الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

سألته عن الرجل يصلّي ثمّ يجلس فيحدث قبل أن يسلّم ، قال : « تمت صلاته » (١).

وصحيحه الآخر عنه عليه‌السلام في الرجل يحدث بعد أنْ يرفع رأسه من السجدة الأخيرة [ و (٢) ] قبل أن يتشهّد ، قال : « ينصرف فيتوضّأ ، فإنْ شاء رجع إلى المسجد ، وإنْ شاء ففي بيته ، وإن شاء حيث شاء ، قعد فيتشهّد ثم يسلّم. وإنْ كان الحدث بعد الشهادتين فقد مضت صلاته » (٣).

وفي حسن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا التفتّ في صلاة مكتوبة (٤) من غير فراغ ، فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشاً ، وإنْ كنت قد تشهّدت فلا تعد » (٥).

ففيه مضافاً إلى ما اشتملت عليه الرواية الثانية من التخيير في أمكنة الإتيان بالتشهّد ، المخالف لما عليه الفقهاء من فوريّة قضاء التشهّد عدم دلالتها على المدّعى ؛ لظهورها في استحباب التسليم كما يشعر به قوله عليه‌السلام في الخبر الأوّل : « تمّت صلاته » وفي الثاني : « فقد مضت صلاته » وفي الثالثة : « إنْ كنت قد تشهّدت فلا تُعِد » بقرينة مقابلته بقوله : « إذا التفت .. من غير فراغ ».

فإنّ مقتضى تلك الفقرات أنّ الفراغ من الصلاة يتحقّق قبل التسليم ، وهو لا يتمّ إلّا على استحبابه ؛ إذ ليس فيها ما يدلّ على الاختصاص بصورة السهو ، فمقتضى إطلاقها تحقّق الفراغ في صورتي الذكر والسهو بدون التسليم ، وهو مستلزم لاستحبابه ، مع أنّا إذا قلنا بوجوب قضاء التسليم المنسيّ كان مقتضى الصحيحين ندبية التسليم حتى لو قلنا بورودهما في خصوص السهو ، وإلّا لم يتّجه الحكم حينئذ بتماميّة الصلاة قبل قضاء التسليم ؛ لأنّه حينئذ من أجزائها الواجبة فلا تتمّ بدونه. إلّا أنْ يقال بصحّة

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٢٠ / ١٣٠٦ ، الإستبصار ١ : ٣٤٥ / ١٣٠١ ، الوسائل ٦ ، ٤٢٤ أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٢.

(٢) من المصدر.

(٣) التهذيب ٢ : ٣١٨ / ١٣٠١ ، الاستبصار ١ : ٤٠٢ / ١٥٣٥ ، وفيهما : « فتشهد » بدل « فيتشهد » ، الوسائل ٦ : ٤١٠ ، أبواب التشهد ، ب ١٣ ، ح ١.

(٤) في الأصل : « الصلاة المكتوبة ».

(٥) التهذيب ٢ : ٣٢٣ / ١٣٢٢ ، ضمن حديث ، الإستبصار ١ : ٤٠٥ / ١٥٤٧ ، الوسائل ٦ : ٤٢٤ أبواب التسليم ، ب ٣ ، ح ٤.

١٨١

إطلاق المضيِّ والتمام على الصلاة بدون السلام ، وإنْ كان جزءاً واجباً يجب قضاؤه نظراً إلى أنّه من الأجزاء الغير الركنيّة ، وأنّه سنّة بلسان الشارع ، كما أطلق التمام على الصلاة بدون التشهّد ، نظراً إلى ذلك في خبر عُبَيْدِ بن زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يحدث بعد ما يرفع رأسه من السجود الأخير ، قال : « تمّت صلاته ، وإنّما التشهّد سُنّة في الصلاة ، فيتوضّأ ويجلس مكانه أو مكاناً نظيفاً فيتشهّد » (١).

وبالجملة ، هذه الروايات بظاهرها إنّما دلّت على ندبيّة التسليم. وعلى القول بها لا إشكال في صحّة الصلاة ؛ لأنّ المنافي حينئذ إنّما يوجب الإخلال بجزء مستحب ، والإخلال به لا يضر.

وما قيل من أنّه بناء على استحباب التسليم وجزئيّته يحتمل الحكم بالفساد ؛ لصدق حصول المنافي في الأثناء.

فيه : أنّ المنافي حينئذ وإنْ وقع في الأثناء إلّا إنّه إنّما وقع في أثناء الفرد الكامل المشتمل على المزيَّة بانضمام بعض المستحبّات ، ولم يقع في أثناء الفرد المتحقّق فيه أصل الصحّة ومجرّدها وهو المشتمل على مجرّد الواجبات ، فهو إنّما يبطل ما وقع فيه ، وهو ذو المزيَّة المشتمل على التسليم المستحبّ ، لا ما تحقّق فيه مجرّد الصحّة وهو الفاقد له.

وهذا كما لو وقع الحدث في أثناء التكبيرات المستحبّة قبل تكبيرة الإحرام ، بأن فصل بينها وبين تكبيرة الإحرام ، فهو إنّما يبطل الصلاة الكاملة المشتملة على التكبيرات السبع لا أصل الصلاة ، وكما لو وقع الرياء في البعض المندوب من أفعال الصلاة ، فإنّه إنّما يبطل الصلاة المشتملة عليه ، أي : لا يحسب له صلاة مَنْ صلّى صلاة مشتملة على ذلك الفعل ، لا أنّه تبطل صلاته من رأس. وكذا لو وقع الرياء في البعض المندوب من الأقوال ، إلّا أنْ يقوم إجماعٌ على بطلان الصلاة بالقول المحرّم ، كالحدث.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٤٢ / ١٢٩٠ وفيه : « السجدة الأخيرة » بدل « السجود الأخير » ، التهذيب ٢ : ٣١٨ / ١٣٠٠ ، وفيه : ( زرارة ) بدل ( عبيد بن زرارة ) ، الوسائل ٦ : ٤١١ ، أبواب التشهد ، ب ١٣ ، ح ٢.

١٨٢

وأمّا ما يجري هنا ولا يجري هناك ، فهو أن نقول بالصحّة هنا ؛ لأنّ المصلّي لم يقع منه إلّا نسيان السلام ، وهو جزء غير ركن فلا تبطل الصلاة بنسيانه ، بخلاف المسألة السابقة ؛ لما ذكرنا من أنّ الموجب للبطلان فيها هو أنّ المصلّي إذا سلّم بعد رفع الرأس من السجود فقد خرج من الصلاة عرفاً ، فيكون قد صلّى صلاة ناقصة من ركعة أو ركعتين ، فتكون صلاته باطلة. ثم إنّ صاحب ( المسالك ) رحمه‌الله قال في المقام : ( إنّ مقتضى القاعدة هو الحكم بالصحّة ؛ لأنّ السلام جزء غير ركن ، فلا تبطل الصلاة بالسهو عنه ) فيكون الحدث واقعاً في خارج الصلاة. ثم قال : ( إلّا أن يقال : إنّ الخروج عن الصلاة لا يتحقّق إلّا بالسلام ، وهو في حَيّز المنع ) (١).

