الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

( المحاسن ) (١) الاتّحاد (٢).

وبالجملة ، فظهور تغايرهما شرعاً ولغةً مما مرّ ، ويأتي لا ريبَ فيه. كما أنّ حكم هذا القائل تبعاً للمجلسيّ بالاتّحاد مطلقاً غيرُ وجيه. نعم ، لا يبعدُ احتمال اتّحادهما في ذلك الزمان ، لا مطلقاً ، كما لا يخفى على نبيه.

وأمَّا قوله : ( ولم يذكرْ أهلُ اللغة الربيثا ، فصار غيرَ معروف ).

ففيه : أنَّه لا فائدةَ في كون هذا الصنف معروفاً عند أهل اللغة أو مجهولاً ليتوقّف الحكمُ بالحلّ والحرمة عليهما ، بل المدارُ على حصول العلامة المجعولة من الشارع لحلالِ السمك وحرامه ، وعدمِه. فمتى حصلتْ حُكِمَ بالحلّ مطلقاً ، سواء عُرِفَ اسمُه أم لا ، ومتى لم تحصلْ حُكِمَ بالحرمة كذلك.

ولهذا ترى الأئمّةَ عليهم‌السلام متى سُئِلوا عن صنفٍ منه أحالوهم على تلك العلامة ، أو أجابوهم بأنّ له فَلْساً أو قِشْراً في صورة الحلّ ، أو بأنّه ليس له شي‌ءٌ منهما في صورة الحرمة ، كما علّلَ عليه‌السلام تحليل الربيثا بقوله عليه‌السلام : « أما تَراها تُقَلْقِلُ فِي قِشْرِها؟ ».

هذا ، وقد صرّح بعدم معروفيّته أيضاً في ( البحار ) ، حيث قال : ( ولم يُذْكر الرّبيثا فيما عندنا من كتب اللغة ، ولا كتب الحيوان ، لكنّه مذكورٌ في أخبارنا ، وكتبِ أصحابنا ، ولم يختلفوا في حلّه ) (٣) انتهى.

ولعلّه رحمه‌الله أراد به تقريب اتّحاده مع الإربيان ؛ لئلّا تخلو أخبارُ الربيثا عن موضوعٍ يتعلّقُ به حكمُ ذلك العنوان ، إلَّا إنّ الملازمة في حيّز المنع والبطلان ؛ لجواز أن يُراد به صنفٌ آخر غيرُ معروف في هذا الزمان.

ولهذا استظهر بعضُ مشايخنا (٤) قدّس الله روحه في شرحه على النافع أنّ الربيثا

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٢٧٣ / ١٨٧٥.

(٢) البحار ٦٢ : ١٩١ / بيان ، حيث قال فيه : ( ويظهر من خبر سيأتي أنّهما واحد ).

(٣) البحار ٦٢ : ١٩١ / بيان.

(٤) الظاهر أنّه الشيخ عبد الله بن عباس الستري البحراني ، المتوفّى حدود سنة (١٢٧٠) ، فإنّ له شرحاً على ( المختصر النافع ) ، اسمه ( كنز المسائل ).

وذكر صاحب أنوار البدرين رحمه‌الله في ترجمة الشيخ عبد الله الستري : حدثني الشيخ أحمد ابن الشيخ صالح بأنّه أدرك هذا الشيخ وقرأ عنده قليلاً في علم التوحيد ، وأنّ أباه كان أحد تلامذته أيضاً.

٤٠١

هو السمك المعروف عندنا بـ ( الصافي ) ؛ لأنّه عند قبضه خالٍ من الفلوس الظاهرة ، كالكنعت ، لأنّه كما يقولُ الصيادون : إذا وقع في آلة الصيد يرتعشُ فينفضُ فلوسه ، ولا يظهر منها إلّا يسيرٌ في مواضع مخصوصة. ومع رجحانِ هذا الاحتمال يسقطُ ذلك الاستدلال.

الفرق بين الرَّبيثا والرَّبيان

وأمّا قوله : ( وبعضُ الأصحابِ فرّقَ بين الرَّبيثا والرّبيان ).

ففيه : أنّ الفارق هو الكلّ فضلاً عن الجلّ ، إذ لم يصرّح أحدٌ بالاتّحاد من علمائنا الأمجاد ، فلو عكس لكان أوْلى بالاعتماد.

قولُه : ( كما صرّح به المصنِّفُ في ( الدروس ) والعلّامةُ في ( التحرير ) ، وجوّزا أكله ).

أقول : عبارةُ ( الدروس ) و ( التحرير ) صريحةٌ في الفرق بينهما ، وحلّ أكلهما ، على وجهٍ يشعرُ بعدم الخلاف فيهما.

قال الشهيدُ في ( الدروس ) : ( وإنّما يحلّ السمك ذو الفلس ، كالشبّوط بفتح الشين ، والتشديد والربيثا والإربيان بكسر الهمزة وهو أبيضُ كالدود ) (١). انتهى.

فإنّ عدّهما في جملة ذلك العنوان ظاهرٌ في عدم الخلاف ، بل الإجماع من علمائنا الأعيان.

وفي ( التحرير ) : ( يجوز أكلُ الكنعث ، والربيثا بفتح الراء والإربيان بكسر الألف وهو أبيضُ كالدود ، وكالجراد ) (٢) انتهى.

وهو صريح كسابقه في عدم الاتّحاد.

ولكنّه رحمه‌الله في ( القواعد ) (٣) اقتصر على الربيثا ، ونفى البأسَ فيه ، كـ ( الشرائع ) (٤).

__________________

وفي رسالة ( الحق الواضح ) : أنّه قرأ شرح الباب الحادي عشر للمحقق الشيخ مقداد السيوري الحلّي رضى الله عنه عند الشيخ عبد الله الستري. زاد المجتهدين ١ : ٥٤ ، أنوار البدرين : ٢٣٣ ، الذريعة ١٤ : ٥٩.

(١) الدروس ٣ : ٩. (٢) التحرير : ١٦٠

(٣) قواعد الأحكام : ١٥٥.

(٤) شرائع الإسلام ٣ : ١٦٩ ، وفيه : ( ويؤكل الرَّبيثا والإربيان ).

٤٠٢

وفي ( النافع ) وشرحِه ( الرياض ) : ( ويؤكل الرَّبيثا بكسر الراء والباء والإربِيان ، بكسر الهمزة والباء ) (١).

