الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

الجواب عن التأسّي

والجواب عن الرابع : أوّلاً باختصاص التأسّي بما لم يُعلم وجهه لا ما عُلم.

وثانياً بملازمتهم عليهم‌السلام على المستحبّات ، ولا سيّما المؤكّدات ، كملازمتهم على الواجبات ، حتى إنّهم يعدّون الاشتغال بالمباحات من الذنوب ، فيستغفرون عنها علّام الغيوب ؛ لمنافاتها الإقبال بالكلّيّة على المحبوب.

وثالثاً بما قيل من عدم شمول أدلّة التأسّي للمقام ؛ لعدم ثبوت قراءتهم في الأُخريات ، فينتفي موضوع الجهر بالبسملات.

وفيه : أنّه لا يتمّ بالنسبة الى الأخبار الدالّة على الإجهار من حيث إقامة الشعار وإنْ تمّ في ما يُدّعى ظهوره في الأُوليات من الأخبار ، وهذا بحمد الله واضح المنار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

أمّا ما أجاب بعض الفضلاء المعاصرين من خلوِّ الأخبار الكثيرة الواردة في مقام البيان ، من ذكر الجهر بالبسملة بالكلّيّة ، كصحيح ابن قيس (١) ومُعْتبر أبي خديجة (٢) ، وابن حازم (٣) ، وابن عمّار (٤) ، وغيرها من الأخبار ، حيث تضمّنت الأمر بالقراءة من غير تعرّض للجهر بالبسملة فغير نصٍّ في المراد :

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّ الأحكام لا تؤخذ من مقام واحد.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ الجهر بها لمّا كان من شعارهم ومعلوماً عندهم يحتاج إلى بيانه ، فلا يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بل ولا الخطاب.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأنّه لو دلّ على عدم الوجوب لدلّ على عدم التحريم وعدم الاستحباب ، ومنع الاشتراك واضح الفساد ، وظاهر الكساد.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٩٧ / ٣٦٢ ، الوسائل ٦ : ١٢٥ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٥١ ، ح ٩.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٧٥ / ٨٠٠ ، الوسائل ٦ : ١٢٦ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٥١ ، ح ١٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٩٩ / ٣٧١ ، الوسائل ٦ : ١٢٦ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٥١ ، ح ١١.

(٤) التهذيب ٢ : ١٤٦ / ٥٧١ ، الوسائل ٦ : ١٢٥ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٥١ ، ح ٨.

٣٨١

وأمّا رابعاً ؛ فلأنّ هذه الأخبار إنّما سيقت جواباً للسؤال عن قضية شخصيّة ، هي ثبوت القراءة أو نفيها ، أو بياناً ابتدائيّاً لمحلّها ، من دون تعرّض للجهر والإخفات بها ، أو ببعض أجزائها ، والله العالم العاصمُ من عثرات الألسنة وأهفائها.

٣٨٢

المبحث الثالث

في الاستدلال على القول الثالث

ولنكتفِ في ذلك بما في ( السرائر ) ؛ لأنّه معتمد الأواخر.

قال المحقّق العلي الشيخ محمّد بن إدريس الحلّي في كتابه ( السرائر ) : ( فأمّا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الركعتين الأخيرتين فلا يجوز ؛ لأنّ الأخيرتين لا تتعيّن فيهما القراءة ، وإنّما الإنسان مخيّر بين التسبيح والقراءة.

والدليل على ذلك : أنّ الصلاة عندهم على ضربين ، جهريّة وإخفاتيّة. فالإخفاتيّة الظهر والعصر ، فإنّ الجهر بالبسملة في الركعتين بالأُوليين مستحبّ ؛ لأنّ فيهما تتعيّن القراءة ، فأمّا الأخيرتان فلا تتعيّن فيهما القراءة. والصلاة الجهريّة الصبح والمغرب والعشاء الآخرة ، فإنّ الجهر بالبسملة واجبٌ كوجوبه في جميع الجمل ، فأمّا الأخيرتان فلا يجوز الجهر بالقراءة إن أرادها المصلّي ، فقد صار المراد بالجهر الركعتين الأُوليين دون الأخيرتين ، ولا خلاف بيننا في أنّ الصلاة الإخفاتيّة لا يجوز فيها الجهر بالقراءة ، والبسملة من جملة القراءة ، وإنّما ورد في الصلاة الإخفاتيّة التي تتعيّن فيها القراءة ، ولا تتعيّن القراءة إلّا في الركعتين الأُوليين فحسب.

وأيضاً طريق الاحتياط يوجب ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين ؛ لأنّه لا خلاف بين أصحابنا بل بين المسلمين في صحّة صلاة من لا يجهر بالبسملة في الركعتين الآخرتين ، فمن ادّعى استحباب الجهر في بعضها وهو البسملة فعليه الدليل.

فإنْ قيل : عموم الندب بالاستحباب بالجهر في البسملة.

قلنا : ذلك في ما تتعيّن وتتحتّم القراءة فيه ؛ لأنّهم قالوا : يستحبّ الجهر بالبسملة في ما تجب القراءة فيه في الإخفات ، والركعتان الأخيرتان خارجتان عن ذلك. وقد

٣٨٣

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي قدس‌سره في جُمَله وعقُوده ، في قسم المستحبّ : ( والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الموضعين ) (١) ، يريد بذلك الظهر والعصر ، فلو أراد الأخيرتين من كلّ فريضة لما قال : ( الموضعين ) بل كان يقول ( المواضع ).

وأيضاً فلا خلاف في أنّ مَنْ ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين لا يلحقه ذمّ لأنّه ؛ إمّا أن يكون مسنوناً على قول في المسألة ، أو غير مسنون على قولنا ، وفي كلا الأمرين لا ذمّ على تاركه ، وما لا ذمّ في تركه ويخشى في فعله أنْ يكون بدعة ومعصية يستحق بها الذمّ ، ومفسداً لصلاته ، فتركه أوْلى وأحوط في الشريعة.

