الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

وعن ابن عمر : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ أحبَّ أنْ يأتي الجمعة فليأتِها ، ومَنْ أحبَّ أن يتخلّف فليتخلّف » (١).

وعن وهب بن كيسان ، قال : ( وافقت يومُ الجمعة يوم عيد على عهد ابن الزبير ، فأخّر الصلاةَ ، ثمّ خرجَ فصلّى العيد ، ثمّ خطبَ ، فنزل وصلّى ركعتين ، ودخلَ ولم يخرج إلى الجمعة. فعاب قومٌ من بني أُميّة. وكان ابنُ عباس باليمن ، فلمّا قدِم ذُكر ذلك له ، فقال : أصاب السنّةَ ) (٢).

وفي بعض الأخبار : ( ذكر ذلك لابن الزبير ، فقال : كان مثلُ هذا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ففعلَ ذلك ) (٣).

وما ذكر فيه من صلاة ركعتين بعد خطبة العيد موافقٌ للمنقول عن الحنفية (٤) ، من جواز التنفّل بعد صلاة العيد. وأكثرهم على خلافه (٥) ؛ ولهذا لم يذكره الشعراني في رواية ابن الزبير.

ورووا أنّ معاوية سأل زيدَ بن أرقم : هل شهدتَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى عيدين في يومٍ واحدٍ؟ فقال : نعم ، وخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى العيد ، ورخّص في ترك الجمعةِ (٦).

وهذه الأخبارُ بأسرها دالّةٌ بإطلاقها على سقوط تعيّن الحضور للجمعة على مَنْ صلّى العيد مطلقاً نائياً أو قريباً. وهو ردٌّ على مَنْ أوجَبَ منهم الحضورَ حتى على النائي ، كما هو المنقول عن أبي حنيفة ومالك والشافعي (٧).

وأمّا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه ، بإسناده عن النعمان بن بشير ، قال : ( كان رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي في العيدين وفي الجمعة بـ ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) (٨) ( وهَلْ أتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيةِ ) (٩). وإذا اجتمعَ الجمعةُ والعيدُ في يومٍ واحدٍ قرأ بهما في

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٤١٦ / ١٣١٢ ، باختلاف. (٢) سنن النسائي ٣ : ٢١٦ / ١٥٩١ ، باختلاف.

(٣) الخلاف ١ : ٦٧٤. (٤) رحمة الأُمّة في اختلاف الأئمّة : ٦٠.

(٥) رحمة الأُمّة في اختلاف الأئمّة : ٦٠.

(٦) سنن أبي داود ١ : ٢٨١ / ١٠٧٠ ، سنن النسائي ٣ : ٢١٥ / ١٥٩٠ ، الخلاف ١ : ٦٧٥ ، بتفاوت فيها.

(٧) بداية المجتهد ١ : ٢٢٤. (٨) الأعلى : ١.

(٩) الغاشية : ١.

١٠١

الصلاتين ) (١).

فلا دلالة فيه على تعيّن الحضور للجمعة ، لمَنْ صلّى العيد ، ولم يذكر في الباب سواه.

واستدلّ في ( التذكرة ) على التخيير مطلقاً بأنّ الجمعةَ إنّما زادتْ على الظهر بالخطبة وقد حصل سماعُها في العيد ، فأجزأ عن سماعها ثانياً ؛ وبأنّ وقتها متقاربٌ ، فتسقطُ إحداهما بالأُخرى ، كالجمعة مع الظهر ؛ وبأنّه يومُ عيدٍ جُعل للراحةِ واللذّة ، فإنْ أقام المصلِّي إلى الزوال ، لحقته المشقةُ أيضاً (٢).

وأنت خبيرٌ بأنّ هذه الوجوه كلّها تقريبيةٌ اعتباريةٌ ، لا تصلُح لتأسيس الأحكام الشرعيّة. وإنّما مرادُهُ رحمه‌الله تطبيق الأدلّة النقليّة على الأدلّة العقليّة ؛ تقريباً للإفهام ، وإلزاماً للعوامّ الموجبين لتعيّن الحضور على المأموم والإمام ؛ إذ يتوجّه على الأوّل :

أوّلاً : أنّ الصلاةَ وسائر العبادات توقيفيّةٌ من الشارع ، وتعليميّةٌ من الصادع ، ولا مدخليةَ لزيادةِ بعضِها على بعض ، أو تساويها في السقوط ، إلّا بدليلٍ قاطع ، وبرهانٍ ساطع.

وثانياً : منعُ إجزاء سماعِ خطبة العيد عن سماع خطبة الجمعة ، إلّا على القول بعدم وجوب استماعها ، ومع ذلك فهو خارجٌ عن فرض المسألة ، ومحلّ نزاعها.

وثالثاً : أنّ عدمَ وجوبِ استماع الخطبة لا يسقط التكليف بالجمعة ، خصوصاً على القول بأنّ أصل التكليف أنّما هو بها ، وإنّما تكون الظهر بدلها ؛ لعدم شرطها.

وعلى الثاني : أنّ تقارب الوقتين مع تسليمه لا يؤثر [ في (٣) ] سقوط أحد الفرضين ، وإلّا لأثّر في سقوط إحدى الظهرين والعشاءين عند اشتراك الوقتين. وأمّا سقوط الظهر بالجمعة ، أو الجمعة بالظهر ، فهو بالدليل الوارد في البين.

وعلى الثالث : أوّلاً : أنّ حضور الجمعة قد لا ينافي اللذّة (٤) والراحة ، بل قد يوجب للبعض سعةَ الصدر وانشراحَه.

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٥٠١ / ٨٧٨ ، وفيه : ( يقرأ ) بدل ( يصلّي ).

(٢) تذكرة الفقهاء ٤ : ١١٤.

(٣) زيادة اقتضاها السياق.

(٤) في المخطوط : ( في اللذة ).

١٠٢

وثانياً : أنّ هذا الجعل حكمة تقريبيّة ، لا علّة حقيقة ، فلا تسقط بها الأحكام الشرعيّة.

وثالثاً : أنّه إنّما يتمُّ على الفصل بين ذي البعد والاقتراب ، وهو لا يقولُ به في هذا الكتاب ، فالتعليلُ به في غاية الاغتراب.

وكيف كان ، فمقتضى ما مرّ من قوّة الخبرين ، سنداً ودلالةً ، وثبوتِ كونِ القيد في ثانيهما من كلام الإمام ، وكونهِ كاشفاً عن مراده عليه‌السلام يقوى تقييدُ الإطلاق بهما ، كما هو المنقول عن ابن الجنيد (١) ، والعلّامة في ( التحرير ) (٢) ، وجعله المحقّق في ( الشرائع ) (٣) : أشبه. ويظهر أيضاً من شهيد ( الذكرى ) (٤) الميلُ إليه ، لأنّه استدلّ لابن الجنيد ، وحَمِدَ عليه.

