الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

خروجه ، والإقامة فيه ثانية ، أتمّ مطلقاً أي في حال الذهاب والإياب ، وفي الموضع الذي ذهب إليه ، وفي محلّ الإقامة لأنّه بنيّة التمام ، وقد وجبت عليه الصلاة تماماً ، حتى يقصد المسافة ، وإلّا أي وإنْ لم يقصد الإقامة ثانياً فأقوالٌ :

أحدها : ما نقل عن العلّامة رحمه‌الله من وجوب التقصير بمجرّد الخروج ؛ مُعلِّلاً ذلك ببطلان حكم البلد بالمفارقة ، فيعود إليه حكم السفر.

ولا يخفى ضعفُه ؛ لمنافاته الروايةَ الصحيحة (١) ، الدالّة على وجوب الإتمام ، بعد النيّة والصلاة تماماً ، إلى أَنْ يقصد المسافة.

نعم ، لو كان عزمه بعد العود قصد المسافة ، أمكن ذلك. إلّا إنَّ جمعاً من الأصحاب نقلوا الإجماع على عدم ضمّ الإياب إلى الذهاب في غير قصد الأربعة الفراسخ ؛ فإن تمّ ، وإلّا كان ما ذكروه متّجهاً في خصوص هذا المفرد.

ومنها : وجوب الإتمام في الذهاب ، والتقصير في الرجوع.

وهو على إطلاقه مشكلٌ ؛ لأنّه إنّما يتمُّ بالنسبة إلى مَنْ قصد بعد العود المسافة ، دون مَنْ رجع ذاهلاً ، أو متردّداً.

وكيف كان ، فإنّ هذه الأقوال أظهرُها هو أنَّه إِنْ عزم العود ، وقصد المسافة بعد عوده ، أتمّ في الذهاب خاصّة دون العود ، على إشكالٍ في ذلك أيضاً ؛ لأنّ التمامَ في الذهاب ، والتقصير في العود مبنيٌّ على الإجماع المدّعى على عدم ضمّ الذهاب إلى الإياب في غير قصد الأربعة الفراسخ. وثبوتُ الأحكام عندنا بمثل هذه الإجماعات ، سيّما مع خلوّ كلام المتقدمين منها ، في غايةٍ من الإشكال.

ومتى أغمضنا النظر عن الإجماع ، كان الواجب القصر بمجرّد الخروج كما هو المنقول عن العلّامة (٢) رحمه‌الله وقصّر في العود ؛ لأنّه بعوده وإرادة قصد المسافة ، يصير مسافراً ، فيجب عليه القصر وكذا يقصّر في محلّ الإقامة ، على تردّدٍ في الموضعين ،

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٢١ / ٥٥٣ ، الإستبصار : ٢٣٨ / ٨٥١ ، الإستبصار ١ : ٢٣٨ / ٨٥١ ، الوسائل ٨ : ٥٠٨ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١٨ ، ح ١.

(٢) تحرير الأحكام ١ : ٥٧.

١٢١

ينشأ من أنّه برجوعه مع قصد المفارقة لموضع الإقامة والسفر عنه ، يكون قاصداً للمسافة ، فيقصّر من حين رجوعه ، وبذلك جزم جملةٌ من متأخّري أصحابنا ، ومتأخّري المتأخّرين. ومن احتمال البقاء على التمام حتّى يفارق موضع إقامته ، ويصير اعتبارُ قصد المسافة إنّما هو من حيث إنَّه بالإقامة فيه صار في حكم البلد. وهذا هو ظاهر كلام العلّامة رحمه‌الله في أجوبة مسائل السيّد السعيد مهنّا بن سنان المدني (١).

والمسألةُ خاليةٌ من النص ، والاحتمالان متقابلان ، وإنْ كان للأوّل نوع قوّة ورجحان.

هذا إنْ عزم العود وقصد المسافة.

وأمّا إنْ عزم العود ، ذاهلاً عن السفر والإقامة ، أو متردّداً بين السفر والإقامة ، أتمّ مطلقاً : في الذهاب ، والإياب ، والمكان الذي قصده ، وفي موضع الإقامة بعد الرجوع إليه ؛ عملاً بالصحيحة الدالّة على أنّه بنيّة الإقامة والصّلاة على التمام ، يجبُ البقاء على التمام ، حتى ينشأ سفراً.

والخارج عن محلِّ الإقامة على هذا الحال لم يحصل له قصدُ مسافةٍ ، فيبقى على وجوب التمام. والاحتياطُ في موضعي التوقّف بالجمع بين الفرضين أولى ، بل لا يبعد وجوبُهُ.

وفي المسألة تفصيلات وشقوق عديدة ، لا تليق بهذا الإملاء ، ومَنْ أرادها ، فليطلبها من رسالة شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله في المسألة المذكورة ) (٢). انتهى كلامه ، علتْ في الخُلد أقدامُه.

فلينظر المنصفُ إلى حال هذا الفاضل الناقد البصير ، والمحدِّثِ النحرير ، والمتتبّعِ الخبير ، كيف لم يجزم في غير موضع الإجماع ، وهو استئناف الإقامة عشرة أيّام ، بل قرّب وجوب الاحتياط ، بالجمع بين القصر والتمام ، فكيف بأمثالنا يا معشرَ

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنّائيّة : ١٣١ ١٣٢.

(٢) انظر : الرسالة الصلاتية الصغرى : ٨٧.

١٢٢

القاصرين عن درجة النقض والإبرام؟!

وسيأتي أيضاً موافقة غيره له في هذا الاحتياط ، ممّن يروم سلوك سواء الصراط.

ولينظر أيضاً إلى ما صرّح به من أنّ جميع ما يجري فيه الخلاف والاحتياط والإشكال عامٌّ لما لو كان الخروج في أثناء العشرة أو بعد انقضائها في جميع الأقوال ، كما مرّ التصريح به في ( المسالك ) (١) في موضع واحد ، وفي الرسالة المذكورة (٢) في موضعين منها هنالك.

