّ ، أو دعوى الانطباق في المصداق ، كما حاوله جماعة ؛ لصحّة إرادة كلّ منهما ؛ لعدم الهجر عند الإطلاق ، بل ربّما ادُّعي علميّة لفظ الأُصول مضافة إلى الفقه له.

وحيث لا يعرف الإضافيُّ إلّا بمعرفة المتضايفين ، والمعنى النسبيّ بينهما وهو الإضافة ، ضرورة توقّف المركّب من حيث هو مركّب على معرفة أجزائه من حيث

٨٢

التركيب ، بخلاف الأفرادي فلا بدّ من بيان الثلاثة :

فالأُصول : جمع الأصل ، وهو لغةً : أسفل الشي‌ء ، كما في القاموس (١) ، وعن بعض اللّغويّين (٢) : إنّه القاعدة التي لو توهّمت مرتفعة لارتفع الشي‌ء بارتفاعها.

وإليهما يرجع ما ينقله الأُصوليّون عن اللغويّين من أنّه ما يبتني عليه شي‌ء ، أو ما يبتني عليه غيره ؛ لعدم وجود هذا المعنى في ما رأيناه من كتب اللّغة ، ومرادهم بالابتناء ما هو أعمّ من الحسّي والمعنوي ، كأصل الحائط ، وابتناء العلم المتروك على العلم بالترك ، وقد يراد به السابق تارةً باعتبار الذوات ، وأُخرى باعتبار الصفات ، كأصل الإنسان التراب ، وأصل الخزف الطين ، وهذا في الأصل بغدادي أو أسود أو أبيض.

وعرفاً يطلق على الدليل والقاعدة والراجح والاستصحاب. ومقتضى ما مرّ نقله عن اللغويّين كونه لغةً بمعنى القاعدة أيضاً.

وفي كونه مشتركاً لفظياً بين الكلّ ، أو معنويّاً ، أو مجازاً بلا حقيقة ، أو حقيقة في بعض ومجازاً في آخر ، وجوهٌ : أظهرها الأوّل ؛ للتبادر الذي الأصل فيه الوضعيّة لا الإطلاقيّة ، ولعدم صحّة السلب ، الذَّيْن هما أمارة للاشتراك اللفظي ، ولعدم الجامع القريب الذي هو أمارة الاشتراك المعنوي ، وعدم المناسبة المعتبرة الذي هو أمارة الحقيقة والمجاز ، وأغلبية الاشتراك اللفظي على المجاز بلا حقيقة بعد إمكانه ووقوعه.

وفي كونه تعيينيّاً أو تعيّنيّاً وجهان ، أظهرهما الثاني ؛ لأصالة تأخّر الحادث والتعدّد في الوضع ، وهل المراد من الأصل هنا المعنى الأوّل من اللغوي ، أو الأوّل من الاصطلاحي؟ وجهان ، بل قولان :

اختار أوّلهما أكثر المتأخّرين ؛ لعدم شمول الاصطلاحي لجميع مباحث الفن ؛

__________________

(١) القاموس المحيط ٣ : ٤٨١ باب اللام / فصل الهمزة.

(٢) تاج العروس ٧ : ٢٠٧ باب اللام / فصل الصاد.

٨٣

لخروج مباحث الاجتهاد والتقليد والترجيح ، بل عدم انطباقه على شي‌ء من مسائله ، إذ أدلّة الفقه هي عين لموضوعه ، ولا ريب في خروج الموضوع عن نفس ذيه ، ولإفضائه إلى نقل أُصول الفقه وجعله علماً للعلم المخصوص ، بخلاف اللغوي فإنّ معناه ما يبتني عليه الفقه ويستند إليه استناداً قريباً ، فيشمل جميع معلوماته ، ويندفع الإيراد بعدم اختصاص مستند الفقه بمعلوماته كما هو المنساق عند الإطلاق.

نعم ، قيل : يحتاج في إطلاقه على العلم المخصوص إلى حذف مضاف ، وهو شائع ذائع ، فارتكابه أوْلى من النقل الذي هو خلاف أصل الواضع ، وكون ما يستند اليه الفقه أعمّ من التفصيلي والإجمالي ، مع أنّه معلومات هذا الفن.

والثاني مدفوع بأن ما يستند إليه تفاصيل المسائل هو الأدلة إجمالاً ، فقيد الإجمال ملحوظ في ما يستند إليه الفقه وليس هو

إلّا معلومات هذا الفن ، وأخذ التفصيل في الفقه الذي هو ثاني جزئية لا ينافيه ، لأنّ المعتبر أنّما هو الجزء الأوّل ، كذا قيل.

والحقّ أنّ تقدير المضاف لا يتعيّن إلّا على عدم تقدير الغلبة ، أمّا على تقديرها على أن يكون التقييد داخلاً والقيد خارجاً كما هو صريح صاحب ( الوافية ) (١) وظاهر الإطلاقات فلا.

والقولُ بأنّ الغلبة أنّما تكون في بعض أفراد شي‌ء دون بعض ، والمعلومات غير العلم ، فلا يغلب اسم أحدهما على الآخر ، مردودٌ ؛ إذ لا يبعد كون معنى الفقه مقصوداً في استعمالات أُصول الفقه ، بل لا يبعد كون معناه التركيبي مأخوذاً في العلمي بتخصيص الأوّل ببعض مصاديقه ، وزيادة الخصوصية بالوضع الطارئ عليه من جهة التعيين أو التعيّن ، فيتعيّن ذلك اللفظ المركّب بخصوص ذلك الفرد بملاحظة معناه التركيبي لغلبة إطلاقه عليه ، فإنّ تعيين ابن عباس في عبد الله ، لا ينافي كون كلّ من لفظي ( ابن ) و ( عباس ) مستعملاً في معناه الحقيقي.

__________________

(١) الوافية في أُصول الفقه : ٥٩.

