الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

التي هي محلّ وجوبهما ؛ لجواز اختصاصها بخصوصيّة تقتضي التفكيك بينها وبين الأذكار ، فيعمل بكلٍّ في مورده وينتفي العثار.

مع أنّه لو جاز الجهر للمسبوق لاختلّ نظم الجماعة في صورة تعدّد المسبوقين بالإجهار. ومع ذلك فإنْ تمّ الإجماع ، وإلّا فللبحث مجال ، وإنْ كان الاحتياط بالإخفات لا يترك بحال.

أمّا مع عدم المتابعة بأنْ خرج الإمام من الصلاة وقام المأموم للركعة التي يجب عليه الجهر فيها فلا إشكال في وجوب الجهر عليه ، وإنْ احتمل في ( الرياض ) : [ العدم (١) ] ضعيفاً بتخيل اختصاص ما دلّ على وجوب الجهر بحكم التبادر بغير مفروضنا ) (٢). ولا يخفى ما فيه.

إذا عرفت هذا ، فقد تبيّن انحصار النزاع في المواضع الإخفاتيّة ، وهي هذه الصور المجموعة في هذا الجدول ، فتأمّله تحصل :

الثنائيّة الإخفاتيّة

المصلّي إمام

المصلّي مأموم

المصلّي منفرد

الأخيرتان من الثلاثية المركبة

المصلّي إمام

المصلّي مأموم

المصلّي منفرد

الأخيرتان من الرباعية المركبة

المصلّي إمام

المصلّي مأموم

المصلّي منفرد

الأخيرتان من الرباعية الإخفاتيّة

المصلّي إمام

المصلّي مأموم

المصلّي منفرد

وقد آن أنْ أشرع في المقصود ، فأقول متوكّلاً على مفيض فيض الجود على جميع من ألبسه حلّةَ الوجود :

__________________

(١) من المصدر.

(٢) رياض المسائل ٣ : ٧٦.

٢٨١

المقام الأوّل

في ذكر الأقوال في حكم الجهر بالبسملة في مواضع الإخفات

لا يخفى على مَنْ جاس خلال ديار الآثار ، وغاص بحار الأنوار ، وخاض عيون الأخبار ، بثاقب الفهم النوار ، أنّ كلام علمائنا الأبدال قد اختلف في حكم الجهر بالبسملة في مواضع الإخفات على أقوال :

القول الأوّل : استحباب الجهر بها فيها مطلقاً.

وظاهر الإطلاق يقتضي دخول المأموم لو قرأ خلف الإمام على تلك الأقوال ؛ لدخولها في المواضع الإخفاتيّة.

وممّن صرّح به الشيخ البهائي في ( اثني عشرية الصلاة ) (١) ، والمحقّق العلي الطباطبائي في ( الرياض ) (٢) ، والفاضل الهندي الأصفهاني في ( كشف اللثام ) (٣) ، والمحقّق النراقي في ( المستند ) (٤) ، وهو الظاهر أيضاً من فاضل ( الجواهر ) (٥).

نعم ، صرّح بعض المحدّثين من متأخّري المتأخّرين برجحان الإخفات بها للمسبوق تبعاً للفاتحة.

ولعلّه لدعوى حكومة أدلّة الإخفات بقراءة المأموم على أدلّة الجهر بالبسملة ، كما لعلّه يظهر من قول أبي عبد الله عليه‌السلام في موثّق أبي بصير : « ولا ينبغي لمن خلف الإمام أنْ يسمعه شيئاً ممّا يقول » (٦) البسملة. وكلاهما لا سيما الأوّل من المنع بمكان ، مع

__________________

(١) الاثنا عشريّة : ٤٠.

(٢) الرياض ٢ : ٣٠٦.

(٣) كشف اللثام ٤ : ٤٦.

(٤) مستند الشيعة ٥ : ١٧٠.

(٥) الجواهر ٩ : ٣٨٥.

(٦) التهذيب ٣ : ٤٩ / ١٧٠ ، وفيه : « لمَنْ خلفه » بدل : « لمَنْ خلف الإمام ».

٢٨٢

أنّ عمدة أدلّة وجوب الإخفات في الأخيرتين إنّما هو منقول الإجماع ، ودخولها في معقده محطّ خيام النزاع ، مضافاً إلى أنّ النسبة بين الإطلاقين العموم من وجه ، ولا ريب أنّ إطلاقات الجهر بها أوْلى بالرجحان والاتّباع.

وما قيل من أنّه إذا سقط الجهر في موارد وجوبه مراعاةً لجانب الإمام اللائق بالاحترام ، فسقوطه في موارد ندبه أوْلى.