وأيضاً ، فقد ورد في ألفاظ الأخبار عن الأئمّة الأطهار تنبيهٌ على ما قلناه ، أوْرَدَ ذلك حرِيز بن عبد الله السجستاني في كتابه وهو حريز ، بالحاء غير المعجمة ، والراء غير المعجمة ، والزاي المعجمة ، وهو من جملة أصحابنا ، وكتابه معتمدٌ عندهم ، قال فيه : ( وقال زرارة : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « لا تقرأ في الركعتين الأخيرتين من الأربع ركعات المفروضات شيئاً ، إماماً كنت أو غير إمام ». قلتُ : فما أقول فيهما. قال : « إنْ كنت إماماً فقل : سُبحان الله والحمد لله ولا إلهَ إلّا الله والله أكبر. ثلاث مرّات ، ثم تكبّر وتركع. وإنْ كنت خلف إمامٍ فلا تقرأ شيئاً في الأُوليين وأَنصت لقراءته ، ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين فإنّ الله عزوجل يقول للمؤمنين ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني في الفريضة خلف الإمام ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (٢) والآخرتان تبع للأوليين ».

قال زرارة : قال أبو جعفر عليه‌السلام « كان الذي فرض على العباد عشراً فزاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبعاً ، وفيهن السهو وليس فيهن قراءة ، فمَنْ شكّ في الأُوليين أعاد حتى يحفظ ويكون على يقين ، ومَنْ شكّ في الآخرتين عمل بالوهم » ، فليلحظ قوله : « وليس فيهن قراءة » ) (٣) انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول ـ ومن الله التوفيق لارتقاء سلّم الوصول ـ : لا يخفى على مَنْ ذاق من حدائق

__________________

(١) الجمل والعقود ( الطوسي ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ٣ : ٣٥٤.

(٢) الأعراف : ٢٠٤.

(٣) السرائر ١ : ٢١٨ ـ ٢٢٠.

٣٨٤

السداد وشرب بكأس الرشاد أنّ ما نسجتْه يدُ فهمه الوقّاد وفكره النقّاد لا يشفي علّة عليل ، ولا يبُلُّ غُلّة صادٍ ، بل هو كنسيج العنكبوت ، ( وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ) (١).

أمّا قوله : ( لأنّ الأخيرتين لا تتعيّن فيهما القراءة وإنّما الإنسان مخيّر بين التسبيح والقراءة ).

ففيه : أنَّ التعيين والتخيير لا مدخل لهما في الجهر والإخفات حتى يستلزم التعيينُ الجهرَ ، والتخييرُ الإخفاتَ ، وأيّ ملازمة بينهما لزوماً بيّناً أو غيره ، فإنّ التكليف فِعْلُه تعالى ، وأفعاله تعالى معلّلة بالأغراض والمصالح كما هو مذهب العدليّة (٢) ، وتلك المصلحة ؛ إمّا جليّة أو خفيّة ، فعلى الأوّل يلزم معلوميّتها لكلّ عاقل ولا اختصاص لها بأحد دون آخر. وعلى الثاني يلزم خفاؤها كذلك ، إذ الجلاء والخفاء حقيقتان متضادّتان ، لا يجتمعان ولا يرتفعان.

وحينئذٍ ، فالمصلحة المقتضية للفرق بين مواضع التعيين والتخيير ؛ إمّا جليّة أو خفيّة ، إذ لا واسطة لما عرفت ، فعلى الأوّل يلزم ما لا يجوز اعتقاده من خطأ علماء الإماميّة غير ابن إدريس ، بل فسقهم حيث علموا العلّة المقتضية للفرق المذكور ولم يعملوا بمقتضاها ، وإنْ كانت خفيّة فلا سبيل لابن إدريس عليها دون غيره من الإماميّة ، لكنّا نقول : إنّ العلّة المقتضية للجهر شاملة للموضعين ؛ لأنّها ؛ إمّا إقامة الشعار ، أو اقتضاء الدليل. فإنْ قيل بالأوّل ، قلنا : إنّ إقامة الشعار كما اقتضت الجهر في الأُوليين اقتضته في الأخيرتين ، فما الداعي لحصره في الأُوليين مع عمومه لما عداهما.

فإنْ قيل : إنّ الداعي للحصر هو أنّ المطلوب عدم خلوّ الصلاة من الجهر ، وهو يتحقّق بالجهر في الأُوليين ، فليخصّ بهما لموضع اليقين.

قلنا : إذا كان المطلوب هو عدم خلوّ الصلاة من الجهر ، فهو يتحقّق بالجهر ببسملة

__________________

(١) العنكبوت : ٤١.

(٢) كشف المراد ( العلّامة ) : ٣٠٦.

٣٨٥

الفاتحة دون السورة ، أو بالعكس ، وبالجهر في ركعة دون أُخرى من الأُوليين ، بل أو الأخيرتين ، إذ كما وقع الخلاف من ابن إدريس (١) في الأخيرتين وقع من ابن الجنيد (٢) في الأُوليين ، فالاعتداد بخلاف أحدهما دون الآخر ممّا لا وجه له ، مع أنّ الشهيد قد أثنى على ابن الجنيد بما لا مزيد عليه في مسألة حرمان الزوجة في الجملة من شي‌ءٍ من أعيان التركة ، فإنّه قال : ( والنظرُ إلى ابن الجنيد بمعلوميّة أصله فلا يقدح في الإجماع معارضٌ بمثله في الجانب الآخر ، فإنّه لا يعلم موافقٌ للمرتضى أصلاً ، فضلاً عن مماثل لابن الجنيد ، العزيز المثل في المتقدّمين بالتحقيق والتنقيب ، يعرف ذلك من اطّلع على كلامه ) (٣) انتهى كلامه ، علت في الخلد أقدامه.

وقد وصفه المحقّقون من علماء الرجال (٤) بأنّه شيخ الإماميّة وكبيرهم ، وأنّه ثقة جليل القدر ، وأنّه وجه في أصحابنا ، وما رُمي به من الطعن لم يثبت ، مع أنّ ابن إدريس أيضاً لم يسلم.

وحينئذٍ ، فلا وجه لتخصيص الأُوليين بموضع اليقين ؛ لوقوع الخلاف في الموضعين.

وإنْ قيل بالثاني حصل المطلوب أيضاً ؛ لعموم الدليل ، اللهمّ إلّا أنْ يريد بفرقه بين مواضع التعيين والتخيير انصراف أدلّة الجهر لموضع التعيين ، فيتّجه عليه حينئذٍ منع ذلك الانصراف ؛ لتوقّفه على غلبة الاستعمال المفقود عند الإنصاف.

وأمّا قوله : ( والدليل على ذلك ) .. إلى آخره.