٨٤

وأمّا من جعل الأُصول هنا بالمعنى الأوّل من الاصطلاحي ، فجعله مجموع طرق الفقه على الإجمال ، محترزاً بالأخير عن علم الفقه والخلاف ، وهو لا يخلو من تكلّف ؛ لعدم إشعار تلك الهيئة التركيبيّة بالمجموعيّة والإجماليّة ، مع ما عرفت من موضوعيّة الأدلّة ، وضرورة خروج موضوع الفنّ عن نفسه.

اللهمَّ إلّا أن يُتَكَلَّفَ قيد الحيثيّة في الأدلّة فيؤوّل إلى دلالة تلك الأدلّة على الفقه ، وإثبات تلك الدلالات أنّما يكون في الأُصول ، فمسائله حينئذ ثبوتها لتلك الأدلّة ، كدلالة الأمر على الوجوب ونحوه ، ومع ذلك يتّجه الإيراد بمباحث الاجتهاد والتقليد ، فإنّ البحث فيها ليس عن الأدلّة.

اللهمَّ إلّا أن يتكلّف إدراجها فيه باعتبار بحثها عن حال المستدلّ ، فيؤوّل إلى أن دلالة تلك الأدلّة على ثبوت الأحكام الشرعية إنّما هي بالنسبة إلى الجامع المخصوص ، فيرجع إلى البحث عن الأدلّة ، ولكن هذه الحيثيّة معتبرة في الموضوعيّة أيضاً ، على ما هو الظاهر من بعض وصريح من آخرين ، فتخرج عن الفنّ ولو بقيد الحيثيّة ، على أن مجرّد الملاحظة من حيث الدلالة على الفقه لا يجعل الأدلّة حين الدلالة ، كما لا يخفى على من أصلح الله باله.

والفقه لغةً : الفهم والعلم ، كما نصّ عليه غير واحد من أرباب اللغة ، كالفيروزآبادي (١) وابن الأثير (٢) ، والفخري (٣) ، والجواهري (٤).

فهو إمّا من : فَقِهَ يَفْقَهُ ، كعَلِمَ يَعْلَمُ وفَهِمَ يَفْهَمُ ، وزناً ومعنًى.

أو من : فَقُهَ يَفْقُهُ ككَرُمَ يَكْرُمُ إذا صار فقيهاً ، واشتقاقه من الفقه بمعنى الشق والفتح ، كأنّ صاحبه يشق دقائق الخفيّات ويفتح منها المغلقات ، ولهذا خصّه بعضهم بفهم الأشياء الدقيقة ، كما هو المنقول عن الراغب.

وربّما خصّ بفهم غرض المتكلّم من كلامه ، محترزاً به عن فهم غيره ، وفهمه من

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٤١٤ باب الهاء / فصل الفاء.

(٢) النهاية ٣ : ٤٦٥ باب الفاء مع القاف.

(٣) مجمع البحرين ٦ : ٣٥٥ باب ما أوّله الفاء.

(٤) الصحاح ٦ : ٢٢٤٣ فقه.

٨٥

غير كلامه. وبجودة الفهم محترزاً به عن مطلقه ، وكأنّه مراد من فسّره بالذكاء والفطنة ، والمراد بالفهم العلم ، وهو مراد من فسّره بمطلق الإدراك ، أو بأنه هيئة للنفس بها يتحقّق معاني ما تحسّ.

وربّما خصّ بجودة الذهن من حيث استعداده لتحصيل المآرب وسرعة الانتقال من المبادي إلى المطالب ، وظاهر بعض بل جمع ترادف العلم والفهم ، وكأنّه الحامل لهم على الاقتصار على تفسير الفقه بالفهم فقط ، مع تفسير اللغويّين له بالوجهين ، وعلى القاعدة لزوم العمل على النقلين ، لكن الحقَّ أنّ بينهما عموماً من وجه ؛ لاجتماعهما في العالم الفطن ، وانفراد الأوّل بالصدق على البليد العالم ببعض الأشياء ؛ لصدق العالم عليه ، وانفراد الثاني بالصدق على العامي الفطن لعدم صدق العالم عليه.

وأمّا الفقه في عرف المتشرّعة فهو : العلم بالأحكام الشرعية الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة (١). وتخصيصه بعرف المتشرّعة لعدم ثبوت استعمال الشارع إيّاه بهذا المعنى ووضعه له وإنْ شاع استعماله في خصوص معرفة الأحكام الشرعيّة ضروريّة أو نظريّة ، اجتهاديّة أو تقليديّة ، سماعاً من المعصوم أو غيره من علماء الفرقة المرضيّة ، كآية النفر وما في معناها من الأخبار المعصوميّة ، ولهذا شاع إطلاق الفقيه على الإمام الكاظم عليه آلاف التحية ، مع نصّ أهل الفن على خروج علم الأئمّة عن هذا الحدّ بالكلّيّة.

بل نصّ العلّامة الرباني الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني وغيره من محقّقي المتأخّرين من المحدّثين والمجتهدين بأنّ الفقه في العصر السابق وإطلاقه الكثير في الأخبار أنّما هو علم الآخرة والبصيرة في الدين ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال ومصلحاتها ، والإحاطة بحقارة الدنيا وشدّة التطلّع على نعيم الآخرة.

__________________

(١) القوانين : ٢.

٨٦

ولهذا ورد في بعض الأخبار : « لا يفقه العبد كلّ الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله تعالى ، وحتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة ، ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشدّ مقتاً » (١).

ومثل هذا المعنى غير عزيز في الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، إلّا إنّ دعوى انحصار إطلاق الفقه في العصر السابق على المعنى السابق على الإطلاق لا يخفى ما فيه على الحذّاق.