ومثله ما صرّح به أخوه الأمجد ، الشيخ محمّد ابن الشيخ أحمد (٣) ، قال رحمه‌الله في شروط الإقامة ما لفظه :

( الرابع : ألّا يخرج بعد نيّة الإقامة عن محلِّها ضمن العشرة إلى موضع الترخّص ، فإِن خرج سواءً كان لضرورة أو لا ، وسواءً كان صحيحاً أم لا ، بل ولو كان معصيةً كما تقدّم مثله فقد فرّع بعضُ فقهائنا ذلك ، إلى فروعٍ ستّةٍ ، قالوا : متى خرج بعد نيّة الإقامة ، فإمّا أن يعزم على العود لموضع الإقامة أو إلى محلّ غيره لا يبلغ محلّ الترخّص ، مع نيّة إقامة عشرة مستأنفة ).

إلى أنْ قال : ( وقد أجملوا في كلِّ هذه الفروع ، بل قد صرّحوا بعدم الفرق بين الخروج في أثناء العشرة المنويّ فيها الإقامة ، وبعد إتمامها ) .. إلى آخره.

وقد صرّح بعدم الفرق أيضاً في موضع آخر. ونقل رحمه‌الله في مسألة العزم على عدم الإقامة ثانياً ، بعد العود عن علماء العراق : ( إنّهم يفتون مَنْ خرج من النجف بعد نيّة المقام والصلاة بعدها بتمام إلى الكوفة ، مع نيّة الرجوع للنجف ، والسفر بعدُ لمشهد الحسين عليه‌السلام : بالتقصير في الخروج ، إذا بلغ حدّ الترخّص ، وفي الرجوع ، وفي النجف.

وأنّه كان منهم مَنْ يفتيه بالبقاء على التمام في الأحوال الثلاثة ، إلى أن يبلغ حدَّ

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٣٥١.

(٢) رسائل الشهيد الثاني : ١٦٨ ـ ١٧٠.

(٣) عالم عامل ، ولد سنة ١١١٢ ه‍ ، له كتب ، منها : ( مرآة الأخبار في أحكام الأسفار ) ، وغيره ، أنوار البدرين : ٢٠٥.

١٢٣

الترخّص ، في طريق المشهد أي مشهد الحسين عليه‌السلام. ثمّ رجع هذا المفتي بالتمام للقائلين بالتقصير ، واتّفق الكلُّ عليه ) .. إلى آخر ما ذكره.

والاستشهاد بكلامه رحمه‌الله من وجهين :

الأوّل : نقلُه عن الأصحاب إطلاق الخلاف للخارج بعد العشرة ، وفي أثنائها.

والثاني : نقلُه عن علماء العراق اتّفاقهم على القصر في المسألة المذكورة التي هي نفس المسألة المسئول بها الحقير ، وهو كافٍ في العذر للحقير عن التقصير.

إلّا إنّ الشيخ الفاضل رحمه‌الله قد اختار التمام في جميع الصور والأقسام ، ولا تثريبَ عليه في ذلك ولا ملام ؛ لكونه من المجتهدين الأعلام.

وقال العالم الفاضل الربّاني ، الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني ، في ( رسالة الصلاة ) ما هذا لفظه : ( الثانية : لو خرج ناوي المقام عشراً إلى ما دون المسافة ، وبلغ حدّ الترخّص ، فإن عزم على العود والإقامة عشرة مستأنفة أتمّ مطلقاً ، وإنْ عزم على المفارقة فالمشهور القصر ببلوغ حدّ الترخّص. وقيل : بمجرّد الخروج من البلد. وفي الحكمين إشكال ؛ إذ الفرض كون الخروج إلى ما دون المسافة ، فلا وجه للقصر إذا لم يقصد المسافة بعد. وقد يُتمحّل للتفصي (١) عن الإشكال بما لا يسلم من خدش.

ولو عزم على العود ، قيل : يقصّر في الذهاب والإياب ، وقيل : في الثاني خاصّة. وفي إطلاقهما إشكالٌ ، والأجودُ الإتمام في الذهاب مطلقاً ، والتفصيل في العود ؛ فإنْ كان إلى موضع الإقامة لا غير ، أمّا مع [ عزم (٢) ] عدم التجاوز إلى إتمام المسافة بالنسبة إلى مبدإ العود ، أو مع الذهول عن الزيادة عن محلِّ الإقامة ، أو مع [ عدم (٣) ] التردّد فيها ، أتمّ.

وإنْ كان عزمه الزيادة على موضع الإقامة ، بحيث تكون المسافةُ من مبدأ عوده

__________________

(١) التفصي : التخلص ، مختار الصحاح : ٥٠٥ فصى.

(٢) من المصدر.

(٣) من المصدر.

١٢٤

إلى منتهى القصد ، قصّر ؛ وفاقاً للشهيد الثاني (١) رحمه‌الله ، وما يتخيّل من أَنّ فيه إحداثَ قولٍ ثالثٍ في غايةٍ من السقوط.

بل ادّعى الشهيد الثاني (٢) أنّ القائل به أكثر من القائل بأحد القولين ، وهو قضيّة القاعدة الكلّيّة القائلة : إنّ الناوي عشرة في موضعٍ ، إذا صلّى فيه تماماً ، ثمّ بدا له في الإقامة يتمُّ إلى أنْ يقصد مسافةً جديدةً. وكذا الكلام فيما إذا عزم على العود والمقام دون عشرةٍ مستأنفة.

ولو عزم على العود إلى موضع الإقامة وتردّد في إقامة العشرة ، فوجهان : الإتمامُ مطلقاً ، وكونه كالعازم على العود الجازم بعدم الإقامة في جريان الوجهين السّابقين.

