تمهيد القواعد

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

تمهيد القواعد

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-022-7
الصفحات: ٦٤٨

١
٢

٣
٤

٥
٦

مقدمة التحقيق

وبعد ، فقد تاهت العقول ، وحارت الأذهان ، وعجز الخيال ، وخابت الآمال ، وحكم الصمت ، وسيطر الخشوع أمام عظمة الخالق المتعال. فما تلفظت الشفاه إلا بتحميده ، وما نطقت الألسن إلا بتسبيحة وتقديسة.

نحمدك اللهم ، رب العزة والجلال ، سبحانك العظيم المتعال ، تقدست وتعاليت ، وعلى العرش استويت ، سبوحاً قدوساً ، ربنا ورب الملائكة والروح.

وإذ أذنت لنا بالدعاء ، فنبدؤه بالصلاة على النبي الأمي ، قمة الأخلاق ، وذروة الكمال ، أب الكائنات ، صانع المعجزات ، محمد النبي الأمين.

والصلوات الدائمات ، والبركات الناميات ، على آله المعصومين ، وأوصيائه المنتخبين ، أولهم علي أمير المؤمنين ، وخاتمهم القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه.

اعلم : أنه إذا قيست علوم الناس إلى علوم النبي وأهل بيته ، فإنها تكون كقطرة في بحر ، وكل ما تلقّي منهم من العلوم ، فهو خير وشفاء ورحمة للعالمين ، وخيرها وأشرفها وأعظمها نفعاً هو علم الفقه ، ومعرفة الأحكام الشرعية ، ولا تخفى أهمية علم الفقه على أحد.

٧

ومن المعلوم أنّ الوصول إلى علم الفقه بعد زمان النبي صلّى اللهُ عليه وآله والأئمة المعصومين ، يحتاج إلى وسائل ومقدمات ، وأهمها علم أصول الفقه ، وعلم قواعد العربية.

والمعروف من تعريف علم الأصول : أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ، وهذا الكتاب هو تمهيد القواعد المذكورة في التعريف ، وتمهيد بعض قواعد العربية.

نشأة علم الأصول

الباحث بعينٍ بصيرة عن منشأ العلوم الإسلامية ، وبدايات تدوينها ، يصل بالنتيجة إلى أنّ الأساس في كل ذلك ، هو النبي صلّى اللهُ عليه وآله ، وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ ويليه ابنه الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام ، فقد أمليا فيه على جماعة من تلامذتهما قواعده ومسائله.

وقد جمع بعض المتأخرين ما وصل من تلك المسائل ، ورتّبها على الترتيب السائد اليوم ، ككتاب « أصول آل الرسول » وكتاب « الفصول المهمة في أصول الأئمة » وكتاب « الأصول الأصلية » كلها بروايات الثقات إلى أهل البيت ، وهي مطبوعة ، من شاء فليراجعها.

وأول من أفرد بعض مباحثه بالتصنيف : شيخ المتكلمين هشام بن الحكم ، تلميذ الإمام الصادق عليه‌السلام ، صنّف كتاب « الألفاظ » ومباحثها أهم مباحث علم الأصول.

ثم يونس بن عبد الرحمن ، مولى آل يقطين ، تلميذ الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام ، صنّف كتاب اختلاف الحديث ومسائله ، وهو مبحث

٨

تعارض الحديثين ، ومسائل التعادل والتراجيح في الحديثين المتعارضين ، رواه عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام. ذكر ذلك أبو العباس النجاشي في كتاب الرّجال.

وكثر بعدهما التصنيف بين العامة والخاصة في هذا العلم ، وأولوه اهتماماً بالغاً. وتشعبوا في طرق البحث فيه ، وأهم الطرق المعروفة هي : طريقة المتكلمين ، وطريقة الفقهاء.

طريقة الفقهاء

هي طريقة الحنفية ، وهي طريقة بدائية ، اعتمدوا فيها : استخلاص القواعد الأصولية من الفروع الفقهية المنقولة عن أئمتهم. وذلك بجمع المسائل الفقهية المتشابهة ، ومن ثم استنباط القواعد المشتركة منها.

وروح هذه الطريقة هي : إخضاع الأصول للفروع الفقهية ، وتأسيس القواعد الأصولية على وفق فتاوى علماء الحنفية ، أو تطويعها على ضوء تلك الفتاوى.

هذا مما يجعل الفقه هو الّذي يتحكّم بالأصول.