إذا تقرّر هذا ، فالعلم لغةً وعرفاً : التصديق ، أي : الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع ، كما صرّح به غير واحد من الأعلام (٢) في كثير من المواضع ، وقد يطلق على الإدراك الشامل له وللتصوّر ، وهو متداول أهل الميزان. وعلى مطلق الاعتقاد سواء اعتبر فيه القيود الثلاثة أم لا. وعلى الملكة ، أي : الهيئة الثابتة الناشئة عن شدّة الممارسة وكثرة المزاولة والمدارسة التي يقتدر بها على استخراج المسائل من متفاوت الدلائل ، بل قد نصّ على كونه حقيقة عرفيّة في مصطلح أهل العلوم غلبةً أو نقلاً ، وعلى نفس المسائل المبيّنة في العلوم وهي القضايا أو المحمولات المنتسبة ؛ إمّا مجازاً تسمية للمعلوم ولو قوّة باسم العلم ، أو حقيقة عرفيّة خاصّة أو عامّة ؛ لشيوع إطلاقه عليها.

وحينئذ ، فهل المراد خصوص التصديق ، أو التصوّر ، أو الأعمّ؟ وجوهٌ وأقوالٌ.

أقواها الأوّل ؛ للتبادر الذي الأصل فيه كونه وضعيّاً ؛ لصحّة السلب عن التصوّري وبناء العرف على مجازيّته فيه ، ولا ينافيه صحّة التقسيم ؛ لقطعيّة التبادر وظنّيّته ، مع استلزام الأخيرين لدخول المقلّد والجاهل المركّب والمتردّد ، بل الكافر ، ضرورة حصول التصوّر للكلّ ، مع أنّ علمهم ليس فقهاً قطعاً. نعم ، يمكن إرادة الثالث وإخراج التصوّر بالأدلّة ، فإنّ المكتسب منهما هو التصديق والحجّة دون القول الشارح ، كما هو بيّن واضح.

ولا يرد خروج العلم بالموضوعات الشرعيّة المتعلّقة بالأحكام التكليفيّة الفرعيّة ،

__________________

(١) كنز العمّال ١٠ : ٣٠٥ / ٢٩٥٢٨ ، بتفاوت.

(٢) التعريفات ( الجرجاني ) : ٦٧ ، تاج العروس ٨ : ٤٠٥.

٨٧

كالصلاة والزكاة وغيرهما من الماهيّات العباداتيّة ، فإنّها من الفقه وليست من المعلومات التصديقيّة ؛ إمّا بالتزامه كما هو الظاهر والمصرّح به من غير واحد من الأكابر ، أو بإرادة الحكم بكونها أسماء لمسمّياتها المعيّنة الشخصيّة ، كما يقال : الصلاة اسمٌ للأركان المخصوصة ، والزكاة اسم للقدر المخصوص المخرج من المال المخصوص ، فترجع حينئذ إلى المعلومات التصديقيّة.

اللهمَّ إلّا أن يقال : إنّ التصديقات المذكورة من المسائل الأُصوليّة لا الفقهيّة ، فالوجه الأوّل بلا مرية لذي رويّة.

والحكم لغةً : إسناد شي‌ء إلى آخر بطريق القطع إيجاباً أو سلباً ، وإلزام الأمر والنهي كذلك ، وهو المعبّر عنه بالقضاء ، ويطلق على خصوص أمر الحاكم بين المتنازعين لرفع النزاع من البين ، كذا حكاه بعض أفاضل المتأخّرين.

وفي ( النهاية ) الأثيريّة : ( الحكم : العلم والفقه والقضاء بالعدل ) (١). انتهى.

وفي الاصطلاح تطلق على التصديقات مطلقاً ، أو مع المنع من النقيض ، والمسائل التي هي المحمولات ، والنسب التامّة الحكميّة بينها وبين الموضوعات ، وعلى الخطابات الشرعية المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، بل قيل : إنّه المعنى المصطلح عليه بين الأُصوليّين ، وعلى الخمسة التكليفيّة وما يعمّها والوضعيّة ، إلّا إنّك إذا لاحظت وجوه العلم والأحكام رأيت بعضها لا ينطبق على بعض في مقام ، فإنّ من معانيهما التصديق ولا معنى للتصديق بالتصديق ، وكذا بالنسبة إلى تفسيرهما بالمسائل ؛ لعدم الارتباط.

والتحقيق في هذا المقام بإبرام النقض ونقض الإبرام : أنّ العلم إن فسّر بالتصديق جاز تفسير الأحكام بالنسب والمسائل دون مطلق الأحكام ، مع اعتبارها من حيث انتسابها إلى موضوعاتها ليصحّ تعليق التصديق بها ، وكذا لو فسّر بالإدراك بتكلّف الظرف بالمتعلّق المقدّر ، أي : الإدراك المتعلّق بهذه الأشياء. ولا يصحّ حملها حينئذ

__________________

(١) النهاية ( ابن الأثير ) ١ : ٤١٩.

٨٨

على التصديقات ، إذ ليس إدراكها فقهاً ، بل قيل : إنّه لا يرتبط بها العلم بأحد معانيه ، إذ لا معنى للتصديق بالتصديقات ولا ملكة التصديق ، وكذا لو أُريد به مطلق الإدراك أو ملكته.

والحقّ : أنّ ذلك إنّما يتّجه على المختار من تفسير العلم بالتصديق دون سائر معانيه ، ذلك لأنّه ؛ إمّا أن يراد بها تصديقات الفقيه كما هو الظاهر بل المتعيّن ، أو تصديقات الشارع المبيّن ، وكلاهما لا يصلحان.

أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ الفقه هو نفس التصديقات المتلقّاة من الشارع لا تصديق الفقيه بها ، ولأنّ تصديقاته ليست من شأنها أن تؤخذ من الشارع وإن كان متعلّق بها تلك الشأنيّة ، فيلغو حينئذ قيد الشرعيّة ، ولأنّ علم الفقيه بعلمه ليس حاصلاً عن الأدلّة وإن حصل نفس علمه عنها.