غير تامّ ؛ لعدم القطع بالأولويّة ، ولما علم من اختصاص البسملة بخصوصيّات لا تجري في سائر أجزاء القراءة الكلّيّة ، فإنْ ثبت عدم الانصراف ، وإلّا فللمناقشة مجالٌ وافٍ. هذا ، ولعلّ الإخفات أوْلى ولو للخروج عن الخلاف.

وقد صرّح غير واحد من علمائنا الأبرار حشرهم الله مع الأئمّة الأطهار بما يستظهر منه حصول الإجماع على عموم استحباب هذا الإجهار قطعاً للنظر عن خلاف ابن إدريس الحلّي ، وعدم الاعتداد به ؛ لكونه ليس على مبنى جلّي ، فيسقط عن درجة الاعتبار.

قال أمين الإسلام الطبرسي في ( مجمع البيان ) : ( اتّفق أصحابنا أنّها آيةٌ من سورة الحمد ومن كلّ سورة ، وإنْ تركت في الصلاة بطلت صلاته ، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً ، وأنّه يجب الجهر بها في ما يجهر فيه بالقراءة ، ويستحبّ الجهر بها في ما يخافت فيه بالقراءة ، وفي جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الأُمّة ) (١) .. إلى آخره.

وظاهره حصول الإجماع من علمائنا الأعلام على ما ذكره من الأحكام ، التي منها استحباب الجهر بالبسملة في جميع مواضع الإخفات ، وانحصار الخلاف في سائر فقهاء الإسلام.

وقال المحقّق في ( المعتبر ) : ( إذا تقرّر أنّها آيةٌ من الحمد ، فحيث يجب الجهر بالحمد يجب الجهر بها ، وحيث يجب الإخفات أو يستحبّ يستحبّ الجهر بها خاصّة. وهو انفراد الأصحاب في الفرض والنفل ، سفراً وحضراً ، جماعة وفرادى. وبه قال الثلاثة ) (٢). انتهى.

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٩.

(٢) المعتبر ٢ : ١٨٠.

٢٨٣

وقال في ذكر مذهب ابن إدريس ما لفظه : ( وقال بعض المتأخّرين : ما لا تتعيّن فيه القراءة لا يجهر فيه لو قُرِئ. وهو تخصيص لما نصّ عليه الأصحاب ، ودلّت عليه الروايات ) (١) .. إلى آخره.

فانظر كيف نسبه في الموضعين للأصحاب ، وهو جمع محلّى بـ ( اللام ) ، فيفيد العموم مطلقاً.

وقال العلّامة في ( التذكرة ) : ( قال ابن إدريس : ما لا تتعيّن فيه القراءة لا يجهر فيه بالبسملة لو قرأ. وهو تخصيصٌ لعموم الروايات ، وتنصيص علمائنا ) (٢) .. إلى آخره.

وقال شهيد ( الذكرى ) : ( وتفرّد ابن إدريس باختصاص الاستحباب بأُوليي الظهرين ، لا الأواخر. وهو قول مرغوب عنه ، أمّا أوّلاً ؛ فلأنّه لم يسبق إليه ، وهو بإزاء إطلاق الروايات والأصحاب ، بل بإزاء تصريحهم بالعموم ) (٣) .. إلى آخره.

ولا يخفى على ذي اطّلاع ظهوره في دعوى حصول الإجماع ، وعدم الاعتداد بذلك النزاع.

وقال الشيخ المقداد السيوري في ( كنز العرفان ) : ( أطبق أصحابنا على استحباب الجهر بالبسملة في ما فيه الإخفات ، وأكثر الجمهور على خلافه ) (٤) انتهى.

ولا يخفى ما فيه من الدلالة على المدّعى ، كما لا يخفى على مَنْ وعى ورعى.

وعن ( الخلاف ) نقل الإجماع عليه أيضاً. لكن ظاهر عبارته إرادة الأُوليين ، قال رحمه‌الله : ( يجب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الحمد وفي كلّ سورة بعدها كما يجب القراءة ، هذا في ما يجب الجهر فيه ، فإنْ كانت الصلاة لا يجهر فيها استحبّ أنْ يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ). ثمّ نقل أقوال المخالفين ، ثمّ قال : ( دليلنا : إجماع الفرقة ، فإنّهم لا يختلفون في ذلك ) (٥). ثمّ استدلّ عليه برواية صفوان.

إلّا أنْ يستفاد العموم من قوله : ( فإنْ كانت الصلاة لا يجهر فيها ). ولعلّه خلاف ظاهرها.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٨١.

(٢) التذكرة ٣ : ١٥٤ ، السرائر ١ : ٢١٨ ، بالمعنى.

(٣) الذكرى : ١٩١.

(٤) كنز العرفان ١ : ١٣٠.