واختاره من محقّقي المتأخّرين المحقّقُ المنصف ، الشيخ يوسف في ( رسالة الصلاة ) وشرحها ، ويظهر أيضاً من ثقة الإسلام في ( الكافي ) (٥) ؛ وشيخِ الطائفة في ( التهذيب ) (٦) ؛ لاقتصارهما على ذكر الخبر الظاهر في اختصاص التخيير بالبعيد ، بل نسبه المحدِّثُ المبرورُ في ( شرح المفاتيح ) (٧) لكثيرٍ من القدماء.

نعم يبقى الكلامُ في حدِّ القرب والبعد المناطِ بهما التخييرُ ؛ وعدمُه ؛ لأنّهما من الأُمور النسبيّة ، فيصدق على بلدةٍ أنّها بعيدةٌ بالنسبة إلى أُخرى قريبةٌ بالنّسبة إلى غيرها. بل قد يصدق القاصي على مَنْ بَعُدَ بأدنى بُعْدٍ ، فيدخل الجميعُ إلّا من جاور المسجد.

ولعلّ المرادَ به مَنْ كان خارجاً عن بلد الصلاة ، كما عبّر به في ( المعتبر ) (٨). وإليه يرجع ما في ( اللمعة ) من التعبير : بـ ( القروي ) (٩) ؛ وما في ( الشرائع ) من التعبير : بـ ( أهل السّواد ) (١٠) ، وما في خبر ( الجعفريات ) و ( الدعائم ) (١١) من التعبير : بـ ( أهل البوادي ).

__________________

(١) عنه في المختلف ٢ : ٢٦٠ ، فتاوى ابن الجنيد : ٦٤.

(٢) تحرير الأحكام : ٤٦. (٣) شرائع الإسلام ١ : ٩٢.

(٤) الذكرى : ٢٤٣. (٥) الكافي ٣ : ٤٦١ / ٨.

(٦) التهذيب ٣ : ١٣٧ / ٣٠٦. (٧) شرح المفاتيح ٢ : ٧١.

(٨) المعتبر للمحقق ٢ : ٣٢٦. (٩) الروضة البهية ١ : ٣١٠.

(١٠) شرائع الإسلام ١ : ٩٢.

(١١) دعائم الإسلام ١ : ٢٣٩.

١٠٣

وربّما يستظهر أيضاً من عبارة الشيخ في ( النهاية ) ، حيث قال : ( فمَنْ شهدَ صلاةَ العيد ، كان مخيّراً بين حضور الجمعة ، وبين الرجوعِ إلى بيته ) (١). انتهى.

فإنّ التعبير بالرجوع إلى بيته ظاهرٌ في خروجه عن بلد الصلاة ، فيتّفق الجميعُ حينئذٍ على اختصاص الرخصة بمَنْ خرج عن البلد ، وتلحقه مشقّةُ العود ، أو الانتظار.

والأولى إحالة ذلك على العرف ، أو إناطةُ ذلك بالعُسر والحرج ، كما يُرشد إليه التعليلُ بالمشقّة ، فيختلف تكليفُهم حينئذٍ باختلاف بُعْدِهم ، وكثرةِ مشقتِهِم. فأقصى البعدِ مَنْ كان على رأسِ الفرسخين ، وأوسطُهُ مَنْ كان بينهما ، وأدناه مَنْ خرج من القرى عن بلد الصلاة ، واللهُ العالم.

وذهب أبو الصلاح ، وابنُ البرّاج ، وابنُ زهرة ، وباقي فقهاء الجمهور كما في ( التذكرة ) إلى وجوب الحضور للجمعة على كلِّ مَنْ صلّى العيدَ مطلقاً ، كمَنْ لم يصلِّها ؛ محتجّين بالاحتياط ، وبأنّ دليل الحضور قطعيٌ ، والمتضمّن لسقوط الجمعة ظنّي ، فلا يعارض القطعيّ. وباستلزام وجوب الحضور على الإمام الوجوب على غيره ؛ لأنّه يقبحُ وجوبُ فعلٍ يتوقّفُ على فعلٍ غيرِ واجب. وبأنّها ليست من فرائض الأعيان ، فلا يسقطُ بها ما هو من فرائض الأعيان (٢).

والجوابُ عن الاحتياط بانقطاع الشغل بالأدلّة المعتبرة ، من الأخبار القويّةِ المتكثّرة ؛ والشهرةِ المحقّقة ، والإجماعات المنقولة ، بل المحصّلة.

وعن الثاني : أوّلاً : تساويهما في القطعيّة والظنيّة ؛ لأنّ دلالته على وجوب الحضور بالظاهر ، وما دلّ على الترخيص دالٌّ بالنصّ الصريح ، فيكونُ حاكماً على دليل الحضور ؛ لأنَّ الخاصّ حاكمٌ على العامّ ، كما هو ظاهرٌ غاية الظهور.

وثانياً : بأنّ الخبر المتلقّى بالقبول ، المنجبر بالعمل من أعاظم الفحول ، المعتضد بالأدلّة العامّة من نفي العسر والحرج آيةً وروايةً ، المحفوف بالقرائن القويّة ، مما يلحق

__________________

(١) النهاية ( الطوسي ) : ١٣٤ ١٣٥.

(٢) تذكرة الفقهاء ٤ : ١١٥ ، الكافي في الفقه ( ضمن الينابيع الفقهية ) ٣ : ٢٨٢ ، المهذب ( ابن البراج ) ١ : ١٢٣ ، الغنية ( ضمن الينابيع الفقهية ) ٤ : ٥٥٩ ، المختلف ٢ : ٢٦٠ ٢٦١. المهذب ( الشيرازي ) ١ : ٢٠٦ ، بداية المجتهد ١ : ٢٢٤ ، أسهل المدارك ( الكشناوي ) ١ : ٢٠٢.

١٠٤

الآحاد بالمتواتر ، عند محقّقي الإمامية. اللهمّ إلّا أنْ يلتجئوا إلى المنع من تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، المحفوفِ بالقرائن ، مع أنّه واقعٌ ، فيتّسع الخرقُ على الراقع ؛ للنقض عليهم بسائر الشروط والموانع. وفي عمل السيّدِ المرتضى (١) بمضمونها ، مع منعه من العمل بالآحاد ، دليلٌ ساطع ، وبرهانٌ قاطع.