ولكن مع كل ذلك فهي تمتاز بتوثيق الارتباط بين الأصول والفقه.

وأهم مصنفات أرباب هذه الطريقة هي : مأخذ الشرائع لأبي منصور الماتريدي ، وكتاب الأصول للكرخي ، وأصول الجصاص ، وتقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي ، وكتاب البزودي وشرحه كشف الأسرار ، وأصول السرخسي.

طريقة المتكلمين

وهي الطريقة السائدة ، ويعني أصحابها بطرح المسائل الأصولية ، ومن ثم الخوض في الأدلة العقلية والنقليّة ، وبالنتيجة إثبات ما اقتضته هذه

٩

الأدلة ، مع قطع النّظر عن الفروع الفقهية.

وهذه الطريقة تجعل الأصول هو الّذي يتحكم بالفقه.

ومصنفات أرباب هذه الطريقة هي : جعل مصنفات الإمامية في الأصول ، ومن مصنفات العامة هي : الرسالة للشافعي ، وإثبات القياس للأشعري ، واختلاف الناس للأشعري أيضا ، وشرح رسالة الشافعي للصيرفي ، والتقريب والإرشاد للباقلاني ، والمعتمد لأبي الحسين البصري ، والبرهان للجويني ، والمنخول والمستصفى للغزالي ، والمحصول للرازي ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي.

وهناك مصنفات جمعت بين الطريقتين ، منها : بديع النظام ، الجامع بين أصول البزودي والإحكام للساعاتي ، والتنقيح لصدر الشريعة ، والتحرير لابن همام ، وجمع الجوامع للسبكي ، ومسلّم الثبوت لمحب الدين ، وشرحه فواتح الرحموت.

تخريج الفروع على الأصول

هذه طريقة ثالثة نشأت بعد تلك الطريقتين ، وسبب نشوئها يعود إلى : وجود بعض الإشكالات في الطريقتين السابقتين ، وإلى وجود فائدة في نفس هذه الطريقة.

أما الفائدة فهي ـ كما ستعرف ـ أنها توضح أثر الاختلاف في الأصول على استنباط الأحكام الشرعية ، وعلى الفقه.

وأما الإشكالات في الطريقتين السابقتين ، فإنه من المعلوم أن طريقة المتكلمين وإن كان لها الأثر الكبير في تنظيم أبحاث علم الأصول ، ونفي التكرار عنه ، ورفع الغموض منه ، ومنع التشابك بين الأبحاث ، وبالتالي فإنها فتحت المجال أمام الباحثين لإعمال الدقة اللازمة ، والتفريع في آحاد المسائل

١٠

الأصولية ، وأعطتهم الحرية الأكثر في اختيار ما هو أوفق ، وأقرب لحكم العقل. لكنها وبمرور الزمن أوجدت فجوة كبيرة بين الأصول والفقه ، بحيث صار تطبيق القواعد الأصولية في الفقه أمراً صعباً ، ولا يعرف أثرها في الفقه.

ومن ناحية أخرى ، فإن طريقة الفقهاء فيها كثير من التشابك ، والإغلاق ، والتكلف ، والتقيّد بآراء لا أساس لها ، بحيث أصبحت مرفوضة ، بل في طي النسيان.

ولذلك دعت الحاجة إلى طرح القواعد الأصولية ـ مع قطع النّظر عن الفقه ـ والاختلافات الموجودة فيها ، ومن ثم بيان الفروع التي تطبق فيها القاعدة ، وبيان أثر اختلاف الأصوليين في الفقه ، وتخريج الفروع على الأصول.

وبذلك كان لهذا الفن ثمرتان ، الأولى : ربط الأصول بالفقه ، والثانية : بيان أثر الاختلاف في الأصول على الفقه.

ومع ذلك هناك مصاعب واجهها أرباب هذا الفن ، وتتلخص في قلة الفروع المترتبة على كثير من القواعد ، وأن أكثرها لا يمكن تصور الثمرة له إلا في الطلاق المتعدد ، أو المعلّق على الشرط أو الإقرار ، أو مسائل الأيمان والنذور ، التي يمكن فيها فرض شروط تطبق فيها القاعدة ، وإن لم يكن لها مصداق في الخارج.

وأما الكتب المصنّفة في هذا الفن ، فهي معدودة ، وقليلة جدّاً ، ونذكر منها :

١ ـ تخريج الفروع على الأصول ، للزنجاني ، المتوفى سنة ٦٥٦ ، يتعرض فيه لمذهب الحنفية والشافعية في الأصول ، وبيان أثر اختلافهم في الفقه.

