الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

فرغ منه مؤلّفُهُ الأقلُّ الجاني : أحمدُ بن صالح البحراني ، في اليوم السادس من جمادى الثانية من السنة العاشرة والثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبويّة ، على مهاجرها وآلِهِ أفضلُ الصلاة وأكملُ التحيّة.

وقد تمّت هذه الرسالةُ المباركةُ على يد أقلّ الخليقة في الحقيقة : أحمد بن مهدي ، باليوم الثاني عشر من شهر شعبان المعظّم ، أحد شهور سنة ١٣١٢ ، الثانية عشر بعد الثلاثمائة بعد الألف ، حامداً مصلّياً مسلّماً مستغفراً.

ممّا قاله السائلُ المستطاب ، في مدحِ هذا الجواب :

بدتْ نفحاتٌ من غوامضِ أسرارِ

حرائر فكرٍ لا خرائدُ أفكارِ

وضاعَ عبيرٌ مِنْ شذا عنبر التقى

ومسكُ الهدى لا عطرَ جُوْنةِ (١) عطّارِ

غداة بدتْ شمسُ العلومِ وأشرقت

وعنها تولّى الجهل خاسئ أبصار (٢)

فتلك لعمرُ الله شمسُ هدايةٍ

بدتْ فاهتدتْ منها القلوبُ بأنوار

هي الشمسُ لم تكسَف ولم يخف نورُها

بكل مساءٍ كانَ أو سحب أمطارِ

ولا يهتدي الرائي إليها بعَينهِ

لما يغشه منهَا سواطعُ أنوارِ

ولكِن بأبصارِ البصائر يهتدى

إليها فيهدي كلّ حاذقِ أفكارِ

لنا أظهرت سِرّ العقولِ وَذاتها

ذوات معانٍ ذي صفات وآثارِ

تجلّت فَجلّت جَلّ جامعُ شملِها

ومودعها سراً هياكل أسرارِ

هو العالمُ النحرير (٣) واحد عصره

هو الأحمد البرّ التقي ابنُ أبرارِ

هو الجوهر المكنون في صدف التقى

وبحرُ علوم مدّه غير جزّار (٤)

__________________

(١) الجُونَة : ظرفٌ لطِيب العطّار. القاموس ٤ : ٢٩٦.

(٢) في متن المخطوط : ( .. وعنها تولّى غيهب الجهل منهار ) ، وما أثبتناه وفقاً لما جاء في هامش المخطوط.

(٣) النحرير : الحاذق ، الماهر ، العاقل ، المجرّب .. لأنّه ينحر العلم نحراً. القاموس ٢ : ١٩٦.

(٤) الجزر : ضدّ المدّ. القاموس : ١ : ٧٣٢ باب الراء / فصل الجيم.

٨١

ومارز (١) حلم ، بل وموضِع حكمةٍ

وأنوار قدسٍ في خزانةِ أسرارِ

أفاض عليه الله من فيض فضلهِ

سجال عنايات الكرامة مدرارِ

وألبسه أسنى جلابيب بهجةٍ

تلألأ دأباً للنشورِ بأنوار

وآتاه في الدارين ما شاء وارتضى

من النعم العظمى جليلة مقدارِ

وقرّة عين بالمسرّة لم تزلْ

مدى الدهر صفواً لن تشاب بأكدارِ

حريّ بمهما نال من أشرف الحبا

لعلمٍ وأعمالٍ هَداه لها الباري

فذي نبعة من يمّ زاخرِ علمه

وأعمالهُ سيَّان كالجدول الجاري

وحين بدت شمسُ المعارف أرّخت

« عوامق أسرار بمشكاة أنوارِ »

وثمّ صلاة الله تغشى نبيّنا

مع الآل دأباً بالعشيِّ وإبكارِ

__________________

(١) مارزه : مارسه. القاموس ٢ : ٢٧٦ باب الميم / فصل الزاء.

٨٢

الرسالة الثانية

مسألة في إبطال الدور المتوهّم

في إثبات الإمامة من الكتاب

٨٣
٨٤

إبطال الدور المتوهّم في إثبات الإمامة (*)

مسألة : قال لا زالت أعلام علمه على العالمين منشورة ، وقناة أعدائه مغموزة مكسورة ـ : ( كان ممّا شاع وذاع وملأ الأسماع وعليه الإجماع أنّ في القرآن من النصوص الجليّة على إمامة الأئمّة أكثر من أنْ تحصى ، فيكون حينئذ مُثْبِتاً لإمامتهم ، وقد كان مثله أيضاً أنّه لا يعرف إلّا من جهتهم كما تقدّم ، فكأنّه مُثْبِتٌ مُثْبَتٌ وهم كذلك ، فما المفرّ من الدور؟! ).