ثمّ نفى الشارحُ الخلافَ في حلّهما ، وحلّ الطمر ، والطبراني ، والإبلامي ، معلّلاً بكون كلٍّ من هذه الخمسة ذات فَلْس .. (٢) إلى آخره.

ويكفي في الدلالة على المراد ما سمعت من ( البحار ) من نفي الخلاف في عدم الاتّحاد (٣).

وأمّا قوله : ( وقد ورد في ( المحاسن ) (٤) عن الصادق عليه‌السلام جوازُ أكلِ الربيان ).

ففيه : أوّلاً : أنّ جواز أكل الإربِيان لم ينحصرْ في ( المحاسن ) فلا وجهَ لحصره فيه ، إذ سمعتَ ويأتي صراحةً صحيح يونس بن عبد الرحمن ، المرويّ في ( التهذيب ) (٥) في حلّ أكله ، ونفي البأس فيه ، من غير تثريب.

وثانياً : أنّه منافٍ لما حكم به من اتّحاده مع الربيثا ، التي تكثّرت أخبارُها في الكتب الأربعة (٦) ، وغيرِها من كتب الأخبار ، فيدلّ على حلّه جميعُ ما دلّ على حلّ الربيثا من تلك الآثار.

وأمّا قوله : ( وفي ( العلل ) عدم جوازه ، كما في رواية سماعة المرويّة في ( العلل ) عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا تأكلْ جرِّيثاً (٧) ، ولا مارماهياً ، ولا طافياً ، ولا ربيانَ ، ولا طحالاً ؛ لأنّهُ بيتُ الدم ، ومضغةُ الشيطان » ) (٨).

ففيه : أنّ هذه الرواية لا يصحّ الاعتمادُ عليها ، ولا تصلحُ للركونِ إليها :

أمّا أوّلاً : فلمعارضتها بما هو أقوى سنداً وأكثر عدداً ، وبما كان بعمل الأصحاب

__________________

(١) المختصر النافع : ٣٦١ ، رياض المسائل ٨ : ٢١٩.

(٢) رياض المسائل ٨ : ٢١٩.

(٣) البحار ٦٢ : ١٩١ / بيان.

(٤) المحاسن ٢ : ٢٧٣ / ١٨٧٥.

(٥) التهذيب ٩ : ١٣ / ٥٠.

(٦) الكافي ٦ : ٢٢٠ / ٥ ، ٨ ، الفقيه ٣ : ٢١٥ / ٩٩٨ ، ٩٩٩ ، التهذيب ٩ : ٨١ / ٣٤٦ ، ٣٤٧ ، الاستبصار ٤ : ٩١ / ٣٤٥ ، ٣٤٦ ، ٣٤٧.

(٧) في المصدر : « جرياً ».

(٨) علل الشرائع ٢ : ٢٨٤ / ٢ ، وفيه : ( ولا إربيان ).

٤٠٣

معتضداً ، ولذا عمل بها ابنُ إدريس ، مع عدم عمله بالآحاد ، ورميِهِ كثيراً من الأخبار ، بأنّها من الآحاد مطّرداً ، ولكون كتاب ( العلل ) دون ( الفقيه ) و ( الخصال ) بها منفرداً.

وأمّا ثانياً : فلخلوّها في ( الكافي ) و ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) من ذكر الإربيان.

ففي ( الكافي ) : عن العدّة ، عن أحمد بن محمّد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا تأكل الجرّيثَ ، ولا المارماهي ، ولا طافياً ، ولا طحالاً ؛ لأنّه بيتُ الدّمِ ، ومضغةُ الشّيطان » (١).

وفي ( التهذيب ) : روى الحسينُ بن سعيد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، وزاد في ( الاستبصار ) (٢) : عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ولعلّ سقوط لفظ ( أبي عبد الله ) من ( التهذيب ) من سهو الناسخ قال

لا تأكلْ الجرّيثَ ، ولا المارماهي ، ولا طافياً ، ولا طحالاً ؛ لأنّه بيتُ الدم ، ومضغةُ الشيطان (٣).

والدليل على اتّحادها مع الروايتين المذكورتين اشتراكُ الجميع في الراوي وهو عثمان بن عيسى ، عن سَماعة والمرويّ عنه ، وهو الصادق عليه‌السلام ، وسياق الرواية.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الذي وجدته في ( العلل ) في نسخة منها بدل الإربيان : « ولا أرنباً » وهو ظاهرٌ.

وفي نسخةٍ بدله : « ولا رسات » بالراء والسين المهملة ، والألف ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانية.

وفي نسخة اخرى صحيحة معتمدة مضبوطة ، بدله : « ولا ربيات » بالراء المهملة ، ثمّ الباء الموحّدة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتية ، ثمّ الألف ، ثمّ التاء أيضاً كذلك.

وفي نسخة رابعةٍ بدله بهذه الصورة : « ولا ربثار ».

وما سوى النسخة الأُولى غير ظاهر المعنى.

فلعلّ الناقل أو الناسخ صحّفه بالإربيان لقصد الإصلاح ، لعدم معرفتِهِ لمعنى

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٢٠ / ٤. (٢) الإستبصار ٤ : ٥٨ / ٢٠٠.

(٣) التهذيب ٩ : ٤ / ٨ ، وفيه : ( عن سَماعة قال : قال : لا تأكل .. ).

٤٠٤

الألفاظ المذكورات ، لعدمِ وجود معناها في اللغات ، فصحّف التاء بالنون في النسخة الثالثة ، مع مخالفة اللفظ الفصيح من جهة منع المصروف من الصرف ، الذي لا داعي إليه ، ولا ضرورةَ تساعدُ عليه.

ولعدمِ ظهور معناه كتبَ عليه بعضُ المحشّين على النسخة المصحّحة لفظ : ( كذا ) ؛ تنبيهاً على أنّ الموجودَ في نسخ ( العلل ) هذا اللفظ ، وإنْ لم يظهرْ معناه.

ولعلّ الأقرب للفظ كونهُ مصحّف ( الرّبيثات ) جمع ( ربيثا ) ، فينطبق على ما في موثّق عمّار (١).

ويجابُ عنه بما سبق من الاعتذار الصحيح الاعتبار.

أو جمع ( ربيث ) أو ( ربيثة ) ، بمعنى الجرّيث ، كما نقله في ( مجمع البحرين ) (٢) عن الغوري (٣) ، فينطبق على القاعدة ، لكن ينافيه استلزامه التكرير بلا فائدة.