ويمكن توجيهه بأنّ مقتضى : « لا تعاد » ونحوها ، أنّ ما أُخذ في ماهيّة الصلاة والأجزاء والشرائط ؛ منه ما هو معتبر فيها ذكراً وسهواً وهي الأركان وما بحكمها من الشرائط ، ومنه ما هو معتبر ذكراً فقط وهو ما عدا ذلك. ومقتضاه أنّ صلاة الناسي غير صلاة الذاكر ، وأنّ صلاة الذاكر عبارة عن جميع ما دلّت الأدلّة على اعتباره في الصلاة ، وأنّ صلاة الناسي عبارة عن خصوص الأركان وما في حكمها. ونظيره ما ذكره البعض في توجيه معذوريّة الجاهل بالجهر والإخفات والقصر والإتمام ، من تنويع المكلّف به على حسب حالات المكلّف ، ولا نعني أنّ الناسي كلّف بهذا الفرد الناقص وخوطب به كما يخاطب الذاكر بالتام ؛ إذ يقبح أنْ يقال : أيّها الناسي افعل كذا ، كما يقبح أن يقال : أيّها الجاهل افعل كذا ؛ لعدم قابليّته لتوجيه الخطاب ، فيكون تكليفه بذلك تكليفاً بما لا يطاق.

بل نقول : إنّ الشارع أراد منه القدر المشترك بين التامّ والناقص ، وطلب منه قصد التقرّب به وإنْ قصد هو إيجاده في ضمن التامّ تعويلاً على ظاهر حاله ، من أنّه عدم نسيان ما اعتبر من الأجزاء والشرائط ، إلّا إنّ الشارع لمّا علِم من حاله عدم حصول ذلك وأنّه سينسى ، ألغى عنه قصد الخصوصيّة بالفرد الناقص ونيّة القدر المشترك

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٢٨٨.

١٨٣

المتحقّق في ضمنه. فمن علم اللهُ أنّه ينسى السلام لم يكلّفه إلّا بالصلاة الخالية منه ، وجعل آخر صلاته الصلاة على محمد وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالحدث الواقع بعدها يقع بعد تمام الصلاة.

وحاصل وجه الصحّة أنّ مقتضى : « لا تعاد » ونحوها نفي الإعادة عن الصلاة المنسيّ فيها السلام ، ومقتضاه نفي الفساد ، ولازمه الصحّة ، ولازمها تعلّق الأمر بها وهو المطلق.

وأمّا ما ذكره وجهاً للبطلان فبيانه : أنّ السلام ليس على حدّ غيره من الأجزاء الغير الركنيّة ؛ لجعل الشارع له خصوصيّة اقتضت كونه بمنزلة الركن في الحكم ، وهي كون الخروج لا يتحقّق إلّا به عمداً وسهواً. كما أنّ الدخول في الصلاة لا يتحقّق بدون التكبير كذلك ؛ لما ورد من أنّ « تحريمها التكبير وتحليلها التسليم » (١) ، فمقتضاه أنّ كلَّ ما يقع قبل السلام من المنافيات يقع في أثناء الصلاة فيبطلها.

وما يقال من أنّ مقتضى « لا تعاد » عدم قدح السهو [ في (٢) ] ما عدا الخمسة ، والسلام ليس منها.

فيه : أنّ « لا تعاد » إنّما تحكم على أدلّة الأجزاء والشرائط ، وتدلّ على أنّ ما ثبت بالأدلّة كونه جزءاً أو شرطاً ؛ إنْ كان من أحد الخمسة فهو كذلك عمداً وسهواً ، وإنْ كان من غيرها ففي العمد خاصة. فهي ناظرة إلى عنوان الجزئيّة والشرطيّة فقط ، فإذا ثبت لبعض الأجزاء عنوان آخر كالمحلّليّة والمخرّجيّة عن الصلاة ، لم يشملها« لا تعاد » ، وليست ناظرة إليه ليجري عليه حكمها ، فيبقى على حكمه الثابت له بمقتضى الأدلّة. ومقتضى أدلّة محلّليّة التسليم ثبوتها له على العموم وعدم اختصاصها بحالة دون اخرى.

مع أنّا نقول : « لا تعاد » لا تجري هنا مع قطع النظر عن تلك الجهة ؛ لعدم تحقّق

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٩ / ٢ ، الوسائل ٦ : ١١ ، أبواب تكبيرة الإحرام والافتتاح ، ب ١ ، ح ١٠.

(٢) في المخطوط : ( عما ).

١٨٤

نسيان السلام في الصلاة على وجه يستند الإخلال إليه ؛ لملازمته لوقوع المنافي قبله ؛ إذ مع عدم تحقّق المنافي لا يصدق الإخلال به ؛ لبقاء محلّه ، فإذا وقع المنافي استند الإخلال إليه لا إلى ترك السلام ؛ لخروجه عن الصلاة بالمنافي. فلا يبقى محلّ للسلام ليصدق الإخلال به ؛ لأنّ « لا تعاد » باعتبار حكومتها على أدلّة العمد ، إنّما موضوعها الإخلال بالشي‌ء على وجه يمتنع تداركه. فخروج السلام عن كونه جزءاً للناسي وتمام الصلاة بدونه ، إنّما هو حيث يتحقّق نسيانه على وجه يمتنع تداركه ، ولا يكون إلّا بتحقّق المنافي قبله ، وإلّا لم يمتنع التدارك ، فيكون وقوع المنافي سابقاً على الامتناع الموجب لتماميّة الصلاة بدونه ؛ لتقدّم السبب على المسبّب ، فيقع المنافي في الأثناء فيؤثّر أثره ، وهو البطلان قبل تحقّق موضوع « لا تعاد » ، هذا حيث تكون « لا تعاد » حاكمة على خصوص أدلّة الأجزاء والشرائط.

وأمّا إذا جعلناها حاكمة على أدلّة سائر ما له دخل في الصلاة وجوداً وعدماً ، من الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع ، كان مقتضاها الصحّة ؛ لأنّ مفادها حينئذ أنّ إعادة الصلاة لا تكون ممّا عدا الخمسة من جميع ذلك ، ومن جملة ما عداها وجود المنافي ، غاية الأمر قيام الإجماع على إخلاله لو وقع قبل الأركان ، فيكون ذلك تخصيصاً في « لا تعاد ». ويبقى ما إذا وقع المنافي بعد تمام الأركان داخلاً في عمومها فلا يكون مبطلاً ، بل يمكن أن يقال : إن ذلك لا يستلزم التخصيص في « لا تعاد » ؛ لأنّه مستلزم للإخلال بأحد الخمسة ؛ لأنّ المنافي إذا وقع قبل الركن كان موجباً لقطعه عمّا قبله وإسقاطه عن قابليّة اتّصاله به ، فرجع بالآخرة إلى الإخلال بأحد الخمسة ، فيتطابق ما دلّ على تحقّق البطلان به مع « لا تعاد » ، فلا يوجب تخصيصها ، والله العالم.