٢ ـ مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول ، للتلمساني المالكي

١١

المتوفى سنة ٧٧١ ، وقد استعرض فيه أثر الخلاف بين المالكية والشافعية والحنفية.

٣ ـ التمهيد في تخرج الفروع على الأصول ، للأسنوي الشافعي ، المتوفى سنة ٧٧٢. واعتمد فيه بيان اختلاف الأشاعرة والجمهور مع غيرهم ، ويمتاز عن غيره بتوسعة في ذكر قواعد أكثر وفروع أكثر.

٤ ـ تمهيد القواعد الأصولية والعربية ، للشهيد الثاني ، المتوفى سنة ٩٦٥ ، وسنبحث عن خصوصياته لاحقاً.

ويمكن عد كتب أخرى في رديف هذه الكتب ، ككتاب المصباح للمرتضى ، وتأسيس النّظر لأبي زيد الدبوسي ، والقواعد والفوائد للشهيد الأول. لأنها جمعت بين الأصول والفقه ، وذلك بذكر الأمثلة العديدة للقواعد الأصولية.

قواعد العربية

من الأمور التي يتوقف عليها استنباط الأحكام الشرعية هي القواعد العربية. وأثر الاختلاف فيها بين النحويين في الفقه كثير جدّاً. وكذا الاختلاف بين اللغويين.

ولكن المشاهد هو عدم الاهتمام بالأبحاث اللفظية بالشكل المطلوب ، وهذا يحدث ـ وللأسف ـ متزامناً مع شدة الحاجة إليها ، فإن الابتعاد عن زمان صدور الروايات ، وكثرة حدوث النقل في ألفاظ اللغة العربية ، بحيث حلّت محل أصالة عدم النقل أصالة النقل.

هذا بالإضافة إلى ظرافة استعمال السابقين للغة العربية ، والتعبير بالكنايات ، والمجازات ، بشكل واسع ، كل ذلك حتم على الطالب أن يسعى لأن يكون لغوياً ، ومن ثم مستنبطاً للأحكام الشرعية ، ولا أقل من الاهتمام الجاد

١٢

في مجال الألفاظ واللغة.

ومن هنا اعتقد أن فقه السيد المرتضى أقوى مستنداً ، وأوثق عرىً ، فإنه استعاض عن ظاهر الروايات المتضاربة المتعارضة ، بالاعتماد على تضلعه بالعربية ، وقدرته على كشف ألغازها ، والنفوذ إلى معانيها ، فقد قيل عنه : أنه يفرع في الفقه بجانب تخصصه في الأدب ، حتى كان عز الدين أحمد بن مقبل يقول : لو حلف إنسان أن السيد المرتضى كان أعلم بالعربية من العرب لم يكن عندي آثماً.

تخريج الفروع على القواعد العربية

والكلام في هذا الفن كالكلام في الفن السابق ، لكثرة التشابه بينهما فهرسةً وعاقبة ، ودخلهما في عرض البعض في استنباط الأحكام الشرعية ، وتأثير الاختلاف فيهما في الفقه.

ولكن لما كانت علوم العربية تبحث مستقلة ، ومع قطع النّظر عن الفقه ، تولدت الحاجة لإيجاد الربط بينها وبين الفقه وبيان أثر الاختلاف فيها في الفقه.

ولكن الكتب المصنفة في هذا الفن قليلة ونعد منها :

١ ـ الكوكب الدري للأسنوي الشافعي المتوفى سنة ٧٧٢.

٢ ـ تمهيد القواعد الأصولية والعربية ، للشهيد الثاني المتوفى سنة ٩٦٥.

الشهيد الثاني

هو الشيخ الأجل زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمد بن جمال الدين بن تقي الدين بن صالح الشامي العاملي.

ولد الشهيد في سنة ٩١١ هجرية ، في قرية جبع ، من قرى جبل عامل ،

١٣

في لبنان ، واستشهد سنة ٩٦٥ في القسطنطنية.

قيل في وصفه : إنه كان ربعة من الرّجال ، بوجه صبيح مدور ، وشعر سبط يميل إلى الشقرة ؛ أسود العينين والحاجبين ، أبيض اللون. كأن أصابع يديه أقلام فضة.