ويمكنُ الجوابُ عنه بما يجابُ به عن الجمع بين الجرّيث والمارماهي أو المارماهيج بناءً على اتّحادهما ، كما عن بعض اللغويّين ، وإنْ كان ظاهر الأخبار وجلّ الأصحاب أو كلّهم المغايرة ، فيحمل المارماهي أو المارماهيج على معناه العرفي العربي ، وهو حيّةُ البحر ، وهو صنفٌ معروفٌ من السمك الحرام ، بصورة الحيّات البريّة.

ويحمل ( الربيث ) على معنى الجرّيث أيضاً من باب عطف الشي‌ء على مرادفه ، أو عطف التفسير ، أو يحمل المارماهي أو المارماهيج على معناه الغير المشهور ، المرادف للجرّيث ، ويكون عطف ما بعد الجرّيث عليه جميعاً من باب عطف الشي‌ء على مرادفه ، أو العطف التفسيري أيضاً له ، للتّنبيه على تحريم هذا الصنف ، سواء سُمِّي بالمارماهي ، أو المارماهيج ، أو الجرّيث ، أو الربيث ، لاختلاف أسمائه بحسب اختلافِ الأزمنة والأمكنة ، فيكونُ من قبيل المعاني المترادفة ، التي

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٨٠ / ٣٤٥ ، الاستبصار ٤ : ٩١ / ٣٤٨.

(٢) مجمع البحرين ٢ : ٢٥٤.

(٣) في المخطوط : ( الغوزي ) وما أثبتناه من المصدر. انظر : الأعلام ٥ : ١٢٣.

٤٠٥

تختلف في المعرفة.

وبالجملة ، فبهذا الاضطراب والاعتلال ، يحصلُ في هذه الرواية الاختلال ، فلا يصحّ الاعتمادُ عليها في الاستدلال ، مع مخالفة الأُصول والأدلّة بحال.

وإنّما كان الطحالُ مضغة الشيطان ؛ لما رواه الصدوقُ قدس‌سره في ( العلل ) في الصحيح على الصحيح ، أو الموثّق في المشهور عن أبان بن عثمان ، عن الصادق عليه‌السلام : « إنَّ إبراهيمَ هبطَ عليه الكبشُ مِنْ ثَبِير وهو جبلٌ بمكّة ليَذْبَحَهُ ، [ أتاه إبليس (١) ] فقال له : أعطِنِي نَصِيبِي مِنْ هذا الكَبْشِ ، فَقَالَ : أَيُّ نَصيبٍ لَكَ ، وَهُوَ قُرْبانُ ربِّي ، وفداءٌ لابني؟ فأوحى اللهُ إليه : إنّ لَهُ فِيهِ نَصِيباً ، وَهُوَ الطّحالُ ، لأنّهُ مَجْمَعُ الدَّم » (٢). واللهُ أعلم.

وأمَّا قوله : ( فالجمع بين خبري ( المحاسن ) (٣) و ( العلل ) (٤) حملُ خبر ( المحاسن ) في الجواز على التقيّة ؛ لأنّه مذهبُهم ).

ففيه : أوّلاً : أنّه لا حاجة لهذا الحمل الخالي من السداد بعد إثبات عدم صلوح ما يخالفها للاعتماد.

وثانياً : أنّ في خبر ( المحاسن ) ما ينافي حمله على التقيّة ؛ لتعليله عليه‌السلام التحليل بأنّ لها قشراً ، لقوله عليه‌السلام : « أما تَراها تُقلقِلُ في قِشْرِها؟ » (٥).

وهذا التعليل ينافي تلك البليّة ، لابتنائها على تحليل جميع السُّموك البحريّة ، والتخصيصُ بذات الفَلسِ أو القِشْرِ من خصائص الفرقة الإماميّة.

وأمّا قوله : ( ولم يرد في أخبار الكتب الأربعة دليلٌ على جواز أكل الربيان ).

ففيه ما مرّ من وجودِ التحليل في صحيح يونس المرويّ في ( التهذيب ) (٦) ، وأخبارِ الربيثا ، بناءً على ما استفاده من الاتّحاد في خبر ( المحاسن ) (٧) ، وهي متكثّرة ، وفي

__________________

(١) من المصدر.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٢٨٣ / ١ ، باختلاف يسير.

(٣) المحاسن ٢ : ٢٧٣ / ١٨٧٥.

(٤) علل الشرائع ٢ : ٢٨٤ / ٢.

(٥) المحاسن ٢ : ٢٧٣ / ١٨٧٥.

(٦) التهذيب ٩ : ١٣ / ٥٠.

(٧) المحاسن ٢ : ٢٧٣ / ١٨٧٥.

٤٠٦

الكتب الأربعة المشهورة متكرّرة (١).

فإن كان مستندُ الشبهةِ عدم وجود المحلّل فيها كما هو ظاهر كلامه فقد صحّ ما ينفيها ؛ لذهاب تلك العلّة بحصول ما يشفيها.

وأمّا قوله : ( والاحتياطُ لا يخفى ).

ففيه : أنّه إنْ أرادَ به التورّعَ والتقوى عن ترك ما لا بأسَ به من المستلذّات والمحلّلات ، فلا بأس. مع أنّه تعالى يحبّ أن يُؤخذَ برخصه ، كما يُؤْخذ بعزائمه ، كما رُوي عن سادات الناس (٢).

بل ورد في وجوب قصر الصلاة والصوم على المسافر بأنّه هديّةٌ في خبر (٣) أو صدقة تصدّقَ بها كريمٌ في آخر (٤) فَمن لم يقبل ذلك فقد ردَّ على اللهِ هديّته ، أو على الكريمِ صدقته.

وإنْ أراد به وجوبَ الاحتياط شرعاً ، فلا وجه له ، لأنّه ؛ إمّا أنْ يجعله من بابِ تعارض النصّين وعدمِ المرجّح في البين ، أو من باب الشكّ في المصداق الخارجي ؛ للشكّ في كونِ المذكور مِن صنفِ الحلال أو صنفِ الحرامِ ؛ لوجوبِ دفعِ الضررِ المظنونِ باحتمال كون الفرد المشتبهِ من الحرام ، ولا ثالث لهذين الوجهين.

وعلى كليهما لا دليل على وجوب الاحتياط في شي‌ءٍ من الأمرين.

أمّا على الأوَّل ؛ فأوَّلاً ؛ لعدم وجودِ المعارض ؛ لأنّ مخالفَ الحلِّ بالمعارضة غيرُ ناهض.