وعن الثالث : بمنع توقّفِ حضور الإمام على حضور غيره ، وإنّما الموقوفُ هو فعلُ الجمعة ، فبعد حضوره إنْ اجتمع العدد وجب فعل الجمعة ، وإلّا فلا.

وعن الرابع : بمنع كونها ليست من فرائض الأعيان ، مع أنّ هذا الدليل إنّما يتمشّى على قول الشافعي وأحمد من وجوبها كفايةً (٢) ، وقول مالك وأكثر أصحاب الشافعي : أنّها مندوبة (٣) ، لا واجبة. والكلام معهم موكولٌ إلى محلِّه.

أمّا على قول علمائنا من وجوبها وفرضها على الأعيان ، فلا. وكذا على قول أبي حنيفة (٤) ؛ لأنّه أوجبها عيناً ، وإنْ لم يسمِّها فرضاً ، واللهُ العالم.

وأما المسألة الرابعة : فظاهرُ جماعة منهم السيّدُ المرتضى في ( المصباح ) (٥) ، وأبو الصلاح (٦) ، وابنُ البرّاج (٧) ، والمحقّق في ( المعتبر ) (٨) ، والعلّامة في ( القواعد ) (٩) ، والشهيد في ( الذكرى ) (١٠) ، والمحقّق الشيخ علي في ( الجعفريّة ) (١١) ـ : وجوبُ الحضورِ على الإمام.

وحكي عن ( المنتهي ) اختيارُه ، ونسبَهُ للجمهور كافّة (١٢). واختاره المحدِّثُ المبرور في ( شرح المفاتيح ) ، ونسبَهُ للجمهور (١٣). ونسبَهُ بعضُ المتأخّرين للأكثر (١٤).

__________________

(١) الذريعة إلى أُصول الشريعة ٢ : ٥٢٠. (٢) رحمة الأُمة في اختلاف الأئمّة : ٥٩.

(٣) رحمة الأُمة في اختلاف الأئمة : ٥٩. (٤) رحمة الأُمة في اختلاف الأئمّة : ٥٩.

(٥) عنه في المعتبر ٢ : ٣٢٧. (٦) الكافي في الفقه ( ضمن الينابيع الفقهية ) ٣ : ٢٨٢.

(٧) المهذب ( ابن البراج ) ١ : ١٢٣.

(٨) المعتبر ٢ : ٣٢٧.

(٩) قواعد الأحكام ١ : ٢٩١.

(١٠) الذكرى : ٢٤٣.

(١١) الجعفرية ( ضمن رسائل المحقق الكركي ) ١ : ١٣٣.

(١٢) المنتهى ١ : ٣٤٩.

(١٣) شرح المفاتيح ٢ : ٧٣ ، وفيه نسبته للمشهور.

(١٤) رياض المسائل ٢ : ٤٦١ ، وفيه نسبته للمشهور.

١٠٥

وفي ( البيان ) نفى عنه الخلاف ، إلّا من ظاهر الشيخ في ( الخلاف ) (١).

وفي ( التذكرة ) : ( أمّا الإمام فلا يجوز له التخلّفُ إجماعاً ؛ طلباً لإقامتها مع مَنْ يحضر وجوباً ، أو استحباباً ) (٢).

وتبعه على هذا التعبير الملّا أبو طالب في ( شرح الجعفريّة ) ، بعد قول الماتن : وعلى الإمام الحضور.

ويظهر من استدلال القائلين بوجوب الحضور للصلاتين باستلزام وجوب الحضور على الإمام الوجوب على غيره ، أنّ وجوبَ الحضور عليه أمرٌ مسلّمٌ ، متسالمٌ عليه ، لا يحومُ الإشكال لديه. بل مقتضى عبارتي (٣) ( التذكرة ) و ( المنتهي ) بعد ضمِّ إحداهما للأُخرى انعقادُ الإجماع عليه من الطرفين. ولعلّه كذلك ، إذ لم ينسب الخلافُ إلّا إلى ظاهر ( الخلاف ) (٤) ، والحقّ أنّه بالمطلوب غيرُ وافٍ.

وكيف كان ، فقصارى ما استدلّ به عليه أصل الوجوب على الإمام والمأموم ، خرج المأمومُ بالدليل ، فبقي الإمام سالماً من المعارض.

وقد يقال : بالمدّعى غيرُ ناهض ، فإنّ شمول دليل الوجوب لهذا المقام أوّل الكلام ، فلا يجدي نفخٌ في غير ضِرَامٍ.

وأمّا قولُه عليه‌السلام : « فأنا أُصلّيهما جميعاً » (٥) ؛ وقولُه عليه‌السلام : « أحبَّ أنْ يجمّع معنا فليفعل » (٦) ونحوهما ، فلا دلالةَ فيه على الوجوب العيني ، كما هو المدّعى ، لملازمتهم عليهم‌السلام على المستحبّات كالواجبات ، فقصارى ما يستفاد منه الرجحان ، ولا كلامَ فيه ولا شنان.

وقد يؤيّد بما رُوي في قضيّة ابن الزبير أنّه صلّى العيد ، ولم يخرجْ إلى الجمعة ، بضميمة قول ابن عباس : ( إنّه أصاب السنّة ) (٧). فإنّ فيه ظهوراً بسقوط الجمعة عن الإمام ، فتأمّل.

فإنْ تمّ الإجماع المدّعى في المقام ، وإلّا فللمناقشة مجالٌ واسع للكلام ، ولهذا

__________________

(١) البيان : ٢٠٣. (٢) تذكرة الفقهاء ٤ : ١١٥.

(٣) في المخطوط : بين عبارتي. (٤) الخلاف ١ : ٦٧٣.

(٥) التهذيب ٣ : ١٣٧ / ٣٠٤.

(٦) الكافي ٣ : ٤٦١ / ٨ ، التهذيب ٣ : ١٣٧ / ٣٠٦.

(٧) الخلاف ١ : ٦٧٤ ، سنن النسائي ٣ : ٢١٦ / ١٥٩١.

١٠٦

نقل جملةٌ من المتأخّرين عن الشيخ في ( الخلاف ) التخيير أيضاً للإمام ، ونفى عنه البأسَ سيّدُ ( المدارك ) (١) ؛ والفاضلُ الباقر المجلسي رحمه‌الله (٢). ونُقل أيضاً احتمالُهُ عن معتصم الكاشاني (٣). ويظهر من جعل فاضل ( الرياض ) وجوب الحضور على الإمام أشهرَ القولين (٤) ، أنّ تخييره أيضاً مشهورٌ ؛ قضاءً لحقّ صيغة التفضيل.