ففيه : أوّلاً : أنّ الدليل لا يقتضيه.

وثانياً : أنّ ما فرّعه عليه عين المتنازع فيه.

وأمّا قوله : ( فالصلاة الإخفاتيّة الظهر والعصر إلى قوله والصلاة الجهريّة الصبح والمغرب والعشاء الآخرة ).

__________________

(١) السرائر : ٢١٨.

(٢) عنه في المختلف ٢ : ١٥٣ ، فتاوى ابن الجنيد : ٥٦.

(٣) المسالك ١٣ : ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٤) رجال النجاشي ٢ : ٣٠٦ / ١٠٤٨ ، خلاصة الأقوال : ٢٤٥ / ٨٣٤.

٣٨٦

ففيه : أنّه ؛ إمّا أن يريد انحصار الإخفات في الظهرين مطلقاً ، والجهر في البواقي مطلقاً ، كما يظهر من أوّل كلامه ، أو انحصارهما في الأوّليّات كما يقتضيه آخره. وكلاهما خلاف مرامه ، إذ على الأوّل يلزمه عدم جواز الجهر في الظهرين مطلقاً ، وعدم جواز الإخفات كذلك ، وكلاهما خلاف الإجماع منقولاً ومحقّقاً. وعلى الثاني يلزمه التزام التخيير بين الجهر والإخفات في جميع الركعات الأُخريات ، وهو وإنْ التزمه في التسبيح لكنّه مطالب فيه وفي الفرق بين التسبيح والقراءة بالدليل الصريح التام ، وقد عرفت عدم مدخليّة التعيين والتخيير في الجهر والإخفات.

وأمّا قوله : ( فقد صار المراد بالجهر الركعتين الأُوليين دون الآخرتين ) ، فقد عرفت بناءه على شفا جرفٍ هارٍ ، فيسقط عن درجة الاعتبار ، مع أنّه يلزمه سقوط الصبح من البين ؛ لعدم دخولها في موضوع الأوليين. فظهر أنّ دليله قاصر ، وحصره غير حاصر.

وأمّا قوله : ( ولا خلاف بيننا في أنّ الصلاة الإخفاتيّة لا يجوز فيها الجهر بالقراءة ، والبسملة من جملة القراءة ، وإنّما ورد في الصلاة الإخفاتيّة التي تتعيّن فيها القراءة ).

ففيه : أوّلاً : أنّه مجرّد تطويل بلا طائل ، ولا يرجع إلى نائل ، فإنّ مقتضى النصّ العامّ الدالّ على الجهر بها مطلقاً في جميع الصلاة ، ومن حيث هي في جميع الأحوال ، كخبر علامات المؤمن (١) وغيره ، شمول الجهر بها للأخيرتين ، ومدّعي التخصيص عليه الدليل ، إذ التخصيص بلا مخصّص مرعى وبيل ، وقد عرفت عدم المدخليّة للتعيين والتخيير في الجهر والإخفات.

وثانياً : أنّ نفيه الخلاف محض جزاف وخراف ، فانّ قبله ابن الجنيد والسيّد المرتضى وجماعة من متأخّري المتأخّرين كما في ( شرح المفاتيح ) قائلون بالتخيير وعدم وجوب الجهر والإخفات في مواضعهما.

قال السيّد المرتضى نقلاً عنه في ( المصباح ) : ( هو يعني الجهر والإخفات من

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٥٢ / ١٢٢ ، الوسائل ٥ : ٨١ ، أبواب أحكام الملابس ، ب ٤٩ ، ح ١.

٣٨٧

السنن الأكيدة ، حتى يروى : إنّه مَنْ تركهما عمداً أعاد (١).

وقال ابن الجنيد نقلاً عنه في كتابه ( الأحمدي ) : ( لو جهر بالقراءة في ما يخافت ، أو خافت في ما يجهر جاز ، والاستحباب ألّا يفعل ذلك ) (٢) انتهى.

وثالثاً : أنّ الإجماع على وجوب الإخفات في أخيرتي الإخفاتيّة قائم على وجوبه في أُولييها ، وقد استثنوا منه البسملة. وقد عرفت حصول الإجماع ونقله على عموم الجهر بها ، وحصول الخلاف من ابن الجنيد في أُوليي المنفرد ، فما جرى في الأخيرتين فهو بعينه في الأُوليين ، فالجواب الجواب ، والله الهادي للصواب.

وأمّا قوله : ( وأيضاً طريق الاحتياط يوجب ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين ).

ففيه : أوّلاً : أنّه لا داعي للاحتياط هنا ، إذ مع فقد الدليل على وجوب الإخفات لا يمكن القول بتوقّف يقين البراءة عليه ، إذ مجرّد خلاف واحدٍ لا يستلزم الاحتياط وعدم يقين البراءة ، كما لا يخفى على محصّل ، وإلّا لوجب الإخفاتُ للمنفرد في أُوليي الإخفاتيّة ، خروجاً من خلاف ابن الجنيد ، لكن لا قائل به ، مع أنّ بعض المحقّقين (٣) صرّح بأنّ الاحتياط في الجهر بها لدوران الأمر بين الوجوب والاستحباب ، لضعف دليل التحريم عنده ، بل لعدم الاعتداد به.

وثانياً : أنّ مورد أخبار الاحتياط إنّما هو قيام الدليل من الطرفين ، مع تعارضهما وعدم المرجّح في البين ، ويقين اشتغال الذمّة بشي‌ءٍ ، وتوقّف يقين البراءة على الأخذ به.

فمن الأوّل : ما رواه ابن أبي جمهور في ( الغوالي ) عن العلّامة رفع الله مقامه مرفوعاً عن زرارة ، قال : سألتُ الباقر عليه‌السلام ، فقلت : جعلت فداك يأتيني عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان؟ فقال عليه‌السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر .. » ، ثم ذكر الترجيح بالأوثقيّة ، والأعدليّة ، ومخالفة مذهب العامّة العميّة الغويّة. ثم قال

__________________

(١) عنه في المعتبر ٢ : ١٧٦.

(٢) عنه في المختلف ٢ : ١٥٣.

(٣) رياض المسائل ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

٣٨٨

السائل. فقلت : ربّما كانا موافقين لهم ، أو مخالفين ، فكيف أصنع؟ فقال : « خذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط » (١).

