الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

نزاع.

وأمّا ما استند إليه من إطلاق الأخبار ، وكلماتِ علمائنا الأخيار ، فساقطٌ عن درجة الاعتبار ، لانصراف المجهول للمجهول الصرف ، الممتنع فيه المعرفة والاعتبار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار ، والله العالم العاصم من العثار.

الثالثة : أن يكون هذا المجهول لهما ممّا يتعذّر معرفته في الحال ، لكن يمكن معرفته في المآل ، بإِمكان الرجوع فيه إلى

فرضيّ ، أو عالمٍ بحقيقة الحال في مستقبل الأزمنة والأحوال ، مع مسيس الحاجة ، واقتضاء الضرورة النقل والانتقال.

ففي ( المسالك ) (١) و ( الرياض ) (٢) و ( الجواهر ) (٣) ، وعن ( الدروس ) (٤) و ( التنقيح ) (٥) : صحّة الصلح في هذا الحال ، نظراً لتعذّر العلم به حينئذٍ ، وفرض اقتضاء الضرورة له ، وانحصار الطريق فيه ، وإطلاق أدلة الصلح على المجهول ؛ إذْ الفرض تعذّر العلم به في هذا الحال.

فإنْ تمّ الإجماعُ ، وإلّا فلا يخلو من الإشكال ، إلّا مع التضرّر لهما بتعدّد أزمنة الاستقبال ، وندرة فرض الاستعلام على وجهٍ تحكم العادة فيه ببعد الاحتمال. لكن مقتضى القاعدة صحّة الصلح هنا ظاهراً لا باطناً ؛ لإمكان الاستعلام في ثاني الحال.

والعجب من بعض المحقّقين ، حيث ذكر أنّ صحّة الصلح استقربها جمعٌ من الأصحاب. ثمّ أورد في آخر كلامه أنّ الأصحاب حكموا بالصحّة هنا باطناً وظاهراً.

ولا يخفى ما فيه من الاستغراب. ولعلّ وجهه حصول الرضا باطناً منهما ، فيدخل تحت قوله تعالى ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٦) ولا يخفى ما فيه من عدم الانتهاض ، والله العالم.

الرابعة : أن يكونَ معلوماً عند مَنْ له الحقّ ، مجهولاً عند مَنْ هو عليه ، ولم يُعلمه به ، فصالحه الجاهل بأكثر ممّا هو له واقعاً ليتخلّص من دعواه.

__________________

(١) المسالك ٤ : ٢٦٣.

(٢) الرياض ٥ : ٤٢٦.

(٣) الجواهر ٢٦ : ٢١٧.

(٤) الدروس ٣ : ٣٣٠.

(٥) التنقيح الرائع ٢ : ٢٠٢.

(٦) النساء : ٢٩.

٣٤١

وقد صرّح جماعة من محقّقي المتأخّرين ( كالمسالك ) (١) و ( الرياض ) (٢) و ( الجواهر ) (٣) ؛ بفساده باطناً. وهو كذلك ؛ لكونه أكل مالٍ بالباطل ، وعدمِ صدق التجارة عن تراضٍ ، إلّا مع الرضا الباطني ببذل الزائد.

قالوا : إلّا إنّ العبرة حينئذٍ به ، لا بالصّلح.

ولا يخفى أنّه يرجع بالآخرة للفساد بالجهالة ؛ لما مرّ من الأدلّة المعتبرة ؛ لدخوله في قاعدة الفساد بالخدع والغرر وإدخال الضرر ، قصارى ذلك براءة ذمّة الباذل للزيادة من حقّ غريمه ، لإيصال حقّه له ، وهو خارجٌ عن المدّعى ، كما لا يخفى على مَنْ وعى ورعى.

أمّا لو صالحه والحال هذه بقدر حقّه ، أو بالأقلّ ، فقد صرّح البعضُ بصحّته ظاهراً وباطناً ، بالعكس مِنْ جهل مَنْ له الحقّ (٤).