إلّا إنّ الإنصاف أنّ عبارة ( الخلاف ) غيرُ ظاهرة في الخلاف ، ولعلّ الناقل أخذه من إطلاق قوله رحمه‌الله : ( فمَنْ صلّى العيدَ كان مخيّراً في حضور صلاة الجمعة ، وألّا يحضرها ). والظاهر إرادته غير الإمام ، مع أنّ غيره من الفقهاء عبّر بمثل هذه العبارة ، أو عينها ، فينبغي أنْ يفهم منها إطلاق التخيير ، ولا ينبّئك مثلُ خبير.

وهذا نصُّ عبارته رحمه‌الله : ( إذا اجتمع عيدٌ وجمعةٌ في يومٍ واحدٍ سقط فرضُ الجمعة ، فمَنْ صلّى العيدَ ، كان مخيّراً في حضور الجمعة وألّا يحضرها ، وبه قال ابن عباس ، وابن الزبير. وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك : لا يسقط فرضُ الجمعة بحال. دليلُنا إجماعُ الفرقة ) (٥).

ثمّ أورد أكثر الأخبار المذكورة ، ولم يتعرّضْ لحكم الإمام بعينٍ ولا أثر ، كما لا يخفى على مَنْ أنعمَ وأمعنَ النظر.

فإنْ احتجّ بروايته (٦) أنّ ابن الزبير صلّى العيدَ ولم يخرجْ إلى الجمعة بضميمة قول ابن عباس : إنّه أصاب السنّة بدلالته على سقوط الجمعة عن الإمام.

قلنا : إنّ مجرّدَ روايته لها لا يستلزم العمل بها ، مع أنّه روى من طريقنا خبري إسحاق بن عمّار (٧) ؛ وسلمة (٨) ، وهما صريحان في صلاة الجمعة من الإمام. وحينئذٍ فينتفي الخلافُ عن ظاهر ( الخلاف ) ، ويحصل الاجتماع والائتلاف ، ويتّجه أنّ اختصاص التخيير بمَنْ عدا الإمام هو الأوفق بمقتضى الدليل العامّ مضافاً للشهرة المحقّقة ، والإجماع المنقول عمّن سمعت من الأعلام ، واللهُ العالمُ بحقائق الأحكام.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٤ : ١٢٠. (٢) البحار ٨٧ : ٣٧٨ ٣٧٩.

(٣) المصدر غير متوفّر لدينا. مفاتيح الشرائع ١ : ٣٠.

(٤) رياض المسائل ٢ : ٤٦. (٥) الخلاف ١ : ٦٧٣.

(٦) الخلاف ١ : ٦٧٤.

(٧) الخلاف ١ : ٦٧٤.

(٨) الخلاف ١ : ٦٧٥.

١٠٧

وأما المسألة الخامسة : فالظاهرُ من كلمات علمائنا الأبرار ، وأخبار الأئمّة الأطهار هو انعقاد الجمعة بمَنْ حضرها ، ممّن لم يتعيّن عليه الحضور ، كما هو ظاهرٌ غاية الظهور.

ويدلُّ عليه كلُّ ما دلّ على وجوبها عند اجتماع الشروط ، وفَقْدِ الموانع ؛ إذ قصارى ما يتوهّم منه المانعيّة عدمُ تعيّن الحضور عليهم في هذِهِ القضية الشخصيّة. وهو غيرُ صالحٍ للمانعيّة، إذ أصلُ الوجوب خالٍ عن المعارض ، وما توهّم من المنع غيرُ ناهضٍ ، حتى على القول بعدم وجوب الحضور مطلقاً ، أو النائي خاصّة ؛ لأنّ مقتضى الأدلّة سقوط تعيّن الحضور للجمعة ، لا سقوط أصل التكليف بها مطلقاً. ولهذا لو نصب الإمام لِمَنْ بَعُدَ عن بلده بفرسخٍ مَنْ يصلِّي بهم ، وجب عليهم الاجتماع، بلا خلافٍ ولا نزاع.

فهذا ما يتعلق بفروع المسألة مفصّلة غير مجملة.

وأمّا قول السائل الفاضل : ( وعلى الأول يعني : بقاؤها واجبة فهل تسقط الظهر أم لا؟ ).

فلا يخفى على المفضال سقوطُ الظهر معها بلا إشكال ، والله العالمُ بحقيقةِ الحال.

وينبغي التنبيهُ على أمرينِ من المهامّ ، ويحسنُ بهما الختامُ :

الأوّلُ : قد اشتمل صحيحُ الحلبي على قوله عليه‌السلام حكاية فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ « وخطب خطبتين ، جمع فيهما خطبة العيد والجمعة » (١). وهو يحتمل وجوهاً :

الأوَّلُ : أنْ يُرادَ بالجمع المذكور ذكرهُ في خطبتي العيد ، ما ينبغي ذكرُهُ في خطبة العيد ، من فطرةٍ أو أُضحيّة ؛ وما ينبغي ذكرُهُ في خطبة الجمعةِ من الأُمورِ الموظّفة الشرعيّة.

الثاني : أنّه عليه‌السلام اكتفى بخطبتي العيد عن الخطبة للجمعة ، لأنَّ خطبة العيد بعد صلاته ، وخطبة الجمعةِ قبلها كما هو المشهورُ ، بل المجمع عليه ، إلّا عن ظاهر الصدوق رحمه‌الله (٢) فيمكن كونُ الخطبتين قبل الزوال ، بحيث يكونُ الفراغُ منها عند أوّلِ

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٢٣ / ١٤٧٧.

(٢) الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٣ ، الوسائل ٧ : ٣٣٢ ٣٣٣ ، أبواب صلاة الجمعة ، ب ١٥ ، ح ٣ ، وقال في ذيله : ( أقول : هذا غريب ، لم يروه إلّا الصدوق ، ولا يبعد أن يكون لفظ الجمعة غلطاً من الراوي أو من الناسخ واصلة يوم العيد ). وكذلك في الجواهر ١١ : ٢٢٩.

١٠٨

الزوال ، فيصلح أن يؤيّدَ به جواز الخطبة للجمعة قبل الزوال ، أو يخصّ جوازُ تقديمها بهذه الصورة للدليل الخاصّ.

الثالث : أنْ يُرادَ تأخيرُه عليه‌السلام خطبة العيد إلى الزوال ، لتَداخلِ [ الخطبتين (١) ] ، فيصلح دليلاً على جواز تأخيرها مطلقاً ، أو في خصوص هذه الصورة.

الرابع : أنْ يُرادَ بجمعه الخطبتين كون فراغه من خطبة العيد عند الزوال ، فلما فرغ منها زالت الشمس ، وشرع في خطبة الجمعة ، فيحمل الجمعُ على شدّةِ الاتّصال بينهما مجازاً.