وثانياً ؛ لعدم ثبوت الدليل على وجوبه ، أو الترجيح بموافقته لدى التعارض.

وأمّا على الثاني ؛ فلظهور عدم الخلاف هنا في إجراء أصل الإباحة ، والبراءة

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٢٠ / ٥ ، الفقيه ٣ : ٢١٥ / ٩٩٨ ، ٩٩٩ ، التهذيب ٩ : ٨١ / ٣٤٦ ، ٣٤٧ ، الإستبصار ٤ : ٩١ / ٣٤٥ ، ٣٤٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٨ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٥ ، ح ١.

(٣) الخصال : ١٢ / ٤٣ ، الوسائل ٨ : ٥٢٠ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ٢٢ ، ح ١١.

(٤) الكافي ٤ : ١٢٧ / ٢ ، الوسائل ٨ : ٥١٩ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ٢٢ ، ح ٧.

٤٠٧

الأصليّة للأدلّةِ القويّة ، النقليّة والعقليّة.

فإثباتُ التكليف بمجرّد هذه الشبهة والالتباس ، لعلّه من الوسواسِ الخنّاس ، الذي يوسوسُ في صدورِ النّاسِ ، من الجنّة والنّاس ، لاندفاع الضررِ المظنونِ بما مرّ ، بل انهدامه من الأساس ، إذ قد انهدم بما ذكرناه ما أصَّله ، وانخرم ما أجملهُ وفصَّله.

أدلّة الحلّيّة

ولكن لا بأس أنْ نشفعَ هذا المرام بتفصيل ما يقشعُ سحائب الأوهام ، ممّا يدلّ على اندراجِ هذا الفرد في الحلال ، وعدم صلوحه للانتظام في سلك الحرام ، وهو وجوهٌ ظاهرةٌ في التمام :

الأوّلُ : خصوص خبر يونس بن عبد الرحمن ، السابق ، وهو ما رواه في ( التهذيب ) بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار ، عن محمّد بن عيسى بن عُبَيْد ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : قال : قلت له : جُعلتُ فداك ما تقول في الإربِيان؟ قال : فقال لي : « لا بأسَ ، والإربِيانُ ضَرْبٌ مِن السمَكِ » (١) .. إلى آخره.

وهذا الخبرُ صحيحٌ على الصحيح ، إذ ليس في رجاله مَنْ ينافي التصحيح إلّا محمّد بن عيسى ، ويونس بن عبد الرحمن ، وكلاهما من الوثاقة والعدالة بمكانٍ.

أمّا محمّد بن عيسى ؛ فلانحصار تضعيفهِ في ابن الوليد ، فيما تفرّد بروايته من كتب يونس ، لمّا رأى فيها من أسرار الأئمة عليهم‌السلام ما يستلزم عنده الغلو.

وحيث عُلِمَ من ابن الوليد ومَنْ تبعه من القمّيّين رميُ كثيرٍ من الرواة بالغلوّ بمجرّد روايتهم ما ينافي اعتقادهم في النبيّ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو بنفي السهو (٢) ، لم يصحّ الاعتماد عليه وإنْ تبعه تلميذه الصدوق قدس‌سره ، كما هو ديدنه على ما صرّح به (٣).

وأمَّا تضعيفُ الشيخ فهو ناشئ من تضعيفهما ، وممّا ذكره من أنّه قيل : إنّه كان

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١٣ / ٥٠ ، وفيه : ( ما تقول في أكل السمك؟ ).

(٢) الفقيه ١ : ٢٣٥ / ١٠٣١.

(٣) الفقيه ٢ : ٥٥ / ذيل ٢٤١ ، عيون أخبار الرضا ٢ : ٢١ / ذيل ٤٥.

٤٠٨

يذهب مذهب الغلاة (١). مع أنّ القائل غيرُ معلوم ، وعلى العلم فمنشؤه ومستنده معلومٌ. ولمّا ظهر للنجاشي الذي هو أضبط علماء الرجال ضعفُ منشأ الضعف الذي ظهر لابني الوليد وبابويه ، لم يلتفتْ إليه ، بل حكم بكونه ثقةً عيناً ، وأكّد ضعفَ ذلك الاستنباط :

أوّلاً : بإنكار الأصحابِ له ، وإنكارِهم المِثْل له.

ثانياً : بحبّ الفضل بن شاذان له ، وثنائِهِ عليه ، وميلِهِ إليه ، وأنّه ليس في أقرانه مثله (٢).

ونقل رحمه‌الله عن أبي العباس بن نوح تصويب استثناء ابن الوليد مَنْ استثناه ، ممّن يروي عنه محمّد بن أحمد بن يحيى ، إلّا في محمّد بن عيسى بن عُبَيْد ، لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة (٣) ، بناءً على قراءة : ( رابَهُ ) بالباء الموحّدة بالماضي ، المسند إلى ابن الوليد ، من الرّيب.

وأمّا على قراءةِ ( رأيُهُ ) بالياء المثنّاة بالجملة الاسمية ، العائد ضميرها إلى ابن بابويه ، فيستفادُ منها عدم القطع بموافقة ابن بابويه لشيخه ابن الوليد ، في استثناء محمّد بن عيسى ، فيتمّ المطلوب.

وأمّا قدحُ نصر بن الصباح بأنّه أصغر في السن من أن يروي عن ابن محبوب (٤) ، فمبناه على أنّ الإجازةَ يُشترط فيها القراءةُ

على الشيخ ، أو قراءة الشيخ على التلميذ ، وفهمهُ لما يرويه ، وصغُر سنّه حينئذٍ مانعٌ من قبول روايته ، لعدمِ الاعتماد حينئذٍ على فهمِهِ ودرايته.

وفيه : أنّ أهل الدراية غيرُ متّفقين على المنع من الرواية إجازةً بهذا الطريق ، بل الأكثر على خلافه ، فبناؤه على مذهبه لا يستلزمُ المنعَ منه مطلقاً. ولذا استقرّ رأيُ المتأخّرين من أهل الدراية على جواز الإجازة لغير البالغ (٥) ، بل تعدّى بعضُهم

__________________

(١) الفهرست : ١٤٠ / ٦٠١.

(٢) رجال النجاشي : ٣٣٣ ٣٣٤ / ٨٩٦.

(٣) الخلاصة : ٢٧٢.

(٤) رجال الكَشِّي ٢ : ٨١٧ / ١٠٢١.