الجواب : ومن الله استمدّ الصواب ـ :

الظاهر أنّ عبارة السؤال مغلوطٌ فيها ، وإلّا فلا يخفى على ذي مسكة أنّ هذا ليس من الدور في شي‌ءٍ ؛ إذ الدور توقّف الشي‌ء على ما يتوقّف عليه توقّفاً تامّاً من جميع الجهات والقيود والحيثيات ، بحيث إذا ثبت ثبت وإذا انتفى انتفى ، وما هنا ليس كذلك ، إذ غاية ما فيه من الإشكال كون الشي‌ء مُثْبِتاً مُثْبَتاً ، ولا ضير فيه إذا كان من جهتين كما هنا ، ولكن لا بأس بالكلام على متن السؤال ، فنقول :

قد شاع وذاع وملأ الأسماع وطبق الأصقاع وعليه الإجماع عدم انحصار إثبات إمامة أُولئك الأعيان عليهم سلام الملك الديّان في ما دلّ عليه القرآن ، بل الأدلّة

__________________

(*) وردت هذه المسألة ضمن الرسالة الثلاثين ( الدرر الفكرية في أجوبة المسائل الشبّريّة ).

٨٥

العقليّة والنقليّة من السنّة النبويّة الدالّة على إثبات إمامتهم دون غيرهم أكثر من أنْ تحصى وأجلّ من أن تستقصى. وناهيك بكتاب ( الأَلفين ) دون سائر كتب الفريقين من شاهد عدل بلا مَيْنٍ. فبهذا ثبت إثبات إمامتهم بغيره وإنْ انضاف هو إليه.

وقولكم : ( وقد كان مثله أيضاً أنّه لا يعرف إلّا من جهتهم ) قد تقدّم جوابه في المسألة الاولى من عدم التوقّف على التفسير في بعضٍ حتى لو قيل بالتوقّف عليه مطلقاً ؛ لما قلنا ، فانتفى ما توهّم من الدور لاختلاف جهتي التوقّف والثبوت ، فهو من قبيل ما استدلّ به على كونه تعالى متكلّماً بإجماع الأنبياء ، مع أنّ ثبوت نبوّتهم موقوف عليه ظاهراً ، ولكن انتفى الدور لمنع توقّف الثبوت عليه ؛ لجواز تصديقهم بما سوى الكلام من المعجزات ، والله العالم.

٨٦

الرسالة الثالثة

مسألة في الشفاعة

٨٧
٨٨

مسألة في الشفاعة (*)

ثم قال ـ شدّ الله عليه نطاق الجلال ـ : ( ثم ما يقول مولانا الجليل ، هداه اللهُ واضح السبيل ، شفاعةُ نبيّنا محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله التي لا إشكال فيها ولا شكّ يعتريها ، نطق بها الكتابُ وتواترت بها السنّةُ عن المعصومين الأطياب ، وانعقد عليها الإجماع (١) من المسلمين ، لِمَن إذا كانت ذنوبُ تاركي الكبائر مكفّرة ، ومرتكب الكبائر غير مرتضىً ، والله عزوجل يقول : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) (٢) ، و «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (٣) ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام ، فأمّا التائبون فإنّ الله يقول : ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٤)؟ ).

أقول ـ ومنه سبحانه التوفيق لنيل المأمول ـ : تضمّن السؤال الشريف الاستدلال على شفاعة النبيّ المفضال ، ويلزم منه أيضاً اعتقاد ثبوت الشفاعة للآل وإنْ لم يصرّح به في المقال ، فلا حاجة لبسط المقال في هذا المجال ؛ إذ لم يخالف في ثبوت الشفاعة في الجملة أحد من المسلمين وإنْ خالف الوعيديّة (٥) وهم المجمعون على امتناع العفو سمعاً والمختلفون في جوازه عقلاً (٦) في محلّها وخصوصه أو

__________________

(*) وردت هذه المسألة ضمن مجموعة مسائل الشيخ محمد البحراني ، وزّعناها على محالِّها من الكتاب ، وهي : الثالثة ، الحادية والعشرون ، الثانية والعشرون ، الحادية والثلاثون ، بحسب ترتيب الكتاب.

(١) كشف المراد : ٤١٦ ، شرح المقاصد ٥ : ١٥٧.

(٢) الأنبياء : ٢٨.

(٣) الكافي ٢ : ٤٣٥ / ١٠ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٧٤ / ٣٤٧ ، الوسائل ١٦ : ٧٥ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٨٦ ، ح ١٤.

(٤) التوبة : ٩١.

(٥) الوعيديّة : فرقة من المعتزلة. انظر الملل والنحل ١ : ١٩٣.

(٦) مناهج اليقين في أُصول الدين : ٥١٩.

٨٩

عمومه ، فقالوا : إنّها لا تؤثّر في إسقاط العقاب ، وإنّما تؤثّر في زيادة الدرجات في الثواب (١).

وبطلانُه لا يكاد يخفى على أحدٍ من اولي الألباب ، وإلّا لَزِمَ كوننا شافعين في النبيّ الأوّاب وآله الأطياب إذا سألنا الله تعالى له ولهم زيادة الدرجات ، وهو باطلٌ بالإِجماع بلا ارتياب.