(٥) الخلاف ١ : ٣٣٢ / مسألة ٨٣.

٢٨٤

ولا فائدة في نقل أقوال القائلين (١) ، لما سمعت من انحصار المخالف في ابن إدريس في كلمات أولئك المحقّقين ، بل يظهر من يراع المقدّس الأردبيلي في ( شرح الإرشاد ) مناقشته في تصريح ابن إدريس تحريم الجهر بها.

وما ذاك إلّا لاستبعاد مخالفته الإجماع ، وإنْ كانت مناقشة هذا المقدّس أيضاً بعيدة السماع. ولعلّه رحمه‌الله لم يقف على عبارة ( السرائر ) (٢) ، كما يكشف عنه لفظه الزاهر ، قال رحمه‌الله في ترجيح القراءة في الأخيرتين على التسبيح : ( ولا يعارض ذلك الخلاف في الجهر بالبسملة ، فإنّ الظاهر أنّ تحريمه مع أنّه غير مصرّح به في ما نقل عنه في ( المنتهى ) (٣) وغيره ضعيف كوجوبه ) (٤) .. إلى آخر كلامه ، زيد في إكرامه.

وهو كما ترى ظاهرٌ في المدّعى.

كما أنّ مقتضى الإطلاقات دخول الأُنثى والخنثى وصلاة الاحتياط ؛ لاندراج المذكورات في مواضع الإخفات ؛ لأنَّ مقتضى أدلّة الجهر بها كون الجهر معلّقاً إمّا على عنوان القراءة ، أو القارئ ، أو المصلّي ؛ إمّا على خصوص الأفراد ، أو على الماهيّة من حيث وجودها في ضمن أفرادها ، وعلى جميع التقادير لا خصوصيّة لفردٍ منها دون الآخر ، فلا يراد أن الإطلاق ينصرف إلى الفرد الغالب لاستواء جميع الأفراد في الشمول والاندراج ، ولا خصوصيّة حينئذٍ للذكوريّة وإنْ وقع في بعض الأخبار وكلمات بعض علمائنا الأبرار بصيغة خطاب المذكر ؛ لأنّه لملاحظة الشرف من حيثيّة الذكوريّة ، واستهجان خطاب فاقدها في المحاورات العرفيّة ، كتخصيص الخطابات القرآنيّة ، مع أنّ الأصل هو الاشتراك في التكليف ، فتخصيص ما عدا الرجل يحتاج للتوقيف.

وأمّا ركعات الاحتياط فالظاهر دخولها حتى عند الحلّي ؛ لأنّها عنده صلاةٌ مستقلّة ، وخلافه إنّما هو في قراءة غير الأُوليين ولو كانت بدلاً من الأخيرتين ، ولذا

__________________

(١) قد ذكرنا في أصل المسوّدة جملةً جمّة من القائلين بتعميم الاستحباب للُاخريات من المتقدّمين والمتأخّرين والمعاصرين بألفاظهم ، وحذفت ذكرهم هنا لما ذكرنا ، والله العالم. « منه وفّقه الله تعالى ».

(٢) السرائر ١ : ٢١٨.

(٣) المنتهى ١ : ٢٧٨.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٢١٠.

٢٨٥

حكم بصحّة الصلاة مع تخلّل الحدث بينها وبين الصلاة الأصليّة ؛ إذ لا يلزم مساواة البدل للمبدل منه مطلقاً على القول بالبدليّة.

وهذا ولله الحمد ظاهر لكل ذي رويّة ، إلّا إنَّ كاشف الغطاء (١) بعد أنْ استحبّ الجهر بها فيها احتاط بتركه ، وتبعه بعض مشايخنا المعاصرين ، ولعلّه للشكّ في شمول الإطلاق وقاعدة الشغل ، والله العالم والعاصم.

القول الثاني : وجوب الجهر بها في ما يخافت فيه من غير فصل بين الأُوليين والأخيرتين.

وهو مختار القاضي ابن البراج (٢) ظاهراً ، كما نقله عنه جملةٌ من الفضلاء كالعلّامة (٣) والشهيدين (٤) ، واختاره المحقّق السري الشيخ حسين بن الشيخ مفلح الصيمري نصّا. ومن متأخّري المحدّثين الشيخ حسن بن الشيخ حسين العصفوري في ( رسالة الصلاة ) ، ونسبه ثاني الشهيدين في شرح نفليّة أوّلهما لبعض الأصحاب ، وربّما استظهر من كلام الصدوق رحمه‌الله ، حيث قال في المجلس الثالث والتسعين ، الذي عقده لوصف دين الإماميّة : ( ويجب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة ) (٥). وربّما حمل عليه قوله في ( الفقيه ) : ( واجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات ) (٦) ، بتقريب أنّ المراد منه الوجوب ؛ لكثرة إرادة القدماء من الأمر الوجوب ، ولكن سيأتي في المبحث الثاني ما يقتضي صرفه عن ظاهره.