ترك السجدتين

قوله رحمه‌الله : ( ولو علم أنّه ترك سجدتين ولم يدرِ أنّهما من ركعة أو ركعتين رجّحنا جانب الاحتياط ) .. إلى آخره.

أقول : في المسألة أقوال ثلاثة : وجوب الإعادة ، والصحّة وعدم الحاجة إلى قضاء

١٨٥

السجدتين ، والصحّة مع لزوم قضائهما. ثمّ إنّ للمسألة صوراً ثلاثاً ؛ لأن الشكّ إمّا أن يحصل حال النهوض إلى القيام قبل الوصول إلى حدّه ، أو بعد الوصول إليه ، أو بعد الوصول إلى حدّ الراكع.

والظاهر أنّ المفروض في المتن غير الصورة الأُولى ؛ بقرينة قوله رحمه‌الله : ( ولو علم أنّهما من ركعتين ) .. إلى آخره ، حيث إنّ ظاهره عدم الفرق في المسألتين بكون أحد طرفي الشكّ في الأُولى الركعة ، وفي الثانية الركعتين ، وكون الشكّ في الركعتين المعلوم ترك السجدتين منهما. ولا بدّ أنْ يكون المفروض فيها غير حال النهوض ، وإلّا فلا وجه للاقتصار على سجدتي السهو ؛ لوجوب إتيانه حينئذ بسجدة لبقاء محلّ الشكّ ، وحيث كان المفروض وقوع الشكّ في غير حال النهوض ، فيكون في الأُولى كذلك ، وإلّا لزم فرق آخر بينهما وهو خلاف الظاهر.

وغاية ما يصلح دليلاً للصحّة في المسألة الأُولى : قاعدة الشكّ في المبطل بعد التجاوز ، وأصالتا الصحّة وعدم حدوث المبطل ، والكلّ لا يخلو من نظر.

أمّا الاولى ؛ فلأنّ قاعدة الشكّ بعد الفراغ وإنْ كانت معتبرة متمسّكاً بها في غير المقام ، إلّا إنّ المتيقّن من موردها تعلّق الشك مستقلا بشي‌ء بعد تجاوز محلّه ، كما إذا شكّ في الركعة الثالثة في الإتيان بسجدتي الركعة الثانية أو الأُولى.

وأمّا إذا تولّد الشكّ من العلم الإجمالي فجريان القاعدة عندهم غير معلوم ، بل معلوم العدم حتى فيما إذا ترتّب الأثر على أحد طرفي العلم الإجمالي فقط ، فضلاً عما إذا ترتّب على كلّ واحد منهما ؛ لأنّ العلم الإجمالي على قسمين :

أحدهما : ما يكون كلُّ واحد من طرفيه يترتّب عليه أثرٌ يجب اتّباعه.

والآخر : ما يترتّب على أحد طرفيه الأثر المذكور دون الآخر.

وأمثلة الأوّل كثيرة ، ومنها ما نحن فيه ، فإنَّ كلَّ واحد من الطرفين يترتّب عليه أثر يجبُ اتِّباعُه ، فإنّ الترك لو كان من الركعة وهو أحد الطرفين ترتّب عليه إعادة الصلاة ، ولو كان من ركعتين وهو الطرف الآخر ترتّب عليه قضاؤهما بعد الصلاة.

١٨٦

ومن أمثلة الثاني ما إذا توضّأ وضوءاً واجباً مبيحاً للدخول في الفريضة مثلاً ، ثم جدّده بقصد الوضوء التجديدي ، فصلّى ثم تيقّن نقصان بعض أجزاء أحدهما بحيث يوجب بطلانه. فإنْ قلنا بإباحة التجديدي للصلاة فلا ثمرة ؛ لأنّ الصلاة التي صلّاها بهما صحيحة على كلا التقديرين ، وإنْ قلنا بعدمها كان مثالاً لما نحن فيه ، فإنّ أحد الطرفين وهو بطلان الوضوء التجديدي لا يترتّب عليه أثرٌ ، بخلاف الطرف الآخر ، فإنّ بطلان الوضوء الواجب يوجب إعادة الصلاة على هذا الفرض.

ومن الواضح أنّ المنع من إجراء القاعدة في هذه الصورة التي لا يترتّب على المعارض فيها أثرٌ أصلاً يستلزم المنع من إجرائها على الطريق الآخر بطريق أولى ؛ لأنّ المنع من مخالفة العلم الإجمالي المشتمل على المخالفة القطعيّة أوْلى ممّا لم يشتمل عليها. ثم إنّ مسألة الوضوء المشار إليها قد عنونها غير واحد ، وحكموا فيها ببطلان الصلاة التي صلّاها به على تقدير عدم إباحة التجديدي.

نعم ، حكي (١) عن ( المنتهى ) (٢) احتمال الصحّة ، وإلّا فالباقون ممّن تعرّض لها حاكمون بالبطلان مع ظهور أنّ الشكّ في الوضوء الأوّل شكّ في المبطل بعد الفراغ ، وهو سليم عن المعارض الذي يترتّب عليه أثر ، ومع ذلك أعرضوا عن إجراء القاعدة فيه وحكموا بالبطلان ، وليس ذلك إلّا لقدح العلم الإجمالي في جريانها وإنْ لم يترتّب الأثر إلّا على أحد الطرفين فضلاً عمّا لو ترتّب عليهما.

وكذا حكموا فيمن صلّى خمس صلوات كلّ صلاة بوضوء مستقلّ ثم تيقّن بطلان واحد من الوضوءات ولم يعلمه بعينه ببطلان الجميع (٣) ، مع أنّ من جملة فروضه وقوع الشك المزبور ، بعد خروج وقت البعض وبقاء وقت البعض الآخر ، كأن يعلم قبل انتصاف الليل ببطلان واحد من وضوء الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء.

__________________

(١) المدارك ١ : ٢٦١ ، الحدائق ٢ : ٤٠٤ ، الجواهر ٢ : ٣٧٣.

(٢) المنتهى ١ : ٧٥.

(٣) المبسوط ١ : ٢٥.

١٨٧

ومن الواضح أنّ الشكّ في الثلاثة الأُوَل شكّ بعد خروج الوقت ، كما أنّ من المعلوم اعتبار قاعدة الشكّ بعد خروج الوقت وعدم الاعتناء به كقاعدة الشك بعد تجاوز المحلّ ، ومع ذلك لم يجروها لمجرّد العلم الإجمالي.