وأنت خبير بأنّه لم يأمر بالاحتياط إلّا مع التساوي في جميع وجوه التراجيح ، وما هنا ليس كذلك ؛ إذ الجهر موافق لشعار الإماميّة ، ومخالفٌ لتلك الفرقة الغويّة. نعم ، لو اشتركا فيه اتّجه ما قاله ، وليس فليس.

ومن الثاني : مكاتبة عبد الله بن وضّاح ، قال كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ، ثمّ يزيد الظلام ارتفاعاً ، وتستتر عنّا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذّن المؤذّنون ، فأصلي حينئذٍ وأفطر إنْ كنت صائماً ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟.

فكتب عليه‌السلام إليَّ : « أرى لك أنْ تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ الحائطة لدينك » (٢).

وصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألتُ أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاءُ عليهما ، أم على كلّ واحدٍ منهما؟ قال : « لا ، بل عليهما أنْ يجزي كلّ واحد منهما عن الصيد ».

قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدرِ ما عليه ، فقال : « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط » (٣).

ولا يخفى أنّ مورد المكاتبة هو اشتغال الذمّة بالصيام والصلاة في وقتها ، ولا يحصل يقين البراءة بالإفطار والصلاة قبل زوال الحمرة ؛ لاحتمال عدم دخول الوقت ، واستصحاب بقاء النهار. وعند زوالها يحصل يقين البراءة إنْ لم يحكم بمجرّد الاستتار. فموردها توقّف البراءة على أمر واحد ممكن الحصول ، وما نحن فيه ممّا توقّف فيه اليقين على الإتيان بأمرين متباينين ، ولا يخفى الفرق في البين على ذي عين.

__________________

(١) غوالي اللئلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٥٩ / ١٠٣١ ، الوسائل ٤ : ١٧٦ ـ ١٧٧ ، أبواب المواقيت ، ب ١٦ ، ح ١٤.

(٣) الكافي ٤ : ٣٩١ / ١ ، الوسائل ١٣ : ٤٦ ، أبواب كفارات الصيد ، ب ١٨ ، ح ٦.

٣٨٩

ومورد الصحيحة اشتراك رجلين في قتل صيدٍ حرمي ، فذمّة كلٍّ منهما مشتغلة بالكفّارة ، لكن لم يعلما : هل هي كفّارة واحدة عن الكلّ ، أو على كلّ واحد كفّارة؟.

ولا يخفى على ذي تحصيل أنّ المتنازع فيه ليس من هذا القبيل ، ولا انسلاك له في سلك هذا السبيل ، إذ موردها الشكّ في الحكم الشرعي مع التمكّن من العلم والامتثال التفصيلي ؛ لقوله عليه‌السلام : « إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط ، حتى تسألوا وتعلموا » ، مع أنّ ظاهرها الاحتياط بالكفّ عن العمل ، والتوقّف عن الإفتاء حتّى يسأل. وأين هذا المقام ممّا نحن فيه ، كما لا يخفى على نبيه؟!.

وما ورد من الأخبار مطلقاً في الأمر بالاحتياط ، كقوله عليه‌السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك » (١) و « دع ما يريبك » (٢).

فما فيها من الإجمال أوجب حملها على المبيّن بلا إشكال.

فعُلِمَ أنّ مقتضى هذين الصحيحين وغيرهما من الأخبار أنّ المصير إلى الاحتياط أنّما يجب إذا لم يترجّح في نظر الفقيه أحد القولين ولهذا يُفتي بخلاف الاحتياط ، ولو وجب مطلقاً لما ساغ له التعدّي عمّا فيه الاحتياط إلى غيره مطلقاً. هذا ، مع قضاء البداهة بأنّ أُولئك الأبرار عارفون بمواقع الاحتياط ، مطّلعون على القواعد الفقهيّة ، فلو عرفوا مدخلاً للاحتياط لَما جازوا سواء ذلك الصراط.

فانْ قيل : إنّ ما نحن فيه مندرج تحت هذين الأصلين ، وجزئي من جزئيات ذينك الكليّين.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ ما دلّ بإطلاقه على الجهر بالبسملة معارض بما دلّ بإطلاقه على وجوب الإخفات في الأخيرتين.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ شغل الذمّة بالصلاة الصحيحة معلومٌ ، فيتوقّف يقين الفراغ منها على المصحّح المعلوم ، وهو بالنسبة للإخفات معدوم.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ١١٠ / ١٦٨.

(٢) الذكرى : ١٣٨ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٣.

٣٩٠

قلنا : أمّا الأوّل فقد مرّ عليك الجواب عنه مجملاً ، وسيأتي الجواب عنه أيضاً في المبحث السادس مفصّلاً.

وأمّا الثاني فتعرف الجواب عنه أيضاً ممّا مرّ مراراً متعدّدة في مواضع متعدّدة ، إلّا أنّا نزيده هنا إيضاحاً ، ونفصح عنه إفصاحاً ، ليتّضح الحقّ صراحاً ، فنقول :

الجواب عنه : أمّا بالنقض بوجهين :

الأوّل : أنّه يلزم مثله في جهر المنفرد بالأُوليين ، لما علم من منع ابن الجنيد منه ، فلم يكن فراغ الذمّة بالجهر فيهما يقينيّاً. والجواب الجواب ، إجماليّاً وتفصيليّاً.

الثاني : أنّه رحمه‌الله كما جعل الاحتياط في الإخفات جعل غيره الاحتياط في الجهر ، فكما لا يقين بالإجهار كذا لائقين بالإسرار ، لصيرورة المسألة حينئذٍ من باب دوران الشي‌ء المشكوك فيه بين الشرطيّة والمانعيّة ، فلا يكفي فيه الاحتياط بالإخفات فقط ، بل ؛ إمّا أن يحكم بالتخيير بين الجهر والإخفات ، بمعنى الصلاة بأحدهما لا بقيد الخصوصيّة ، كما لعلّه ظاهر الأكثر ، أو بتكرارها مرّتين كما صرّح به شيخنا المرتضى قدس‌سره في ( فرائد الأُصول ) (١) في الوجه الأخير بعد التخيير ، أو بتكرار البسملة خاصّة ، كما ذكره شيخنا وأستاذنا المبرّء من الشين الشيخ محمّد حسين الكاظمي منبعاً ، والنجفي موضعاً ، وسيأتي وجههما في المبحث السادس.