وأمّا على الثاني ؛ فلاستلزامه حصول علم الشارع عن الأدلّة إن تعلّق الظرف بالأحكام ، واستلزامه حصول العلم بعلمه عنها إن تعلّق بالعلم ، وكلاهما باطلان ، فيلغو القيد الظرفي مع لغو الوصفي ، إذ ليس من شأن الشارع بيان تصديقاته ، بل بيان متعلّقاتها ؛ لحدوث التصديقات ، وقدم علمه بإطباق الإماميّة ، ولا ارتباط بين الحدوث والقدميّة ، ولأنّ الفقه بالمعنى المصطلح هو تصديق الفقيه بمصدّقات الشارع ، لا تصديقاته بتصديقاته وإن كان لا بدّ من إثباته.

أمّا على تفسير العلم بمطلق الملكة المجرّدة عن التصديق ، فلا مانع من تعلّقه بالتصديقات. وكونُ المعروف من حمل العلم عليها إرادة ملكة العلم لا الملكة المطلقة معارضٌ بكثرة إطلاق العلم على مجرّدها ، كالعلم بالصياغة والنساجة وغيرها ، إلّا إنّه لا يخلو من تكلّف.

وأمّا تفسير الأحكام بالنسب ، فقد جعله المحقّق التقي أظهر الوجوه في المقام ، قال : ( وعدم كونه من مصطلحات الأُصوليّين والفقهاء لا يبعد الحمل عليه ، سيّما قبل بيان الاصطلاح ، مضافاً إلى قيام بعض الشواهد المبعدة للحمل على المصطلح ).

٨٩

انتهى.

وأراد بما يبعد الحمل على المصطلح ما يرد على تفسيرها بالخطابات أو الأحكام الخمسة التكليفيّة أو الأعمّ ، ولا يخفى أنّ مجرّد حصول ما يبعد الحمل على المصطلح لا يقتضي الحمل على غيره ما لم يقم عليه دليل بخصوصه ، أو ينتفي المانع عنه ، مع أنّه موجود ، وهو عدم انعكاس الحدّ بخروج النسب الإنشائيّة ، كقوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (١) ، وتأويلها إلى النسب الخبريّة يخرج التصديق بها عن الفقهيّة ، مع أنّه كلوازمه منها بلا مرية لذي رويّة ، وخروج الموضوعات الشرعيّة مع تصريحهم بدخولها في الفقه ، بل لو سلّم التزام الخروج لكون معرفة الموضوع من المبادئ وليست مقصودة بالذّات فلا بدّ من ارتكاب أحد المحذورين من استدراك : قيد الأحكام ، أو عدم اطّراد التعريف ؛ وذلك لإطلاق المعرفة على الأعمّ من التصوّر والتصديق.

فإن أُريد بمعرفة الموضوع تصوّره فقط ، لم يحتج لقيد الأحكام ؛ لكون العلم في التعريف بمعنى التصديق ، فلم يدخل حتى يخرج.

وإن أُريد التصديق بموضوعيّة الموضوع أو أنّ الموضوع هو هذا كان من النسب الخبريّة ، فيدخل في الأحكام وينتفي الاطّراد ، إذ المفروض كونها خارجة مع أنّها حينئذ داخلة ، وربّما يُجاب.

وأمّا حملها على الخطابات فلا يتمّ إلّا على مذهب الأشعري (٢) من إثبات الكلام النفسي بجعلها عبارة عنه ، وجعل الأدلّة عبارة عن اللفظي.

وأمّا على مذهبنا من بطلانه بما برهن عليه في محلّه فلا ، سواء فسّر بالإلقاء أو الكلام الملقى ، إذ العلم بذلك الأمر النسبي ليس فقهاً ولا مستفاداً من الأدلّة على الأوّل ، وللزوم اتّحاد الدليل والمدلول على الثاني.

والإصلاحُ بجعل الأحكام عبارة عمّا علم ثبوته من الدين بديهةً إجمالاً ، والأدلّة

__________________

(١) البقرة : ٤٣ ، ٨٣.

(٢) عنهم في القوانين : ٢.

٩٠

عبارة عن الخطابات التفصيليّة ، غيرُ صالحٍ :

أمّا أوّلاً ؛ فلتبعيّة المداليل للأدلّة في الإجمال والتفصيل ، فالإجمالي لا يستند إلى التفصيلي ، كما أنّ التفصيلي لا يستند إلى الإجمالي ، وإلّا لخرجا عن طور المدلوليّة والدليل.

وأمّا ثانياً ؛ فلثبوت الخطابات الإجماليّة بالضرورة والبديهة ، فلا تكون حاصلة عن الأدلّة ، فلا يسمّى العلم بها فقهاً اصطلاحيّاً.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأنّ العلم بالخطاب الإجمالي إجمالاً ليس من الفقه في شي‌ء ، فلا يصلح لتحديده.

وأمّا رابعاً ؛ فلأنّ المجهول المتوقّف إثباته على الدليل أنّما هو الخطابات التفصيليّة ؛ لثبوت الإجماليّة بالبديهة القطعيّة ، مع أنّ المفروض كون الدليل عليهما هو الخطاب التفصيلي الذي هو عين المدلول المجهول بالكلّيّة ، فلم تنتفِ المحذوريّة ، ولو عرفت بمؤدّى الخطاب المذكور لسلم من هذا المحذور ، بناءً على الاكتفاء بالمغايرة الاعتباريّة.

وأمّا حملها على الخمسة التكليفيّة فيؤدّي إلى انتقاض العكس بالوضعيّة ؛ لخروج معظم مسائل الفقه من بيان شرائط العبادات وموانعها وأسباب وجوبها ومقتضيات صحّتها وفسادها ، وكذا في سائر أقسام الفقه من العقود وغيرها. والتزام الاستطراد أو تخصيص البحث عنها بحيثيّة تبعيّة التكليفيّة لها في غير محلّه ، كذا قال بعض المحققين.