وبالجملة ، فإنّ ما يظهر منهم إجراء هذه القاعدة في الشكوك البدويّة الاستقلاليّة ، لا المتولّدة من العلم الإجمالي سواء ترتّب على طرفيه الأثر أم لا. ولعلّ السرّ فيه مع وضوح الجريان لا سيما فيما إذا لم يترتّب الأثر على أحد الطرفين أنّ اعتبار القاعدة عندهم من باب الظهور النوعي ، كما ربّما يظهر من قولهم عليهم‌السلام في بعض روايات القاعدة : « [ هو (١) ] حين [ يتوضّأ (٢) ] أذكر » (٣).

والظهور المزبور إنّما يتحقّق في الشكّ البدوي ، أمّا المتولّد في العلم الإجمالي فلا يمكن دعوى الظهور فيه ؛ لأنّ الظهور في كلّ من الطرفين معارض به في الطرف الآخر ؛ لأنّه كما أنّ الظاهر من حال المسلم الإتيان بالوضوء الواجب بأجزائه وشرائطه ، كذلك الظاهر منه الإتيان بالوضوء التجديدي.

فدعوى الظهور في أحدهما دون الآخر تحكّم ؛ لأنّ منشأ هذا الظهور هو الغلبة ، ومن المعلوم انتفاؤها في الفرض ، فأحد طرفي العلم الإجمالي وإنْ لم يترتّب عليه أثر إلّا أنّه يوجب رفع ما هو مناط الاعتبار في الطرف الآخر. نظير ما ذكروه من أنّ الأخبار على تقدير اعتبارها من باب الظهور النوعي ، إذا حصل التعارض بينها يكون مقتضى القاعدة التوقّف. وحينئذ ، فلا اعتبار للقاعدة في الطرف الآخر وإنْ ترتّب عليه الأثر ؛ لانتفاء مناط الاعتبار فيه ؛ لمعارضته بمثله وإنْ لم يترتّب عليه أثر.

ثمّ إنّا وإنْ لم نضايق في إجرائها فيما يترتّب عليه الأثر إذا لم يترتّب على الآخر ، إلّا إنّا أيضاً لا نعتبرها فيما إذا ترتّب على الطرفين ، كما فيما نحن فيه ، فلا تجري القاعدة.

__________________

(١) في المخطوط : ( لأنّه ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) في المخطوط : ( الفعل ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) التهذيب ١ : ١٠١ / ٢٦٥ ، الوسائل ١ : ٤٧١ ، أبواب الوضوء ، ب ٤٢ ، ح ٧.

١٨٨

ووجه عدم المضايقة أنّ أدلّة قاعدة الشكّ بعد تجاوز المحلّ حاكمة على أدلّة الأُصول العدميّة التي لا ينفك مورد القاعدة عنها ، فقوله عليه‌السلام : « إذا شككت في شي‌ء ودخلت في آخر فشكّك ليس بشي‌ء » (١) يدلّ على أنّ للشكّ حكماً في الشريعة ، وهو منفي على تقدير وقوعه بعد تجاوز المحلّ.

فالشكّ في الإتيان بالركوع وعدمه له حكم ، وهو إجراء أصل العدم فيه ، والعمل على ما يقتضيه عدم الإتيان به ، ومقتضى هذه القاعدة عدم جريان هذا الحكم عليه بعد التجاوز وهو ظاهر. وحينئذ ، فمورد القاعدة مجرى الأُصول العدميّة ، وقد تقرّر في تعارض الأصلين أنّ أحدهما إذا لم يترتّب عليه أثر يجري الآخر من غير معارض ، فلتكن هذه القاعدة كذلك.

وأمّا أصالة الصحّة ، فهو إمّا أن يجري في فعل الغير أو فعل نفسه ، وكلامنا في الثاني. فالشكّ فيه ؛ إمّا أن يكون قبل التجاوز ، أو بعده. فعلى الأوّل لا بدّ من الإتيان به ، وعلى الثاني يرجع إلى الشكّ بعد تجاوز المحلّ ، مع أنّ مورد أصالة الصحّة صورة الشكّ في وجود المانع الثابتة مانعيّته ، أو مانعيّة ما ثبت وجوده ، لا في عدم ما يوجب البطلان الذي هو بنفسه مطابق للأصل ، فتأمّل.

وأمّا أصالة عدم المبطل ، ففيها أنّ أصالة عدم السجدتين حاكمةٌ عليها ومزيلةٌ لها ؛ لأنّ الشكّ في عروض المبطل وعدمه مسبّبٌ عن الشكّ في الإتيان بالسجدتين في كلّ ركعة وعدمه ؛ فإذا جرى الأصل في السبب لم يبقَ مجرًى للأصل في الطرف الآخر ، وحيث لم يقم دليل على الصحّة فلا ريب أنّ مقتضى قاعدة الشغل هو الاحتياط ، وهو يحصل ؛ إمّا بإتمام الصلاة وقضاء السجدتين والإتيان بسجدتي السهو مرّتين ثمّ استئناف الصلاة ، وإمّا برفع اليد عن الصلاة والاقتصار على الاستئناف من غير حاجة إلى الأمرين.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٥٢ / ١٤٥٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٢٣ ، ح ١ ، البحار ٨١ : ١٦٤ / ٦٨ ، البحار ٨٥ : ١٥٧ / ٩ ، وفي الجميع بلفظ : « إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشكُّك ليس بشي‌ء ».

١٨٩

وما يقال من أنّ رفع اليد عن الصلاة واستئنافها وإنْ حصلت به البراءة اليقينيّة ، إلّا إنّه مستلزم لإبطال العمل وهو محرّم ، فلا يحصل به الاحتياط.

فيه : أنّ المحرّم إبطال العمل ، ورفعُ اليد عن الصلاة المزبورة لم يعلم كونه إبطالاً ليكون محرّماً ؛ لعدم العلم بصحّتها ، ومجرّد احتمال صحّتها في الواقع لا يكفي في الحرمة ؛ لأنّ الشبهة هنا موضوعيّة تحريميّة والأصل فيها الإباحة.

نعم ، ربّما يقال : الأصل في هذه الشبهة وإنْ كان هو الإباحة ، إلّا إنّ فيها قولاً بوجوب الاجتناب ولزوم الاحتياط ، فرفع اليد عن الصلاة مخالف له وموجب لإلغائه فينبغي تركه ، والاحتياط بإتمام الصلاة ثمّ القضاء أو الإعادة.

وفيه : أنّ هذا الاحتياط يستلزم إلغاء قصد الوجه ، فعلى القول بوجوب قصده كما هو المشهور لا بدّ من الإعراض عن مراعاة هذا الاحتياط وتحصيله برفع اليد عن الصلاة واستئنافها ؛ لأنّه مع إتمام الصلاة لا يمكن قصد الوجه فيما يأتي به من الصلاة ثانياً ، بل لا بدّ من الإتيان بها بقصد الاحتياط.