إذا نظر الناظر في وجهه ، وسمع لفظه العذب ، لم تسمح نفسه بمفارقته ، وتسلو عن كل شي‌ء بمخاطبته ؛ يمتلئ العيون من مهابته ، وتبتهج القلوب لجلالته.

ولد الشهيد في عائلة نذرت نفسها للدين والعلم. فقد كان أبوه من كبار أفاضل عصره ، وكان كل أجداده المذكورين من الفضلاء المشهورين ، وجده الأعلى الشيخ صالح من تلاميذ العلامة ، وأخوه وبعض بني عمومته كانوا علماء أفاضل.

وأما أبناؤه فقد تسلسل فيهم العلم والفضل زمانا طويلاً ، وسموا بسلسلة الذهب.

وعلى أي حال فقد كان الشهيد فلتة من فلتأت الدهر ، ومفخرة من مفاخر الإسلام ، ومنعطفاً في تاريخ العلم ، ومدرسة للأجيال. تراه عالماً عاملاً ، زاهداً عابداً ، فقيهاً ماهراً ، كادّا على عياله ، صابراً محتسباً ، ومشاركاً في جميع العلوم الإسلامية.

وما ظنك برجل يحرس الكرم ليلاً ، ويطالع الدروس أو يشتغل بالعبادة ؛ وفي الصباح يلقي الدروس على الطلبة ، ويحتطب لعياله ، ويشتغل بالتجارة أحياناً ، ويباشر بناء داره ومسجده الّذي هو إلى جنبها في قرية جبع ، فكان زاهداً قانعاً جادّاً كادّا للمعاش والمعاد.

١٤

دراسته وأساتذته

ختم الكتاب العزيز وعمره تسع سنوات ، وقرأ على والده فنون العربية والفقه في جبع إلى أن توفي والده سنة ٩٢٥.

وقرأ عند الشيخ علي بن عبد العالي في الفقه في ميس.

ودرس عند السيد حسن بن السيد جعفر في الكلام والأصول في كرك نوح.

واشتغل في دمشق على الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي في الطب والهيئة والحكمة.

وقرأ في علوم القراءة على الشيخ أحمد بن جابر الشاطبية.

واشتغل في مصر على جماعة من العلماء يزهو على ستة عشر عالماً في مختلف العلوم والفنون ، من الحديث ، والفقه ، والأصول ، والتفسير ، والهيئة ، والعروض ، والقوافي ، وقراءة القرآن ، والهندسة ، والجبر ، والنحو ، وغيرها ، وأجازه كثير منهم.

وهكذا تراه ـ قدس‌سره ـ لم يقر له قرار ، يتقلب في البلدان طلباً للعلم وبهمة عالية ، لم يكتف بجانبٍ من العلوم ، بل لم يدع علماً من العلوم حتى قرأ فيه على مشاهير العلماء ، وبعدها ألّف في كثير من تلك العلوم مؤلفات قيمة ، والفقه أظهر وأشهر فنونه.

وبلغ به علو الهمة إلى قراءة كتب العامة في جلّ الفنون ، ورواية أكثرها بالإجازة ، وطاف البلاد لأجل ذلك ، كدمشق ، ومصر ، وفلسطين ، وإستانبول.

١٥

بقية حياته

ولما عاد إلى موطنه من مصر والحجاز ، كان قدومه إلى البلاد كرحمة نازلة ، أو غيوث هاطلة ، ازدحم عليه أولوا العلم والفضل ، فرتب الطلاب ترتيباً جيداً ، وأوضح السبيل لمن طلب ، وشرع بتأليف الكتب القيمة.

ثم سافر إلى العراق لزيارة الأئمة سنة ٩٤٦ ، ورجع تلك السنة ، ثم سافر إلى بلاد الروم سنة ٩٥١ وأقام بقسطنطنية ثلاثة أشهر ، وأعطوه المدرسة النورية ببعلبك ، ورجع وأقام بها ، ودرّس في المذاهب الخمسة مدة طويلة.

تلامذته

وممن تتلمذ على يده : السيد نور الدين علي بن الحسين الموسوي والد صاحب المدارك ، والشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي والد الشيخ البهائي ، والشيخ البهائي ، والسيد علي بن الحسين الحسيني صاحب شرحي الإرشاد والشرائع ، وبهاء الملة والدين محمد بن علي العودي وهو من خواص تلاميذه ، وغيرهم.