وأمّا بالحلّ في ما سيأتي إنْ شاء الله في المبحث السادس أيضاً مفصّلاً.

وأمّا قوله : ( لأنّه لا خلاف بين أصحابنا بل بين المسلمين في صحّة صلاة من لا يجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين ).

ففيه من الغرابة ما لا يخفى على أديب ، ومَنْ حاز من المعرفة أوفر نصيب ، لما عرفت من أنّ ابن البرّاج (٢) وأبا الصلاح (٣) وجماعةً أوجبوا الجهر بها في ما يخافت فيه مطلقاً ، فتكون البسملة عندهم من المواضع الجهريّة ، وهم قد حكموا ببطلان

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٥٠٢ ـ ٥٠٣.

(٢) المهذّب ١ : ٩٧.

(٣) الكافي ( أبو الصلاح ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ٣ : ٢٦٣.

٣٩١

صلاة مَنْ أخفت فيها ، كما هو المشهور قديماً وحديثاً بين الإماميّة ، وليس دعواه الإجماع هنا بأغرب من دعواه إيّاه من عدم تحقّقه في مواضع :

منها : دعواه الإجماع (١) على وجوب إخراج الفطرة عن الزوجة غير الواجبة النفقة. مع أنّه لم يقل به من علماء الإسلام أحد سواه ، كما صرّح به جملة منهم المحقّق (٢) وغيره ، والأصحاب على التقييد بحال العيلولة تبرّعاً.

ومنها : دعواه الإجماع (٣) على استحباب الغسلة الثانية في الوضوء مطلقاً. مع مخالفة الجمّ الغفير من الأصحاب كالشيخين الجليلين : ثقة الإسلام (٤) ، والصدوق (٥) ، وقَبْلهما الثقة الجليل أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي في جامعه (٦).

ومنها : دعواه الإجماع على المضايقة في قضاء الفوائت ، حتى إنّه قال : ( أطبق الإماميّة عليه خلفاً عن سلف ، وعصراً بعد عصر ، وأجمعت على العمل به ) (٧). مع انتشار صيت هذا الخلاف ، الذي ليس له ائتلاف قديماً وحديثاً بين العلماء الأشراف.

ومنها : دعواه الإجماع كما نقل عنه (٨) على نزح البئر أجمع بموت الكافر ، مع أنّه لم ينقل عن غيره.

ومنها : دعواه الإجماع (٩) من المؤالف والمخالف على طهارة الماء النجس بإتمامه كرّاً ، وعلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا بلغ الماء كرّاً لم يحمل خبثاً »(١٠).

مع أنّ المحقّق قدس‌سره قال في ردّ الدعوى الأُولى : ( لم نقف على هذا في شي‌ء من كتب الأصحاب ، ولو وجد كان نادراً ، بل ذكره المرتضى في مسائل متفرّقة ، وبعده اثنان أو ثلاثة ممّن تابعه ، ودعوى مثل هذا إجماعاً غلطٌ ).

__________________

(١) السرائر ١ : ٤٦٦.

(٢) المعتبر ٢ : ٦٠١ ـ ٦٠٢.

(٣) السرائر ١ : ١٠٠.

(٤) الكافي ٣ : ٢٧ / ذيل الحديث ٩.

(٥) الفقيه ١ : ٢٩ / ذيل الحديث ٩٢.

(٦) عنه في السرائر ٣ : ٥٥٣.

(٧) عنه في غاية المراد ١ : ١٠٢.

(٨) المدارك ١ : ٧٦ ، السرائر ١ : ٧٣.

(٩) السرائر ١ : ٦٣.

(١٠) غوالي اللئالئ ١ : ٧٦ / ١٥٦ ، مستدرك الوسائل ١ : ١٩٨ ، كتاب الطهارة ، ب ٩ ، ح ٣٤١.

٣٩٢

وفي ردّ الدعوى الثانية : ( إنّا لم نروه مسنداً ، والذي رواه مرسلاً المرتضى ، والشيخ أبو جعفر ، وآحاد ممّن جاء بعده ، والخبر المرسل لا يعمل به ، وكتب الحديث عن الأئمّة خالية عنه أصلاً. وأمّا المخالفون فلم أعرف به عاملاً سوى ما يُحكى عن ابن حيّ ، وهو زيديّ منقطع المذهب ، وما رأيت أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف والمؤالف في ما لا يوجد إلّا نادراً ) (١). انتهى.

وبمثل هذا جرى قلم ثالث المحقّقين في ( المعالم ) قائلاً : ( إنّ الخبر غير مرويّ في كتب الأخبار ، بل هو من الأحاديث المرسلة ، التي لا تعويل عليها ، ودعواه الإجماع على العمل بمضمونه من المخالف والمؤالف عجيبة ) انتهى.

ومنها : دعواه الإجماع (٢) على منع قتل المسلم المعتاد لقتل أهل الذمّة بالذمي ، بعد ردّ فاضل ديته ، محتجّاً بالإجماع على عدم قتل المسلم بالكافر. مع أنّ الشهيد الأوّل قال في شرح الإرشاد بعد نقله الإجماع عن المرتضى قدس‌سره ما لفظه : ( والحقّ أنّ هذه المسألة إجماعيّة ، فإنّه لم يخالف فيها أحد سوى ابن إدريس ، وقد سبقه الإجماع ، ولو كان هذا الخلاف مؤثّراً في كلّ الإجماع لم يوجد إجماع أصلاً ، والإجماع على عدم قتل المسلم بالكافر يختصّ بغير المعتاد ). انتهى كلامه ، زِيد إكرامه.

إلى غير ذلك من الإجماعات التي لا يلتئم لها شتات ، وذلك لأنّ الظاهر من طريقته في نقل الإجماع البناء على المقدّمات النظريّة والاجتهادات الحدسيّة ، فإنّ الظاهر منه أنّما اعتمد في إخباره بإجماع العلماء على وجوب إخراج الفطرة عن الناشز والصغيرة على تدوينهم الروايات الدالّة على وجوب فطرة الزوجة معلّقاً الحكم على الزوجة ، من حيث هي زوجة ، من غير نظر إلى تعليقه على العيلولة ، أو وجوب الإنفاق.

وفي الإجماع على عدم قتل المسلم المعتاد لقتل أهل الذمّة على الإجماع على

__________________

(١) المعتبر ١ : ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) السرائر ٣ : ٣٥٢.