والحقّ حملها على ما عدا الوضعيّة ، والتزامُ خروجها والاستطرادُ في ذكرها ، وتخصيصُ البحث عنها بحيثيّة تبعيّة الأحكام التكليفيّة لها ، غيرُ مضرٍّ ، إذ المراد من مسائل العلم التي هي نفس المعرّف ، وتدوّن العلوم لبيانها ما يتعلّق القصد الذاتي بها.

ولا يخفى أنّ الغرض الذاتي والمقصد الأصلي من تدوين علم الفقه أنّما هو بيان

٩١

أحكام المكلّفين التي يترتّب عليها الثواب والعقاب مطلقاً في بعض ، وعلى بعض الوجوه في آخر ، ليستخرجها المجتهد من أدلّتها ويفرّع عليها مقتضياتها ، ويعمل هو ومقلّده بها.

مع أنّ الوضعيّة ليست بهذه المثابة قطعاً ، وإنّما تذكر في العلم ثانياً وبالعرض ؛ لرجوعها إلى ما هو المقصود أوّلاً وبالذّات ، فإنّ سببيّة الدلوك ونجاسة البول ونحوهما لو لم ترجع إلى وجوب الصلاة والاجتناب لم يبحث الفقيه عنهما ، قصارى الأمر استدراك قيد الشرعيّة ، وهو مشترك بين الأخصيّة والأعميّة كاحتمال التوضيحيّة.

والشرعيّة : نسبةٌ إلى الشرع بمعنى الشارع ، سواء أُريد به الله تعالى أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الأئمة عليهم‌السلام على وجهٍ ، بل قولٍ ، من باب نسبة الأثر إلى المؤثّر. أو بمعنى الطريقة المنسوبة إليه ، من قبيل نسبة الشي‌ء إلى متعلّقه أو وضعه ، أو نسبة الجزء إلى الكلّ. والمراد شرعنا خاصّة ، كما هو المنساق عند الإطلاق.

وعلى تقدير أخذها من الأوّل تحمل على الفرد المعهود إجمالاً ، أو الأحكام الفعليّة ، أي : المتعلّقة بنا فعلاً ، ومجرّد أخذها من الشارع المتعبد بما يصدر عنه لا يوجب التعبّد بها ما لم يأمر بها.

وكيف كان ، فالمراد بها ؛ إمّا ما أخذ من الشارع ببيان الشرع من غير توسّط بيانه ، كما قد يتّفق في بعض الفروع.

أو ما من شأنه الأخذ منه ببيانه خاصّة ، أو ما من شأنه أن يؤخذ من الشرع ببيان العقل من غير توسّط بيانه أصلاً ، كما قد يتّفق في بعض الفروض.

أو ما أُخذ منهما ، أو ما من شأنه الأخذ منهما ، وقد أُخذ ببيانهما أو بيان أحدهما.

والأوّلان لا يصلحان ؛ لفساد العكس بخروج التكاليف التي استقلّ بها العقل ولم يرد فيها شي‌ء من الشارع مع دخولها في الفقه ، فانحصر المراد في البواقي. هذا على المختار في معنى الأحكام.

٩٢

أمّا على حملها على تلك المعاني السابقة فيلغو قيد الشرعيّة بمعانيه الخمسة ؛ لفساد العكس بالعقليّات المحضة ؛ والطرد بالقصص بناءً على أوّل معاني الشرعية ، وانتقاض الأوّل بالأوّل ، والثاني بمسألة الإحباط وتجسّم الأعمال ، فإنّ من شأنهما الأخذ من الشارع ، مع أنّ العلم بهما لا يسمّى فقهاً على الثاني ، مع خروج بعض الأحكام الشرعيّة ، كوجوب الحكم بوجود الصانع ونبوّة النبيّ الصادع والنظر في المعجز الساطع ، إذ ليس من شأنها الأخذ من الشارع لتأخّر ثبوتها عن ثبوت الرسالة ، فلا معنى لإيجابها بعد حصولها ، اللهمَّ إلّا أنْ يمنع شرعيّتها ، أو يفصّل بين الحكم بها قبل ثبوت النبيّ وبعده ، كما قاله بعض الفضلاء ، مع أنّ التسمية بعد العلم بحكم الشارع لا يجعل التصديق بها مأخوذاً منه ؛ لحصوله قبل العلم به.

والمراد بالفرعيّة : ما يتعلّق بكيفيّة العمل من الأفعال الظاهريّة تعلّقاً حقيقياً ، لا ما يتعلّق به كذلك ، سواء كان المتعلّق حقيقيّا أو ظاهرياً ؛ لعدم الاطّراد بالنسبة إلى بعض مسائل الاعتقاد كوجوب التصديق بالمعاد ، وعدم الانعكاس بالنسبة إلى أحكام الوضع على فرض دخولها في المعرّف. ولا ما يتعلّق به تعلّقاً حقيقياً أو ظاهرياً مع كون المتعلّق من الظاهرية ؛ لعدم الاطّراد بالنسبة إلى بعض المسائل الأُصوليّة ، كجواز العمل بالظنِّ ، والمسائل الاجتهاديّة والتقليديّة. ولا ما يتعلّق به من الظاهريّة أو الباطنيّة تعلّقاً حقيقيّا أو ظاهريّاً ؛ لعدم الاطّراد بالنسبة إلى بعض المسائل الاعتقاديّة وإنْ انعكس بالنسبة إلى الوضعيّة.

والمراد بالأدلّة : الأربعة المعروفة ، أي : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، ودليل العقل.

وأصل الدليل في اللغة : بمعنى المرشد والمسدّد.

قال في ( القاموس ) : ( ودَلَّهُ عليه دَلالَةً ويثلث ودُلولَةً فاندلَّ سدّده اليه ) (١). انتهى.

قيل : وقد يطلق على ما به الإرشاد.