وأمّا بناءً على كفاية قصد القربة فلا ريب في كونه أوْلى ؛ لدوران الأمر بين مراعاة أحد الاحتياطين ورعاية الآخر. فأمّا أنْ يراعى قصد الوجه الذي هو لازم عند المشهور ، أو يراعى الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، والقائل به نادر ، فيكون الأوْلى مراعاة الاحتياط الأوّل. هذا كلّه على تقدير تجاوز محلّ الشكّ والسهو.

وأمّا إذا بقي محلّهما ، كما إذا علم حال النهوض إلى القيام أنّه ترك سجدتين ولم يدرِ أنّهما من ركعة أو ركعتين ، مع دخول الركعة التي ينهض عنها في الاحتمال ، فمقتضى العلم الإجمالي أيضاً هو الاحتياط.

إلّا إنّ هنا فرقاً بين كيفيّة الاحتياط هنا والاحتياط هناك ، إذ لو أُريد بالاحتياط هنا إتمام الصلاة والقضاء وغيرهما ممّا عرفت ، فلا بدّ هنا من الرجوع عن النهوض والإتيان بالسجدتين في أثناء الصلاة كما هو واضح.

هذا لازم العمل بالعلم الإجمالي ، إلّا إنّ مقتضى ما قرّر في مسألة العلم من أنّه لو

١٩٠

قامت أمارة شرعيّة على ثبوت الحكم في أحد الطرفين يبقى الطرف الآخر مشكوكاً فيه بالشكّ البدوي ، ويخرج عن كونه ظرفاً للعلم الإجمالي ، فيحكم عليه بما يقتضيه الشكّ المستقلّ ، وهو الإتيان بالسجدتين في الحالة المزبورة ، من دون لزوم إعادة ولا سجدة سهو ولا قضاء سجدة ؛ لأنّ الشكّ في الإتيان بالسجدتين في الركعة التي يريد النهوض عنها شكّ قبل تجاوز المحلّ ، ومقتضى القاعدة وجوب الإتيان بالمشكوك فيه ، فيبقى الشكّ في الإتيان بالسجدتين في السابقة على تلك الركعة شكّاً مستقلا بدويّاً ، فيجري فيه قاعدة الشكّ بعد الفراغ فتصحّ الصلاة.

نظير ما إذا علمنا نجاسة أحد الإناءين وقامت بيّنة شرعيّة على نجاسة واحد معيّن منهما ، فتجري أصالة الطهارة في الآخر بلا إشكال ، فتأمّل.

وأمّا إذا حصل العلم والشكّ المفروضان بعد الوصول إلى حدّ القائم ، فالظاهر أنّ حكمه كالمسألة الاولى من ترجيح جانب الاحتياط ؛ إذ لا مصحّح له إلّا قاعدة الشكّ بعد التجاوز وأصالة الصحّة وعدم عروض المبطل ، وقد عرفت ما فيها. نعم ، ما في المسألة السابقة من الفرق بين الاحتياطين يجري هنا أيضاً ، والوجه واضح.

وأمّا إذا عرضا بعد الفراغ ؛ فعلى القول بالصحّة فيما إذا كان الشكّ في الأثناء ، عملاً بقاعدة الشكّ بعد التجاوز ونحوها ، من دون حاجة إلى قضاء السجدتين وسجدتي السهو كما هو أحد الاحتمالات أو الأقوال في المسألة يكون الحكم هنا أيضاً كذلك ، بل بطريق أولى ، وكذا بناء على الصحّة ولزوم القضاء وسجدة السهو كما هو القول الآخر فالحكم فيه أيضاً كذلك.

وعلى المختار هناك من ترجيح جانب الاحتياط يجب عليه الإعادة قطعاً ، وهل يجب عليه قضاء السجدتين وسجدة السهو أيضاً ، أوْ لا؟ وجهان : من أنّ مقتضى العلم الإجمالي بكونه مكلَّفاً إمّا بإعادة الصلاة ، أو قضاء السجدتين مع سجدة السهو لزوم الموافقة القطعيّة المتوقّفة على الإتيان بجميع المحتملات. ومن

١٩١

أنّه نظير العلم الإجمالي ، بأنّه إمّا فاته صلاة الظهر أو صوم يوم من شهر رمضان ، فلا يجب الإتيان بالجميع. وترجيح الثاني غير بعيد.

ثم إنّه حكي عن بعض متأخّري المتأخّرين ، أنّه بعد أن رجّح جانب الاحتياط ، واستدلّ له بالعمومات الدالّة على البطلان بترك السجود والإخلال به مطلقاً ، قال : ( خرج ما لو ترك سجدةً واحدة أو سجدتين من ركعتين معيّنتين ، وبقي غيره تحت العموم. ومن جملته ترك سجدتين من ركعتين غير معيّنتين ) (١).

وفيه مع ما فيه من عدم جواز التمسّك بالعمومات في الشبهات المصداقيّة أنّ في مقابلة تلك العمومات عمومات أُخر دالّة على وجوب قضاء ما ترك من الركوع والسجود وغيرهما ، ومقتضاها صحّة الصلاة ، خرج ما لو ترك سجدتين من ركعة وبقي الباقي.

وأمّا المسألة الثانية فالمعروف فيها ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من صحّة الصلاة ، ولزوم القضاء وسجدة السهو.

والقول الآخر منسوب إلى الشيخ (٢) وأتباعه. ودليله على البطلان أنّ هذا الشكّ يوجب انتفاء شرط من شرائط الصحّة ، وهو حفظ الأُوليين وسلامتهما من كلّ سهو ، ويدلّ عليه ظاهر بعض الروايات ، والجواب عنه في محلّه ، والله العالم.

__________________

(١) مستند الشيعة ٧ : ٩٤.

(٢) المدارك ٤ : ٢٣٠ ، الجواهر ١٢ : ٢٧٣ ، مفتاح الكرامة ٣ : ٢٩٣.

١٩٢

الخلل في غير الأركان

قوله رحمه‌الله : ( وإن أخل بواجب غير ركن ) .. إلى آخره.

أقول : الذي ينبغي الكلام فيه بيان مسائل :

الأُولى : هل يعتبر في مسمّى السجود وضع الجبهة على الأرض ، أم يكفي كون المصلّي كهيئة الساجد ، بحيث يساوي موضع سجوده موضع قدمه ، أو أعلى منه مقدار أربع أصابع ، بحيث لو أراد الوضع لوضع؟

ظاهر بعضٍ وصريح آخر الثاني ، حيث جعل الخروج عن محلّ سهو الركوع كون المصلّي كالساجد ، فمقتضاه أنّه إذا نسي الركوع ووصل إلى ذلك الحدّ وإنْ لم يضع ، تبطل صلاته لصدق الإخلال بالركن.