٣٩٣

العمل بعموم القرآن ، كنفي السبيل للكافر على المؤمن ، والعمل بالعامّ أو المطلق من الأخبار ، مع أنّه معارض بإجماعهم على حمل العامّ على الخاصّ ، والمطلق على المقيّد.

وكما نقل إطباق الإماميّة على المضايقة ؛ اعتماداً على إيرادهم الروايات الدالّة على ذلك ، وأنّهم ذكروا : أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته ، بناءً على استلزام ذكر الخبر عمل الذاكر ، وعلى ظنّه دلالة تلك الأخبار عند أُولئك الأخيار على الوجوب ، وأنّ رواة تلك الروايات موثوق بهم عند أُولئك السراة.

ولا يخفى أنّ هذه المقدّمات الثلاثة لا تستلزم هذا المطلوب بالإثبات :

أمّا الأُولى ، فهي وإن كانت غالبةً ، لكن لا تستلزم القطع ؛ للقطع بتخلّفها في كثير من الموارد ، فمرجعها إلى الاستقراء الناقص ، وحاله غير خفيّ على أهل الفن. على أنّ كثيراً ممّن ذكر أخبار المضايقة قد أورد أخبار المواسعة ، فلو استلزم مجرّد الإيراد للعمل لزم الجمع بين النقيضين.

وأمّا الثانية ؛ فلأنّ دلالتها على الوجوب عنده لا تستلزم دلالتها عندهم عليه ، إذ لعلّهم فهموا منها بالقرائن الخارجيّة تأكّد الاستحباب.

وأمّا الثالثة ؛ فلأنّ وثوقه بأُولئك الرواة لا يستلزم الوثوق بهم عند أُولئك السراة.

وكما نقل الإجماع على نزح البئر كلّه لموت الكافر ؛ استناداً إلى فتواهم بنزحه لو وقع حيّاً ، مع أنّ القائلين بذلك الحكم هم الفارقون بين الموت والحياة ؛ وقوفاً على ظاهر النصّ المقتضي للفرق ، ولا يخفى أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ إجماعهم على وجوب الإخفات في الأخيرتين لا يستلزم دخول البسملة في ذلك ؛ لتصريح أُولئك المجمعين بخروج حكم البسملة من البين.

وما أحسن ما قاله بعض الأعلام في هذا المقام ، حيث قال : ( إنّ الاتّفاق على لفظٍ مطلق شامل لبعض أفراده الذي وقع فيه الكلام لا يقتضي الإجماع على ذلك الفرد ؛ لأنّ المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللفظ ما لم يكن معلوماً من القصد ، لأنّ الإجماع

٣٩٤

مأخوذ من قولهم : أجمع على كذا ، إذا عزم عليه ، فلا يدخل في الإجماع على الحكم إلّا مَنْ علم منه القصد إليه ، كما إنّا لا نعلم مذهب عشرة من الفقهاء الذين لم ينقل مذهبهم لدلالة عموم القرآن وإنْ كانوا قائلين به ) انتهى ، وهو كلام متين ، بل جوهر ثمين.

والحاصل : أنّ من تتبّع إجماعات ابن إدريس وجدها من هذا القبيل ؛ لاستناده في كشف الإجماع عن قول المعصوم إلى الملازمات غير المعلومة اللزوم ، والمقدّمات النظريّة ، والاجتهادات الحدسيّة ، الذي لا يخفى خطأ كثير منها على ذي رويّة ، وإذا كان هذا حاله في نقل الإجماعات ، كيف يركن إلى إجماعاته المدّعاة بغير شاهدٍ قويّ ، ودليل جليّ؟! ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ.

وأمّا قوله : ( فمن ادّعى استحباب الجهر في بعضها وهو البسملة فعليه الدليل ).

ففيه : أنّ ما دلّ على الإخفات في الأُوليين دلّ عليه في الأخيرتين ؛ لعدم المصحّح أو المرجّح للتخصيص بأحد الموضعين.

وأمّا قوله : ( فإنْ قيل : عموم الندب باستحباب الجهر بالبسملة ، قلنا : ذلك في ما تتعيّن وتتحتّم فيه القراءة ).

ففيه : ما مرّ من عدم مدخليّة التعيين للتخصيص والترجيح ، فترجيحه الأوليين وتخصيصهما ترجيح لأحد المتساويين بلا مرجّح ، وتخصيص للعامّ بلا مخصّص ، وكلاهما من البطلان بمكان ، كما يحكم به الوجدان ومستقيم الأذهان ؛ لما شاع وذاع ، وملأ الأسماع ، وطبق الأصقاع والبقاع ، من أنّ جمّا غفيراً من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ومنهم الأربعة آلاف من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، غير سائر الأئمّة عليهم‌السلام ، كانوا ملازمين لهم عليهم‌السلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكانت همّتهم وهمّة أصحابهم إظهار شعائر الدين ، وترويج شريعة سيّد المرسلين ، وكانوا يكتبون كلّ ما يسمعونه من أئمّتهم في دفاترهم ، خوفاً من آفة النسيان ، وحرصاً على ما يرشح من تيّار أُولئك الأعيان.

وكانوا عليهم‌السلام يحثّونهم على سلوك تلك المسالك ، وترويج تلك المدارك ، فلو وجد

٣٩٥

المخصّص لنقل ، ولو نقل لوصل ، والاستناد إلى تلف تلك الأُصول منهار القواعد والأصول ، ولا يرجع إلى محصول ؛ إذ التلف أنّما حدث بعد جمع ما يحتاج إليه منها في هذه الكتب المتداولة ، والاستغناء بها عنها ؛ لكونها أسهل للمتناول ، وأقرب ليد المتطاول ، كما صرّح به جمع من الأفاضل من الأواخر والأوائل. ولقد بقي جمٌّ غفير وغدير من ذلك اليمّ الغزير إلى زمن جمال الدين الطاووسي قدس‌سره القدّوسي ، بل إلى زمن هذا الناقل ، وقد استطرف جملة منها في آخر كتابه ( السرائر ) ، الذي أقبل عليه حال تأليفه بالشراشر ، ولم يذكر ما نقله في جملة ما استطرفه.