وأما قوله تعالى : ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ) (٢) ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ ) (٣) فمحمولٌ على غير المؤمنين من فرق الكافرين ، كما تكثّرت به الأخبار عن الصادقين (٤).

إنّما المهمّ الجواب عما اشتمل عليه السؤال من الإشكال المنقدح في خيال ذلك الجناب المفضال :

أوّلاً : بانتفاء موضوع الشفاعة باجتناب الكبائر ولو مع ارتكاب الصغائر ؛ لقوله تعالى : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٥) ، وبأنّ « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » (٦) ، كما في الكتاب والسنّة المفضّلة.

وثانياً : بأنّ مرتكب الكبائر غير مرتضىً ، وقد قال تعالى : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) (٧).

والجواب عن الأوّل : أنّه حصرٌ غير حاصر ؛ لبقاء مرتكب الكبائر والمصرّ على الصغائر ولو مع اجتناب الكبائر ؛ أمّا الأوّل فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخبر المشهور « ادّخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (٨) أو « إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي » (٩) ، كما سيأتي.

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٣٢ ، كشف المراد : ٤١٦.

(٢) الشعراء : ١٠٠.

(٣) المدّثر : ٤٨.

(٤) تفسير القمّي ٢ : ١٢٤ ، ٤١٨ ، الكافي ٨ : ٨٧ ٨٨ / ٧٢.

(٥) النساء : ٣١.

(٦) النساء : ٣١.

(٧) الأنبياء : ٢٨.

(٨) مجمع البيان ١ : ١٣٢ ، بحار الأنوار ٨ : ٣٠.

(٩) الفقيه ٣ : ٣٧٦ / ١٧٧٧ ، التوحيد : ٤٠٧ / ٦ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٤ ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ب ٤٧ ، ح ٤.

٩٠

وأمّا الثاني فلأنّ الصغيرة ذنبٌ موجبٌ لدخول النار ، ولأنّه عصيانٌ للملك القهّار ، كما في الخبر : « لا تنظر إلى ذنبك ولكن انظر إلى مَنْ عصيت » (١) ، ولأنّه « لا صغيرة مع الإِصرار ، كما لا كبيرة مع الاستغفار » (٢).

والجواب عن الثاني : بالمنع ؛ لدلالة الأخبار الكثيرة في تفسيرها بمَنِ ارتضى دينه لا مَنْ ارتضى فعله ، فيدخل الفاسق المؤمن وإِنْ ارتكب الكبائر ؛ لأنّ الإيمان بالمعنى العام هو التصديق بالله ورسوله وجميع ما جاء به ، وليست الأعمال الصالحة جزءاً منه كما هو المشهور في معناه ؛ لتكثّر عطف الأعمال عليه في الكتاب العزيز (٣) ، مع أنّ العطف يقتضي المغايرة.

ففي ( الصافي ) نقلاً من ( العيون ) عن الرضا عليه‌السلام في تفسيرها : « إلّا لمن ارتضى الله دينه » (٤).

وعن توحيد الصدوق عن الكاظم ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المُحسنون منهم فما عليهم من سبيل ». قيل : يا ابن رسول الله ، كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) (٥) ، ومَنْ يرتكب الكبيرة لا يكونُ مرتضىً؟.

فقال : « ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلّا ساءه ذلك وندم عليه ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كفى بالندم توبةً. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَنْ سرّته حسنة وساءته سيئة فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنبٍ يرتكبُهُ فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة ، وكان ظالماً ، والله تعالى ذكره بقوله : ( ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ) (٦) ».

فقيل له : يا ابن رسول الله ، وكيف لا يكون مؤمناً مَنْ لم يندم على ذنبٍ يرتكبه؟.

__________________

(١) البحار ٧٥ : ٤٥٢ / ٢٠ ، باختلاف.

(٢) البحار ٧٥ : ٤٥٢ / ٢٠ ، باختلاف.

(٣) انظر البقرة : ٢٥ ، ٨٢ ، النساء : ٥٧ ، ١٢٢ ، المائدة : ٩٣ ، الكهف : ١٠٧.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٧ ١٣٨.

(٥) الأنبياء : ٢٨.

(٦) غافر : ١٨.

٩١

فقال : « ما من أحدٍ يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلّا ندم على ما ارتكب ، ومتى ندم كان تائباً مستحقّاً للشفاعة ، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً ، والمُصرُّ لا يُغفر له ؛ لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. وأمّا قولُ الله عزوجل : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) ، فإنّهم لا يشفعون إلّا لمَن ارتضى اللهُ دينَه ، والدّينُ الإِقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات ، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب ؛ لمعرفته بمعاقبته في القيامة » (١) انتهى. وهو كافٍ في الجواب عن الإشكالين الموقعين في الارتياب.