وفيه : أنّهم إنْ أرادوا صدق السجود بدون ذلك فهو مخالف للعرف واللغة ، وإن أُريد عدم صدقه ، ولكن حكمه حكم السجود ، كما هو ظاهر القول بأنّ الخروج عن المحلّ يحصل بكونه كالساجد ، فهو دعوى بلا دليل. وأمّا على الأوّل فيجب عليه تدارك الركوع ورفع الرأس منه والطمأنينة لو نسي أحدها.

الثانية : أنّ السجود على القول باعتبار وضع الجبهة على الأرض أو عدمه هل يكتفى فيه بالسجود العرفي الصادق على سجود الشكر والتلاوة وهو مقدار مخصوص من الانحناء ممتاز عرفاً وإن لم يساوِ موضع الجبهة موضع القدم ، أو يعتبر المساواة؟

الظاهر الثاني ؛ لأنّه المستفاد من أدلّة اعتبار السجود. وحينئذ فلا تبطل الصلاة بنسيان الركوع حتى يصل إلى حدّ لم يبلغ مساواة موضع الجبهة موضع القدم ،

١٩٣

ووجب عليه تدارك الركوع حينئذ وإنْ تجاوز محلّ السجود العرفي. وكذا يجب تدارك رفع الرأس منه والطمأنينة لو نسيهما ، بخلافه على الأوّل ، فإنّ الصلاة تبطل بنسيان الركوع وإنْ لم يصل إلى الحد المذكور ، وكذا لا يتدارك الرفع ولا الطمأنينة إذا وصل محلّ السجود العرفي.

الثالثة : أنّ السجود وسائر أفعال الصلاة هل هي كيفيّات وهيئة خاصّة للمصلّي ، أو أفعال؟ وعلى الثاني ، فهل هي مجموع الحركة الخاصّة بمعنى أنّ الركوع مجموع الهويّ إلى الوصول إلى حدّ الراكع ، والسجود مجموع الهويّ إلى الوصول إلى حدّ الساجد ، والقيام مجموع الشروع في النهوض إلى الوصول إلى حدّ القائم ، والجلوس من مبدأ رفع الرأس إلى الوصول إلى حد الجالس. أو أنّه الجزء الأخير من الحركات المتصل بالهيئة الخاصّة؟

قيل بالأوّل ، كما ذكره بحر العلوم ، حيث قال :

ولو هوى لغيره ثم نوى

صحّ كذا الركوع فيما لو نوى

إذ الهويّ فيهما مقدمة (١)

إلى آخره.

وفيه : أنّه خلاف بناء الفقهاء من أنّ الصلاة أقوال وأفعال ، بل قوله رحمه‌الله لا ينطبق على القول بكونها عبارة عن الهيئات ؛ لأنّ مقتضى كلامه تحقّق الهيئة قبل تحقّق الركوع والسجود ، حيث جعل نيّة الركوع والسجود كافية وإنْ سبق تحقّق الهيئة المخصوصة ، فيكون بناؤه رحمه‌الله أنّ مجرّد كونه على الهيئة المخصوصة آناً ما مع النيّة يكفي في تحقّق الركوع والسجود ، فإنْ لم يكن مبدأ تحقّق الهيئة بنيّة وهو منافٍ لظواهر الأدلّة الدالّة على الأمر بالركوع والسجود في الصلاة فإنّ مقتضاها كونهما من أفعال المكلّف. وعلى تقدير كونهما من الهيئات لا يكونان كذلك ليتعلّق بهما التكليف ، فلا بدّ على

__________________

(١) الدرر النجفيّة : ١٢٣ ، وفيها : ( السجود بعد ما هوى ) بدل : ( الركوع فيما لو نوى ).

١٩٤

ذلك القول من كون الأمر المتعلّق بالركوع والسجود ، بمعنى إيجاد تلك الهيئة أو البقاء عليها بنيّة الصلاة ، وهو خلاف الظاهر من متعلّق التكليف.

وقيل بالثاني : وهو المحكي عن كاشف الغطاء رحمه‌الله (١).

وفيه : أنّه منافٍ لبعض الفتاوى المجمع عليها ، كما إذا نسي رَفْعَ الرأس من الركوع أو الطمأنينة فيه حتى هوى إلى السجود ولم يصل إلى حد الساجد ، وجب عليه التدارك. ولازم قوله رحمه‌الله عدم المحلّ لتداركهما حينئذ ، بل لازمه أنّه لو نسي الركوع وذكر في تلك الحالة بطلت صلاته ؛ لنسيان الركوع ، مع أنّه خلاف ما عليه بناؤهم.

فالحقّ هو القول الثالث ؛ لأنّه الموافق لمقتضى الأدلّة الآمرة بالركوع والسجود ، المستلزمة لكونهما من قبيل الأفعال ، وهو الموافق لفتاوى الفقهاء ، والله العالم.

الشكّ في الثنائيّة

قوله رحمه‌الله : ( من شك في عدد [ الواجبة (٢) ] الثنائيّة ) .. إلى آخره.

أقول : لا إشكال في أنّه إذا حصل الشكّ في عدد الواجبة الثنائيّة كان ذلك مبطلاً ، والدليل على ذلك فيما إذا كان الشكّ في النقيصة والزيادة أو في النقيصة والتمام روايات خاصّة دلّت على أنّه إذا كان الشكّ في الزيادة والنقيصة من الثنائيّة ، وأنّه إذا كان الشكّ في عدد الثنائيّة فالصلاة باطلة. وأمّا إذا كان الشكّ في التمام والزيادة فقد يتمسّك للبطلان فيه بقوله عليه‌السلام : « إذا شككت في الفجر فأعد » (٣).

لكن فيه : أنّ ظاهره كون الشكّ في ذات الفجر ، بأنْ يكون أحد طرفي الشكّ متعلّقاً بنفس الفجر ، وأمّا إذا كان الفجر محرَزاً وكان الشكّ في الزيادة عليه فلا يندرج في ظاهر الشكّ في الفجر ، فيكون بمنزلة قوله : « إذا شككت في الأُوليين فأعد » (٤) ، ويؤيّده

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٨١.

(٢) في المخطوط : ( الواجبات ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) التهذيب ٢ : ١٧٨ / ٧١٤ ، الإستبصار ١ : ٣٦٥ / ١٣٩٠ ، الوسائل ٨ : ١٩٣ ، ١٩٤ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٢ ، ح ١ ، ٥.

(٤) التهذيب ٢ : ١٧٦ / ٧٠٣ وفيه : « إذا شككت في الركعتين الأُوليين فأعد » ، الوسائل ٨ : ١٩٢ ، أبواب

١٩٥

قوله عليه‌السلام في رواية أُخرى : « إذا شكّ في الثنائيّة فليعِد حتى يثبتهما » (١) ، فإنّ مقتضى كون الإعادة لإثبات الركعتين من الثنائيّة تعلّق الشكّ بهما. ويؤيِّده أيضاً استفصاله عليه‌السلام في رواية أُخرى ، حيث سئل عن الشكّ في الثنائيّة أو الصبح ، فقال ما مضمونه : إذا لم تدرِ أنّك صلّيت ركعة أو ركعتين فصلاتك باطلة (٢) ، فإنّ ظاهره أنّ الشكّ إذا لم يكن كذلك لم يكن موجباً للبطلان.