(٥) الرعاية في علم الدراية : ٢٧١ ، البحار ٢ : ١٦٦ / بيان ، مقباس الهداية ٣ : ١٢٧.

٤٠٩

للإجازة للحمل (١).

وبه يندفع وجه القدح في روايته عن ابن محبوبٍ أيضاً من حيث صغر سنِّه ، المانع من روايته عنه.

ولذا اتّفق المتأخرون من علماء الرجال على وثاقتهِ ، وصحّةِ عقيدته.

وأمّا يونس بن عبد الرّحمن فلم يطعنْ عليه إلّا القمّيّون.

ومنشأه ما سمعتَ في محمّد بن عيسى ، كما يُشعرُ به قولُ الكاظم عليه‌السلام له : « ارْفِقْ بهم ، فإنّ كلامَكَ يَدُقّ عَلَيْهِم » (٢).

وقولُ الرضا عليه‌السلام : « دارِهِم ، فإنَّ عُقُولَهُم لا تبلغُ » (٣).

ويكفي في ردّهِ ردُّ الشيخ (٤) والنجاشي (٥) والكَشِّي (٦) له ، مع أنّه ممّن نقل الكشّي إجماعَ العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه (٧) ، فتأمّل.

وليس هذا موضع ذكره ، ونسأل الله التوفيقَ للوصولِ إلى ترجمةِ هذين الرجلين في كتابنا ( زاد المجتهدين ) (٨) وبسط الكلام فيما يدفع عنهما الرّين.

وقد اتّضح بما ذكرناه حالُ السند ، وأنّه صحيح معتمد.

وأمّا دلالتُهُ على المطلوب ، فلا يخفى ما فيها من الظهور والصراحة على اولي القلوب ، وتأكيدُ الحلّ بقوله عليه‌السلام : « والإربيان ضَرْبٌ من السمَكِ » (٩) للتنبيه على أنّ مخالفته للأصناف المعهودة من السمك الحلال بالصورة لكونه في صورة الدود أو الجراد ، كما مرّ في كلام معرّفيه لا تقدحُ في حلّه ولا تنافيه ، لوجود العلامة المحلّلة للسمك فيه ، واللهُ العالمُ بظاهرِ الأمر وخافيه.

الثاني : خبرُ ( المحاسن ) المذكور ، المرويّ عن محمّد بن جمهور ، الذي ضَعْفُ

__________________

(١) الرعاية في علم الدراية : ٢٧١ ، مقباس الهداية ٣ : ١٢٦.

(٢) رجال الكَشِّي ٢ : ٧٨٢ ٧٨٣ / ٩٢٨.

(٣) رجال الكَشِّي ٢ : ٧٨٣ / ٩٢٩.

(٤) رجال الطوسي : ٣٦٤ / ١١.

(٥) رجال النجاشي : ٤٤٦ / ١٢٠٨.

(٦) رجال الكَشِّي ٢ : ٧٨٨ / ٩٥٤.

(٧) رجال الكَشِّي ٢ : ٨٣٠ / ١٠٥٠.

(٨) لم يصل رحمه‌الله إلى ذلك ، فقد وصل فيه إلى ترجمة ( أحمد بن أبي بُشر السرّاج ).

(٩) التهذيب ٩ : ١٣ / ٥٠.

٤١٠

سندِهِ بالعملِ وغيرِه مجبور ، الآمر صريحاً بأكلِهِ ؛ معلّلاً بأنّه جنسٌ من السمك ، مؤكّداً له بقوله : « أما تَراها تُقلقِلُ في قِشْرِها؟ » (١) ، أي : يُسمعُ لها صوتٌ إذا حرّكت في صرّةٍ ونحوها ، منبّهاً بذلك على سبب حلّها ، وهو أنّ لها قِشْراً وفَلْساً ، وإنْ خالفتْ الصنف المعهودَ من السمك في صورتها.

الثالث : الأخبارُ الواردة في حلّ الربيثا ، بناءً على ما استفاده هذا القائل تبعاً لظاهر المجلسيّ (٢) رحمه‌الله من اتّحاده مطلقاً مع الإربيان في خبر ( المحاسن ) ، وهي أخبارٌ في السند معتبرة ، وفي العدد متكثّرة ، وفي الكتب الأربعة وغيرها متكرّرة منها.

ما في ( الكافي ) و ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) و ( المحاسن ) بأسانيدهم إلى ابن أبي عُمير ، عن هشام بن سالم ، عن عمر بن حنظلة ، قال : حملتُ الربيثا في صرّةٍ إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، فسألتُهُ عنها؟ فقال : « كُلْها ». وقال : « لها قشرٌ » (٣).

وهو بوجود ابن أبي عمير الذي هو من أهل الإجماع على التصحيح صحيحٌ ، أو كالصحيح.

ومنها : ما في ( الكافي ) و ( التهذيب ) و ( الفقيه ) موثّقاً ، عن حنّان بن سدير ، قال : أَهدى فيضُ بن المختار إلى أبي عبد الله ربيثاً ، وأدخلها عليه ، وأنا عنده ، فنظر إليها فقال : « هذه لها قِشْرٌ » ، فأكلَ منها ، ونَحنُ نراه (٤).

ومنها : ما في ( الفقيه ) و ( التهذيب ) في موضعين منه عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن الرضا عليه‌السلام ما معناه : أنّه كتب إليه ، يسأله عن الرّبيثا ، واختلافِ النّاس فيه فكتب عليه‌السلام : « لا بأسَ به » (٥).

ومثلُها غيرُها من الأخبار المعتبرة ، ومَنْ أرادها فليراجع ( الوسائل ) (٦) ، أو غيرها

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٢٧٣ / ١٨٧٥.

(٢) البحار ٦٢ : ١٩١ / بيان.

(٣) الكافي ٦ : ٢٢٠ / ٥ ، التهذيب ٩ : ٨١ / ٣٤٦ ، الاستبصار ٤ : ٩١ / ٣٤٥ ، المحاسن ٢ : ٢٧٢ / ١٨٧١.

(٤) الكافي ٦ : ٢٢٠ / ٨ ، الفقيه ٣ : ٢١٥ / ٩٩٩ ، ولم نعثر عليه في التهذيب.

(٥) الفقيه ٣ : ٢١٥ / ٩٩٨ ، التهذيب ٩ : ٦ / ١٩ و ٨١ / ٣٤٧ ، وفيهما : « لا بأس بها ».

(٦) الوسائل ٢٤ : ١٣٩ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ١٢.