__________________

(١) القاموس المحيط ٣ : ٥٥٢ باب اللام / فصل الدال.

٩٣

وفي الاصطلاح : ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري (١). ف ( بالإمكان ) دخل المعقول والمتعدّد ، وخرج بـ ( صحيح النظر ) الفاسد ؛ لعدم العبرة به وإنْ أمكن التوصّل به اتّفاقاً ، وب ( الخبري ) الموصل إلى المطلوب التصوّري من القول الشارح والحدّ ؛ فإنّه معرّف لا دليل.

وقد يعرف أيضاً بـ : ما يلزم من العلم به العلم بشي‌ء آخر إيجاباً أو سلباً. أو : ما يفيد معرفة العلم بشي‌ء آخر كذلك ، إلّا أنّ الأوّل أوْلى ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فصحّة إطلاق الأدلّة على الأربعة بكلا الاصطلاحين واضحة بلا مَيْنٍ (٢).

وبـ ( التفصيليّة ) ما يفيد ثبوت الحكم على جهة التفصيل وإنْ كان من جنس واحد ، قبالاً للإجماليّة ، وهي ما لا يثبت الحكم إلّا من جهة مجملة جارية في جميع ما حصّله ، كدليل المقلِّد ، كما سيجي‌ء إنْ شاء الله.

إذا تقرّر هذا ، فالعلم كالجنس إنْ فسّر بالتصديق وبالإدراك مع جعل التصوّر والتصديق من أصنافه ، لأنّهما حينئذ نوع لما يندرج تحتهما من العلوم والإدراكات المختلفة باختلاف أقسام المعلومات ، وتلك العلوم أصناف بالنسبة إليهما ، وإنْ كانا جنساً بالنسبة إلى ما يندرج تحتهما من المراتب المختلفة قوّة وضعفاً.

ويصحّ جعله جنساً إن فسّر بالإدراك وقيل بتبعيّة حقائق العلوم بحقائق معلوماتها ، أو فسّر بالملكة وقيل : إنّ الملكات كيفيّات مختلفة حقيقةً ونوعاً لا نسبةً وإضافةً.

ومنشأ ذلك كلّه كون الجنس لا بدّ له من أفراد مختلفة حسيّة ، فإن كان ما هنا كذلك صحّ كونه جنساً ، وإلّا فلا.

وأخرج غيرُ واحدٍ بـ ( الأحكام ) العلمَ بالذوات والصفات والأفعال ، كزيد وشجاعته وكتابته وخياطته.

__________________

(١) هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار : ٢٣٧.

(٢) المَيْنُ : الكذب. لسان العرب ١٣ : ٢٣٦ مين.

٩٤

وظاهره حمل الأحكام على النسب ، لكنّه لا يصحّ إلّا بتفسير العلم بالإدراك دون الملكة والتصديق ؛ لخروج تصوّرها عن الجنس إن أُريد به ذلك كما هو الظاهر ؛ لأنّ التصديق لا يتعلّق بغير النسبة.

وإن أُريد انتسابها بالنظر إلى إشعار الإضافة به فخروجها بها غير ظاهر ، وربّما يخرج بها أيضاً الموضوعات الشرعيّة وصفاتها بناءً على خروجها عن الفقه ؛ لأنّ كون العلم بها في الفقه وكون بيانها من بيان الفقيه لا يقتضي اندراجها في مسائله ، بل اقتصر بعضهم عليه ؛ لخروج الأُمور المذكورة بالوصفين ، قائلاً : ( إنّ القيد الاحترازي لا بدّ أن يكون بحيث لو لم يكن لدخل ما احترز به عنه ، وليس قيد الأحكام بالنسبة إلى إخراجها كذلك ).

وفيه : أنّ المعتبر في الاحترازيّة عدم إغناء أوّلها عن أخيرها ، لا أخيرها عن أوّلها ، والحال هنا كذلك.

ويخرج بالشرعيّة غيرها من اللغويّة والنحويّة والصرفيّة ، والعقليّات الصرفة بناءً على دخول غيرها ممّا يستقلّ به كلّ من العقل والشرع ، أو يدركه العقل بواسطة الشرع فيها.

أمّا على تفسيرها بالمنتسبة إلى الشرع خرج بها العقليّات التي لا ارتباط لها به ، سواء أُخذت عن محض النقل أو العقل ، أو العقل المعتضد بالشرع.

وربّما أُخرج بها الأحكام المذكورة في سائر العلوم والصنائع ، والحاصلة بمقتضى العادة.

وفيه : أنّها غير مرادة أصلاً ، بل لا تخطر بالبال ، فلا يحتاج إلى إخراجها ؛ لخروجها بنفسها.

وبـ ( الفرعيّة ) : الأُصوليّة ، دينيّةً أو فقهيّةً ، وربّما جعل هذا القيد توضيحيّاً ، كالشرعيّة بناءً على ظهور الأحكام فيهما.

وفيه : أنّ الوجوب المتعلّق بالعقائد الدينيّة والمسائل الأُصوليّة مندرج في

٩٥

الاصطلاحي ، فلا وجه لانصرافها إلى خصوص الفرعيّة ، مع أنّ توضيحيّة الشرعيّة منافٍ لاصطلاحاتهم واستعمالاتهم بالكلّيّة ، إلا تراهم يعرّفون الحكم الشرعي في المبادئ الأحكاميّة بالمعاني المذكورة ، ثمّ يقسّمونه إلى الأقسام المشهورة ، ولم يكتفوا بذكر أحدهما عن الآخر ، كما لا يخفى على ذي بصيرة.