بل صرّح في ( الرياض ) (٥) بالإجماع عليه ؛ لرضاه بالأقلّ مع علمه بالقدر ، فينتفي كلٌّ من الخدع والغرر والضرر.

نعم ، قد تتّجه المناقشة بأنّ الصحّة لانتفاء مانعيّة الغرر لا تستلزمها مع فقد شرط المعلوميّة اللازمة للمانعيّة ، إلّا أنْ يتمّ الإجماع ، ولا يخفى ما فيه من صعوبة التحصيل ، والله يقول الحقّ ، وهو يهدي السبيل.

الخامسة : أن يكون مجهولاً عند المستحقّ ، معلوماً عند مَنْ عليه الحقّ ، فأعلمه بالقدر.

والظاهرُ صحّته ، بل صرّح بعضُ المحقّقين بنفي الريب فيها ، سواء صالحه بمقدار حقّه أو بأقلّ منه ، مع الرضا ظاهراً وباطناً به ؛ لحصول العلم بالعوضين ، وصدق التجارة عن تراضٍ ، وإطلاق ما في الصحيحين السابقين ؛ لقولهما عليهما‌السلام فيهما : « لا بأْسَ

__________________

(١) المسالك ٤ : ٢٦٣.

(٢) الرياض ٥ : ٤٢٧.

(٣) الجواهر ٢٦ : ٢١٦.

(٤) المسالك ٤ : ٢٦٤ ، الجواهر ٢٦ : ٢١٦.

(٥) الرياض ٥ : ٤٢٧.

٣٤٢

بذلك إذا تراضيا ، وطابتْ به أنفُسُهما » (١) ، وإطلاق صحيح الحلبي السابق ؛ لقوله عليه‌السلام فيه : « إذا كان بطيبةٍ من نفسه فلا بأس » (٢) إنْ تمّ الإطلاق بعدم كونه مسوقاً لبيان شرطيّة الرضا في العقد ، وعموم أدلّة الصلح آيةً وروايةً. واللهُ العالمُ العاصمُ من الغواية.

السادسة : الصورةُ بحالها (٣) ، لكن لم يُعلِمه بالقدر ، وصالحه بمقدار حقّه أو أكثر.

وقد صرّح بعضُ محقّقي المتأخّرين ناسباً إيّاه لجمعٍ من الأصحاب بصحّة الصلح حينئذٍ وإنْ كان على مجهولٍ ، وهو ظاهر ( المسالك ) (٤) ، و ( الرياض ) (٥) ، و ( الجواهر ) (٦) ؛ لانتفاء الغرر والخدع ، وبأنّ العبرة بوصول حقّه إليه ، لا بالصلح.

ولا يخفى ما فيه من المخالفة لفحوى خبر علي بن أبي حمزة ، المنجبر ضعف سنده بتضمّنه ابن أبي عمير ، المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه ، وتكرّر روايته ورواته في ( الكافي ) و ( التهذيب ) و ( الفقيه ) ، قال : قلتُ لأبي الحسن عليه‌السلام : رجلٌ يهوديٌّ أو نصرانيٌّ ، كانت له عندي أربعة آلاف درهم ، فمات ، أيجوز لي أنْ أُصالح ورثته ، ولا أُعلمهم كم كان؟ قال : « لا يجوزُ حتى تخبرهم » (٧).

وهو صريحٌ في اشتراط الصحة بالإعلام مطلقاً ، وحملُهُ على الصلح بالأقلّ خلافُ الظاهر.

ودعوى غلبة الصلح بالأقلّ على وجهٍ يوجب الانصراف ممنوعةٌ ، مع أنّ انتفاء الغرر والخدع بالصلح بالقدر أو الأكثر إنّما يوجب رفع المانعيّة الحاصلة منهما ، لا المانعيّة الحاصلة من فقد الشرطيّة التي هي معلوميّة العوضين في كلّ عقدٍ مقصودٍ منه المعاوضة المحضة بعد فرض اندراج عقد الصلح فيها.