٤١١

من الكتب الجامعة المشتهرة (١).

ولم يرِدْ ما ينافيها إلّا خبر عمّار الساباطي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألتهُ عن الربيثا. فقال : « لا تأكلْها فإنّا لا نعرفُها في السمك يا عمّار » (٢).

وحمله في ( التهذيب ) (٣) و ( الاستبصار ) (٤) على الكراهة ، وتبعه في ( الوسائل ) (٥).

وبعد ملاحظةِ تلك الأخبار ، وجمعِها شرائط القوّة والاعتبار ، لا حاجةَ للجمع ؛ لعدم قابليّة المانع للمعارضة ، كي يحتاج للاعتذار ، مضافاً إلى أنّ جميع رجاله عدا محمّد بن أحمد فطحيّة إجماعاً ، أو مشتركةٌ بين فطحيٍّ وغيره ، وهو عمرو بن سعيد ، المشترك بين المدائني ، وبين ابن سعيد بن هلال الكوفي ، المختلف فيه أيضاً ، وأنّه ممّا تفرّد به عمّار ، الذي قيل فيه : إنّه مع سوء فهمهِ ينقل معاني الأخبار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

وهذا الوجه وإنْ لم يصلح حجّةً لنا لكنّه حجّةٌ على هذا القائل ، الذي كان لتحريم الإربيان أو كراهته يحاول. نعم ، يتمُّ لنا بها الاستدلالُ لو صحّ ما ذكرناه من الاحتمال ، واللهُ العالمُ بحقيقة الحال.

الرابع : عمومُ قولهِ تعالى ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) (٦).

الخامس : عمومُ قولهِ تعالى ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (٧).

السادس : عمومُ قوله تعالى ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (٨).

السابع : عمومُ قوله تعالى ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠ / ذيل ح ٤٤.

(٢) التهذيب ٩ : ٨٠ / ٣٤٥ ، الإستبصار ٤ : ٩١ / ٣٤٨ ، الوسائل ٢٤ : ١٤٠ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ١٢ ، ح ٤.

(٣) التهذيب ٩ : ٨١ / ذيل ح ٣٤٥.

(٤) الاستبصار ٤ : ٩١ / ذيل ح ٣٤٨.

(٥) الوسائل ٢٤ : ١٤٠ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ١٢ ، ذيل ح ٤.

(٦) البقرة : ١٧٢ ١٧٣.

(٧) المائدة : ٤.

(٨) المائدة : ٥.

٤١٢

الرِّزْقِ ) (١).

الثامن : عمومُ قوله تعالى ( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) (٢).

التاسع : عمومُ قوله تعالى ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) (٣).

والتقريب في هذه الآيات ظاهرٌ ، لدلالتها على حِلّ جميع الطيّبات ، المستلزمِ لحِلِّ المبحوثِ عنه ، بلا هنٍ وهناتٍ :

أمّا الصغرى ، فأوّلاً ؛ لأنّها وجدانيّة.

وثانياً ؛ لما مرّ عليك في خبر ( المحاسن ) (٤) من قول السائل : إنّه يُستطابُ أكلُه. وتقريرُ الإمامِ عليه‌السلام لذلك المرام.

وثالثاً ؛ لأنّ الطيِّب ؛ إمّا بمعنى ما كان طاهراً ، أو ما خلا عن الأذى في النفس والبدن ، أو ما يستلذّه الطبعُ المستقيم والذوقُ السليم ، أو ما لم يكنْ فيه جهةُ قبحٍ ومفسدة توجبُ المنعَ والتأثيم. ولا يخفى صدق هذه المعاني ، وحصولُها في هذا الفرد المراد ، كما لا يخفى على المرتاد.

وأمّا الكبرى ؛ فلهذه الآيات الشريفة ، الظاهرة في حِلِّ جميع ما كان من الطيّبات اللطيفة ، خصوصاً الآية الأُولى ، المشتملة على التأكيد بما ليس عليه مزيد ، كتعقيبه بالشكر له تعالى ، مقيّداً بقوله تعالى ( إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) (٥) ، ثمّ تعقيبه بحصر المحرّمات في تلك المذكورات.

فيستفادُ منه أنّ ما سواها ومنه المبحوثُ عنه منسلكٌ في سلك التّحليل ، إلّا ما أخرجه الدليل.

العاشر : عمومُ قولهِ تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ ) (٦).

فإنَّ ظاهرها الامتنان بتحليل السُّموك البحريّة ، خرج ما خرج بالنصّ والإجماع ، فبقي الباقي ومنه المبحوثُ عنه على أصل الحلِّيّة.

__________________

(١) الأعراف : ٣٢.

(٢) الأعراف : ١٥٧.

(٣) طه : ٨١.

(٤) المحاسن : ٢ : ٢٧٣ / ١٨٧٥.

(٥) البقرة : ١٧٢.

(٦) المائدة : ٩٦.

٤١٣

الحادي عشر : ظاهرُ قولهِ تعالى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (١).

فإنّ ظاهرَها واللهُ العالم امتنانُهُ سبحانه على عبادِهِ بخلقِهِ لأجلِهم جميعَ ما في الأرض لينتفعوا به في مصالحهم ، وأعظمها ما به قوامُ أبدانهم ، من مأكولاتهم ومشروباتهم ، خرج من ذلك ما قام على تحريمه الدليل ، فبقي الباقي ومنه المبحوثُ عنه على أصل التحليل.

ولا ينافيه ما ورد في بعض المراسيل مِن تفسيرها بالخَلْق (٢) ؛ لاعتبارهم لحملة على أنّه أحدُ الوجوه في انتفاعهم ، مع أنّ منفعة الاعتبار متوقّفة على إحراز منفعة بقاءِ الأعمار ، لأنّ الدنيا مزرعةُ الآخرة ، كما ورد عن الأطهار (٣).

الثاني عشر : ظاهرُ قولهِ تعالى ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ) (٤) ، وقولهِ تعالى ( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ) (٥).

فإنّ ظاهر الامتنانِ على نوع الإنسان بخلق البحر ليأكلوا منه الحيتان ، التي سمّاها لحماً طريّاً ، تنبيهاً على مزيد النعمة والإحسان ، يقتضي حِلّ ما لم يَقُمْ على تحريمه البُرهان ، ولا سيّما ما اشتمل على خواص تلتذّها الطباع ، ويكثر بها الانتفاع ، كالإربيان.