وإنّما نسبنا مختار القاضي إلى الظاهر ؛ لأنّ جمعاً من الفضلاء إنّما قالوا : إنّه أوجب الجهر بها في ما يخافت فيه وأطلق ، إلّا أنّ جمعاً أيضاً نقلوا عنه التصريح بالتعميم في الأُوليين والأخيرتين ، كالمحدّث السري السيّد نعمة الله الجزائري ، وسبطه الفاضل الأوّاه السيّد عبد الله في المسألة الرابعة عشرة من أجوبة المسائل الجبليّة الثانية ؛ وشيخنا المرتضى أعلى الله مقامه في ما كتبه على بحث القراءة من إرشاد العلّامة (٧) ، حيث إنّه بعد أن ضعّف قول ابن إدريس (٨) ونسبه للشذوذ كقول ابن

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٨٦. (٢) المهذّب ١ : ٩٧.

(٣) المختلف ٢ : ١٥٤. (٤) الأمالي ( الصدوق ) : ٥١١.

(٥) الأمالي ( الصدوق ) : ٥١١. (٦) الفقيه ١ : ٢٠٢ / ذيل الحديث ٩٢٣.

(٧) إرشاد الأذهان ١ : ٢٥٣. (٨) السرائر ١ : ٢١٨.

٢٨٦

الجنيد (١) ، قال : ( وما أبعد ما بين هذا القول وقول القاضي (٢) بوجوب الجهر حتى في الأخيرتين ). انتهى.

حتى إنّ السيّد عبد الله المذكور جعله أحد الوجوه المرجّحة لاختيار التسبيح ، حيث قال : ( ممّا يرجّح التسبيح الخروج به من عهدة الخلاف الواقع في الجهر بالبسملة في الأخيرتين ؛ لأنّه دائر بين الوجوب كما قاله ابن البراج (٣) ، والتحريم كما قاله ابن إدريس ) (٤) .. إلى آخره.

وما ذاك إلّا لجزمهم بالقول بالوجوب ، ولعلّهم اطّلعوا على التنصيص في بعض كتبه.

كما لعلّه يستظهر من كلام المقداد في ( التنقيح ) عند قول المحقّق : ( ومن السنن الجهر بالبسملة ) .. إلى آخره فإنّه قال : ( قال ابن البرّاج : يجب الجهر بها في ما يخافت ؛ لمواظبة الرضا عليه‌السلام على ذلك ) (٥) .. إلى آخره.

فإنّه ظاهر في حكاية لفظ ابن البرّاج ، لكن فيه : أنّه إنْ أراد المواظبة التي حكاها عنه رجاء بن أبي الضحّاك فقد اشتملت على ملازمته عليه‌السلام التسبيح في الأُخريات ، كما أنّ عبارته المنقولة من كتاب ( المهذّب ) غير صريحة في الإيجاب ، حيث قال : ( ويخافت بقراءة السورتين في الظهر والعصر ، إلّا ببسم الله الرحمن الرحيم ، فإنّه يجهر بها في كلّ الصلوات ) (٦) .. إلى آخره ؛ لتوقّفه على دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب عنده ، وهو غير معلوم ، كما أنّه لا يستفاد منها التخصيص بالأُوليين ؛ لما تقرّر في محلِّه من أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ، وسائر غاياته المذكورة في محلّها لا تتّجه هنا ، فليس إلّا ما ذكرنا.

وأمّا ذكره السورتين فلا يصلح للتخصيص بالأُوليين ؛ إذ مراده كغيره الحمد مطلقاً حيث كانت ، لا بشرط وجود السورة بعدها ، ألا ترى أنّ جماعةً من المقطوع بقولهم بالتعميم للأخيرتين صرّحوا في عنوان المسألة بذكر السورتين ، والسبر

__________________

(١) عنه في المختلف ٢ : ١٥٥.

(٢) المهذّب ١ : ٩٧.

(٣) المهذّب ١ : ٩٧.

(٤) السرائر : ٢١٨.

(٥) التنقيح الرائع ١ : ١٩٩.

(٦) المهذّب ١ : ٩٢.

٢٨٧

والوجدان شاهدا عدلٍ لذوي الأذهان ، مضافاً لما نقله عنه الثقات من التصريح بالعموم للأُخريات ، فلا وجه لما توهّم من الاختصاص ، ولات حين مناص.

أقول : وممّن قال بالوجوب أيضاً أبو الصلاح الحلبي (١).