والوجهُ : أنَّ العود إلى الموضع المذكور إِنْ كان مستلزماً للعود إلى بلده فالقصر ، وإنْ كان مخالفاً له فالمتّجه الإتمام إلى أَنْ يتحقّق قصدُ المسافة. فتحصّلت وجوهٌ أربعةٌ.

وتعجّب الشهيد الثاني (٣) من ذكر وجه الإتمام مطلقاً هنا ، وعدم ذكره في الجازم بعد العود بعدم الإقامة ، وهو في محلّه. ولو تردّد في العود إلى موضع الإقامة ، فأصحّ الوجهين عندهم القصر ، وفيه ما مرّ من الإشكال.

ولو ذهل عن قصد العود والإقامة ، ففيه الوجوهُ السابقة في العازم على العود المتردّدِ في إقامة العشرة ، إلّا أن يكون الذهولُ لاحقاً ، فالمعتبر العزم السابق ). انتهى كلامُه علت في الخلد أقدامُه.

ومَنْ تأمّل هذا الكلام ، وكلامَ غيرِه من الأعلام ، ونظر بعين الإنصاف ، وجانب الاعتساف ، عرف ما في شقوق المسألة من الإشكال ، ونهاية الإعضال ، بحيث يعجز الفقيهُ الماهر عن الجزم فيها بحال ، واللهُ العالم بحقيقة الحال.

وقال سيّدُ المحقّقين ، وسندُ المدقّقين ، السيّد مهدي الطباطبائي قدس‌سره (٤) في

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٣٥١.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ٣٥١.

(٣) مسالك الأفهام ١ : ٣٥١.

(٤) عالم فقيه ، رئيس الإمامية وشيخ مشايخهم في عصره ، ولد بكربلاء سنة ١١٥٥ وتوفي سنة ١٢١٢ ه‍ ، ودفن قريباً من قبر الشيخ الطوسي ، من أشهر مؤلَّفاته : المصابيح في الفقه ، الفوائد في الأصول ، كتاب الرجال ، .. وغيرها كثير. أعيان الشيعة ١٠ : ١٥٨ ١٦٠.

١٢٥

( المصابيح ) ما هذا لفظه : ( اضطربت الأفهامُ ، وزلّت أقدامُ كثيرٍ من الأعلام في أنّ المقيم في موضعٍ عشرة أيّام ، إذا خرج إلى ما دون مسافة القصر ، يبقى على حكم التمام ، أم يعود إليه القصرُ الثابت له قبل المقام؟ وإنّ جمعاً من الفضلاء المتأخرين ، وجملةً من مشايخنا المحقّقين ، قد عدلوا في المسألة عمّا عليه الأصحاب ، وخالفوا ما هو المعروف عندهم في هذا الباب ؛ فمنهم مَنْ أوجب التقصير في جميع صورها ، ومنهم من ذهب إلى الإتمام في شقوق المسألة عن آخرها.

ولم أقف على موافق لهذين القولين ، فيما اطّلعتُ عليه من الأقوال ، ولا نقلهما ناقلٌ من الفقهاء في كتب الخلاف والاستدلال.

بل المستفاد من كلامهم اتّفاقُ الأصحاب على بقاء حكم الإتمام لقاصد العود إلى محلِّ الإقامة ، وإقامة عشرة مستأنفة بعده مطلقاً في ذهابه إلى ما دون المسافة ، وعودِه إلى موضع الإقامة ، وفي المحل.

وكذا الاتّفاق على وجوب القصر لمريد العود من دون إقامة ، فيما عدا الذهاب إلى ما دون المسافة.

وإنّ الخلاف عندهم في حكم الذهاب في الصورة الثانية وفيما عدا هاتين الصورتين من الصور المحتملة في هذه المسألة.

وها أنا أنقل لك ما وقفت عليه من الأقوال ، ثمّ أُتبعها بما يقتضيه الحال من وجوه الاحتجاج والاستدلال ).

وساق الكلام في نقل عبارات الأصحاب في المقام ، إلى أنْ قال : ( وتحريرُ محلِّ النزاع في المسألة ، وبيانُ المتّفق عليه فيها ، والمختلف فيه ، يتوقّف على ذكر صورها المحتملة ، وتصوير شقوقها المتشعّبة ، فنقول : لا خلاف بين الأصحاب رضوان الله عليهم في أنّ المسافر إذا أقام في غير بلده عشرة أيّام ، فإنّه ينتقل من حكم التقصير

١٢٦

إلى التمام ما دام في البلد إنْ استمرَّ على عزمه ، أو صلّى صلاةً تامّة ، أو فعل ما في حكمها كالصوم الممنوع منه على القول به للمسافر ، وإنْ رجع عن القصد بعد ذلك. وأنّه يرجع إلى حكم التقصير لو رجع عن نيّة الإقامة قبل الصلاة تماماً وما في حكمها ، سواء خرج عن محلّ الإقامة ، أو كان فيها أو خرج عن محلّ الإقامة عازماً على مسافة القصر فيما بينه وبين مقصده ، سواء تعقّب خروجه الرجوع عن نيّة الإقامة قبل الصلاة أو لم يتعقب. والمستند في هذه الأحكام مضافاً إلى إجماع الأصحاب كافّة ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن أبي وَلّاد الحنّاط (١).

وأمّا إذا خرج المسافر عن محلِّ الإقامة بعد تعيّن الإتمام عليه فيها إلى ما دون مسافة القصر ، فذلك محلُّ البحث ، وموضوع المسألة. والتفصيل فيه : أنّ الخارج إلى ما دون المسافة ؛ إمّا أنْ يقصد العود إلى محلّ الإقامة مع إقامة عشرة مستأنفة فيه ، أو يقصد العود من دون الإقامة ، أو لا يقصد العود في خروجه ، بل عزم على المفارقة عن محلّ الإقامة والمضيِّ إلى بلده ، أو يقصد العود متردّداً في الإقامة وعدمها ، أو يخرج متردّداً في العود وعدمه ، أو يذهل عن جميع ذلك ، فهذه ستّ صور.