مضافاً إلى أنّ جعلهم العبرة بوصول الحقّ لا بالصلح التزامٌ بالمدّعى ، فيرجع

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٥٨ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٢١ / ٥٣ ، الوسائل ١٨ : ٤٤٥ ، كتاب الصلح ، ب ٥ ، ح ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧١ ، الوسائل ١٨ : ٤٤٦ ، كتاب الصلح ، ب ٥ ، ح ٣.

(٣) يريد أنها كالصورة الخامسة.

(٤) المسالك ٤ : ٢٦٣.

(٥) الرياض ٥ : ٤٢٧.

(٦) الجواهر ٢٦ : ٢١٦.

(٧) الكافي ٥ : ٢٥٩ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧٢ ، الفقيه ٣ : ٢١ / ٥٤.

٣٤٣

النزاع للمعنى ، وحينئذٍ فلا يصحّ الصلح ظاهراً وباطناً إلّا بالإعلام بالقدر ، كما هو ظاهر الدليل المعتبر ، سواء قصد بالصلح المعاوضة ، أو مجرّد الإبراء ؛ لتبعيّة العقود للقصود ، كي يتحقّق قصدُ القدر ، الذي يُراد منه الإبراء ، ويُجرى لجواز عدم السّماح بالإبراء لو علم المقدار ، كما يوجد في بعض الأشخاص ولو كان من الأخيار. إلّا أنْ يتمّ الإجماع في الثاني ، كما هو صريح بعض الأبرار.

نعم ، لا ريب في براءة ذمّة مَنْ عليه الحقّ باطناً ، لكن لإيصاله لمستحقّه ، لا بواسطة العقد الفاقد للشرط ، الذي هو محطّ خيام النزاع في هذا المضمار ، والله العالم بحقائق الأسرار.

السابعة : الصورة بحالها (١) ، وصالحه بأقلّ من حقّه ، سواء كان مَنْ عليه الحقّ منكراً ظاهراً ، أو مقرّاً بمقدار ما صالح به ، أو بالأقلّ.

فيجب عليه إعلامُه ، فإن رضي بالصلح بالأقلّ ، وإلّا فلا.

وظاهرهم فساد الصلح باطناً أيضاً ، فلا يفيد إبراءً من الدَّيْنِ ، ولا تمليكاً للعين ، ولا يستثنى له مقدار المدفوع ، بل يكون غاصباً للجميع.

ويدلّ عليه مضافاً لعموم النهي عن الغرر ، والخدع ، والمعاملة على المجهول مطلقاً كما مرّ ، ودخوله فيما أحلّ حراماً المستثنى من الصلح الجائز صحيحُ عمر بن يزيد ، المرويّ في ( التهذيب ) و ( الكافي ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا كان للرجل على الرجل دين ، فمطله حتى مات ، ثمّ صالح ورثته على شي‌ءٍ ، فالذي أخذ الورثةُ لهم ، وما بقي فهو للميّت ، يستوفيه منه في الآخرة ، وإنْ هو لم يصالِحْهم على شي‌ء حتى مات ، ولم يقض عنه ، فهو للميّت يأخذه به » (٢).

وخبر علي بن أبي حمزة المتقدّم في الصورة السادسة ، وموثّق عمر بن يزيد السابق في الصورة الأُولى ، بحملهما على ما هو الظاهر منهما من الصلح مع عدم

__________________

(١) يريد أنها كالصورة السادسة.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٠٨ / ٤٨٠ ، الكافي ٥ : ٢٥٩ / ٨.

٣٤٤

الإخبار ؛ لقوله عليه‌السلام في الأوّل : « لا يجوز حتى يخبرهم » (١) ، وفي الآخر : « ليس له إلّا الذي صالح عليه » (٢).

والتقريبُ فيه عودُ الضمير في « له » على المصالِح ، أي : الضامن الموقِع للصلح ، بمعنى براءة ذمّته عمّا دفعه للمضمون له ، وبقاء الباقي في ذمّته ، ويلزمُ منه فسادُ الصلح ؛ لعدم ترتّب الأثر الشرعي عليه.