نعم ، قد ينافي قوله عليه‌السلام فيه : « فمن لم يندم على ذنبٍ يرتكبه فليس بمؤمن » ... إلى آخره ، ما مرّ من ثبوت الإيمان لمرتكب الكبائر ، كما ينافيه أيضاً ما في الخبر النبويّ : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » ... (٢) إلى آخره.

والجواب عن الأوّل بحمله على حال الاستحلال ؛ لدلالة تعليله عليه‌السلام ذلك بقوله : « لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب » على زوال اعتقاده التحريم وعدم تصديقه بما أتى به النبيّ الكريم.

وبه يحصل الجواب عن الخبر النبويّ أيضاً ، كحمله أيضاً على نفي الإيمان بأحد أفراده الخاصة الكاملة ، لا بالمعنى الشامل للفاسق بالجوارح مع صحّة اعتقاداته الفاضلة. أو على أنّ معنى « وهو مؤمن » أنّه ذو أمن من عذابه ، بل إنّ المؤمن يرتكب المحرّم مع اعتقاد تحريمه ، واستحقاق تأثيمه وتأليمه وإنْ غلب سلطان الهوى والشهوة النفسانيّة على القوّة العقلانيّة ، على نحو ما في الدعاء المشهور : « إلهي لَمْ أعصِكَ حين عَصَيتُكَ ، وأَنا بِربوبيّتك جاحِدٌ ، ولا بأمْرِكَ مُستخفٌّ ، ولا لعُقُوبتك متعرّضٌ وَلَا [ لِوَعِيدِكَ ] (٣) مُتهاونٌ ، ولكن خطيئةٌ عرضت لي (٤) وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي » (٥). ونحوه

__________________

(١) التفسير الصافي ٣ : ٣٣٦ ٣٣٧ ، التوحيد : ٤٠٧ ٤٠٨ / ٦ ، بتفاوتٍ فيهما.

(٢) الخصال ٢ : ٦٠٨ / ٩ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٥ / ١ ، البحار ١٠ : ٣٥٧ / ١.

(٣) ] في المخطوط : ( بوعيدك ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) لا توجد في المصدر : ( لي ).

(٥) إقبال الأعمال : ٧١ ٧٢ ، بحار الأنوار ٩٥ : ٨٨.

٩٢

غيره من الأدعية المعصوميّة.

أو على أنّ لفظه خبرٌ ومعناه النّهي ، أي : لا يزن والحال أنّه مؤمن ؛ إذ لا يليق ذلك بحال العقلاء المصدّقين بما يترتّب عليه من العقاب والبلاء ، على حدّ قول العرب : ( لا تضرب زيداً وهو أخوك ) في مقام الإنكار والردع والتلويم.

وكيف كان ، فالخبرُ المذكور ظاهرٌ في أنّ ارتكاب الكبائر مع التصديق بالتحريم واستحقاق العقاب والتأثيم غير مخرج عن اسم الإيمان العام ، وإنّما يخرج بالاستحلال والإنكار لأحكام الملك العلّام.

فان قيل : ما ذكرتم يدلّ على اجتماع الفسق والإيمان ، وقد قال تعالى ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (١) ، لدلالة تغاير الموصوفين على تغاير الوصفين.

قلنا : الجواب ، أمّا أوّلاً ؛ فلدلالة الأخبار الكثيرة من الخاصّة (٢) والعامّة (٣) على أنّ المراد فيها بالفاسق الوليد بن عقبة ، وبالمؤمن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وأمّا ثانياً : فبمنع المنافاة ؛ لأنّا لا ندّعي المساواة في الدرجات ، وإنّما نقول بعدم استحقاقه التخليد في النار ذات الدركات لو لم يحصل له قبل دخولها أحدُ المسقطات ؛ إمّا العفو من ربّ البريّات وغافر الخطيئات ، أو التوبة المقبولة المطهّرة له من أدناس السيّئات ، أو شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد آله الهداة أو غيرهم ممن تُرجى وتُقبل منه الشفاعات. واللهُ العالم وحججه الهداة.

الإيراد الأوّل من السائل وردّه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ملهم الصواب وكاشف حجاب الارتياب عن قلوب اولي الألباب ، والصلاةُ والسلامُ على محمّد وآله الأطياب ، قال السائل سلّمه الله تعالى في الإيراد على جواب مسألة الشفاعة ما لفظه : ( وحيث حصر جنابُ مولانا ـ دامت سلامتُه ـ الشفاعة

__________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٧٠ ، مجمع البيان ٨ : ٤٢٩.

(٣) جامع البيان مجلد ١٥ جزء ٢١ : ١٢٩ ، الكشاف ٣ : ٥١٤ ، الدر المنثور ٥ : ٣٤١.

٩٣

في المؤمنين ـ كما صرّح به من حمل قوله عزوجل ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ) (١) ، وقوله سبحانه : ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ ) (٢) ، على مَنْ عدا المؤمنين من فرق الكافرين انتفى موضعها ؛ لنفيه الإيمان عن المصرّ على الصغائر ، فأولى منه مرتكب الكبائر ، وأنّ غير المصرّ والمرتكب الكبائر من المحسنين ، والله جلّ وعلا يقول : ( ولا سبيل على المحسنين ) (٣) ، والمقصودُ الإِفهامُ وإنْ خرج السؤال بطريق الإلزام ). انتهى كلامه ، زِيد إكرامه.