والأقوال المنقولة بأسرها متّفقة على أنَّ المقيم إذا خرج إلى ما دون المسافة عازماً على العود وإقامة أُخرى مستأنفة ، فإنّه يتمّ الصلاة ذاهباً وعائداً ، وفي بلد الإقامة.

وكذا على أنَّه إذا خرج مريداً للعود من غير إقامةٍ ، فإنّه يقصّر في عوده إلى الإقامة ، وفي البلد ، وإذا خرج منها إلى وطنه.

ويجب تقييده بما إذا كان ما بين المقصد والوطن مسافة يقصّر فيها ، فإنّه إنْ قصّر عنها أتمّ في الجميع ، قولاً واحداً ، ولم يجز له التقصيرُ إجماعاً ). إلى آخر كلامه قدس‌سره في باقي الصور ، فليرجع إليه مَنْ أراد الوقوف عليه ، في كتابه المذكور.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٢١ / ٥٥٣ ، الإستبصار ١ : ٢٣٨ / ٨٥١ ، الوسائل ٨ : ٥٠٨ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١٨ ، ح ١.

١٢٧

أقول : ومن لمح هذا الكلام بعين التحقيق ، لاحَ له الفجرُ الصادق ، باضطراب الفتاوى ، واختلاف الكلمات ، الموقِعَيْنِ في شباك المضيق ، كما لا يخفى على مَنْ لاحظ الكلمات السابقة ، وما نمّقه قدس‌سره ممّا سمعته من الكلمات الرائقة.

وقال السيّد الفاضل الشهير بالمير ، السيّد علي الطباطبائي قدس‌سره في ( الشرح الصغير ) ما لفظه : ( ولو سافر لدون المسافة أتمَّ مطلقاً ، سواء قصد العود إلى محلّ الإقامة وعزم على إقامة عشرة مستأنفة كما هو [ الإجماع (١) ] أو لم يقصد العود إليه أصلاً ، أو قصده ولم يعزم على المقام عشراً ثانياً ، سواء عزم على إقامةٍ ما أو لا.

ولكن ظاهر الأصحاب كما قيل في الصورة الثانية الاتّفاق على القصر ذهاباً وإياباً ، وإنْ اختلفوا في ثبوته بمجرّد الخروج ، أو بعد الوصول إلى حدِّ الترخّص ، كما هو الأقوى ، على تقدير ثبوت القصر بالإجماع المحكي.

وظاهر المشهور في الثالثة أيضاً وجوب القصر ، وإِنْ اختلفوا في إطلاقه بمجرّد الخروج ، أو بعد بلوغ حدّ الترخّص ، أو تقييده بحال الإياب خاصّة. وحجَّتُهم غيرُ واضحة.

ولكن الأحوط الجمع بين التمام والقصر بمجرّد الخروج في الصورتين ، لا سيّما الأُولى مطلقاً ، والثانية إياباً خاصّة ) (٢).

أقول : فليعتبر ذوو الإنظار إلى ما جنح إليه هذا السيّد العالي المنار ؛ إذ لم يؤدِّه فكرُه النقّاد ، وفهمُه الوقّاد ، إلى الجزم في مثل هذا المقام ، حتى التجأ إلى كهف الاحتياط ، بالجمع بين القصر والتمام.

وقال العالم المحقّق ، الشيخ جعفر النجفي قدس‌سره في ( رسالة الصلاة ) ما لفظه : ( ولو خرج إلى ما دون المسافة أَتمَّ في الذهاب ، وفي نفس المقصد ناوياً للرجوع ، أو متردّداً فيه ناوياً للإقامة بعد الرجوع ، أو لعدمها ، أو متردّداً فيها. ويتمُّ في الرجوع

__________________

(١) في المخطوط : ( إجماع ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) الشرح الصغير على المختصر النافع ١ : ٢٠٧.

١٢٨

ومحلّ الإقامة ، مع نيّة الإقامة ، أو نيّة عدمها ، أو التردّد فيها. والأحوط في الأخيرين الجمعُ بين القصر والإتمام ).

أقول : موضعُ الاستشهاد بهذا الكلام عدمُ جزم هذا العلّام ، واحتياطُه بالجمع بين القصر والتمام ، وما ذاك إلّا لصعوبة المرام ، وما في المسألة من إبرام النقض ، ونقض الإبرام ؛ فليعتبر أولو الأفهام.

وقال الفاضل المؤتمن ، شيخُنا الشيخ محمد حسن قدس‌سره الزاهر في كتابه ( الجواهر ) ، في مسألة : مَنْ نوى العود دون الإقامة ثانياً بعد كلامٍ طويل ، أكثر فيه من القال والقيل ما هذا لفظه : ( والإنصافُ يقتضي عدم ترك الاحتياط ، بالجمع بين القصر والإتمام ، وإنْ كان هو في حال العود ومحلّ الإقامة أضعف منه في حال الذهاب والمقصد بمراتب ، لكن لا ينبغي تركُه بحال ؛ لعدم إمكان الاطمئنان بحكم الله في خصوص هذه المسألة ؛ لعدم نصّ فيها لا صريحٍ ولا ظاهر ، وعدمِ وفاء ما سمعتَه من الأدلّة بجميع تفاصيلها ، وناهيك بالشهيد في ( الذكرى ) (١) فضلاً عن غيره ، لم يرجّح في المقام على متانته وقوّته ، وعملِه بكلِّ ظنٍّ على الظاهر ) (٢) .. إلى آخر كلامه زيد في إكرامه.

وفيه ما يروي الغليل ، ويشفي العليل ، ويحذِّر من التهوّر في مثل هذا المقام الجليل.