إلّا إنّه خلافُ الظاهر من لفظ الجمع ، واللهُ العالم.

الثاني : قوله عليه‌السلام في خبر سَلَمَة : « فمَنْ أحبَّ أنْ يجمّع معنا فليفعلْ » (٢) ، وفي خبر ابن عبّاس ، المرويّ من طريق الجمهور : « مَنْ شاء أنْ يجمِّع فليجمِّعْ » (٣).

هو بصيغة التفعيل ، يقال : جمّع الناسُ بالتشديد إذا شهدوا الجمعة ، كما يقالُ : عيّدوا ، إذا شهدوا العيدَ. نصّ عليه في ( مجمع البحرين ) (٤) و ( المصباح المنير ) (٥).

وعن صحاح الجوهري : وجمّع الناسَ تجميعاً ، أي شهدوا الجمعة ، وقضوا الصلاة فيها (٦).

ومثله عن مغرّب المطرّزي.

وفي نهاية ابن الأثير : ( وفي حديث الجمعة : ( أوّلُ جمعةٍ جمّعت بعد المدينة بجواثى. جُمّعت بالتشديد أي صُلّيت ) ، ثمّ قال : ومنه حديث ( معاذ ). أنّه وجد أهلَ مكة يجمّعون في الحِجر ) ، ثمّ قال : ( وقد تكرّر ذكرُ التَّجميع في الحديث ) (٧) .. إلى آخره.

ومن هذا الباب ما في بعض الأخبار : « يجمّع القوم يوم الجمعة وإذا كانوا خمسةً فما

__________________

(١) في المخطوط : ( الخطبتان ).

(٢) الكافي ٣ : ٤٦١ / ٨ ، التهذيب ٣ : ١٣٧ / ٣٠٦.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٤١٦ / ١٣١١.

(٤) مجمع البحرين ٤ : ٣١٥ باب العين / فصل الجيم.

(٥) المصباح المنير : ١٠٩ جمع.

(٦) الصحاح ٣ : ١٢٠ باب العين / فصل الجيم.

(٧) النهاية ١ : ٢٩٧.

١٠٩

زادوا (١).

وجواثى : كما في ( النهاية الأثيرية ) ، في ( جوث ) : اسم حصن في البحرين (٢).

وفي القاموس ، في ( جَئِثَ ) : ( وجُؤَاثَى ، ككسالى : مدينة الخَطِّ ، أو حصن بالبحرين ) (٣). وفي ( جوث ) : ( وجواثى مهموز ووهم الجوهري ) (٤). انتهى.

وبالجملة فجميعُ ما ورد في هذا الباب ، من كلمات الأئمّة الأطياب ، وفقهائهم الأنجاب ، كلُّه من باب التفعيل بالتضعيف ـ ، وقراءتُهُ بالتخفيف من الأُمور المعدودة في التحريف والتصحيف.

وفّقنا اللهُ تعالى لتصحيفِ السيّئات بتصحيحِ الحسنات ، وتحريفِ الذنوبِ والخطيئات بتحرير الأعمالِ الصالحات ، وجعلنا من المجمّعين مع أوليائِهِ الهداةِ السادات ، والمجموعين في زُمرةِ أصفيائِهِ القادات.

وكتبَ بيمينه الداثرة اعطي بها كتابه في الآخرة مؤلّفُهُ الأقلُّ الجاني ، والأذلُّ الداني ، أحمدُ بنُ صالح البحراني ، على اشتغالٍ ، واختلافِ أهوال ، واختلالِ أحوال ، في يوم الجمعة ، الخامس والعشرين من شهر جمادى [ الاولى (٥) ] ، لسنة ١٣٠٧ ، السابعة بعد الثلاثمائة والألف ، من الهجرة النبويّةِ ، على مهاجرها وآلِهِ أشرف الصلاةِ والتحيَّة.

والمأمولُ من السائل الفاضل ، ومَنْ يقفُ على هذا التحرير من الأفاضل ، إصلاحُ الفساد ، وترويجُ الكساد ، وسَدْلُ ذيلِ العفو ، على ما يجدونه من الهفو.

والحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاةُ والسلامُ على محمّدٍ وآلِهِ الطاهرين.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٣٩ / ٦٣٦ ، الوسائل ٧ : ٣٠٤ ٣٠٥ ، أبواب صلاة الجمعة ب ٢ ، ح ٧.

(٢) النهاية ١ : ٣١١.

(٣) القاموس المحيط ١ : ٣٥٢ باب الثاء / فصل الجيم.

(٤) القاموس المحيط : ٣٥٣ باب الثاء / فصل الجيم. الصحاح ١ : ٢٧٨ باب الثاء / فصل الجيم.

(٥) في المخطوط : ( الأول ).

١١٠

الرسالة الحادية عشرة

منهاج السلامة في حكم الخارج عن بلد الإقامة

١١١
١١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصّلاةُ والسَّلامُ على محمدٍ وآلِه الطاهرين ..

أمّا بعد ..

فإنَّ جنابَ الأخ الصفيّ ، الحاجّ عليّ ابن المقدّس الحاج عبد علي آل الشيخ علي القطيفي ، التوبي (١) أصلاً ، والبصريّ الآن مسكناً وأهلاً ، سأل الحقيرَ عن مسافرٍ مثل جنابه ، أقامَ في غير بلد استيطانه عشرةَ أيّام ، فلمّا انقضت عزم بعدَها على السفر ، ولكن يريدُ الخروج لسائر القرى الخارجة عن مكان إقامته ؛ لقضاء بعضِ الوطر ، من غير عزمٍ على الإقامة في مكان إقامته ، ولا في غيره ممّا يريد عليه الممر.

فأجابه الحقير :

بأنّ هذه المسألة لكثرة الخلاف فيها مشكلةٌ معضلةٌ ، ويلزم كلُّ مكلَّفٍ العملُ بما هو مكلَّفٌ به من الاجتهاد ، أو التقليد ، أو الاحتياط ؛ بناءً على القول بالاكتفاء به.

وحيثُ كان السائلُ سلَّمه اللهُ تعالى مقلِّداً لجنابِ العالم العامل الأمين ، الشيخ محمّد حسن آل الشيخ ياسين (٢) المجاور بمشهد مولانا الإمام الكاظم عليه‌السلام ، ولم تكنْ رسالتهُ العمليةُ موجودة حينئذٍ لا عندي ولا عنده ، أمرتُه بالاحتياط إذا خرج عن

__________________

(١) التوبي : إحدى قرى ( القطيف ).