الشهيد أنموذج الوحدة

يعد الشهيد نموذجاً حياً للوحدة الإسلامية ، فتراه يدرس مذاهب العامة على علمائها ، فقد اشتغل على كثير من علماء الشافعية كالشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي ، والشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعي ، والشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الشافعي ؛ ومن علماء الحنفية كالشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفي ، ومن علماء الحنبلية الشيخ شهاب الدين بن النجّار الحنبلي ، ومن علماء المالكية الشيخ زين الدين الجرمي المالكي ، و

١٦

الشيخ المحقق ناصر الدين اللقاني المالكي.

ولما التزم المدرسة النورية ببعلبك ، أقام فيها خمس سنين ، يدرِّس في المذاهب الخمسة ، ويعاشر كل فرقة بمقتضى مذهبهم.

وتراه يمضي في كتبه ـ وبالخصوص هذا الكتاب ـ على نفس السيرة ، فينقل المطالب الصحيحة من كتب العامة والخاصة على السواء ، وينقل بعض الاصطلاحات من كتب العامة وطريقتهم إلى كتب الخاصة ، وهذا مشهود في كتبه.

مؤلفات الشهيد

تعد مؤلفات الشهيد مشاعل خالدة ، تستنير بنورها الأجيال ، احتوت على الإتقان والإبداع.

فكتابه الروضة البهية ، أهم كتاب يدرّس إلى هذا اليوم ، لم يحل محله كتاب آخر ؛ وأهم كتبه : مسالك الأفهام ، والروضة البهية ، وروض الجنان في الفقه ، وتمهيد القواعد الأصولية والعربية ، ومسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد ، والدراية وشرحها في علم الدراية. وتبلغ مؤلفاته الثمانين.

مأسي الشهيد وشهادته

مارس الشهيد أعماله على مر الأيّام والأعوام ، في حالة الخوف على دمه ، وذلك نتيجة تعصبات العامة ، والضغوط والمحاصرة التي يفرضونها على الخاصة. وبالإضافة إلى ذلك كان يدبر معاشه ، وينقل الحطب بنفسه.

ومن ناحية ثالثة فقد مات له أولاد كثيرون قبل الشيخ حسن الّذي كان لا يثق بحياته أيضا ، ولأجل ذلك صنف كتاب مسكن الفؤاد في الصبر على فقد الأحبة والأولاد.

١٧

وسبب شهادته أنه ترافع إليه رجلان ، فحكم لأحدهما على الآخر ، فغضب المحكوم عليه ، وذهب إلى قاضي صيدا ، واسمه « معروف الشامي » فأرسل القاضي إلى جبع من يطلبه ، وكان مقيماً في كرم له مدة ، منفرداً عن البلد للتأليف ، فقال له بعض أهل البلد قد سافر عنا. فخطر ببال الشهيد أن يسافر إلى الحج بقصد الاختفاء ، فسافر في محمل مغطى.

وكتب قاضي صيدا إلى سلطان الروم : أنه قد وجد ببلاد الشام رجل مبدع ، خارج عن المذاهب الأربعة ، فأرسل السلطان رجلاً في طلب الشيخ ، وقال له : ائتني به حياً حتى أجمع بينه وبين علماء بلادي ، فيبحثوا معه ، ويطلعوا على مذهبه ، فيخبروني ، فأحكم عليه بما يقتضيه مذهبي فجاء الرّجل فأخبر أن الشهيد قد توجه إلى مكة ، فذهب في طلبه ، فاجتمع به في طريق مكة ، فقال له : تكون معي حتى نحج بيت الله ثم افعل ما تريد ، فرضي بذلك.

فلما فرغ من الحج سافر معه إلى بلاد الروم ، فلما وصل إليها رآه رجل فسأله عن الشهيد ، فقال رجل من علماء الشيعة الإمامية ، أريد أن أوصله إلى السلطان ، فقال : أفلا تخاف أن يخبر السلطان بأنك قد قصرت في خدمته وآذيته ، وله هناك أصحاب يساعدونه ، فيكون سبب هلاكك؟ بل الرّأي أن تقتله وتأخذ رأسه إلى السلطان ، فقتله في مكان من ساحل البحر ، ودفن هناك ، وأخذ الرّجل رأسه إلى السلطان ، فأنكر عليه ، وقال : أمرتك أن تأتيني به حياً ، فقتله.

الشهيد والتمهيد

جمع الشهيد في هذا الكتاب بين فني : تخريج الفروع على الأصول ، وتخريج الفروع على القواعد العربية ، وبحق أن هذا الكتاب هو أفضل الكتب

١٨

التي صنفت في هذا المجال ، لأنه يظهر عند مقارنة هذا الكتاب مع سائر الكتب : أن الشهيد كان واقفاً على نقاط الضعف الموجودة في سائر المصنفات ، فتجنّبها بمهارة تامة.