وقال موضحُ حقائق الآثار ، الشيخ محمّد آل عبد الجبار ، في رسالته الكبرى ، التي اختصرها بأمره تلميذه الكامل ، الشيخ أحمد آل طوق ، بالاقتصار على الواجبات ، ما هذا لفظه : ( ومَنْ خرج بعد العشرة ، لِما دون المسافة ، [ إن (٣) ] كان متردداً ، أو ذاهلاً ، أو ناوياً العود عشرة مستأنفة ، أو متردّداً بعدُ ، يتمُّ مطلقاً ، والجمعُ أحوط ) (٤). انتهى.

أقول : قد نقلت العبارة بلفظ المُخْتَصر ، إيثاراً للاختصار. وموضع الاستشهاد فتواه

__________________

(١) الذكرى : ٢٦٠.

(٢) جواهر الكلام ١٤ : ٣٧٧.

(٣) في المخطوط : ( أو ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) مختصر رسالة الشيخ محمّد آل عبد الجبار ( مخطوط ).

١٢٩

بالجمع بين القصر والإتمام ؛ لعدم جزمه بالحكم ، مع كونه من الفضلاء الأعلام.

وقال محقّقُ الأُصول والفروع ، ورئيسُ المعقول والمنقول ، شيخُنا المبرّإ من الرين والشين ، الأُستاذ الشيخ محمّد حسين الكاظمي (١) أصلاً ، النجفي أهلاً ، في ( رسالة الصلاة ) ما لفظه : ( ولا بأسَ بالخروج عن محلّ الإقامة إلى ما دون محلّ الترخّص منه. وأمّا لو خرج إلى ما بعده ، ودون المسافة ؛ فإنْ نوى إقامةً أُخرى بعد ذلك ولو في غير محلّها الأول أتمّ مطلقاً ، وكذا إِنْ نوى العودَ إليه ، وإقامة ما دون العشرة فيه ، أو مع التردّد في إقامة العشرة فيه ، على الأقوى. وإنْ نوى العودَ إليه على سبيل الاستطراق كغيره من منازل السير إلى بلده مثلاً أتمَّ في الذهاب والمقصد ، وقصّر في العود على الأقرب. والأحوطُ الجمعُ في هاتين الصورتين في الجميع ، سيّما في العود ، سيّما في ثانيتهما.

وإِنْ نوى عدم العود إليه ، وعدم نيّة الإقامة في غيره ، قصّر إنْ كان الموضع الذي قد خرج إليه في أثناء طريقه وبعض مسافته ، وإلّا أتمَّ إلى أنْ يتلبّس بمسافته المقصودة له على الأقرب ، والجمع حينئذٍ أحوط. وكذا لو تردّد في العود إليه وعدمه ، إلّا إنّ الجمع مطلقاً أحوط ). انتهى كلامُه زيد إكرامهُ.

وفيه شفاءٌ للصدور ، ودفعٌ للمحذور ، وعذرٌ للمفتي بالاحتياط ، من اولي التقصير والقصور.

وقال العالم الماهر ، الميرزا محمّد باقر بن محمّد سليم التبريزي القراجه‌داغي ، المجاور بكربلاء المعلّى ، ما لفظه : ( مَنْ عزم على الإقامة في غير بلده عشرة ، وَصَلّى صلاةً على التمام ، ثمّ خرج إلى ما دون الأربعة ، فإنْ عزم على العود والإقامة ثانياً ، أتمَّ ذاهباً ، وعائداً ، وفي البلد ، إجماعاً. وكذا لو كان قصده بعد العود إتمام الإقامة الأُولى على الأقوى.

__________________

(١) عالم فقيه زاهد ، ولد بالكاظمية سنة ١٢٢٤ ، وتوفي سنة ١٣٠٨ في النجف الأشرف ودفن في الصحن الشريف. من أشهر مؤلّفاته : هداية الأنام إلى شرائع الإسلام. أعيان الشيعة ٩ : ٢٥٧ ٢٥٨.

١٣٠

ولو خرج إلى ما دون المسافة غير قاصدٍ للعود ، ذهولاً أو تردّداً ، أو قصده ولم يقصد إقامةً مستأنفةً ولا إتمامَ الأُولى ، ولم يقصد السفر ، ذهولاً عنه أو تردّداً فيه ، أتمَّ في ذلك كلِّه ذاهباً ، وعائداً ، وفي البلد ، على الأقوى.

ولو قصد السفر بعد العود ، من غير إقامةٍ ثانيةٍ ولا إتمامِ الأوّلة ، سواء كان السفرُ خاصّة مسافة ، أم مع العود ، ففي الذهاب يتمُّ ، وفي العود والبلد كذلك ، لكن الاحتياط فيه الجمعُ بين القصر والإتمام ، والصومُ ثمّ قضاؤه.

وكذلك الكلام فيمن أقام في بلد ، وخرج إلى ما دون المسافة بعد إتمام الإقامة ، حرفاً بحرف .. ). انتهى.

أقول : موضع الاستشهاد بهذا الكلام أمرُه بالجمع بين القصر والإتمام ، لمن لم يقصد بعد العود إقامة عشرة أيّام ، وتصريحُه باتحاد الحكم في الخارج بعد تمامها ، والخارج في أثنائها ، مع أنّ مِن جملةِ المنكرين مَن ينتمي لتقليد هذا القائل ، وهو كما ترى من أصرح الدلائل.

فهذه جملةٌ من كلمات فقهاء الإسلام ، وأساطين النقض والإبرام ، من المتقدّمين والمتأخّرين ، ومتأخّريهم ، والفضلاء المعاصرين. وقد سمعتَ ما تضمّنته من الاختلاف ، وكثرة الاضطراب ، وعدم الائتلاف. وإنّما لم ننقل كلام الجازمين بالإتمام في جميع الصور والأقسام ؛ لكونه عند المعترض غنيّاً عن البيان والإعلام.

ومَنْ جاس خلال تلك الديار ، وخاضَ عُباب ذلك البحر التيّار ، وطافَ حولَ كعبةِ هذا المنار ، ولاحظ تلك الأقوال المتشاكسة ، والمشاهير المتعاكسة ، والنقول المتناكسة ، التي يقف عليها من تدبّر مبسوطات علمائنا الأبرار ، علم أنّ هذه المسألة صعبةٌ خطيرة ، بل كلّما ازداد الحاذق دقّة وبصيرة ازداد فيها توقّفاً وحيرة.