ويجوز أن يريد عليه‌السلام ، أنّه ليس للضامن الرجوع على المضمون عنه ، إلّا بالقدر الذي صالح عليه المضمون له وأدّاه إليه. ولا منافاة بين المعنيين ، لحصول المطلوب على كلا الوجهين.

وظاهر هذه الأدلّة فساده حينئذٍ ظاهراً ، كفساده باطناً. لكن صرّح بعض محقّقي المتأخّرين بصحّته ظاهراً ، ناسباً إيّاه لجماعةٍ من الأصحاب ، وبه صرّح في ( المسالك ) (٣) ، و ( الرياض ) (٤) ، و ( الجواهر ) (٥) ، ونُقل أيضاً عن ( جامع المقاصد ) (٦) ، لعدم العلم بكون مَنْ عليه الحقّ مبطلاً في صلحه وخادعاً فيه ، واحتمال كونه محقّاً ، فلا يبطل صُلحه ظاهراً وإنْ كان على مجهول.

ولا يخفى ما فيه ، بعد ما تقرّر مِنْ شرط المعلوميّة مع القدرة عليها ، لا سيّما مع الصلح بأقلّ من الحقّ كما هو الفرض لكشفه عن الخدع والغرر وإدخال الضرر ، مضافاً لعدم صدق التجارة عن تراضٍ بدون الإعلام بالقدر ، فضلاً عمّا لو علم بعد الصلح زيادة مقدار الحقّ عمّا صولح به باعتراف مَنْ عليه الحقّ ، أو بأحد الطرق الشرعيّة ؛ إذ مقتضى ما مرّ فساد الصلح ظاهراً أيضاً ، ولذا حكم به مَنْ صحّحه هناك.

أمّا لو تحقّق الرضا الباطنيّ ممّن له الحقّ بالأقلّ بعد علمه بالزيادة ، فعن ( التذكرة ) القطعُ بالصحّة باطناً أيضاً. وبه صرّح بعضُ محقّقي المتأخّرين ؛ لحصول الرضا الباطني بالأقلّ عوضاً عن حقّه ، فتكون العبرة بالرضا الباطني ، لا بالصلح.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٥٩ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧٢.

(٢) الكافي ٥ : ٢٥٩ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧٣.

(٣) المسالك ٤ : ٢٦٢.

(٤) الرياض ٥ : ٤٢٧.

(٥) الجواهر ٢٦ : ٢١٦.

(٦) جامع المقاصد ٥ : ٤١٠.

٣٤٥

وأنت خبيرٌ بأنّه التزامٌ بالفساد ؛ لترتّب سقوط المطالبة بالزائد على الإبراء ، لا على الصلح كما هو المدّعى.

نعم ، يمكن الاستدلال عليه بإطلاقِ صحيح الحلبيّ السابق في الصورة الأُولى ، حيث قال عليه‌السلام : « إذا كان بطيبةِ نفسٍ مِنْ صاحبه ، فلا بأس » (١) بناءً على شموله لهذه الصورة.

وقد يُشكل الاكتفاء بالرضا على فرض فساد الصلح بأنّ مقتضى الأُصول الشرعيّة عدمُ ترتّب الآثار إلّا بالأسباب القطعيّة ، والقدر المتيقّن منها العقود الجعليّةُ للأحكام الإلهيّة ؛ لأنّه : « إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام » (٢) بحمله على العقود المتعارفة في الإسلام ، كما في الخبر الذي ضعف سنده بالاشتهار ، وروايته في ( الكافي ) و ( التهذيب ) بسندٍ فيه ابنُ أبي عمير المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه ، وعمل الأصحاب به ، في غاية الانجبار. مضافاً لتأيّده بعدّة أخبار بلفظ : « إنّما يحرّم الكلام » (٣) وبغيرها أيضاً من الأخبار.