وليت شعري ما المرجّح لنقلهم : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا صلّى جهر ببسم الله الرحمن الرحيم (١) ، وإنّ الصادق عليه‌السلام إذا كانت صلاة لا يجهر فيها بالقراءة جهر ببسم الله الرحمن الرحيم (٢) .. إلى غير ذلك ممّا يدلّ على التعميم ، دون أنْ ينقلوا التخصيص بما تعيّنت فيه القراءة ، مع أنّ هذا الحكم ممّا تعمّ به البليّة بين الفرقة الناجية الإماميّة ، لتكرّره في الأوقات الليليّة والنهاريّة. فلو فرض اشتمالها على ما يدلّ على ذلك الحكم المخصوص ولم ينقلوه مع توفّر الدواعي عليه ، ومسيس الحاجة إليه ، بل توقّفِ امتثال التكليف عليه ، لزم ما لا يجوز نسبته إلى الفرقة الإماميّة ، والإغراء بالجهل بلا مِرية لذي رويّة ، ما هذا إلّا جُزاف وخُراف ، خارج عن جادّة الإنصاف.

فظهر أنّ نقله عنهم عدم الاستحباب في الاخريات ، ناشئٌ ممّا قرّره من حدسه ، وقدّره في نفسه من الأشكال العقيمة ، والنتائج السقيمة ، بتوهّم دلالة الصحيحين المذكورين في آخر كلامه ، ممّا لا دلالة فيه على مرامه ، إذ قصارى ما دلّا عليه ألّا قراءة في الآخريّين. وخروجه عن محلّ النزاع ممّا شاع وذاع ، فإنّا لا نقول بالبسملة حال عدم القراءة ، فضلاً عن الجهر بها ، وليس ذلك من باب الكذب والافتراء ، ولا انتقاص به ولا إزراء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٣١٨ / ٨٧.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٥ / ٢٠ ، الوسائل ٦ : ٧٤ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٢١ ، ح ١.

٣٩٦

وأمّا قوله : ( لأنّهم قالوا يستحبّ الجهر بالبسملة في ما يجب القراءة فيه في الإخفات ، والركعتان الآخرتان خارجتان عن ذلك ).

ففيه : أنّ اعترافه بقولهم باستحباب الجهر في ما يجب فيه الإخفات كافٍ في العموم للآخريّات ، وأمّا إخراجه الركعتين الآخرتين ففيه مضافا لما مرّ ما عرفت ممّا مرّ مراراً من تصريح الفاضلين والشهيدين وغيرهما من المحقّقين بتفرّده بهذا التخصيص ، وأنّ الإجماع قد سبقه ولحقه ، والسبر والوجدان أعدل شاهد لهذا العنوان ، إذ لو وجد المخصّص لنقل ، ولو نقل لوصل ، كما وصل النصّ العامّ بالجهر ؛ لتساويهما في مسيس الحاجة إليهما ، وتوفّر الدواعي عليهما ، وكلّ ما تمسّ الحاجة إليه ويتوقّف التكليف عليه مع عدم المانع يجب إبرازه ، وحيث لم ينقل لم يبرز ، وإذ لم يبرز فلا تكليف ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (١) « كلّ شي‌ء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (٢) ، ولو برز ولم ينقل لزم منه إخلال الرواة والأصحاب ، أو العلماء الأطياب ، واتّصافهم بكتمان العلم المذموم في السنة والكتاب ، الموعود عليه فيهما بشديد العقاب وأليم العذاب.

واطّلاع هذا الشيخ وتبحّره غير منكور ، إلّا إنّه معارض باطّلاع مَنْ كان سابقاً عليه كالمحمّدين الثلاثة الأوائل ، ومَنْ تأخّر عنه كالمحمّدين الثلاثة الأواخر (٣) ، وغيرهم من الأفاضل ، مع حرصهم على جمع شتات الأخبار ، وجدّهم في طلبها آناء الليل وأطراف النهار.

وبانضمام ما قرّروه في الأُصول من عدم جواز العمل بالعامّ إلّا بعد الفحص عن

__________________

(١) غوالي اللئالي ١ : ٤٢٤ / ١٠٩.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧.

(٣) المحمّدون الثلاثة الأوائل هم : محمّد بن يعقوب الكليني صاحب ( الكافي ) ، ومحمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الصدوق صاحب ( مَنْ لا يحضره الفقيه ) ، ومحمّد بن الحسن الطوسي صاحب ( التهذيب ) و ( الاستبصار ).

والمحمّدون الثلاثة الأواخر هم : الفيض محمّد مرتضى الكاشاني صاحب ( الوافي ) ، والحرّ محمّد بن الحسن العاملي صاحب ( الوسائل ) ، والمجلسي محمّد باقر صاحب ( البحار ). راجع معجم الرموز والإشارات : ٣٠٦.

٣٩٧

الخاصّ ، تقضي الضرورة بعدم وجود المخصّص ، وإلّا لزم ارتفاع الحقّ عن أهله إلى زمن التخصيص.

واحتمال عدم وقوفهم على المخصّص مع قربهم من زمن أئمّتهم ومعرفتهم بعرفهم غير سديد ، وقد تحقّق ألّا تخصيص بعد استقرار العمل بالعامّ ؛ لعدم المخصّص.

وأمّا قوله : ( وقد قال شيخنا أبو جعفر الطوسي قدس‌سره في جمله وعقوده ، في قسم المستحبّ : ( والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الموضعين ) ، يريد بذلك الظهر والعصر ).

ففيه : أوّلاً : أنّ هذا ليس له ، بل عليه ، كما لا يخفى على فطن نبيه ، فإنّ الشيخ قدس‌سره حكم باستحباب الجهر بها في الموضعين ، وهو قد فسّر الموضعين بالظهر والعصر ، فينطبق على فتاوى الأصحاب باستحباب الجهر بها في المواضع الإخفاتيّة. وغير خفي على ذكي ما في العبارة من العموم لموضع النزاع ، من غير تخصيص بالأُوليين ؛ إذ لا قائل بالفرق بين آخرتي السريّة المحضيّة والمركّبة. وأمّا على ما فسّرهما شهيد ( الذكرى ) (١) ، وعلّامة ( المختلف ) (٢) بأوّل الحمد وأوّل السورة ، وعلى ما احتملناه من إرادته بالموضعين ما تعيّنت فيه القراءة وما يخيّر فيه بينها وبين التسبيح ، فظهوره في الدلالة على المطلوب لا يخفى على ذي فكرٍ صحيح.