(٢) عالم جليل ، ( ت ١٣٠٨ ه‍ ) ، انتهت إليه الرئاسة الدينيّة في العراق بعد وفاة الشيخ الأنصاري ، له : ( تعليقات على رسائل الشيخ ) ، وغير ذلك ، أعيان الشيعة ٩ : ١٧١.

١١٣

محلِّ الإقامة ، بالجمع بين القصر والتمام ، إلى أَنْ يعرفَ فتوى مقلَّده تفصيلاً ؛ لاقتضاء الشغل اليقيني الفراغَ اليقيني في هذا المقام.

فلمّا وصل البصرةَ ، وأخبر طلبتها وعارفيها بهذا الكلام ، أظهر بعضُهم الملامَ ، وبعضٌ أعلنَ بالتشنيع والقول الفظيع ، وبعضٌ نسبَ هذا القولَ إلى الابتداع والخروج عن أقوال الطائفة المحقّة الواجبة الاتّباع ، حتى سرى إلى العوام ، وشاع التشنيعُ بينهم وذاع ، لزعمهم : أنَّ انقضاء الإقامة مطلقاً موجبٌ للتمام ، وانقطاعِ السفر ، فالحكمُ بعدها التمامُ مطلقاً في جميع الصور.

ولم يتنبّهوا لما فيها من الإشكالات ، وكثرةِ الاضطرابات والخلافات ، حتى إنَّ الشهيدَ الثاني قدس‌سره قال في وصف هذه المسألة ما لفظه : ( يعجلُ في جوابها المتفقّهُ القاصِر ، ويعجزُ عن كشفِ حجابها الفقيهُ الماهر ) (١).

وقال فاضلُ الجواهر قدِّس سرّه الزاهر في وصفِ هذه المسألةِ ممزوجاً بكلام المحقّق :

( المسألة الثالثة التي اضطربت فيها الأفهام ، وزلّت فيها أقدامُ كثيرٍ من الأعلام ) (٢) .. إلى آخر ما ذكره.

وهو كافٍ في بيان صعوبتها ، وكثرةِ الاضطراب والخلاف فيها لمنْ تدبَّره.

فعملتُ حينئذٍ في المسألة رسالةً ، سمّيتُها : ( منهاجَ السَّلامة في حكم الخارج عن مكان الإقامة ).

وحيث عزم جنابُ أخينا المذكور على السفر المقرونِ إنْ شاء اللهُ تعالى بالخير والظفر ، ولم تكملْ الرسالةُ ليقضي بها الوطر ، اكتفيتُ بنقلِ جملةٍ من عبارات فقهاء الإسلام ، وعلماءِ أهل البيت عليهم‌السلام ، وأساطين النقض والإبرام ، ممّن ينتسب للمجتهدين والمحدِّثين ، والكشفيين والبالاسريين ؛ ليحصل العذرُ لنا من كلِّ مَنْ

__________________

(١) رسائل الشهيد الثاني : ١٦٨.

(٢) جواهر الكلام ١٤ : ٣٦٣.

١١٤

يقلِّدهم من المؤمنين.

فأقول : قال شيخُ الطائفة في ( المبسوط ) : ( إذا خرج حاجّاً إلى مكّة ، وبينه وبينها مسافة يقصّر فيها الصّلاة ، ونوى أَنْ يقيم بها عشراً ، قصَّر في الطريق ، فإذا وصل إليها أتمّ ، فإنْ خرج إلى عرفة يريد قضاء نُسكه ، لا يريد مقام عشرة أيّام إذا رجع إلى مكّة ، كان له القصر ، لأنّه نقض مقامه بسفر (١) بينه وبين بلده يقصّر في مثله. وإنْ كان يريد إذا قضى نسكه مقام عشرة أيّام بمكّة ، أتمّ ، بمنى ، وعرفة ؛ ومكة ، حتى يخرج من مكّة مسافراً فيقصّر.

هذا على قولنا بجواز التقصير بمكّة ، وأمّا على ما رُوي من الفضل في الإتمام بها (٢) ، فإنّه يتمُّ على كلِّ حال ، غير أنّه يقصِّر فيما عداها من عرفات ومنى ، وغير ذلك ، إلّا أنْ ينوي المقام عشراً فيتمُّ حينئذٍ على ما قدّمنا ) (٣). انتهى.

وهو صريحٌ في أنّ مَنْ خرج بعد الإقامة من مكانها لا يسوغ له البقاء على التمام ، إلّا إذا نوى بعد العود إقامة عشرة أيّام ، ومع عدمها حكمُهُ القصرُ في جميع الأقسام.

وإناطتُه رحمه‌الله الحكم لمنْ خرج حاجّاً إلى مكّة ، إنّما هو من باب التمثيل ، لا الحصر في الحاج ، من دون سائر الأنام.

وبمثل عبارة الشيخِ في ( المبسوط ) عبّر ابنُ إدريس في ( السرائر ) (٤) بتفاوت يسيرٍ جدّاً ، فيغني نقلُ عبارة ( المبسوط ) عن نقل عبارته.

وبمثلها أيضاً عبّر ابنُ البرّاج (٥) ، فيما نقل عنه.

وأنت خبيرٌ بأنّ ظواهرها اختصاصُ البقاء على التمام بصورة ما إذا نوى بعد العودة إقامةَ عشرة أيّام.

نعم ، لا بدّ من بناء المسألة في فرضهم ، على كون الخروج إلى عرفات دون

__________________

(١) في المصدر : لسفر.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٣٠ / ١٤٩٣ ، و ٤٧٤ / ١٦٦٩ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٤ / ١١٩٠ ، الوسائل ٨ : ٥٢٦ ، ٥٢٩ ، ٥٣٠ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ٢٥ ، ح ١١ ، ١٦ ، ٢٠.

(٣) المبسوط ١ : ١٣٨.

(٤) السرائر ١ : ٣٤٥.

(٥) المهذّب ١ : ١٠٩.

١١٥

المسافة ؛ لعدم ضمِّ الذهاب إلى الإياب لغير يومه ، كما هو وظيفة الناسك ، والله أعلم بما هنالك.

وقال المحقِّق في ( الشرائع ) : ( إذا عزمَ على الإقامة في غير بلده عشرة أيّام ، ثمّ خرج إلى ما دون المسافة ؛ فإنْ عزم على العود والإقامة ، أتمّ ذاهباً ، وعائداً ، وفي البلد ). (١) انتهى.