وأمّا قوله عليه‌السلام ، في صحيح الحلبي : « إذا كان بطيبةٍ مِنْ نفسه ، فلا بأس »(٤) فقصاراه الدلالة على اشتراط الرضا في صحّة العقد ، وهو خارج عن المدّعى.

أمّا الاكتفاء بمجرّد الرضا ، فلا يتمّ إلّا على القول بالاكتفاء بالمعاطاة التي هي محطّ خيام الجدال.

وكيف كان ، فصحّة هذا الصلح على هذا الفرض ، لا يخلو من إشكال ، والله العالم بحقيقة الحال.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه صورٌ كثيرة : منها مفصّلات مصرّحات ، ومنها مجملات

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧١ ، الوسائل ١٨ : ٤٤٦ ، كتاب الصلح ، ب ٥ ، ح ٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٠١ / ٦ ، التهذيب ٧ : ٥٠ / ٢١٦ ، الوسائل ١٨ : ٥٠ ، أبواب أحكام العقود ، ب ٨ ، ح ٤.

(٣) الكافي ٥ : ٢٦٧ / ٥ ، ٦ ، التهذيب ٧ : ١٩٤ / ٨٥٧ ، الوسائل ١٩ : ٤١ ، كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ٨ ، ح ٤ ، ٦.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧١ ، الوسائل ١٨ : ٤٤٦ ، كتاب الصلح ، ب ٥ ، ح ٣.

٣٤٦

مطويّات.

وممّا ذكرناه فتوًى ودليلاً يُعرف حكم السؤال ؛ لعدم خروجه عن شي‌ءٍ من هذه الصور المبسوط فيها المقال ، وأنّه متى عَلِم المصطلحان مقدار ما تصالحا عليه ، ورضيا به باطناً ، مع الجهل الحقيقي منهما بالحقّ كما هو الفرض فلا ريب في صحّة الصلح باطناً وظاهراً ، ولا إشكال.

ولا وجه حينئذٍ لتقريبكم الفسادَ بحال ؛ لوجود المقتضي وانتفاء المانع ، كما مرّ عليه الاستدلال.

وممّا قرّرناه من اشتراط المعلوميّة في جميع عقود المعاوضة ، وفساد ما يستلزم الغرر والضرر مطلقاً ، يظهر ما في بعض الكلمات من الإشكال والإجمال وعدم تحقيق الحال.

حقّق اللهُ لنا الآمال ، وختم لنا بصالح الأعمال. وعلى حسن هذا الختام يحسنُ ختمُ الكلام ، وحبسُ عنانِ الأقلام ، حامدين للملكِ العلّام ، على إيضاحِ فجرِ المرام.

والمأمولُ من السائل والناظر إرخاءُ حجابِ العفو عمّا يجدانه من الزلل الصادر ، لما أنا عليه من القصور الظاهر وتشوّش الخاطر.

وقد استتمّ هذا التحريرُ ، واستتبّ هذا التقرير باليوم التاسع والعشرين ، من شهر ذي الحجّة الحرام ، للسنة ١٣١٢ ، الثانية عشرة بعد الثلاثمائة والألف ، من هجرة سيّد الأنام ، عليه وعلى آله الكرام أفضلُ الصلاة والسلام ، بقلم مؤلّفه ، الموالي للموالي ، أحمد ابن صالح البحراني ، الأَوالي ، أصلح اللهُ أحوال نشأتيه ، بحقِّ محمدٍ وآله الطاهرين. وآخرُ دعواهم أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

٣٤٧
٣٤٨

كتاب الوكالة

الرسالة العشرون

بطلان الوكالة بفعل متعلّقها

أو منافيها

٣٤٩
٣٥٠

الرسالة العشرون

بطلان الوكالة بفعل متعلّقها

أو منافيها

٣٥١
٣٥٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآلهِ الطاهرين.

وبعد : فهذا تحرير مسألة مهمّة يعمّ بها البلوى لجميع الأُمّة. وتحقيق الكلام فيها بإبرام النقض ونقض الإبرام أن يقال : لا خلاف بين علمائنا الأعلام في بطلان الوكالة بفعل منافيها ، كما لا خلاف في بطلانها بفعل متعلّقها.