وثانياً : أنّه إنّما يدلّ على مرامه بمفهوم اللقب ، وهو ليس حجّة في صحيح المذهب ، وأمّا القول باعتباره في كلام الفقهاء فهو على إطلاقه ممنوعٌ ، بل الحقّ دورانه مدار قرينة المقال أو المقام ، وهي هنا مفقودة ، بل في حيّز الانعدام.

وأمّا قوله : ( فلو أراد الآخرتين من كلّ فريضة لَمَا قال : الموضعين ، بل كان يقول : المواضع ).

ففيه أوّلاً : أنّ ما ذكره لا يدلّ على المراد ، ولا يبلّ غلّة صادٍ ، أمّا على تفسيره

__________________

(١) الذكرى : ١٩١.

(٢) المختلف ٢ : ١٥٧.

٣٩٨

الموضعين بالظهر والعصر على تقدير تسليمه فهو راجع إلى فتوى الأصحاب كما مرّ آنفاً ، فإنّ الظهر والعصر إخفاتيّتان ، فكأنه قدس‌سره قال : ويستحب الجهر بالبسملة في المواضع السرّيّة ، فيكون ذكر الظهر والعصر تمثيليّاً لا حصريّاً ، فيعلم منه حكم المواضع الباقية ؛ لتساويها في الإخفات فيها. فهو مع ما عرفت من عدم القائل بالفرق ، وأمّا على ما احتملناه فلا إشكال.

وثانياً : أنّ جملة من أفاضل الأذكياء نقلوا عنه قدس‌سره إطلاق القول بالمدّعى من غير تقييد بأحد كتبه ولا نقل العدول عنه ، فيقتضي القول به في ذينك الكتابين ، فهل يليق نسبة الخطأ إلى ذلك الجمّ الغفير من أُولي الفهم والعلم الغزير في عدم فهم مراد الشيخ قدس‌سره إلى زمن ابن إدريس.

وأمّا قوله : ( وأيضاً : فلا خلاف في أنّ مَنْ ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين لا يلحقه ذمّ ) .. إلى آخره.

ففيه : أنّا نمنع عدم الخلاف ؛ لما عُلم من ثبوت القول بالوجوب قديماً وحديثاً ، فيثبت الذمّ على الترك ، كما هو علامة الوجوب.

وأمّا قوله : ( وما لا ذمّ في تركه ويخشى في فعله أن يكون بدعة ومعصية يستحقّ بها الذمّ ومفسداً لصلاته ، فتركه أوْلى وأحوط في الشريعة ).

ففيه : أنّ ما نحن فيه غير داخل في البدعة بوجهٍ ، لأنّها ؛ إمّا ما ليس له أصل في كتاب ولا سنّة ، كما في ( مجمع البحرين ) (١) ، أو ما لم يكن في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو كلّ عبادة لم تشرّع أصلاً ثمّ أُحدثت بغير دليل شرعي ، وكلّ من هذه المعاني غير صادق على المتنازع فيه ، كما لا يخفى على نبيه.

وأمّا الاحتياط فقد عرفت أنْ لا موضع له في ما نحن فيه.

وأمّا قوله : ( وأيضاً : فقد ورد في لفظ الأخبار ) .. إلى آخره.

فقد تقدّم ما فيه مراراً ، بل الصحيح الأوّل ممّا يناقض غرضه ، بل يدلّ على

__________________

(١) مجمع البحرين ٤ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩ بدع.

٣٩٩

المدّعى ويرجّحه ، فإنّ مقتضى تبعيّة الأخيرتين للأُوليين استحباب الجهر بالبسملة في الأخيرتين تبعاً لاستحبابه في الأُوليين ، قضاءً لحقّ التبعيّة ، خصوصاً على قراءة ( تبع ) بالرفع ، وجعل الجملة استئنافيّة ، بل قد قيل : إنّ ظاهره جواز الجهر في الأخيرتين تبعاً للأُوليين ، قضاءً لحقّ التعليل في قوله ك « فإنّ الله عزوجل يقول للمؤمنين ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) (١) » (٢) .. إلى آخره. فإنّ نهيه عن أنْ يقول شيئاً فيهما وأمره بالإنصات للقراءة ، إنّما يكون مع الجهر بالقراءة. وقوله « والآخرتان تبعاً للأُوليين » علّة ثانية للنهي عن القراءة ، فينقض غرضه من عدم جواز الجهر في الأخيرتين أصلاً.

وهذا أحد الوجهين في دلالة الخبر ، وبه استدلّ بعض المتأخّرين على جهر الإمام حتّى بالقراءة في الآخرتين ، ولا يخفى ما فيه من الرين.

والوجه الثاني : أنّ قوله عليه‌السلام : « فإنّ الله عزوجل يقول .. » علّة لترك القراءة في الأُوليين ، وقوله : « والآخرتان تبعاً للأُوليين » علّة لتركها في الآخرتين.

هذا ، وقد احتجّ له أيضاً بعض الفضلاء المعاصرين تبعاً لبعض الفضلاء من متأخّري المتأخّرين (٣) بإشعار بعض الأخبار بالإخفات بها في الأخيرتين ، كخبر ابن سنان المتقدّم ، في حكم قراءة المأموم خلف الإمام ، وفيه : « إذا كنت خلف إمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة حتّى يفرغ ، وكان الرجل مأموناً على القراءة ، فلا تقرأ خلفه في الأُوليين ». قال : « ويجزيك التسبيح في الأخيرتين ». قلت : أي شي‌ء تقول أنت. قال : « اقرأ فاتحة الكتاب » (٤). قال : ( فخفاء فعل الإمام على عبد الله بن سنان ، الذي هو ممّن أكثر الصحبة للإمام ، دليلٌ على أنّ الإمام لا يجهر بشي‌ء في الأخيرتين ، مع أنّه يقرأ فاتحة الكتاب ). وصحيحة زرارة المتقدّمة في كلام ابن إدريس ، حيث قال « والأخيرتان تبعاً للأُوليين » ،

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٤.

(٢) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦٠ ، السرائر ٣ : ٥٨٥ ، وفيه : ( تبع ) ، الوسائل ٨ : ٣٥٥ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٣١ ، ح ٣.

(٣) الجواهر ١٣ : ١٨٤.

(٤) التهذيب ٣ : ٣٥ / ١٢٤ ، الوسائل ٨ : ٣٥٧ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٣١ ، ح ٩.

٤٠٠