وهو صريحٌ في أنّه لا يبقى على التمام إلّا مع نيّة العود والإقامة ثانياً عشرة أيّام. أمّا لو لم يَعُدْ ، أو عاد ناوياً أقلَّ من عشرة ، أو تردّد ، أو ذهل ، فظاهره أنّه لا يبقى على التمام. إلّا أنّه رحمه‌الله سكت عن تفصيل الحكم في هذه الأقسام ؛ ولهذا قال المحقّق الشيخ علي بن عبد العالي في ( فوائد الشرائع ) بعد نقل العبارة المذكورة ما لفظه : ( لهذه المسألة صورٌ :

هذه[ إحداها (٢) ] ، والحكم فيها ما ذكره.

الثانية : أنْ يعزم على المفارقة من حين خروجه. وهذا يقصّر ، إذا خفي عليه الأذان والجدران ، على أصحّ الوجهين. والآخر أنّه لا يشترط خفاؤها ، اقتصاراً في ذلك على بلده.

الثالثة : أنْ يعزم على العود ، من دون الإقامة عشرة. ولا خلاف في أنّه يقصّر في عوده ، إنّما الخلاف في الذهاب والمقصد ).

إلى أنْ قال : ( وَاعلم أنّه لو خرج من موضِع الإقامة ، إلى ما دون المسافة ، ذاهلاً عن العزم أو متردّداً ، ففي الحكم تردّدٌ ، وإتمامُه في ذهابه مقصده قويٌّ ) انتهى كلامُه.

ولا يخفى ما في عبارته من الإشارة إلى الخلاف ، فليعتبر ذوو الإنصاف.

وقال الفاضل العلّامة ضاعف الله إكرامه في ( المنتهى ) ما لفظه : ( لو عزم على الإقامة في غير بلده عشرة ، ثمّ خرج إلى ما دون المسافة ، فإنْ عزم على العود والإقامة ، أتمَّ ذاهباً ، وعائداً ، وفي البلد. وإنْ لم يعزم على العود ، أو عزم ولم

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٣٦.

(٢) في المخطوط : ( أحدها ).

١١٦

[ يعزم (١) ] على الإقامة قصَّر ؛ فلو رجع إليه لطلب حاجةٍ أو أخذِ شي‌ءٍ ، لم يتم ) (٢).

وفي ( التذكرة ) : ( لو عزم العشرة في غير بلده ، ثمّ خرج إلى ما دون المسافة عازماً على العود والإقامة ، أتمّ ذاهباً ، وعائداً ، وفي البلد. وإنْ لم يعزم قصّر ) (٣).

وفي ( النهاية ) : ( لو عزم على إقامة عشرة ، في غير بلده ، ثمّ خرج إلى ما دون المسافة ، عازماً على العود والإقامة ، أتمّ ذاهباً ، وعائداً ، وفي البلد. وإنْ لم يعزم على الإقامة بعد العود ، [ فالأقوى (٤) ] التقصير ) (٥).

وفي ( التحرير ) : ( لو نوى إقامة عشرة أيّام في غير بلده ، ثمّ خرج إلى ما دون المسافة ، فإنْ عزم على العود والإقامة ، أتمّ ذاهباً ، وعائداً ، وفي البلد. ولو عزم على العود دون الإقامة قصّر ) (٦).

وفي ( القواعد ): ( لو عزم العشرة في غير بلده ، ثمّ خرج إلى ما دون المسافة ، عازماً على العود والإقامة ، أتمّ ذاهباً ، وعائداً ، وفي البلد ، وإلّا قصّر ) (٧).

وفي ( الإرشاد ): ( لو نوى في غير بلده إقامة عشرة أيّام ، أتمَّ ، فلو خرج إلى أقلّ عازماً العود والإقامة ، لم يقصِّر ) (٨).

أقول : مفهومُه أنّه لو لم يعزم العود والإقامة عشرةً ثانية ، قصّر كما سمعت فيما مرّ من عباراته ، ولهذا قال الشهيدُ الثاني ، في ( حاشية الإرشاد ) بعد كلامٍ : ( والمراد بالإقامة بعد العود ، إقامة عشرةٍ مستأنفة .. والأقوى القصر في العود خاصّة ، مع استلزامه قصد المسافة ، ولو عزم على مفارقة موضع الإقامة ، قصّر بالخروج ، إنْ قصد المسافة ولو بالعود إلى بلده. ومثله ما لو تردّد في [ العود إلى (٩) ] موضع الإقامة ، أو ذهل عن القصد ) (١٠). انتهى.

__________________

(١) في المصدر ( يعد ) بدل ( يعزم ).

(٢) منتهى المطلب ١ : ٣٩٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ٤ : ٤١٣.

(٤) في المخطوط : ( الأقوى ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٥) نهاية الأحكام ٢ : ١٨٧.

(٦) تحرير الأحكام ١ : ٥٧ ، وفيه : ( أتمّ في ذهابه وعوده وفي البلد ).

(٧) قواعد الأحكام ١ : ٣٢٦.

(٨) إرشاد الأذهان ١ : ٢٧٦. وفيه : ( للعود ).

(٩) من المصدر.

(١٠) حاشية الإرشاد ١ : ٢٢٥.

١١٧

وقال الشهيد الأوّل طاب ثراه في ( الدروس ) : ( لو خرج ناوي المقام عشراً ، إلى ما دون المسافة ، عازماً على العود والمقام عشراً مستأنفه ، أتمَّ ذاهباً ، وعائداً ، ومقيماً. وإنْ عزم على المفارقة قصّر. وإنْ نوى العود ، ولم ينوِ عشراً فوجهان ، أقربُهما القصر ، إلّا في الذهاب ) (١).

وفي ( الذكرى ) بعد أنْ نقل عبارة الشيخ في ( المبسوط ) قال ما لفظه : ( وتبعه المتأخّرون ، وعمّم بعضُهم العبارةَ من غير تخصيصٍ بمكّة زادها الله شرفاً. وظاهرهم اعتبارُ عشرةٍ جديدة ، في [ موضعه (٢) ] الذي نوى المقام فيه ، بعد خروجه إلى ما دون المسافة. وظاهرهم أنّ نيّة إقامة ما دون العشرة في رجوعه ، كلا نيّة ). (٣) انتهى.

وفي ( البيان ): ( إذا عزم على الإقامة في بلدةٍ عشرة ، ثمّ خرج إلى ما دون المسافة ، عازماً على العود وإقامة عشرة أخرى ، أتمّ في ذهابه ، وإيابه ، وإقامته. وإنْ عزم على مجرّد العود ، قصّر. وإنْ عزم على الإقامة دون العشر ، فوجهان ، أقربهما الإتمام في ذهابه خاصّة ) (٤).