أما بالنسبة للأُوليين فهو ظاهر غير خفيّ ، وأما بالنسبة لغيرهما فالأصحاب رضوان الله عليهم بين ناصٍّ على قوله بالوجوب في الأخيرتين ، وبين ساكت عن حكمهما في البين ، أما مَنْ نصّ على الوجوب في الأخيرتين فهو القطب الصمداني المحقّق الشهيد الثاني ، والفاضل الربّاني الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني.

قال الشهيد في ( روض الجنان ) : ( ويمكن أنْ نقول : إنّ التسبيح أحوط ، للخلاف في الجهر بالبسملة في الأخيرتين ، فإنّ ابن إدريس حرّمه ، وأبا الصلاح أوجبه ، فلا يسلم من الخلاف ) (٢) .. إلى آخره.

وقال ذلك الفاضل المذكور في فوائد رسالته المعمولة في كيفيّة التسبيح في الأخيرتين ما لفظه : ( العاشرة من مرجّحات التسبيح مضافاً إلى ما حرّرناه في رسالتنا المعمولة في أفضليّته ما ذكره الشهيد الثاني في ( شرح الإرشاد ) من أنّه أحوط ؛ للخلاف في الجهر بالبسملة في الأخيرتين ، فإنّ ابن إدريس حرّمه ، وأبا الصلاح أوجبه ، فلا يسلم من الخلاف ) .. إلى آخر كلامهما ، زيد في إكرامهما.

وهو نصٌّ واضح السبيل ، حاسمٌ لمادّة القال والقيل ، وكفى بهذين الثقتين شاهدين عادلين.

لكن من الغريب أنّ ذلك الشهيد في نقل الأقوال في الجهر بالبسملة في الأخيرتين عبّر عن قول أبي الصلاح بالوجوب في أُوليي الظهرين ، ويمكن الجواب عنه بنوعٍ من العناية ، كما سيأتي.

وأمّا الساكت عن حكمهما عنده غير ناصٍّ فيهما على سلب ولا إيجاب فهم أكثر الأصحاب ؛ إذ لم ينقلوا عنه التعرّض في تلك العبارة لحكم البسملة في الأُخريات بتصريحٍ ولا إشارة.

__________________

(١) الكافي في الفقه ( الحلبي ) : ١١٧.

(٢) روض الجنان : ٢٦٢.

٢٨٨

لكنّ كلامه في كتابه ( الكافي ) على ما وجدته فيه ظاهرٌ في تحريم الجهر في ما عدا الأُوليين ، فإنّه بعد ذكر وجوب الحمد والسورة مع الإمكان ، والحمد وحدها مع الاضطرار ، عيناً في أُوليي الرباعيّة والمغرب وصلاة الغداة والعصر ، وعلى جهة التخيير في أخيرتي الرباعيّة وثالثة المغرب بين الحمد وحدها وبين التسبيحات الاثني عشر ، قال ما لفظه : ( ومن شرط القراءة وصحّة الصلاة فعلها من قيام مع الإمكان ، ويلزم الجهر بها في أُوليي المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الغداة ، وببسم الله الرحمن الرحيم في أُوليي الظهر والعصر في ابتداء الحمد والسورة التي تليها ، والإخفات في باقي الركعات ) (١) .. إلى آخر كلامه ، زيد في إكرامه.

وهو ظاهرٌ في تحريم الإخفات في الأخيرتين.

فالجمع بين كلامه هنا ، وبين نقل ذينك الثقتين ؛ إمّا بعدم وقوفهما على كلامه في كافيه ، أو بفهم الوجوب من موضع آخر من كتبه ، أو من كتابه هذا ؛ نظراً إلى أنّه لمّا استفاد من أخبار الأمر بالجهر الوجوب اقتضى ذلك قاعدة كلّيّة ، وهو أنّه كلّما وقعت البسملة في الصلاة الإخفاتيّة وجب الجهر بها في الأُوليين والأخيرتين على السويّة ، إلّا إنّه لمّا كانت قراءة الأُوليين عينيّة حتميّة لا بدل لها في الاختيار بالكلّيّة وكانت هي الفرد الذي يعمّ به البلوى كان التنبيه على حكم بسملتها أليق وأحرى ، وأعمّ فائدة وجدوى. ولمّا كانت قراءة الأخيرتين ليست عينيّة حتميّة بل يقوم التسبيح مقامها على جهة التخيير أو البدليّة ، بل كان بدلها الذي هو التسبيح أكثر تداولاً ؛ لأفضليّته عليها ، كما هو المشهور المنصور كانت القراءة فيها غير لازمة الوقوع ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر مزيد فائدة ، مع التنبيه على حكمها بمقتضى تلك القاعدة.