أقول : قوله ـ سلّمه الله تعالى ـ : ( وحيث حصر ... ـ إلى قوله : ـ انتفى موضعها ) لا أعلم وجهاً لدلالة الجواب على انتفاء موضوع الشفاعة لنفي الإيمان عن المصرّ على الصغائر ، فأوْلى منه مرتكب الكبائر ؛ إِذْ عدمُ الملازمة بين الحصر والانتفاء ظاهرٌ بلا خفاء ؛ لأنّ الحمل المذكور إنّما هو لردّ استدلال الوعيديّة على إسقاط الشفاعة بالكليّة ، ومحصّله نفي الشفاعة للكافرين ومَنْ بحكمهم من المخالفين المنتحلين ، وإثباتها لغيرهم من فسقة المؤمنين ، المراد بهم مَنْ كانوا من الإماميّين ، إذ الفسقُ هو الخروج عن طاعة ربّ العالمين مع الإيمان به وبالأنبياء والمرسلين.

وأمّا نفي الإيمان عن المصرّ على الصغائر الذي استفدتم من فحواه النفي عن مرتكب الكبائر ، فالوجه من استظهاره من الجواب من أوّله إلى آخره غير ظاهر ، بل هو خلافُ الظاهر ؛ لقولي في الجواب عن الشقّ الأوّل من سؤالكم : بأنّه حصرٌ غير حاصر ؛ لبقاء مرتكب الكبائر ، والمصرّ على الصغائر ... إلى آخره.

وفي الجواب عن الشقّ الثاني منه : بمنع أنّ مرتكب الكبائر غيرُ مرتضىً ؛ لتفسير الآية بمَنْ ارتضى دينه ، لا مَنْ ارتضى فعله ، فيدخل الفاسق المؤمن وإنْ ارتكب الكبائر ؛ لأنّ الإيمان بالمعنى العام هو التصديق بالله ورسوله ... إلى آخر ما ذكرتُه في الجواب.

__________________

(١) الشعراء : ١٠٠.

(٢) المدثر : ٤٨.

(٣) كذا ورد في كلام السائل ، وسيأتي من المصنِّف رحمه‌الله بيانُ انّ الآية هي ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) التوبة : ٩١.

٩٤

وقولي أيضاً : وكيف كان ، فالخبر المذكور ظاهر في أنّ ارتكاب الكبائر مع التصديق بالتحريم واستحقاق العقاب والتأثيم غيرُ مخرج عن اسم الإيمان العام ، وإنّما يخرج بالاستحلال والإنكار لأحكام الملك العلّام.

وقولي أيضاً في الجواب عن قوله تعالى ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (١) ـ : حيث إنّ ظاهرها ينافي ما ذكرته من اجتماع الفسق والإيمان ، بدلالة الأخبار على أنّ المراد بالمؤمن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبالفاسق الوليد المهين .. إلى آخر الجواب.

وكلُّ هذه الفقرات صريحة في إثبات الإيمان للمصرّ على الصغائر ، بل ومرتكب الكبائر.

الإيراد الثاني من السائل وردّه

ثم قال السائل سلّمه اللهُ تعالى مورداً على هذا الجواب ، ما لفظه : ( ولمّا وقف العبدُ على ما افدتموه في كتابكم البديع من الخطاب لم يستفد منه سوى الإيضاح لما اشتمل عليه الأوّل من الجواب ، وليس المرادُ من الكتابة إلّا البيان لا ترصيع الأوراق بمثل هذا الجُمان ، فعادت المراجعة بِكْراً ).

أقول ـ وبالله الثقة والمأمول ـ : لا يخفى على مَنْ تأمّل في الجواب من أوّله إلى آخره وطبّق بعض فقرأته على بعض ، ولم يقصر نظره على بعض فقره ، أنّه مطابقٌ للسؤال ، وافٍ بحلّ الإشكال ، وذلك أنّ أصل سؤالكم إنّما هو عن الشفاعة لِمَنْ إذا كانت ذنوب تاركي الكبائر مكفّرة ، ومرتكب الكبائر غير مرتضىً ، والله عزوجل يقول ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) (٢) ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له (٣)؟ وحيثُ مهدتم هذه المقدّمات الثلاث حصل لكم الإشكال باستلزامها انتفاء موضوع الشفاعة.

__________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) الأنبياء : ٢٨.

(٣) الكافي ٢ : ٤٣٥ / ١٠ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٧٤ / ٣٤٧ ، الوسائل ١٦ : ٧٥ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٨٦ ، ح ١٤.