فالأوّل : كما لو وكّل على بيع شي‌ء فوهبه ، أو تصرّف فيه بأحد التصرّفات المستلزمة لإرادة امتداد التملّك ، كالإجارة والإعارة وغيرهما ، أو عتقِ عبد فباعه ، إلى غير ذلك من الأمثلة الظاهرة لذي الصناعة.

والثاني : كالتصرّف فيه بمثل الموكّل فيه ، كأن يوكّل على البيع أو الإجارة أو الطلاق أو التزويج ، فيوقعها بنفسه.

لكن اختلفوا في انتظام بعض الصور الجزئيّة في تلك القاعدة الكليّة ، كالوطء المتعقّب للوكالة ، كما لو وكّل على طلاق زوجته أو بيع سُرِّيّته (١) ثمّ وطئهما ، أو فعل ما يحرم على غير الزوج والمالك من المقدّمات بهما ، كالضمّ والتقبيل وأمثالهما.

__________________

(١) السُّرِّيَّة : الجارية المتَّخذة للملك والجماع. لسان العرب ٦ : ٢٣٥ سرر.

٣٥٣

فرجّح شهيد ( المسالك ) (١) عدم المنافاة في هذه الشقوق بأسرها ، ووافقه عليه شيخنا الشيخ حسين رحمه‌الله في ( شرح المفاتيح ) ، وحكم العلّامة في ( القواعد ) (٢) في الزوجة الموكّل على طلاقها بالمنافاة في وطئها أو فعل المقدّمات بها دون السُّرِّيَّة الموكّل على بيعها ، وتوقّف في ( التذكرة ) على ما نقل عنه فيها في حكم الوطء والمقدّمات معاً.

إذا تقرّر هذا فالأقوى منافاة الوطء لا مطلقاً ، لنا على ذلك وجوه :

الأوّل : أنّ المقصود من هذا الأمر المستناب فيه قطع علاقة النكاح وهدم أساسه وقصد إعفائه واندراسه ، فيلزم من الاستنابة فيه قصد حسم تلك العلاقة بعينها وإرادة قطع وتينها ، فكما أنّ فعل الوطء في المستناب فيه موجب لوصل تلك العلاقة وتجديد أساسها كما في المطلّقة الرجعيّة ، فكذا فعله في الاستنابة فيه بلا مرية لذي رويّة ؛ لقضاء العرف بدلالته على الرغبة واختيار الإمساك ، والفرق غير معلوم كما لا يخفى على نبيل نبيه درّاك.

الثاني : أنّ الطلاق من الأُمور الشرعيّة الموقوفة الصحّة على زوال المانع ، ومن جملة الموانع هنا تدنيس طهر الطلاق بالوقاع ، كما وقع عليه الإجماع ، فإذا فعل بها الفعل المانع منه عقيب الوكالة ، كان كالعزل للوكيل بلا محالة.

الثالث : قضاء العرف بأنّ الزوج نفسه ، إذا عزم الطلاق باعتزالها مدّة الطهر المراد فيه الفراق ثمّ قاربها فيه ، كان دليلاً على إرادة الوفاق ، وإضراباً عن قضيّة الفراق وإن عزمه بعد حين ، فيجري ذلك في وكيله بلا تمحين إجراء محكم الأصل في الفرع ، من باب تنقيح المناط المقطوع بحجيّته عند جمع من أفاضل المحدّثين والمجتهدين (٣).

الرابع : أنّ العزم على الفعل والعدول عنه من الأُمور الباطنيَّة والقصود الجَنانيَّة الَّتي لا يظهر أثرها ، ولا يحصل الاطّلاع عليها إلّا بما يدلّ عليها من الأُمور الظاهريّة

__________________

(١) المسالك ٥ : ٢٤٨.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ٢٥٨ ، ( حجري ).

(٣) الوافية في أُصول الفقه : ٢٣٦ ٢٣٨.