بل ربّما يحتمل أيضاً احتمالاً مرجوحاً موافقته للمشهور في الأخيرتين وإنْ خالفه في الأُوليين ، ولهذا تراهم عند ذكر الخلاف يبدؤون بالقول المشهور ثمّ يخصّون ما يخالفه بالذكر ويتركون ما يوافقه ، ألا تراهم عند ذكر قول ابن إدريس إنّما يذكرون الشقّ المخالف للمشهور ، وهو تخصيص الاستحباب بالأُوليين ، وعند ذكر

__________________

(١) الكافي في الفقه ( الحلبي ) : ١١٧.

٢٨٩

قول ابن البرّاج يطلقون مخالفة المشهور بإيجاب الجهر مطلقاً ، وعند ذكر قول ابن الجنيد إنّما يذكرون الشقّ المخالف أيضاً ، وهو تخصيص الاستحباب بالإمام.

وحيث قد ثبت نصّ ذينك الثقتين على قوله بوجوب الجهر في الأخيرتين تعيّن الاحتمال الثاني ، وزال الإشكال من البين ؛ إذ نصّهما كاشفٌ عن ذلك الإجمال الذي في كلمات أولئك الأبدال.

ويؤيّده أُمور : الأوّل : تصريح ثاني الشهيدين في ( شرح النفليّة ) في مقابلة قول المشهور بإطلاق نسبة الوجوب لبعض الأصحاب ؛ إذ لم يفرّق بين أبي الصلاح وابن البرّاج في قولهما بالإيجاب.

الثاني : التشريك بين قول أبي الصلاح وابن البرّاج في الدليل والمنهاج ، مع أنّ اللازم تخصيص كلّ منهما بدليل على الانفراد ؛ لتركّب قول أبي الصلاح حينئذٍ من جهتين متضادّتين لا يستقيم فيهما الاتّحاد.

الثالث : ما صرّح به كثيرٌ منهم كما مرّ من تفرّد ابن إدريس وحده بالتحريم ، وأنّ الإجماع قد سبقه وتأخّر عنه في الحديث والقديم ؛ إذ الكلمات الموافقة ظاهراً ؛ إمّا حادثة بعد ذلك الجيل ، أو ممكنة التأويل.

نعم ، يبقى الإشكال في أمرين : الأوّل : مزية التعليق بالظرف المشعر بالتقييد.

والثاني : جعل الفقهاء إيّاه قولاً قسيماً للقول بإطلاق الوجوب.

ويمكن الجواب عن الأوّل بمثل ما ذكرناه في تقرير الاحتمال الأوّل ، وحاصله : التزام الخروج عن الظاهر ؛ للقرينة الصارفة عن القاعدة الأصليّة ، وحمل مزية القيد على التنبيه على مزيد الأهميّة ، لا إرادة الخصوصيّة ؛ لشيوع هذا الاستعمال من كثير في القيود اللفظيّة ، وهو كافٍ في صون التعليق عن اللغويّة ، أو بأنّ المزية تمهيد حكم البسملة مع السورة التي لا تكون إلّا في الأُوليين ؛ تنبيهاً على خلاف ابن الجنيد ، حيث إنّه لا يرى الإتيان بالبسملة معها فيهما لاستحبابها عنده ، أو أنّه لا يراها آية منها

٢٩٠

وإنْ قال بوجوبها.

وأمّا عن الثاني فبجواز جعله من باب حكاية القول الواحد في المسألة الواحدة بعبارتين مختلفتين ؛ حرصاً على حكاية اللفظين ، تنبيهاً على اختلافهما في ظهور الدلالة وصراحة المقالة.

هذا ، والعمدة نصّ ذينك الثقتين على قوله بالوجوب في الأخيرتين ، وإلّا ففي بعض ما ذكرناه مجال ظاهر.

نعم ، يمكن المناقشة في إرادته الوجوب من لفظ اللزوم باحتمال إرادته الاستحباب المؤكّد ؛ بقرينة استعمال اللزوم فيه في بعض المواضع كقوله في صلاة الجماعة : ( ويلزم إمام الصلاة تقديم دخول المسجد ليقتدي به المؤتمّون ، ويتعمّم ويتحنّك ويرتدي ) (١) .. إلى آخره. مع الإجماع على عدم وجوبها.

وكقوله في صلاة الجمعة : ( ويلزم الإمام الغسل ، وتغيير الثياب ، والطيب ، والتعمّم والتحنّك ، والارتداء ، وتقديم دخول المسجد ، ليتأسّى به المسلمون ) (٢) .. إلى آخره ؛ للإجماع على استحبابها ، حتى إنّه رحمه‌الله عدّ غسل الجمعة من الأغسال الثلاثين المسنونة.