فبالله عليكم! يا معشَر السالكين نَجْدَ الإنصاف ، والمجانبين عمياء التعصّب والاعتساف ، إذا دارت المسألة بين الإتمام في جميع صورها ، وبين التقصير فيها بأسرها ، وبين الاحتياط ، فيما عدا محلّ الإجماع ، وهو أكثر شقوقها ، ولم يعلم السّائل

١٣١

والمسؤول فتوى المقلَّد فيها ، فما الذي يلزم المتدين المرتاد ، الطالب لنهج النجاة والسداد مع ما سمعتم فيها من الاضطراب الذي عجز الفحولُ لأجله عن تمييز الصواب ، أو تبيين القشر من اللباب؟ وما الداعي إلى التشنيع على السائل والمسؤول ، والناقل والمنقول؟ وهلّا امتثلتم قولَه تعالى ، في الذكر المبين ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١).

وقولَه تعالى في محكم الكتاب ( وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ) (٢).

وليس المراد من تحرير هذه الكلمات القليلة ، إظهار العلم والفضيلة ، بل إزالة الغفلة ، وإزاحة علّة الشناعة الرذيلة.

وأمّا تحقيقُ الحلِّ في هذه المسألة ، وتفصيلُ شقوقها المجملة ، فهو موكولٌ إلى الرسالة المشارِ إليها ، في صدر هذه العجالة ، وفّق الله لإتمامها ، والفوز بسعادة اختتامها.

ختمَ اللهُ لي ولكم بأحسن الختام ، وبدّل عن تقصيرنا بأكمل التمام ، وعصمني اللهُ وإيّاكم من هفواتِ الجنان ، وعثراتِ اللسان ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم أيُّها الإخوان ؛ إنَّه غفورٌ رحيمٌ حنّان.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) غافر : ٢٨.

١٣٢

الرسالة الثانية عشرة

حاشية على مباحث الخلل

من كتاب الشرائع

١٣٣
١٣٤

الخلل الواقع في الصلاة

الجلد المأخوذ من يد المسلم

قوله : ( إذا كان في يد مسلمٍ ) .. إلى آخره.

المراد من كونه في يد المسلم اتخاذه إيّاه للانتفاع به ، سواءً كان مالكاً له أو مستعيراً أو مستأجراً ؛ لأنّ معنى كونه في يده كونه في قبضته وتصرّفه ، وهو صادق في الجميع.

أمّا لو تناوله لطرحه في الطريق لم يجرِ عليه حكم المذكى. وإنْ وجد في يده واحتمل أنَّ تناوله إيّاه لطرحه في الطريق لا للانتفاع به ، ففي الاكتفاء بذلك في الحكم بجواز استعماله وإجراء حكم التذكية عليه إشكال. ولا فرق في المسلم المجعولة يده أمارة على التذكية بين كونه مستحلا للميتة أو لا ؛ لإطلاق الأدلّة.

نعم ، قد يظهر ممّا روي عن زين العابدين عليه‌السلام من أنّه كان له فرو عراقي يلبسه وكان ينزعه حال الصلاة فسئل عن ذلك ، فقال : [ « إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة ويزعمون أنَّ دباغَهُ ذكاتُه » (١) ] إلغاءُ يد المسلم المستحلّ للميتة بناءً على أنّ هذه

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٧ / ٢ ، الوسائل ٤ : ٤٦٢ ، أبواب لباس المصلي ، ب ٦١ ، ح ٢ ، البحار ٨٠ : ٢٣٠ / ٢٠ ، وفي المخطوط بياض.

١٣٥

الرواية وإنْ كان ظاهرها الكراهة إلّا إنّ الظاهر أنّ منشأها عدم العلم بأخذه مِن مستحل الميتة ؛ لأنّ مَنْ أهل العراق من لا يستحلّها ، فيقتضي أنّه لو علم أخذه ممَّنْ يستحلّها لم يجز الصلاة فيه ، وليس إلّا لعدم إحراز التذكية ، إلّا إنّ الأظهر هو العمل بتلك الإطلاقات لاحتمال كون منشأ الكراهة أخذه من المستحل ؛ لكونه محلّاً للتهمة ، إذ هو الظاهر من قوله : « إنَّ (١) أهل العراق يستحلون الميتة » لا أنّ كونه في يد المستحل أمارة على عدم التذكية ، فإذا حصل الاحتمال لم تصلح لمقابلة تلك الإطلاقات.

ثمّ إنّ الشراء من سوق المسلمين ليس بنفسه أمارة على التذكية كيد المسلم ، بل لأنّه أمارة على جريان يد المسلم عليه إذا اشتراه من مجهول الحال ، فاعتباره ؛ لكونه أمارة على الأمارة التي هي كونه في يد المسلم ، كاعتبار محراب المسلمين في تشخيص القبلة ، لكونه أمارة على ما هو أمارة على القبلة كمحاذاة الجَدْي مثلاً ، فلا عبرة حينئذ بما لو شراه من سوق المسلمين من الكافر ؛ لعدم تحقّق ما هو أمارة على التذكية ، لا لأنّ كونه في يد الكافر أمارة على عدم التذكية.