٩٥

وحاصل الجوابُ الأوّل يرجع لمنع بعض المقدّمات ومنع الحصر ؛ لبقاء الفسقة من المؤمنين بالمعنى الأعم وإنْ ارتكبوا الكبائر وقارفوا المآثم.

وهذه الكلماتُ القليلة لو حصل فيها اعتلال أو اختلال لضيق المجال ، لم يقدح ذلك في جميع الفقرات المودعة في جواب ذلك السؤال ، بل يلزم المراجعة لأصل الجواب لو حصل استشكال.

ثم أوردتم في كتابكم الثاني ما حاصله : أنّ انتفاء موضوع الشفاعة لم يرتفع عنه الإشكال بناءً على فهمكم منه نفي الإيمان على المصرّ على الصغائر ، فأوْلى منه مرتكب الكبائر ، فأجبناكم بإثبات الإِيمان بالمعنى الأعم لمرتكب الكبائر ، فضلاً عن مرتكب الصغائر. ومنع ما استفدتموه من الجواب من نفي الإيمان بكلّ لفظ صريح وظاهر ، بل أجبنا بإثبات الإيمان الأعمّ لذينك الصنفين ، وإنّ حمل الآيتين على غير المؤمنين إنّما هو لردّ استدلال الوعيديّين. ثم طالبناكم بتبيين موضع الدلالة على فهمكم من الجواب نفي الإيمان عن المذكورين ؛ ولهذا قلتم في هذا الكتاب الثالث : لا كلام في ثبوت الإيمان لمنتحل الولاية وإنْ أصرّ على الصغائر ، أو ارتكب الكبائر.

نعم ، تركنا المناقشة لكم في موضعين حملاً لكم على أحسن الوجوه ، وصوناً لكلامكم عن المين :

الأوّل : قولكم : ( وإنّ غير المصرّ والمرتكب الكبائر من المحسنين ) ، مع مخالفته لظاهر مبدأ الاشتقاق ؛ إذ المراد بالمحسن حقيقة المتلبّس بالإحسان ، أو الفعل الحسن. ولا ريب أنّ مباشر الذنب وإنْ اجتنب الكبائر لا يصدق عليه أنّه محسن بالمعنى المذكور ؛ إذ الإحسان من الأُمور الوجوديّة ، فلا يكفي في ثبوته الأُمور العدميّة مع التلبّس بالهيئات غير المرضيّة.

الثاني : قولكم : ( والله جلّ وعلا يقولُ ولا سبيل على المحسنين مع أنّ لفظ الآية الشريفة والله العالم ـ ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) ، وإنْ تضمّن لفظكم معنى كلام

__________________

(١) التوبة : ٩١.

٩٦

الجليل.

قال ـ سلّمه الله تعالى ـ : ( فأقولُ ولا حول ولا قوّة إلّا بالله ـ : لا كلام في ثبوت الإيمان لمنتحل الولاية وإنْ أصرّ على الصغائر أو ارتكب الكبائر بعد ورود تفاوت دُرج الإيمان ، وثبوت أنّها ثمان ، إنّما الكلامُ في ثبوت الشفاعة لهذين الصنفين ، وتخصيصهما من البين ، وما ذكرتموه من الدليل لا يساعد على هذا القيل ).

أقول : إنّ ما ذكرناه في جواب إشكالكم في الشفاعة بانتفاء موضوعها باجتناب الكبائر ولو مع ارتكاب الصغائر ، وبأنّ : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » (١) ، بتقريب : أنّ المذنب إمّا مقتصر على الصغائر مجتنب للكبائر ، أو مرتكب للجميع لكنه تاب عن الجميع ، فأجبنا بأنّه حصرٌ غيرُ حاصر ؛ لعدم الانفصال الحقيقي المردّد بين النفي والإثبات كي يلزم الانحصار.

واستدللنا عليه بما ذكرناه في أصل الجواب من الدليل الواضح السبيل وإنْ اقتصرنا على القليل ، مع أنّ اعترافكم بأنّه ( لا كلام في ثبوت الإيمان لمنتحل الولاية وإنْ أصرّ على الصغائر أو ارتكب الكبائر ) مما يشهد بمساعدة الدليل.

وليس يصحّ في الأذهان شي‌ءٌ

إذا احتاج النهارُ إلى دليل

واللهُ يقول الحق وهو يهدي السبيل.

قال سلّمه الله تعالى ـ : ( وتفسير الآية (٢) الشريفة بمَنْ ارتضى دينه لا يستلزم أنّ المصرّ والمرتكب مرتضىً ؛ لنفي ما استدللتم به الإيمان عنهما ، وشهادته بأنّ المرتكب غير مرتضىً ؛ لقوله عليه‌السلام : « فَمَنْ لم يندمْ على ذنبٍ يرتكبه فليس بمؤمن » (٣) ).

أقولُ : لعلّ كلامه سلّمه الله تعالى ناشٍ من الاستعجال المانع من مراجعة ما

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٣٥ / ١٠ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٧٤ / ٣٤٧ ، الوسائل ١٦ : ٧٥ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٨٦ ، ح ١٤.