وبـ ( عن أدلّتها ) علم الله تعالى ذي الجلال والإكرام ، وعلم المَلَكِ ، والنبيّ والإمام عليهم أفضل الصلاة والسلام ، والعلم بالضروري من دين الإسلام ؛ لعدم الاحتياج في شي‌ء منها إلى الدليل في الحضور والتحصيل ، فإنّ علمه تعالى ليس بطريق النظر والاستدلال ؛ لفنائه المطلق وكماله المحقّق في كلِّ حال ، وكذا علوم الملائكة والنبيّ والآل ، فإنّهم إنّما يستفيدون الأحكام من الوحي والإلهام ؛ لتنزّههم عن الظنون بقاعدة اللطف ودليل العصمة ، ولأنّهم الواسطة في إفاضة العلم والمعرفة والحكمة ، بل علومهم ضروريّة حاصلة من أسباب باعثة عليه ، قد ذكر في عدّة من أخبارهم الإشارة إليه.

ولا ينافي ذلك ما دلّ من الأخبار على وصفهم بالمستنبطين ، كما في تفسير الآية الشريفة ، وعلى استفادتهم بعض الأحكام من الكتاب والسنّة المنيفة ؛ لأنّ ذلك الاستنباط والاستفادة ليس على وجه الفكر والنظر والاستكشاف ، بل على وجه البداهة والضرورة والانكشاف ، فالدليل والمدلول عندهم في المعلوميّة بمرتبة واحدة على السويّة.

وأمّا الضروريّات ؛ فلأنّها من جملة القضايا التي قياساتها معها ، ولا يسمّى ذلك في العرف استدلالاً ، ولا العلم الحاصل معها علماً من الدليل ، وإنْ كانت تلك الضرورة علّة للعلم في نفس الأمر ، كما لا يخفى على ذي تحصيل.

وبالجملة ، فكون تلك العلوم مسبّبة عن سبب ، لكن ليست مسبّبة عن خصوص الأدلّة ، بل من جهة أُخرى ، وتوسّط الأسباب لا ينافي الضرورة لكونها وسائط في الثبوت لا الإثبات ، فإنّ العلوم الضروريّة كلّها ذوات أسباب لكنّها عن النظر فيها غنيّة ،

٩٦

بخلاف العلوم النظريّة.

وما يقال : من أنّ علمه تعالى لمّا كان على الوجه الأتمّ ومنوطاً بالغرض الأهمّ ، لزم أنْ يعلم الأشياء بعللها ، ولأنّه لمّا كان لعلمه بذاته الذي هو سبب العلم بمعلوماته صحّ كون علمه عن الدليل.

ففيه : أنّ علمه تعالى أنّما يكون سبباً لا دليلاً ، وأين السبب من الدليل؟ فالتسوية بينهما خروج عن سواء السبيل.

وكذا ما قيل من عدم خروج العلوم المذكورة ، إذ يصدق عليها أنّها علم بالأحكام الحاصلة عن الأدلّة ولو كان حصولها عند المجتهد ، لأنّ الظرف متعلّق بالعلم لا الأحكام ، وعدم الصدق حينئذ لا يخفى على أولي الأفهام ، وكون قيام الاحتمال كافياً في إبطال الاستدلال ما لم يكن راجحاً أو مساوياً في غاية الإشكال ، على أنّ المأخوذ عن الأدلّة أنّما هو التصديق ، فهو شاهد على تعلّق الظرف بالعلم لا الأحكام.

وأمّا تعلّقه بها ، فهو إنْ صحّ متوقّف على إضمار مقدّر خاصّ ، وهو خلاف الظاهر ، ولات حين مناص. أو باعتبار الحيثيّة المرتبطة بالعلم في المقام ، فيكون المراد العلم بالأحكام المستنبطة عن الأدلّة من حيث إنّها مستنبطة عنها ، كما أجاب به بعض الأعلام ، مضافاً لما أسلفناه من استناد تلك العلوم للأسباب ، لا الدليل ، وهو حاسم لمادّة القال والقيل.

وأمّا ما ناقش به المحقّق التقي في إخراج العلم بالضروريّات عن الحدّ المذكور بالقيد المزبور ، من أنّ المراد بكونها ضروريّةً ضروريّة لصدورها عن الرسول ، لا ضروريّة كونها أحكاماً ثابتة واقعيّة صحيحة حقيّة لابتنائها على أُمور نظريّة ، كإثبات الرسالة المبتنية على إثبات المرسل وعدله وحكمته ، وغير ذلك من الأُمور المتوقّفة على البيان وإقامة البرهان.

فيمكن الجواب عنه :

أوّلاً : بعهديّة إضافة الأدلّة كما اعترف به في آخر كلامه لعدم استفادة العلم بها

٩٧

منها ، بل من أدلّة غيرها من الأدلّة الكلامية الدالّة على صحّة شريعتنا وصدق نبيّنا في ما أتى به من الأحكام الشرعيّة.

وثانياً : بمنع كون العلم بصدق الرسول نظريّاً ، ولهذا عدّه بعض من الضروريّات التي قياساتها معها ، بل في كثير من الأخبار أنّه من الفطريّات ، كالمعرفة بربِّ البريّات ، ولهذا يحصل للبُلْهِ والصبيان ومن لا قوّة لهم على إقامة البرهان ، وتوقّف البعض أنّما هو لسبق بعض الشبه الى تلك الأذهان ممّن أغواه الشيطان فأصمّ سمعه وعميت منه العينان.

هذا ، وقد أخرج غير واحد من الفضلاء الثقات عن الحدّ المذكور مطلق القطعيّات ، وضعفُهُ لا يخفى على ذي التفات.

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّ الاستدلال قد يفيد القطع ، ولا يكون قبل الاستدلال.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ من البيّن أنّ الراوي الآخذ للحكم مشافهة من النبيّ والإمام عليهما‌السلام يكون عنده قطعيّاً ، بل ضروريّاً ، فيلزم خروج الرواة الفقهاء الأعلام ولا سيّما رؤساء الإسلام عن حدّ الفقهاء وعدّهم من العوامّ ، وفساده لا يكاد يخفى على اولي الأحلام ، وبالله الثقة والاعتصام.