وأمّا الشيخ علي بن عبد العالي ، فقد سمعت كلامَه في ( فوائد الشرائع ) ؛ وقال رحمه‌الله في ( الجعفرية ) : ( لو خرج ناوي المقام عشراً ، إلى ما دون المسافة وبلوغ [ حدّ (٥) الترخص ، فإنْ عزم على العود والإقامة عشرة مستأنفة ، أتمّ مطلقاً. وإنْ عزم على المفارقة قصّر ببلوغ محلّ الترخّص أو على العود خاصّة (٦) فالأقوى الإتمام في الذهاب ، والبلد ، والقصر في العود. ولو لم يقصد شيئاً ، ذاهلاً أو متردّداً ، فوجهان ) (٧).

وأمّا الشهيدُ الثاني ، فقد سمعت كلامه في ( حاشية الإرشاد ) ، وقال في

__________________

(١) الدروس ١ : ٢١٤.

(٢) في المخطوط : ( موضع ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) الذكرى : ٢٦٠.

(٤) البيان : ٢٦٦ ، وفيه : ( ومقامه ) بدل : ( وإقامته ).

(٥) ] من المصدر.

(٦) عطف على قوله : ( على المفارقة ) من قوله : ( وإنْ عزم على المفارقة قَصَّر ).

(٧) رسائل المحقق الكركي ١ : ١٢٤.

١١٨

( المسالك ) ، بعد قول المحقّق : ( إذا عزم على الإقامة .. ) إلى آخره بعد كلامٍ طويناه على غرّه ـ :

( الثانية : أنْ يعزم على العود من دون إقامة عشرة مستأنفة ، وقد اختلف المتأخّرون هنا ، فذهب بعضُهم إلى القصر بمجرد خروجه ؛ وآخرون إلى القصر في عوده خاصّة ).

إلى أنْ قال : ( الثالثة : أنْ يعزم على مفارقة موضع الإقامة ، وحكمه كالأوّل في عدم القصر إلى أنْ يقصد مسافةً ، ولو بالعود إلى بلده ).

إلى أنْ قال : ( واعلم أنّه لا فرق في جميع ذلك بين كون الخروج مع الصلاة تماماً في أثناء العشرة ، أو بعدها ولو كان بعد سنتين فإنّ الخروج منها يلحقها بغيرها ) (١). انتهى.

أقول : إنّما لم ننقل العبارة بتمامها ؛ حذراً من الإطناب ، ولاشتهار الكتاب بين العلماء والطلّاب. والاستشهاد بكلامه لوجهين :

الأوّل : التنبيهُ على الخلاف ، في صور المسألة ، وكونها لعدم تنقيحها في كلماتهم ، وكثرةِ التردّدات والخلافات مشكلة معضلة.

والثاني : التصريح بجريان الخلاف الواقع في صورها ، في الخروج في أثناء العشرة أو بعدها ؛ لئلا يحتجّ بعضٌ باختصاص الخلاف في الأوّل ، دون الثاني من شقوقها.

وسيأتي أيضاً من العبارات ما يصرّح بمضمونها.

وقال في صدر رسالته المعمولة في هذه المسألة ما لفظه : ( وهي أنّ الأصحاب رضوان الله عليهم حكموا بأنّ المسافر إذا نوى إقامة عشرة أيّام في غير بلده ، إمّا على رأس المسافة ، أو أثنائها ، انتقل فرضُه من التقصير إلى الإتمام ، بمجرّد نيّة إقامة العشرة ، وافتقر بعد الإقامة بل بعد الصلاة تماماً في عوده إلى القصر إلى قصد مسافة جديدة ).

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٣٥٠ ٣٥١ ، وفيه : ( سنين ) بدل ( سنتين ).

١١٩

إلى أنْ قال : ( ثمّ بعد ذلك أطلقوا القول في مسألةٍ أُخرى مشهورة ، وهي أنّه لو خرج ناوي المقام عشرة إلى ما دون المسافة ، فإنْ كان عازماً على العود إلى المحلّ الذي عزم فيه على مقام العشرة ، وتجديد إقامة عشرة مستأنفة ، أتمّ ذاهباً إلى مقصده ، الذي هو فيما دون المسافة ، وفي المحلّ المقصود ، وآئباً إلى موضع الإقامة. وإنْ عزم على العود من دون إقامة عشرة مستأنفة بل إمّا لإكمال العشرة الأُولى ، أو لا فإنه يقصّر ذاهباً وآئباً على قول الشيخ (١) والعلّامة (٢) رحمه‌الله ، وآئباً لا غير عند الشهيد (٣) ، والشيخ علي (٤) ، وجماعةٍ (٥). وإنْ عزم على مفارقة موضع إقامة العشرة من غير عودٍ إليه بالكلّيّة ، فإنّه يقصّر بمجرّد خروجه ، لكن بعد مجاوزة حدود الإقامة أي موضع سماع الأذان ورؤية الجدران ، ولو تقديراً على قولٍ ، أو بمجرد الحركة على قول آخر إلى آخر ما فصّلوه في هذه المسألة ).

إلى أنْ قال : ( ولم يفرِّقوا في إطلاق كلامهم فيها ، بين كون الخروج المذكور بعد الصلاة تماماً ، في محلّ الإقامة ، أو قبله ، ولا بين الخروج قبل إكمال العشرة ، أو بعده. بل عبّروا [ بعبارات (٦) ] متقاربة ، تشمل جميع هذه الموارد. وبجميع عباراتهم التقييد بكون الخروج إلى ما دون المسافة ) (٧) .. إلى آخر ما ذكره رحمه‌الله في تلك الرسالة.

والاستشهاد بكلامه فيها ؛ لما ذكرناه في الاستشهاد بكلامه في ( المسالك ) ، من مطابقة قولنا لفتوى الأصحاب ، والتنبيه على ما فيها من الصعوبة والاضطراب.

وقال المحدِّث المنصف المبرور ، الشيخ يوسف آل عصفور ، في رسالته الصلاتيّة ، وشرحها ما لفظه : ( المقيمُ الخارج بعد العشرة ، أو في أثنائها ، إلى ما دون المسافة ، ممّا يزيد على محلِّ الترخّص ، إِنْ عزم العود إلى موضع الإقامة بعد

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٣٨.

(٢) التحرير ١ : ٥٧.

(٣) البيان : ٢٦٦.

(٤) جامع المقاصد ٢ : ٥١٥.

(٥) الحدائق ١١ : ٤٨٥ ، مفتاح الكرامة ٣ : ٥٩٥ ، جواهر الكلام ١٤ : ٣٦٤.

(٦) في المخطوط : ( بعبارة ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٧) رسائل الشهيد الثاني : ١٦٨ ، ١٦٩ ، ١٧٠.

١٢٠