نعم ، قد يتمسّك للبطلان بأنّه سئل عن حكم الشكّ في الثنائية ، فقال : « هو البطلان » ، فسئل ثانياً أو ليس : « لا يعيد الصلاة فقيه »؟ فقال : « إنّما ذلك في الثلاث والأربع » (٣) ، فإنّ مقتضاه البطلان فيما عدا ذلك ، ومن جملته ما نحن فيه.

فروع

ما يبتني على جواز العدول من القصر الى التمام وبالعكس

الأوّل : إذا دخل في الصلاة بنيّة القصر في موارد التخيير ، فشكّ في أنّه : هل زاد ثالثة سهواً أو لا؟ فهل يجوز له العدول إلى التمام فيترتّب عليه صحّة الصلاة ؛ لأنّه يكون من قبيل الشكّ بين الاثنين والثلاث في الرباعيّة ، أم لا يجوز؟ وعلى تقدير الجواز فالظاهر الوجوب ؛ لما دلّ على وجوب تصحيح العمل مهما أمكن.

وهذه المسألة تبتني على جواز العدول من القصر إلى الإتمام وبالعكس ، والظاهر عدم الإمكان عندهم في ذلك بحسب الفتوى ، وإن أشكل عليهم تطبيقه على مقتضى القاعدة من جهة إيجابهم تعيين أحد الأمرين من ابتداء الصلاة ، فإذا وجب ابتداء وجب استمراراً. ولازم حكمهم بجواز العدول وعدم وجوب التعيين

__________________

الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١ ، ح ١٩.

(١) التهذيب ٢ : ١٧٧ / ٧٠٦ ، الإستبصار ١ : ٣٦٤ / ١٣٨٣ ، الوسائل ٨ : ١٩١ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١ ، ح ١٥ والنقل بالمعنى في الجميع.

(٢) التهذيب ٢ : ١٧٦ / ٧٠٢ ، الإستبصار ١ : ٣٦٣ / ١٣٧٩ ، الوسائل ٨ : ١٩١ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١ ، ح ١٦.

(٣) معاني الأخبار : ١٥٩ ، الوسائل ٨ : ١٨٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١ ، ح ٥.

١٩٦

الاستمراري عدم وجوب التعيين الابتدائي ، إلّا إنّه لا إشكال عندهم من جواز العدول من أحد الأمرين إلى الآخر.

وأمّا جوازه في الصورة المفروضة لأجل تصحيح الصلاة ، فبيانه : أنّه إن قلنا بأنّ القصر والتمام فردان من ماهيّة واحدة وليسا حقيقتين مختلفتين ، كان التخيير بينهما تخييراً بين الأقلّ والأكثر ، فيجوز العدول حينئذ لتصحيح العمل لعدم المانع ، وإن قلنا بأنّهما ماهيّتان مختلفتان كالظهر والعصر لم يجز العدول ؛ لأنّ المستفاد من أدلّة جواز العدول ، إنّما هو جواز العدول من الماهيّة الصحيحة ، فلا يجوز العدول من شي‌ء إلّا بعد إحراز صحّته. والمفروض أنّ الصحّة مشكوكة في المحلّ المفروض ؛ لاحتمال أن يكون قد زاد ثالثة سهواً ، فلا يكون ذلك عدولاً ممّا علم صحّته فلا يصحّ.

ونظير ذلك ما إذا علم في أثناء صلاة الصبح أنّه لم يصلِّ العشاء ، وقلنا بجواز العدول من الحاضرة إلى الفائتة ، فإذا عرض له الشكّ في فريضة الصبح بين الاثنتين والثلاث ، فهل يجوز له العدول إلى العشاء الفائتة والحكم بصحة الصلاة ، أو لا؟ فإنّه يبتني على كون العدول كاشفاً أو ناقلاً. فإنْ قلنا بالأوّل جاز ؛ لدخوله بمجرّد الشروع في العشاء ، وإن قيل بالثاني لم يجز ؛ لأنّه عدول عن الصبح الباطلة بالشكّ ، فيكون عدولاً من باطل.

الشكّ في الواجبة ذاتاً المندوبة عرضاً ، والمندوبة ذاتاً الواجبة عرضاً

الثاني : أنّ ما ذكر من أنّ الثلاثيّة إن كانت فريضة كان الشكّ فيها مبطلاً ، وإن كانت نافلة كان الحكم فيها التخيير ، لا إشكال فيه بالنسبة إلى الواجبة فعلاً وشأناً في الأول ونافلة كذلك في الثاني ، إنّما الإشكال في الواجبة ذاتاً ، المندوبة عرضاً ، كالمعادة جماعة أو احتياطاً ، وصلاة التبرُّع عن الميّت ، والمندوبة ذاتاً الواجبة عرضاً كالنافلة المنذورة.

أمّا الأوّل : فقد يقال بإلحاقه بالنافلة نظراً إلى الاستحباب الفعلي ، والحقّ أنّها بحكم الفريضة الفعليّة ؛ لأنّها تلك في الحقيقة ، وإنّما عرض لها جهة الندب ، ألا ترى أنّ

١٩٧

الظهر إذا أُعيدت جماعة كان المأتيّ بها جماعة نفس صلاة الظهر المأتيّ بها انفراداً؟! ولذا ينوي فيها الظهر ، فالتفكيك بين المأتي بها جماعة والمأتي بها فرادى من الحكم بالنسبة إلى الشكّ في عدد الركعات لا مطلقاً له ، وكذا بالنسبة إلى صلاة الاحتياط وصلاة التبرّع.

وقد يوهم قول المصنّف رحمه‌الله : ( وصلاة العيدين إذا كانت فريضة ) (١) حيث احترز بذلك عن المندوبة أنّ بناءه على أنّ حكم الفريضة بالأصل إذا عرض لها الندب حكم المندوبة بالأصل ، إلّا إنّه ليس كذلك ؛ لأنّ صلاة العيد نوعان : نوع واجب ، ونوع مندوب ، لا أنّها واجبة تكون مندوبة بالعرض.

وأمّا الثاني : ففيه وجوه ثلاثة (٢) :

أحدها : أنّه بحكم الفريضة الفعليّة ، وهو ظاهر بعض الفقهاء. ووجهه أنّ من أحكام الصلاة ما يثبت لذاتها ، وما يثبت لصفاتها الثابتة لها شأناً ، وما يثبت لصفاتها الفعليّة ، والبطلان بسبب الشكّ ثابت لها باعتبار الوصف الفعلي.