٣٥٤

والحركات والسكنات البدنيَّة ، حيث إنّ الله تعالى بمنِّه وحكمته الظاهرة والخفيَّة ، جعل لكلّ شي‌ء دليلاً يدلّ عليه ؛ لحِكَمٍ ومصالحَ لديه في كلّ شي‌ء بحسبه وملائمه ومناسبه.

ولهذا قال سيد الموحدين وسند العارفين عليه‌السلام : « ما أضمر أحدُكم شيئاً إلّا [ ظهر (١) في فلتأت لسانه ، وصفحات وجهه » (٢). فإنّ النفس وإن كان لها مزيد عناية شديدة ورغبة أكيدة ، في حفظ الأُمور التي تضرّها ، وتحافظ عليها وتسترها عمّن يطّلع عليها ؛ لما تتصوّره من المصالح والمقاصد لديها ، إلّا إنّها قد تنصرف إلى مهمّ آخر ، فتغفل حينئذٍ عن ملاحظة وجه المصلحة في كتمانه ، وسبب ستره وعدم إعلانه ، فتنقلب المتخيّلة من أسر العقل ، وتنبعث الشهوة إلى التكلّم به. فإذا ظهرت تلك الأمارات الظاهريّة استدلّ بها على ثبوت ما استلزمته من القُصُود الباطنيّة.

فالموكِّلُ إذا عزم على الطلاق المقصود منه الفراق ، ثمّ ظهرت منه أمارات قصد الاتّفاق ، فهو دليل العدول عن الوكالة ، ولا دليل أدلّ من المطلوب من الجماع كما هو طافح المقالة ، وواضح الدلالة لمن أصلح الله باله.

وممّا يؤيّد المطلوب غايةً ويؤكّده نهايةً الاحتياط ، حيث إنّ من مواضع وجوبه على ما حقّقه مشايخنا الأعلام حشرهم الله مع أئمّتهم في دار السلام ما إذا شكّ في انتظام بعض الأفراد الجزئيّة في سلك قاعدة كلّية قد اتّصف حكمها بالمعلوميّة.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، كما لا يخفى على نبيه نبيل ، حيث قد تحقّق الحكم في القاعدة الناطقة ببطلان الوكالة بفعل الموكّل ما ينافيها ، وشكّ في هذا الفرد للجري في فيافيها فلا مناص عن [ ترك الوطء (٣) ] فيها تحصيلاً للاحتياط الّذي يؤمن به من الاختباط ، ويسلك به سوي ذلك الصراط ، سيّما مع حثّ الأخبار والنصوص على سلوك سبيله في الفروج بالخصوص ، كرواية شعيب الحذّاء قال : قلت لأبي

__________________

(١) ] من المصدر ، وفي المخطوط : « أظهره الله ».

(٢) نهج البلاغة / قصار الحكم : ٢٦.

(٣) في المخطوط بياض ، والظاهر ما أثبتناه.

٣٥٥

عبد الله عليه‌السلام : رجل من مواليك يقرئك السلام وقد أراد أن يتزوَّج امرأة قد وافقته وأعجبه بعض شأنها ، وقد كان لها زوج فطلَّقها ثلاثاً على غير السنَّة ، وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت آمره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « هو الفرج ، وأمر الفرج شديد ومنه يكون الولد ، ونحن نحتاط ، فلا يتزوَّجها » (١).

وكصحيح أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه‌السلام في المتمتّع بها حيث قال : « اجعلوهنّ من الأربع » ، فقال له صفوان بن يحيى : على الاحتياط؟ قال : « نعم » (٢).

وفي ما رواه الصدوق في ( الفقيه ) عن ابن سيابة عن الصادق عليه‌السلام : « إنّ النكاح أقوى أن يحتاط فيه ، وهو فرج ومنه يكون الولد » (٣).

وفي خبر مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (٤). إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المضمار.

واحتجّ شهيد ( المسالك ) رحمه‌الله بأنّ التوكيل ( لا ينافي انتفاع الموكل بالملك الذي من جملته الوطء ) (٥).