الثالث عشر : عمومُ الأخبارِ المعتبرة ، والنصوصِ المتكثّرة ، الدالّة منطوقاً ومفهوماً بحلّ كلِّ ما له قِشْرٌ من السّمك :

منها : صحيحُ محمّد بن مسلم ، المرويّ بطرق معتبرة في ( الكافي ) و ( التهذيب ) ، وفيه : إنا نؤتى بسمكٍ ، ليس له قشر ، فقال : « كُلْ ما لَهُ قِشْرٌ من السّمكِ ، وما ليسَ لَهُ قِشْرٌ مِنَ السَّمَكِ فَلا تأكُلْهُ » (٦).

ولا يضرّه وجود سهل في بعض طرقه من ( الكافي ) ، لأنّ الأمرَ في ( سهل ) سهل ،

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه‌السلام : ٢١٥ / ٩٩.

(٣) غوالي اللئلئ ١ : ٢٦٧ / ٦٦.

(٤) النحل : ١٤.

(٥) فاطر : ١٢.

(٦) الكافي ٦ : ٢١٩ / ١ ، التهذيب ٩ : ٢ / ١ ، باختلاف يسير فيهما.

٤١٤

لأنّ تضعيفه (١) ضعيفٌ منحلّ ، لا لما ذكره الميرزا كما هو موجود في نسخةٍ بعد تفسير العدّة ب : علي بن محمّد بن علّان ، ومحمّد بن جعفر الأسدي الثقة ، ومحمّد بن الحسن الصفّار ، ومحمّد بن عقيل الكليني من قوله رحمه‌الله : ( فلا يضرّ ضعفُ سهل ، مع وجود ثقةٍ معه في مرتبته ) ، إذ لا معنى له.

نعم ، يتمُّ معناه على ما نقله السيّد السري ، السيّد نعمة الله الجزائري رحمه‌الله في ( شرح التهذيب ) عن الميرزا من قوله : ( فلا يضرّ إذن جهالة محمّد بن عقيل ، مع وجود ثقةٍ في مرتبته ). انتهى.

وهو وإنْ صحّ به المعنى لكنّه لا يجدي ، مع ضعف سهلٍ وضعته.

ومنها : خبر حمّاد بن عثمان ، المرويّ في ( الكافي ) و ( التهذيب ) ، وفيه : قلتُ لأبي عبد الله عليه‌السلام : الحيتانُ ما يؤكلُ منها؟ فقال : « كُلْ ما كانَ لَهُ قِشْرٌ » (٢).

ومنها : حَسَنُ عبد الله بن سنان بإبراهيم بن هاشم ، على المشهور ، أو صحيحه على الصحيح المرويّ في ( الكافي ) و ( التهذيب ) ، وفيه : « لا تأكُلُوا ولا تَبِيعُوا ما لم يَكُنْ لَهُ قِشْرٌ مِنَ السَّمَكِ » (٣) ، إلى غيرِ ذلك من الأخبار المعتبرة.

والتقريب فيها ظاهرٌ ممّا مرّ في خبر ( المحاسن ) ، المعلِّل لحِلّ أكلِها بأنَّ لها قِشْراً (٤) ، وقوله عليه‌السلام : « أما تراها تقلقلُ في قِشْرِها؟ » (٥) ، فيندرج في قاعدة السّمك الحلال ، ويخرجُ عن دائرة الإشكال.

الرابع عشر : عدمُ الخلاف في حلِّه ، المصرّح به في ( الرياض ) (٦) و ( الجواهر ) (٧) ، والظاهر من كلام غيرِ واحدٍ من الأكابر ، ممّن أرسل حلّه إرسال المسلّمات ، من غير نقل خلافٍ في رواية أو فتوًى ، مع تصدّيهم لبيان المسائل الخلافيات.

__________________

(١) ضعّفه النجاشي في رجاله : ١٨٥ / ٤٩٠ ، والشيخ في الفهرست : ٨٠ / ٣٢٩.

(٢) الكافي ٦ : ٢١٩ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٣ / ٤.

(٣) الكافي ٦ : ٢٢٠ / ٦ ، التهذيب ٩ : ٣ / ٣ ، باختلاف يسير فيهما.

(٤) المحاسن ٢ : ٢٧٢ / ١٨٧١.

(٥) المحاسن : ٢ : ٢٧٣ / ١٨٧٥.

(٦) رياض المسائل ٨ : ٢١٩.

(٧) جواهر الكلام ٣٦ : ٢٥٠.

٤١٥

قال في ( الرياض ) بعد قول الماتن : ويؤكلُ الربيثا ، والإربيان ، والطمر ، والطبراني ، والإبلامي ما لفظه : ( بلا خلافٍ في شي‌ءٍ منها أجدُهُ ، لكونِ كلّ من هذه الخمسة ذات فَلْسٍ ) (١) .. إلى آخره.

وقال في ( الجواهر ) : ( وأمّا الإربيان : فلا خلاف نصّاً وفتوى في حلّه ) (٢) ، ثمّ استدلّ عليه بخبري يونس (٣) ومحمّد بن جمهور (٤) ، جامداً عليهما ، غير منبِّهٍ على ما يخالفهما.

وأمّا ما في ( البحار ) من نسبةِ حلّه للمشهور ، وأكلِهِ لأهلِ البحرين (٥) ، فالظاهرُ أنّهُ استفاد الخلاف مما مرّ في خبر محمّد بن جمهور ، حيث قال فيه : وأصحابنا يختلفون فيه .. إلى آخره. ولهذا لم ينقل رحمه‌الله الخلاف عن أحدٍ من المتقدّمين أو المتأخّرين.

وأمّا تخصيصه أكلَه بأهلِ البحرين ، مع اعترافِهِ بأنّ له فَلْساً ، فلا أعرفُ وجهه.

ولعلّ امتناعَ غيرِهم من أكله كراهةً لصورتهِ ، فإنّا وجدنا مَنْ يمتنع من أكل بعض أصناف السّمك الحلال ، مع اعترافه بطيبة ولذّته ، كراهةً لصورته.

فمنهم مَنْ لا يأكلُ سمكاً يسمّى ( الوَحَر ) عند أهل البحرين ، معتلا بأنّه يتوهّمُ منه صورة الوزغ.

ومنهم مَنْ لا يأكُل سمكاً يسمّى عندهم الكاسور ، معتلا بأنّه يتوهّمُ منه صورةُ الحيّة ، لكون رأسه صغيراً كرأسها.