وأخرج كثيرٌ بـ ( التفصيليّة ) علمَ المقلِّد ، فإنّه مأخوذ من دليل لكنّه إجمالي مطّرد في جميع المسائل ، وهو : هذا ما أفتاني به المجتهد ، وكلّ ما أفتاني به فهو حكم الله في حقّي. وتعدّدُ الموضوع ، وانتهاءُ علمه إلى التفصيليّة بالواسطة ، واختلافُ علمه باختلاف المجتهد في الصفات ، واختلاف عباراته وكيفية الثبوت عنه ، لا ينافي الإجمال.

أمّا الأوّل فظاهرٌ ، إذ التعدّد آية الإجمال.

وأمّا الثاني ؛ فلاقتضاء ظاهر الحدّ استفادة العلم ابتداءً لا بواسطة.

وأمّا الثالث ، فلخروج تلك الأُمور المختلفة عن ضابطة الأدلّة ، فلا يقتضي استناد المقلِّد إلى الأدلّة التفصيليّة وإنْ اقتضت تفصيلاً في علمه من جهة أُخرى ، على أنّ

٩٨

مجرّد تعدّد الدليل لا يستلزم التفصيل.

وأُورد عليه : بأنّ ذلك الدليل الإجمالي بعينه موجود للمجتهد ، وهو : هذا ما أدّى إليه ظنّي ، وكلّ ما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي. وبأنّه دليل للعمل لا للعلم ، كما أنّه في حقّ المجتهد كذلك ، فلا يصحّ الاحتراز.

وأُجيب : عن الأوّل بالفرق بينهما ، فإنّ للمجتهد مع هذا الدليل الإجمالي أدلّة تفصيليّة بخلاف المقلِّد ، وكونه كذلك ممنوع بما مرّ.

وعن الثاني باقتضاء وجوب العمل بشي‌ء العلم بأنّه حكم الله في حقِّه.

والحقّ أنّ هذا الاحتراز أنّما يتمّ على جعل الإضافة جنسيّة ، أمّا إذا جعلناها عهديّة كما هو الظاهر الذي اعتمده جمع من الأكابر فيخرج بقيد الأدلّة ؛ لكون دليله ليس منها ، فيكون قيد التفصيليّة توضيحيّاً لا احترازيّاً ، واحترز به بعض المحقّقين عن العلم بالأحكام الإجماليّة لاستنادها إلى الأدلّة الإجماليّة ، والعلم المستفاد منها ليس فقهاً بل هو العلم بالأحكام الإجماليّة عن الأدلّة التفصيليّة.

وفيه : أوّلاً : أنّ العلم بها ليس فقهاً ، كما اعترف به بنفسه ، إذ المراد من العلم بالأحكام أنّما هو معرفة آحادها على سبيل التفصيل ، فما ذكره لم يدخل أصلاً حتى يحتاج إلى الإخراج.

وثانياً : أنّ العلم بها أنّما يستند إلى الضرورة ، كما اعترف به ، والعلم المستند إليها لا يسمّى في العرف مستنداً إلى الدليل ، وعدّها من جملة الأدلّة خلاف ما قرّروه في معناها ، فتعجّبه من غفلة الفحول غير مقبول ، بل هو عليه مقلوب.

ومنه يظهر أيضاً ضعف ما ذكره آخر من إخراج علم المقلّد ، وما يقال في علم الخلاف من إثبات المدّعى بالمقتضي ونفيه بالمانع من دون تعيينهما ، حيث إنّ الأدلّة المذكورة فيه إجماليّة ، لأنّ أدلّة علم الخلاف ليست أدلّة للأحكام وإنْ كانت إجماليّة ، إذ لا يتوصّل بقواعده إلى الاستنباط بل إلى حفظ المستنبطات أو هدمها مع

٩٩

قطع النظر عن خصوصيّات الأحكام ، وذكر ما يتعلّق بخصوص الاستنباط فيه من باب الاتّفاق لا يدرجها في مسائل الفقه ، بل الأُصول ؛ لوجود الاشتراك في مسألة بين علمين باعتبارين ، كما قد يتّفق الاتّحاد في الموضوع من جهتين.

وكيف كان ، فلو أُبدل التعريف المذكور بأنّه العلم النظري بالمسائل الشرعيّة الفرعيّة عن حجّة تفصيليّة كما يلوح من بعض الأجلّة السادات لكانت القيود مع وضوحها احترازيّة لا توضيحيّة ، وسلم من كثير من تلك التكلّفات.

الإشكالان في التعريف

وقد بقي في التعريف سؤالان مشهوران :

أحدهما : سؤال العلم.

والثاني : سؤال الأحكام.

وتقرير الأوّل : إنّ معظم الفقه من باب الظنون ؛ لابتنائه على الأدلّة الظنيّة ، وأقصى ما يحصل من غالبها غالباً الظنُّ ، فكيف أُطلق عليه العلم الذي هو اسم للاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع؟

وتقرير الثاني : إنّ ( لام ) الأحكام إنْ كانت استغراقية كما هو الظاهر من إفادة الجمع المحلّى بـ ( اللّام ) العموم فسد العكس ؛ لخروج جلّ الفقهاء أو كلّهم ؛ لعدم علمهم بالجميع ، فلا يوجد مصداق للفقيه في الخارج أصلاً.

وإنْ كانت جنسيّة أو عهديّة ذهنيّة فسد الطرد ؛ لدخول المقلّد المتجزّئ ، مع أنّه لا ثالث إلّا العهد الخارجي ، ولا وجه له ، إذ ليس هناك قدر معيّن يمكن التوجيه إليه ، مع مشاركته في الإشكال لأخويه.

الجواب عن الإشكال الأوّل

وأُجيب عن الأوّل :

تارةً بصرف العلم عن القطع إلى الظّن أو الاعتقاد الراجح الذي هو أعمّ منهما.

١٠٠