والجواب : أنّا لا نمنع الانتفاع ، فإنّا لم نقل بتحريم الوقاع ، وإنّما نجعله هادماً للوكالة ومبطلاً لأثرها بالأصالة ، وبين هذين الأمرين بُعدُ المشرقين على حدّ ما قالوه في غير هذا الفرد من أفراد هذه القاعدة ، فإنّهم إنّما حكموا ببطلانها بفعل ما ينافيها لا ببطلان ما ينافيها ، فلو وكّل على عتق عبده فباعه لم يبطل البيع المنافي لها ، وإنّما تبطل بنفسها ، إلى غير ذلك من الأفراد الجزئيَّة الداخلة في حيِّز هذه القاعدة الكلّية.

فاللّازم في المسألة المبحوث عنها بالوكالة الواقع بعدها الوقاع ، واحتياج الطلاق إلى وكالة أُخرى لا تحريم الجماع ، فلا يكون الحكم بمنافاة الوطء للوكالة حكماً بعدم

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٢٣ / ٢ ، التهذيب ٧ : ٤٧٠ / ١٨٨٥. وفيهما الحداد بدل الحذّاء.

(٢) التهذيب ٧ : ٢٥٩ / ١١٢٣.

(٣) الفقيه ٣ : ٤٨ / ١٦٨. باختلاف.

(٤) التهذيب ٧ : ٤٧٤ / ١٩٠٤. باختلاف ، وفيه عن ( مسعدة بن زياد ) بدل ( ابن صدقة ).

(٥) المسالك ٥ : ٢٤٨.

٣٥٦

تصرّف الوكيل في ملكه والانتفاع ، فيكون ما احتجّ به قدس‌سره خارجاً عن فعل النزاع.

وأمّا فرق العلّامة (١) رفع الله مقامه بين الزوجة الموكّل على طلاقها دون السُّرِّيَّة الموكّل على بيعها ، فتبطل الوكالة في الأوّل دون الثاني ، فقد نسبه شهيد ( المسالك ) رحمه‌الله إلى التحكم. والذي يخطر بالبال أنّه غير تحكم لحصول الفرق بين الأمرين ، باشتراط الطهارة من دنس الوقاع في الطلاق دون البيع ، فإذا أحدث بتلك الزوجة المانع الشرعيَّ من الطلاق دلّ على اختيار الإمساك والإضراب عن الفراق ، دون وقاع السُّرِّيَّة الموكّل على بيعها ، فإنّه ليس مانعاً عن الموكل عليه ليكون فعله دالّا على العزل إليه. وهذا بحمد الله واضح المنار ، جليّ ليس عليه غبار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

نعم ، بقي الكلام في فعل المقدّمات ، والحكم فيها لا يخلو من إشكال ، والأحوط المنافاة ، والأظهر العدم ؛ لعدم صلوحها للمنع من الطلاق ؛ لعدم تدنّس الطهر المراد فيه الفراق.

وكيف كان ، فالأحوط اجتناب الأمرين ، وتجديد الوكالة بفعلهما بلا رين ، فإنّه الأمر الّذي لا يضلُّ عامله ولا يكلُّ عامله وينجو سالكه ولا تظلم مسالكه.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين

حرّره فقير ربّه المنّان أحمد بن صالح بن طعّان آخر يوم الجمعة الخامس عشر من شهر جمادى الثانية من سنة ١٢٧٧ من الهجرة النبويّة على مهاجرها وآلهِ أشرف التحيّة.

ونسخها من خطّه محمّد بن عبد الله الماحوزي بعصر الثلاثاء سادس شهر رجب سنة ١٢٨٨ من الهجرة صلّى الله على مهاجرها وآلهِ الطاهرين.

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ٢٥٨ ، ( حجري ).

٣٥٧
٣٥٨

كتاب الوصايا

الرسالة الحادية والعشرون

مسألة في الوصيّة

٣٥٩
٣٦٠