فظهر فساد ما يتوهّم من أنّه إذا كان جلد واحد بعضه في يد المسلم وبعضه في يد الكافر ، لم يحكم عليه بحكم المذكى ؛ لحصول التعارض بين أمارتي التذكية وعدمها ، وهما يد المسلم والكافر ، ولا مرجّح ؛ لأنّ الشارع لم يجعل يد الكافر أمارة كاشفة عن عدم التذكية ، كما جعل يد المسلم كاشفة عنها ، فكونه في يد الكافر بمنزلة الأصل ، كما أنّ كونه في يد المسلم بمنزلة الدليل ، والأصل لا يعارض دليلاً ؛ لارتفاع موضوعه بوجوده ، والحكم بملكيتهما للجلد لا يضر هنا ؛ لعدم المنافاة بين كون يد الكافر أمارة على الملكية وعدم كونها أمارة على النجاسة ، فيحكم بالتنصيف حينئذ ؛ لأنّ كونه في يد كلٍّ منهما أمارة على ملكهما له ، وحيث لم يمكن الجمع بين ملكيّتهما على الاستقلال لزم الجمع بالتنصيف.

__________________

(١) في المخطوط : « لأنّ ».

١٣٦

هذا ، ويظهر من إطلاق قول الماتن : ( أو وجده مطروحاً ) العموم لما لو كان مطروحاً في سوق المسلمين ، والإشكال فيه على تقدير أنْ يكون مطروحاً في سوقهم وليس عليه أثر استعمالهم ؛ لأنّ اعتبار سوق المسلمين إنّما هو لكونه أمارة على يد المسلم ، فإذا لم يكن عليه أثر الاستعمال ولم يحرز جريان يده عليه لم يكن مجرد وجوده في سوقهم أمارة على جريان يدهم عليه.

وأمّا إذا كان عليه أثر لاستعمالهم فالظاهر من إطلاق أدلة اعتبار السوق ، الحكم عليه بالتذكية ، بل يظهر من موثق إسحاق بن عمار عن الكاظم عليه‌السلام حيث قال : « لا بأس بالصلاة في الفرو (١) اليماني وفيما صنع في بلاد الإسلام » ، قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : « إن كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (٢) صحةُ الصلاة في الفراء المصنوعة في بلاد الإسلام وإنْ كان فيها غير المسلمين بشرط غلبة المسلمين.

وروى أنّه سأله رجل فقال له : وجدت سفرة فيها لحم وسكّين وخبز؟ قال : « قوّمها على نفسك وكلها » (٣) ، وهي ظاهرة في إناطة الرخصة بظهور أثر الاستعمال من طبخ اللحم ووضع الخبز.

وأمّا حكم المسألة فمقتضى القاعدة الأولية وجوب إعادة الصلاة في الجميع ؛ لقاعدة الشغل.

وأمّا مقتضى القاعدة الثانوية فهو أنّ عدم صحّة الصلاة في الميتة إنْ كان من جهة نجاستها فالحكم حكم الصلاة في الثوب النجس ، فإنْ عُمِل بالأدلة الفاصلة بين الجهل والنسيان فهنا كذلك ، وإلّا فالمرجع قاعدة لا تعاد ، فإنْ قيل ببيانية الطهور وأنّ المراد منه خصوص الطهارة الحدثية حكم بعدم الإعادة هنا ؛ لدخوله في المستثنى منه ، وإن قيل : إنّ المراد منه الأعمّ من الحدثية والخبثية حكم بالإعادة لدخوله في المستثنى ، وإن قيل بإجماله ، فالعمل على القاعدة الأولية من وجوب الإعادة ، وإنْ

__________________

(١) في التهذيب : « القز » ، وفي الوسائل : « الفراء ».

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٣٢ ، الوسائل ٣ : ٤٩١ ، أبواب النجاسات ، ب ٥٠ ، ح ٥.

(٣) البحار ٧٧ : ٧٨ / ٧ ، بالمعنى.

١٣٧

كان عدم صحّة الصلاة في الميتة لحيثية كونها ميتةً مع قطع النظر عن جهة النجاسة نُظِر إلى أدلة عدم صحّة الصلاة في الميتة ، فإنْ استفيد منها شي‌ء من وجوب الإعادة أو عدمه فهو ، وإلّا ، فإنْ اشتملت على صفة النجاسة فالحكم ما مرّ ، وإلّا بأنْ كانت ميتة غير ذي النفس كالسمك مثلاً فالحكم عدم الإعادة لقاعدة : « لا تعاد ».

تنبيه : قال في ( المدارك ) عند قول المصنّف : ( أو وجده مطروحاً أعاد ) : ( قد صرّح المصنّف وغيره (١) بوجوب الإعادة هنا ، نظراً إلى أصالة عدم التذكية ، وهو مشكل ؛ لأنّ مرجع الأصل هنا إلى الاستصحاب. ولم يقم على التمسك به دليل يعتد به ) (٢). انتهى.

وفيه : أنّه لو سلّم عدم حجية الاستصحاب مطلقاً فلا إشكال في اعتباره هنا ؛ لما ورد من أنّه عليه‌السلام سئل عن صيد أُرسل عليه كلاب معلَّمة فدخل بينها كلبٌ غير معلَّم فقُتل الصيد فيما بينها ولم يُعلم أنّه قتله المعلَّم أو غيره ، فقال : « لا يحلّ لك أكله ؛ لأنّك لا تدري أقتله المعلَّم أم غيرهُ » (٣) ، فإنّ تعليل عدم الحلّ بعدم العلم ليس من جهة أنّ العلم بالتذكية سبب للحلّ ، إذ لا دخل للعلم في ذلك ، بل من جهة أنّ سبب الحلّ هو التذكية الواقعيّة ؛ فيكون سبب عدم الحلّ هو عدم التذكية الواقعي ، وعدم التذكية الواقعي ليس بمُحْرزٍ بالعلم فيكون إحرازه حينئذ بالأصل ، وهو معنى قوله عليه‌السلام : « لأنّك لا تدري ».

الصلاة في اللباس المجهول

قوله : ( إذا لم يعلم أنّه من جنس ما يصلّى فيه ، وصلّى أعاد ).

أقول : العبارة تشمل صورتي التردّد والجهل المركّب. والكلام في الأُولى يقع في مقامين :

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٢٨٥.

(٢) مدارك الأحكام ٤ : ٢١٤ ، باختلاف يسير.