كما أنّ بعضَ الناس لا يأكل الأرز الطيّب ، لأنّه يتوهّم من رائحته رائحة بول الفأر.

ومنهم مَنْ يمتنع من أكل التّوت ، وأكلِ الطعام اللطيف المسمّى عند بعضٍ بـ ( البلاليط ) وعند بعضٍ بـ ( السيويا ) ، متعلّلين بأنّهما على صورةِ الدود.

فلعلّ مَنْ يمتنع من أكل هذا الإربيان لكونه على صورة الدود ، حتى إنّ بعضَهم

__________________

(١) رياض المسائل ٨ : ٢١٩.

(٢) جواهر الكلام ٣٦ : ٢٥٢.

(٣) التهذيب ٩ : ١٣ / ٥٠ ، الوسائل ٢٤ : ١٤١ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ١٢ ، ح ٥.

(٤) الوسائل ٢٤ : ١٤٢ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ١٢ ، ح ١٠.

(٥) البحار ٦٢ : ١٧٨ / بيان.

٤١٦

يسمّيه دود البحر ، وقد وجدنا مَنْ أخبرنا بأنّه كان قبل رؤيته من المبالغين في أكله ومحبّته ، فكرهه لمّا رآه حيّاً ، كراهةً لصورته.

هذا ، مع أنّ اعترافه رحمه‌الله بأنّ أهل البحرين يأكلونه ويذكرون له خواصَّ كثيرة ، ممّا يكشف عن الجزم بتحليله والقطع بدليله ، لكثرةِ مَنْ فيهم من العلماءِ العاملين ، والفقهاءِ الورعين ، والمحتاطين ، والمتوقفين ، والممارسين للأقوال والأخبار ، والمطّلعين على خبايا تلك الآثار.

ولم يُنْقلْ عن أحدٍ منهم قديماً ولا حديثاً التوقّفُ في أكلهِ ، ولا المناقشةُ في حلّه ، بل يعدّونه من المآكل الحميدة ، والمطاعم اللذيذة ، ويهدونه للبلادِ البعيدة ، فيكشفُ عملُهُم عن حصول السيرة العمليّة على التحليل ، التي هي نعم الدليل ، واللهُ يقولُ الحقّ ، وهو يهدي السبيل.

اللهمّ اهدنا لما اختُلِفَ فِيهِ من الحَقِّ بإذنِك ، إنّكَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ إلى صراطٍ مستقيم ، وَتَفضّلْ عَلَيْنَا بِحُسْن الخاتِمة ، أنّكَ ذُو الفَضْل العَظِيم ، بحقِّ محمّدٍ وآلِهِ المبدأ والختامِ ، الذين مِنْ أنوارِهِم تُقتبسُ أحكامُ الحلالِ والحرام.

وقد اتّفَق الفراغُ من تحبيرِ هذه الرقوم ، وتحريرِ هذه الرسوم ، باليوم الثاني والعشرين من شهر شوّال من السنة ١٣٠٩ ، التاسعة بعد الثلاثمائة والألف ، من هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المفضال ، على مزيدِ استعجال ، واشتغال بال ، في النجف الأشرف ، على مشرّفه وبنيه الأعلام أفضل سلامِ السلام ، بقلم مؤلِّفِه الأقلِّ الجاني ، والأذلِّ الفاني : أحمد بن صالح البحراني ، ختم اللهُ له بالصالحاتِ ، ونيلِ الأماني ، إنّهُ على كلِّ شي‌ءٍ قدير ، وبالإجابةِ جدير.

٤١٧
٤١٨

فهرس الموضوعات

الرسالة الثامنة : نقض الرسالة الشيخ علي الستري في تعيين الإخفات بالبسملة في الأخيرتين        ٧

مقدّمة المؤلِّف................................................................. ٩

المناقشة في نسبة القول بالتخصيص للأكثر..................................... ١١

نسبة القول بتحريم الجهر لما عدا الامام لابن الجنيد............................... ١٣

رأي البهائي وأبي الصلاح.................................................... ١٤

الإطلاق في قول ابن البرّاج................................................... ١٤

كلام الصدوق.............................................................. ١٧

دلالة صحيحة صفوان....................................................... ٢١

دلالة حسنة الكاهلي......................................................... ٣٠

الإخفات بالبسملة في الأخيرتين............................................... ٣٣

دلالة صحيحة عبد الله بن سنان............................................... ٣٨

دلالة صحيحة زرارة......................................................... ٤٤

مناقشة أدلة الاستحباب...................................................... ٤٥

المناقشة في الشهرة........................................................... ٥٧

دلالة المقبولة الحنظلية........................................................ ٥٨

دلالة المرفوعة الزراريّة....................................................... ٦٠

٤١٩

مناقشة الاحتجاج لابن الجنيد................................................. ٦٢

مداومة أهل البيت عليهم‌السلام على الجهر........................................... ٦٦

خاتمة....................................................................... ٧٠

الرسالة التاسعة : مسألة في الجهر بالبسملة.................................. ٧٣

الرسالة العاشرة : أجوبة مسائل الشيخ جعفر البحراني...................... ٨٧

تنقيحُ الجواب............................................................... ٩٠

المسألة الأُولى : من لم يحضر صلاة العيد قريباً أو نائياً........................ ٩٠

المسألةُ الثانية : من حضرها نائياً........................................... ٩١

النقاش في السند............................................................. ٩٢

النقاش في المتن.............................................................. ٩٨

المسألة الثالثة :من حضرها قريباً........................................... ٩٩

المسألة الرابعة : لو لم يجب حضور المأمومين فهل يجب على الإمام الحضور ، أم لا؟ ١٠٥

المسألة الخامسة : لو كان العدد المعتبر في وجوب الجمعة ممّن حضر صلاة العيد إماماً ومأموماً ، فهل تجب بهم الجمعة ، أم لا؟...................................................................... ١٠٨

الرسالة الحادية عشرة : منهاج السلامة في حكم الخارج عن بلد الإقامة..... ١١١

الرسالة الثانية عشرة : حاشية على مباحث الخلل من كتاب الشرائع........ ١٣٣

الجلد المأخوذ من يد المسلم.................................................. ١٣٥

الصلاة في اللباس المجهول.................................................... ١٣٨

السهو في الأركان......................................................... ١٥١

الفرق بين الإخطار والداعي في النيّة.......................................... ١٥٦

زيادة ركن أو ركعة....................................................... ١٥٨

بطلان الصلاة بزيادة الركعة................................................ ١٦٤

٤٢٠