(٢) قوله تعالى ( لا يَشْفَعُونَ إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) الأنبياء : ٢٨.

(٣) التوحيد : ٤٠٨ / ٦ ، البحار ٨ : ٣٥١ / ١.

٩٧

قدّمناه من إثبات الإيمان بالمعنى الأعم لهما ، الذي أقلّه الاتصاف بالتدين بدين الإسلام ، وقد قال تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) (١) ، ومن استيفاء الحديث الشريف ، وما عقّبناه به من المقال ، لظهوره في أنّ قوله عليه‌السلام : « فمن لم يندم على ذنبٍ يَرْتكبُهُ فليس بمؤمن » ، في أنّه كناية عن اعتقاد الاستحلال ، كما هو مقتضى القضية الشرطية الظاهرة في اللزوميّة لا الاتفاقيّة ، وفي أنّ عدم الندم لازمٌ لعدم الإيمان بمعنى التصديق والإذعان اللازم للاستحلال ، كما يقتضيه التدبّر في الخبر الكاظمي في قوله ، فقيل له : يا ابن رسول الله ، وكيف لا يكون مؤمناً مَنْ لم يندمْ على ذنب يرتكبه؟. فقال عليه‌السلام : « ما من أحدٍ يرتكبُ كبيرةً من المعاصي وهو يعلم أنّه سُيعاقب عليها إلّا ندمَ على ما ارتكب ، ومتى ندِمَ كان تائباً مستحقّاً للشفاعة ، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً ، والمصرّ لا يُغفر له ؛ لأنّه غيرُ مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم » .. (٢) إلى آخره.

وكلُّ هذه الفقرات ظاهرةٌ في أنّ عدم الندم من لوازم الاستحلال وعدم التصديق بالعقاب والنكال ، فيكونُ منكراً لضروري الدّين العال ، وفي أنّ الإيمان المنفي فيه إنّما هو الإيمان بالمعنى اللغوي ، الذي هو التصديق والإذعان (٣) ، كما في قوله تعالى ( وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ) (٤) ، وقوله تعالى ( يُؤْمِنُ بِاللهِ ) (٥) .. إلى آخرها ، وغيرهما من الآيات والكلمات العربيّة المتعارفة عند أهل اللسان ، الحاصلة بالسّبر والوجدان.

قال سلّمه اللهُ تعالى ـ : ( ثم على القول بأنّ الحصر غيرُ حاصر ؛ لبقاء المصرّ على الصغائر ومرتكب الكبائر ، يقالُ وإنْ كان فيه شائبة العود ـ : أمع الاستحلال أم لا؟ لا سبيل إلى الأوّل ، وعلى الثاني : فإمّا أنْ يقال بتكفير مجتنب الكبائر أم لا؟ فعلى الثاني : ردّ صريح الأثر وصريح القرآن ، وعلى الأوّل : ينتفي الموضع عن البيان ).

__________________

(١) آل عمران : ١٩.

(٢) التوحيد : ٤٠٨ / ٦ ، البحار ٨ : ٣٥٢ / ١.

(٣) الصحاح ٥ : ٢٠٧١ ، لسان العرب ١ : ٢٢٤.

(٤) يوسف : ١٧.

(٥) البقرة : ٢٣٢.

٩٨

أقولُ : نختار الثاني من الأوّل ، والأوّل من الثاني ، ونمنعُ انتفاء الموضع من البيان ؛ لوفاء الجواب بأنّ المصرّ على الصغائر لا مع الاستحلال ، ومرتكب الكبائر كذلك ممّن يستحقّ الشفاعة مع استحقاق العقاب ؛ لأنّها إحدى المسقطات ، كما ذكرناه في أصل الجواب. قصارى ما في الأمر أنّ المصرّ فردٌ من مرتكب الكبائر أو مشاركٌ له في حكمه وإنْ لم يكن فرداً منه ، فيرجع بالآخرة إلى أنّ موضوع الشفاعة أهل الكبائر حقيقةً أو حكماً ، بمقتضى الدليل الظاهر ، والله العالم بالسرائر.

قال سلّمه الله تعالى ـ : ( وادّعاء وفاء الجواب بأنّ المصرّ على الصغائر لا مع الاستحلال ومرتكب الكبائر كذلك ممّن يستحق الشفاعة إنْ كان دليله الكاظمي فقد عرفتم امتناعه ، وإنْ كان لغيره فبيّنوه عسى يستبين لنا كما استبنتموه ).