(٣) الكافي ٦ : ٢٠٦ / ١٩ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٣ ، أبواب الصيد ، ب ٥ ، ح ٢ ، وفيهما : « لا يؤكل منهما ؛ لأنك لا تدري أخذه معلَّم أم لا ».

١٣٨

الأول : في جواز الإقدام على الدخول في الصلاة وعدمه.

والثاني : في حكمه بعد الفراغ ، بمعنى أنّه إذا انكشف له بعد ذلك الصلاة في ما لا يجوز فيه الصلاة ، هل يجب عليه الإعادة والقضاء أم لا؟

أمّا الكلام في المقام الأول ، فقيل بابتنائه على أنّ كون اللباس من جنس ما يصلّي فيه هل هو شرط في الصحة أو أنّ عدمه مانع منها؟ فإنْ قيل بالشرطية لم يجز الإقدام إلّا بعد إحراز الشرط ، وإنْ قيل بالثاني صح إحراز عدمه بالأصل وجاز الإقدام ، وقيل بابتنائه على مسألة الصحيح والأعم. فإن قيل بالأوّل لم يجُز الدخولُ إلّا بعد إحراز أنّ لباسه من جنس ما يصلى فيه ليحرز الصحّة المأخوذة في ماهيّة الصلاة ، وإنْ قيل بالثاني فالصحّة وعدمها يبتنيان على مسألة التخصيص بالمجمل المصداقي ، وأنّه إذا حصل الإجمال في بعض مصاديق المخصص ولم يدرِ أنّ المصداق المعيّن داخل في المخصص أو لا ، فهل يجري عليه حكم العام لعدم العلم بخروجه عنه ودخوله في المخصص أو يتوقف ؛ لأنّ مقتضى إطلاقات الصلاة هو جواز الدخول في كل ما يصحّ إطلاق اسم الصلاة عليه؟.

فإذا جاء الدليل على عدم صحّة الصلاة في اللباس المخصوص حصل التخصيص في ذلك العموم ، فإذا شك في كون اللباس من جنس ما يصلى فيه أم لا ، كان الشك في أنّ الصلاة فيه داخلة في عموم جواز الدخول فيما صدق عليه اسم الصلاة أم لا ، فان قلنا في تلك المسألة بالرجوع إلى حكم العام عند الشك والإجمال ؛ حكم بصحة الصلاة فيه وإلّا فلا.

والحق أنّ جواز الدخول به في الصلاة لا يبتني على شي‌ء من المسألتين ، بل الوجه في المسألة أن نقول : إن كان في المقام أصلٌ موضوعي يحرز كون اللّباس من جنس ما يصلى فيه جاز الدخول به في الصلاة ، وإلّا فلا ، هذا بيان كبرى المسألة.

وأمّا بيان الصغرى ، فنقول : إمّا أن يكون الشك من جهة الشبهة الحكمية مع العلم بالموضوع ، كأن يعلم كون اللباس من جلد الفرس مثلاً ، لكن يشك في كونه مأكول

١٣٩

اللحم أم لا ، وإمّا أن يكون من جهة الشبهة الموضوعية ، بأن يعلم كون الفرس من المأكول مثلاً وكون الأسد من غيره ، لكن يشك في أنّ هذا الجلد من المأكول أو غيره ، فإنْ كان الشك من قبيل الأول فمقتضى الأصل الموضوعي كونه من المأكول فتجوز الصلاة فيه ، كما يدل عليه ما ورد من أنّه سئل عن أنّه : هل يجوز أكلُ لحم الحمار؟ فقال عليه‌السلام : « اقرأ قوله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ) (١) ، فهل ترى لحم الحمار منها؟. فقال : لا ، قال عليه‌السلام : « إذَنْ يحلّ أكله » (٢).

فهذا يدلّ على أنّ كلّ ما شكّ في حلّيّته ولم يكن من المستثنيات فحكمه الحلّ ، وقد عمل الأكثر بهذه القاعدة. إلّا إنّ الذي يظهر من الشهيد الثاني رحمه‌الله في ( الروضة ) إنكارها حيث قال : إنّ الحيوان المتولِّد من حيوانين ولم يكن داخلاً في أحدهما يحكم بطهارته وحرمة أكله للأصل فيهما (٣). ولكنه مخالف لما عليه الأكثر ؛ ولقاعدة الحلّ المستفادة من العمومات ، والرواية المذكورة.

وإن كان الشكّ من قبيل الثاني فليس في المقام أصل يحرز كونه ممّا يجوز الصلاة فيه ، وإنْ حكمنا بجواز أكله لقاعدة الحلّ وأصل الإباحة والبراءة من الحرمة ، خلافاً لما ذكره العلّامة رحمه‌الله ، حيث قال في بعض كتبه : ( إنه إذا شكّ في كون الشي‌ء جزء ما يؤكل لحمه أو جزء غيره حكم بطهارته وحرمة أكله لعدم إحراز سبب الحلّ وإن أُحرز وقوع التذكية عليه ؛ لأنّ التذكية قسمان : قسم يكون سبباً للطهارة فقط كما إذا وقعت على الأسد ونحوه ممّا لا يحلّ أكله بعد التذكية ، وقسم يكون سبباً للطهارة وحلّ الأكل كما إذا وقعت على الأنعام ، فمتى لم يحرز القسم الثاني من التذكية في الأمر المشكوك لم يحكم بجواز أكله ؛ لعدم إحراز السبب لذلك والأصل عدمه ، ويحكم بطهارته لحصول سببها وهو التذكية المطلقة ).

وفيه : أنّ التذكية لا تكون سبباً للحلّ أصلاً ، وأنّ حلّ الأكل في المأكولات إنّما هو

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٢٨٤ / ٣٥٩ ، باختلاف ، البحار ٦٢ : ١٧٦ ١٧٧ / ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣ ، نقلاً عن العلل.

(٣) الروضة البهية ١ : ٤٩ ، بالمعنى.

١٤٠