نعم ، فيه حينئذٍ لزوم استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ، وهو سهل ؛ لجواز استعماله في القدر المشترك ، أو بالتزام إرادته الاستحباب المؤكّد في الموضعين. ولا ينافيه حكمه ببطلان الصلاة بالجهر أو الإخفات في غير مواضعهما ؛ لجواز جعله من باب الوجوب الشرطي المجامع للاستحباب ، كالحكم بوجوب القيام في الأذان والإقامة عند القائل باستحبابهما ، وكحكمه بشرطيّة الأذان والإقامة في صحّة الجمعة والجماعة ، وكحكمهم بشرطيّة الطهارة في النوافل ، والله العالم.

وأما الصدوق رحمه‌الله ، فهو وإنْ كان ظاهر كلامه في المجالس الإيجاب ، إلّا إنّ القرائن صرفته عنه إلى الاستحباب.

هذا ، وفي الموجود عندنا من نسخة ( الجواهر ) (٣) نسبة القول بوجوب الجهر في

__________________

(١) الكافي في الفقه ( الحلبي ) : ١٤٤.

(٢) الكافي في الفقه ( الحلبي ) : ١٥١.

(٣) الجواهر ٩ : ٣٨٩.

٢٩١

أُوليي الظهر والعصر إلى المجلسي.

إلّا أنّ حمله على تحريف الناسخ ( الحلبي ) بـ ( المجلسي ) هو القريب الظاهر ؛ لأنّه إنْ أراد محمّد تقي المجلسي الكبير ، فكلامه في ( شرح الفقيه ) ينافيه ، كما لا يخفى على الخبير ، لأنّه بعد استدلاله للجهر بالبسملة بأخبار صفوان ، والكاهلي وحنان ، قال : ( وهذه الأخبار تدلّ على استحباب الجهر للإمام ، كما قال ابن الجنيد باختصاصه به ، وإنْ أمكن أنْ يقال لغيره ؛ لعموم التأسّي ) (١) .. إلى آخره. وهذا الكلام خالٍ من هذا المرام.

وإنْ أراد به ابنه الماهر الملّا محمد باقر ، فكلامه في ( البحار ) ليس فيه إشعار ؛ لقوله رحمه‌الله : ( والظاهر رجحان الجهر في الجميع للإمام والمنفرد ، والاستحباب أقوى ، وعدم الترك أحوط ؛ لإطلاق الوجوب في بعض الأخبار ) (٢).

ولا يخفى ما فيه من عدم الدلالة والإشعار ، وكذا كلامه في ( شرح التهذيب ) لقوله فيه بعد ذكر الأقوال ـ : ( والأظهر استحباب الجهر في الجميع للمفرد والجامع ، والأحوط عدم الترك ؛ لورود كثيرٍ من الأخبار بلفظ الوجوب ). انتهى.

فحمله على تصحيف الناسخ هو المتعيّن واللائق بذلك الجناب ، والله العالم بالصواب.

القول الثالث : الفرق بين ما تتعيّن فيه القراءة ، وبين ما يخيّر فيه بينها وبين التسبيح ، فيستحبّ الجهر بها في الأوّل ، ويحرم في الثاني.

وهو قول المدقّق العلي محمّد بن إدريس الحلّي ، في كتابه ( السرائر ) (٣) ، وقد مرّ عليك تصريح الشهيد وغيره في ( الذكرى ) (٤) وغيرها بأنّه لم يُسبق إليه.

أقول : ممّن يظهر منه اختيار هذا القول أيضاً الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الفضل الحلبي في كتابه ( إشارة السبق ) ، حيث قال في عدّ السنن : ( والجهر بالبسملة في أُوليي الظهر والعصر من الحمد والسورة ) (٥).

__________________

(١) روضة المتقين ٢ : ٣٠٢.

(٢) البحار ٨٢ : ٧٥.

(٣) السرائر ١ : ٢١٨.

(٤) الذكرى : ١٩١.

(٥) إشارة السبق : ٩٢.

٢٩٢

ومثله الشيخ الفقيه محمّد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي في كتابه ( الوسيلة لنيل الفضيلة ) ، حيث قال في تعداد الكيفيّة المندوبة : ( والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في ما لا يجهر بالقراءة فيه في الموضعين ) (١) .. إلى آخره.

هذا إنْ أراد بالموضعين الحمد والسورة ، بناءً على أنّ ذكرهما قرينة على الأُوليين ، وأمّا لو أريد بهما مطلق الظهر والعصر أو موضعا التعيين والتخيير ، فانطباقه على القول المشهور في محلٍّ من الظهور.