ثانيها : أنّه بحكم النافلة ، نظراً إلى أنّه نافلة في الأصل ، والظاهر من النافلة المحكوم عليها من الأدلّة بالتخيير بين البناء على الأقلّ والأكثر هو ما كان كذلك ، إلّا إنّ الأظهر عدم كونها بحكم الفريضة من البطلان ، ولا النافلة من صحّة البناء على الأكثر.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ الظاهر من الفريضة ما كان فريضة بالأصل.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ منشأ جواز البناء في النافلة على الأكثر بناؤها على التسهيل لندبيّتها ، فإذا عرض لها الوجوب زال عنها التسهيل ، فلا وجه لجواز البناء على الأكثر.

وحينئذ ، فينبغي الرجوع إلى الأُصول الأوَّليَّة في البناء على أصالة عدم الزائد ، إلّا أنّه ينبغي النظر في أنّ الحكم بالبطلان من موارده مقتضى القاعدة ، أم لا؟.

قد يقال : إنّه مقتضاها من جهة استدعاء الشغل اليقيني الفراغ اليقيني ، وكأنّ

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٠٦.

(٢) لم يذكر المصنّف الوجه الثالث.

١٩٨

وجهه أنّه إذا شكّ في الثنائيّة بين الواحدة والاثنتين فإنْ أتى بالمشكوك فيه احتمل الزيادة ، وإنْ لم يأتِ به احتمل النقيصة ، فلم يتيقّن الفراغ على كلا التقديرين ، مع أنّ التكليف إنّما تعلّق بالصلاة على ما هي عليه ، فيقتضي الإتيان بها على هذا الوجه.

وفي صورة الشكّ لا يمكن ذلك فتكون باطلة ، وهو كلام مجمل لا بدّ من تحليله بأن يقال : إنّ الحكم بعدم البراءة ؛ إمّا لأنّ الشبهة موضوعيّة ولا أصل هنا يحرز الموضوع ، أو لأنّها حكميّة ومقتضاها وجوب الاحتياط.

فإنْ كان الأوّل ، فلا ريب أنّ مقتضى الأُصول الموضوعيّة الصحّة ؛ لتعلّق الشكّ بتحقّق الزائد على القدر المتيقّن ، ولا ريب في أنّ الأصل عدم ما يشكّ في وجوده وعدمه ، سواءً سمّي بأصل العدم ، أو الاستصحاب ، أو أصل الصحّة ، أو غيرها ، فلا يقال : إنّه أصل مثبت ؛ لأنّ المقصود به إثبات كون المأتي به ركعة واحدة ، وذلك المجدي مجرّد نفي الزائد بالأصل مع قطع النظر عن أمر آخر.

وإنْ كان الثاني ، فله وجه ، وكأنّه المراد ؛ لأنّ التمسّك بقاعدة الشغل هنا محكيٌّ عن العلّامة رحمه‌الله (١) ، وهو أجلّ من أن يريد الأوّل. فالظاهر حينئذ كون المراد به احتمال اشتراط الشارع في صحّة الأُوليين وأقوالهما وأفعالهما حفظ عددهما وتيقّنه ، فمتى شكّ في كون المأتيّ به ركعة أو ركعتين لم يصحّ له الإتيان بشي‌ء من الأفعال والأقوال. فكلّ ما يؤتى به في حال الشكّ خارج عن الصلاة وزائد عليها ، فإذا شكّ في كون ذلك شرطاً كان شكّاً في شرطيّة شي‌ء في الصلاة وعدمها.

وفي المسألة قولان : قول بالبراءة وقول بالاحتياط ، فيكون التمسّك بقاعدة الشغل مبنيّاً على القول بالاحتياط.

وما يقال من أنّ ذلك لو كان شرطاً في صحّة الأُوليين لبطلت الصلاة بمجرّد عروض الشك فيهما وإنْ تيقّن بعد الشكّ لفوات الشرط ، وهو تيقّن عدد الاوليَيْن.

فيه : أنّ الحفظ واليقين ليسا [ شرطين (٢) ] لأكوان الصلاة كالطهارة والاستقبال ؛

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٥٤٠.

(٢) في المخطوط : ( شرطاً ).

١٩٩

ليكون خلوُّ كلِّ كون عنه ولو مع عدم الاشتغال بشي‌ء من الصلاة موجباً للبطلان ، وإنّما هو على تقدير الشرطيّة شرط في المضيِّ في الصلاة والاشتغال بأفعالها وأقوالها. على أنّ الظاهر كون نفس الشكّ مبطلاً ؛ لقوله عليه‌السلام : « إذا شككت في الفجر فأعد » (١) ، ولا بدّ من حمله على خلاف ظاهره ، وأنّ المراد به عدم المضيّ في الصلاة والتوقّف حتى يظهر الحال ، وأنّه ليس على حدّ الشكّ في القراءة حال الركوع أو فيه حال السجود في عدم الالتفات والمضيّ في الصلاة.

وأمّا عَدُّ بعض الفقهاء كالشهيد (٢) الشكَّ في الأُوليين من المبطلات ؛ فلعلّه لمنع الشكّ من المضيِّ في الصلاة وإيصال الأجزاء اللاحقة بالسابقة حالته ، فهو كالحدث في إسقاط قابلية إيصال الأجزاء اللاحقة بالسابقة في الجملة ، فأطلق عليه اسم المبطل.

ثم إنّه هل يجوز إبطال الصلاة بمجرد عروض الشكّ مطلقاً ، أو يحرم مطلقاً ، أو يجوز بعد التروّي لا قبله؟ وجوه :

قد يقال بالأوّل ؛ لأنّ المكلّف إنّما كُلّف بكُلِّيِّ الصلاة مع قطع النظر عن ملاحظة خصوصيّة الأفراد ، ومقتضاه التخيير بين سائرها حتى لو شرع في بعضها لولا ما دلّ على حرمة إبطال العمل ، فإذا فرض عروض الشكّ في الأثناء ، ومانعيّته من المضيّ مع فرض بقاء الأمر بكلِّيِّ الصلاة ، جاز إيجاد الكلِّيِّ في الفرد الآخر ، وامتثال الأمر الموجّه إليه حين الشكّ به ؛ إذ الفرض عدم تمكّنه من امتثال الأمر بالفرد المشروع فيه.

وقد يقال بالثاني ؛ لأنّه وإنْ كان غير متمكّن من إتمام الفرد حين الشكّ إلّا إنّ مقتضى أدلّة حرمة إبطال العمل بشهادة العرف وبناء العقلاء حرمةُ استناد الإبطال إلى فعل المكلَّف واختياره ، ومقتضاه وجوب بقائه على حال المصلّي حتى يتحقّق المبطل

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٧٨ / ٧١٤ ، الإستبصار ١ : ٣٦٥ / ١٣٩٠ ، الوسائل ٨ : ١٩٣ ، ١٩٤ ، أبواب الخلل في الصلاة ، ب ٢ ، ح ١ ، ٥.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٣٢٩.

٢٠٠