أقولُ : لا يخفى وفاء الخبر الكاظمي المروي بعذبه كلّ ظَمِئ بالمراد منه في هذا المجال على كلّ كَمِي (١) ، ولعل الذي أوقعكم في الإشكال وتعمية المقال حملُ قوله عليه‌السلام : « فمن لم يندم على ذنبٍ يرتكبه فليس بمؤمن » على إرادة الإيمان بالمعنى الاصطلاحي ، مع قيام القرينة فيه على إرادته عليه‌السلام منه المعنى اللغوي ، كما بيّنه عليه‌السلام في جواب مَنْ قال له : وكيف لا يكون مؤمناً مَنْ لم يندم على ذَنْبٍ يرتكبه؟. حيث قال عليه‌السلام : « ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً والمصرّ لا يغفر له ؛ لأنّه غير مؤمن » (٢) ، أي : غير مصدّق بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً أي : مصدّقاً بالعقوبة لندم ، وهو ظاهر في هذا الباب ، ناطقٌ بفصل الخطاب ، والله العالمُ بالصواب.

قال سلّمه اللهُ تعالى ـ : ( فلم يبقَ إلّا القول بالعموم ، فيدخل المرتكب والمعصوم ، وفيه ما فيه ؛ لتعارض الاعتبار والآثار فيه ، أو يقال بالعدم ، ويلزم قائله اللوم والندم ).

أقولُ : أمّا المرتكب غير المستحل فلا إشكال في دخوله في الشفاعة ، وأمّا المعصوم فخروجه بانتفاء الموضوع ظاهرٌ لأهل الصناعة.

__________________

(١) الكمي : هو الشجاع المُقدمُ الجري. لسان العرب ١٢ : ١٦٢ كمي.

(٢) التوحيد : ٤٠٧ ٤٠٨ / ٦ ، التفسير الصافي ٣ : ٣٣٦ ٣٣٧ ، البحار ٨ : ٣٥١ ٣٥٢ / ١.

٩٩

ولا بأس بإيراد بعض الكلمات لعلمائنا الأخيار المشفوعة بظواهر الأخبار :

قال الصدوق رحمه‌الله في اعتقاداته : ( اعتقادُنا في الشفاعة أنّها لمَن ارتضى اللهُ دينه من أهل الكبائر والصغائر ، فأمّا التائبون من الذنوب فغيرُ محتاجين إلى الشفاعة .. إلى أنْ قال ـ : والشفاعة لا تكون لأهل الشكّ والشرك ، ولا لأهل الكفر والجحود ، بل تكون [ للمذنبين (١) ] من أهل التوحيد ) (٢).

وقال المحدّث السري الشيخ محمّد علي آل غانم القطري (٣) المجاز من المحدّث المبرور الشيخ حسين آل عصفور (٤) ، والشيخ أحمد بن زين الدين (٥) في كتابه ( الكواكب الدريّة ) ما لفظه : ( ومستحقّ الشفاعة يوم القيامة هم المذنبون من المؤمنين دون غيرهم بالإِجماع والنصوص المستفيضة :

منها : ما رواه في ( العيون ) (٦) و ( الأمالي ) (٧) ، عن الحسين بن خالد ، عن الرّضا عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل ».

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : « إذا قمت المقام المحمود ، شفعت لأهل الكبائر من أُمّتي

__________________

(١) في المخطوط : ( للمؤمنين ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) تصحيح اعتقادات الإمامية ( ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد ) ٥ : ٦٦.

(٣) الشيخ محمد علي بن غانم القطري البلادي البحراني عالم فقيه من تلامذة الشيخ حسين آل عصفور وله إجازة منه ، له كتاب ( الكواكب الدريّة في مذهب الاثني عشرية ) قال عنه الشيخ أحمد بن صالح البحراني : إنّه بقدر كتاب البحار. وله شرح على ( الدرّة الغروية ) للسيد السند بحر العلوم الطباطبائي. ولهذا الشيخ ولد فاضل عالم اسمه الشيخ غانم. أنوار البدرين : ٢٢٤ ٢٢٥.

(٤) الشيخ حسين بن محمد بن أحمد آل عصفور الدرازي البحراني ، عالم فقيه محدّث ، كان يضرب به المثل في قوّة الحافظة ، ملازماً للتدريس والتصنيف والمطالعة والتأليف ، له مؤلّفات عديدة منها : ( الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع ) ، و ( الرواشح السبحانية في شرح الكفاية الخراسانية ) و ( سداد العباد ) و ( الفرحة الأُنسية شرح النفحة القدسية ) .. يروي عن أبيه الشيخ محمد وعن عمَّيْه الشيخ يوسف والشيخ عبد علي ، ويروي عنه جماعة كثيرة منهم الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي. توفي قدس‌سره ليلة الأحد الحادية والعشرين من شهر شوّال سنة ١٢١٦ هـ. أنوار البدرين : ٢٠٧ ٢١١.

(٥) الشيخ أحمد بن زين الدين بن إبراهيم الأحسائي البحراني ، من مصنّفاته كتاب ( شرح الزيارة الجامعة الكبيرة ) و ( الفوائد ) و ( شرح الحكمة العرشية ) للملّا صدرا ، وغيرها كثير. توفي سنة ١٢٤٢ هـ.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٦ / ٣٥.

(٧) الأمالي ( للصدوق ) : ٥٦ / ١١.

١٠٠