ومن نقاط الضعف : خروج أكثر المصنفين عن الطريق المؤدي إلى الغاية المرسومة لهذا الفن ، والدخول في بحوث جانبية ، والتطويل الزائد ، وإيراد فروع لا تترتب على القواعد ، وإلصاقها بها.

فاعتمد الشهيد السعيد الاختصار ، والاكتفاء بماله دخل في الهدف الّذي صنفت له هذه الرسالة وأمثالها وعدم تجاوزه ، والاقتصار على الفروع المحقّق ترتبها على القاعدة ، ولا أقل من الفروع التي استند فيها البعض إلى القاعدة.

ولم يكتف الشهيد بذكر القاعدة والخلاف فيها ، ولكن طعمه بذكر الدليل في بعض الأحيان ، كما سار عليه في كتابه الروضة البهية. ولا يعد هذا إخلالاً بالغرض ، بل المقترح هو ذكر الأدلة والنقض والإبرام ، ومن ثم التفريع ، ليكون تاماً من كل جهة ، وممهداً لاستنباط الأحكام الشرعية بمعنى الكلمة.

ولا بد من الإشارة إلى المصاعب التي واجهها الشهيد في تصنيف هذا الكتاب ، فقد واجه الشهيد مصاعب كثيرة ، وتتلخص في سبقه إلى التصنيف في هذا الفن بين علماء الإمامية ، وكل ما هو موجود من الكتب المصنفة في هذا الفن ، فهو موضوع على وفق قواعد العامة الأصولية والفقهية ، وبيّنا سابقاً أن أكثر الفروع التي أوردوها متعلقة بالطلاق المتعدد والمشروط ، والتي لا مشروعية لها عند الإمامية ، ولهذا واجه مشكلة في التفريع في كثير من القواعد. وحل الشهيد هذه المشكلة : إما بتحري الفروع النادرة ، أو العدول من الطلاق إلى الظهار ، لأنه يقبل التعليق على الشرط عند بعض علمائنا ، أو إلى اليمين أو النذر أو العتق أو الطلاق ، أو التفريع بالطلاق مع التذكير أنه على وفق مذهب العامة ، فيقول مثلاً : مما يتفرع عليه عند العامة ، أو مما فرع عليه

١٩

العامة ، وهكذا.

ولكن مع كل محاولته تلك ، التجأ إلى إيراد ألفاظ الحديث الواردة من طرق العامة فقط ، والبحث حول تطبيق القواعد عليها ، ولكنه استقى منها ما ورد مضمونه من طرقنا ، وطرح الباقي.

وهنا يبقى المجال مفتوحاً للمحققين لممارسة هذا الفن ، وتطويعه مع قواعد الإمامية ، وألفاظ حديثهم ، ومواكبته مع التقدم الشامخ في مجال علم الأصول.

وعلى أي حال ، كتاب التمهيد كنز ثمين ، جمع الأصول ، وقواعد اللغة العربية ، والفقه ، وبالأخص المسائل النادرة ، التي لم يتعرض لها العلماء ، بالإضافة إلى الوقائع والأحداث التأريخية الطريفة ، كل ذلك في اختصار غير مخل.

وأعجب ما في هذا الكتاب الاختصار والإيجاز الموجود فيه ، حتى قيل : إنه ( أي الشهيد ) لما رأى كتابي التمهيد والكوكب الدري ، كلاهما للأسنوي الشافعي ، أحدهما في القواعد الأصولية ، والآخر في القواعد العربية ، وما يتفرع عليها ، وليس لأصحابنا مثلهما ، ألف هذا الكتاب ، وجمع بين ما في الكتابين في كتاب واحد ، بنحو يثير الدهشة.

ونحن نقول : إن الأمر أبلغ من ذلك كما بينا أولا ، وبالإضافة إلى المزايا الأخرى للكتاب ، التي تكلمنا سابقاً عنها ، فلقد أحسن وأجاد فلله درة وجعل الجنة مستقره.

تحقيق الكتاب

اعتمدنا في تحقيق هذه الرسالة القيمة على نسختين خطيتين :

١ ـ نسخة المكتبة الرضوية المرقمة ٧٣٣٤ ، والتي تم نسخها سنة ٩٦٨

٢٠