بل يمكن إرجاعه إليه على المعنى الأوّل أيضاً ؛ بناءً على أنّ المراد الحمد مطلقاً حيث كانت ، سواء اجتمعت مع السورة أو انفردت ، مع ظهور قوله رحمه‌الله : ( في ما لا يجهر فيه بالقراءة ) في شمول ما نحن فيه ، فسبيل هذه العبارة سبيل عبارة المحقّق (٢) وغيره ممّن عمّم الجهر في جميع مواضع الإخفات مع التعبير بالحمد والسورة في تلك العبارات.

ولعلّك بعد الإحاطة بما ذكرناه في وجه تخصيص الحلبي بالأُوليين تقدر على تثبيته الاستحباب في الأخيرتين.

فإنْ قيل : تعبير السيّد السند في ( المدارك ) (٣) بالأكثريّة حيث نسب التعميم إلى قول الأكثر يقتضي كون القول باختصاص الجهر بها بالأُوليين أيضاً كثيراً ؛ قضاءً لحقّ صيغة التفضيل ، إذ احتمال انسلاخها عنه يحتاج إلى دليل.

قلت : إنّ الكثرة المدلول عليها بصيغة التفضيل الدالّة على المشاركة في الأصل والزيادة عليه قد توجّهت إلى سائر الأقوال التي ذكرها كقوله وقول القاضي وأبي الصلاح وابن الجنيد ، فما حظّه من تلك الكثرة إلّا سهم من أربعة ، فهي بالنسبة إلى كثرة القائلين بالتعميم في الأُوليين والأخيرتين مطلقاً غير ملحوظة أصلاً ، فتأمّل.

القول الرابع : استحباب الجهر بها للإمام خاصّة في الأُوليين والأخيرتين ، وأمّا المنفرد فيجهر بها في الجهريّة ، ويخفت بها في الإخفاتيّة.

__________________

(١) الوسيلة : ٩٥.

(٢) المعتبر ٢ : ١٧٩.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٩.

٢٩٣

وهو قول ابن الجنيد الإسكافي (١) ، ولم ينقل له موافق.

القول الخامس : وجوب الجهر بها في أُوليي الإخفاتيّة ، ووجوب الإخفات في ما عداهما ، وتخصيص الوجوب بأُوليي السريّة للاتّفاق على وجوب الجهر بها في الجهريّة من حيث الجزئيّة.

وهذا القول هو الظاهر من عبارة السيّد ابن زهرة في ( الغنية ) ، إلّا إنّه أسند دليله إلى الاحتياط ، حيث قال : ( ويجب الجهر بجميع القراءة في أوّل المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الغداة ؛ بدليل الإجماع المشار إليه ، وببسم الله الرحمن الرحيم فقط في أُوليي الظهر والعصر من الحمد والسورة التي تليها عند بعض أصحابنا ، وعند بعضهم مَسْنون. والأوّل أحوط ؛ لأنّ من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم برئت ذمّته بيقين ، وليس كذلك من لم يجهر بها ، ويجب الإخفات في ما عدا ما ذكرناه ؛ بدليل الإجماع المشار إليه ) (٢). انتهى.

ودلالته على المطلوب لا تخفى على أُولي القلوب ، إلّا إن محقّق ( الجواهر ) قد احتمل إرادته خلاف هذا الظاهر ، حيث قال بعد ذكر تفرّد ابن إدريس (٣) بتخصيص الاستحباب بالأُوليين وتحريم الجهر بها في الأخيرتين ، واستشهاده بعبارة ( الذكرى ) (٤) وغيرها عليه ما لفظه : ( فصحّ حينئذٍ تفرّده بذلك ، وإنّ الإجماع قد سبقه ، بل ولحقه. نعم ، قد يظهر من عبارة ( الغنية ) موافقته ، بل وإنّه إجماع ، لكن التتبّع يشهد بخلافه ، أو يحمل على ألّا يريد هذا الظاهر ، كما يومي إليه عدم ذكر أحدٍ من الأصحاب له مخالفاً ) (٥). انتهى.

وكأنّ الذي ألجأه إلى هذا الاحتمال ثبوت تفرّد ابن إدريس بهذا القول من بين علمائنا الأبدال ، وخروج البسملة من حيث هي عن مواضع الإخفات في عرف الشارع ، والمتشرّع من علمائنا الثقات.

__________________

(١) عنه في المختلف ٢ : ١٥٥.

(٢) الغنية ( ابن زهرة ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ٤ : ٥٤٧.

(٣) السرائر ١ : ٢١٨.

(٤) الذكرى : ١٩١.

(٥) الجواهر ٩ : ٣٨٦.

٢٩٤

والحقّ رجوع هذا القول لقول ابن البرّاج ، لما مرّ من المنهاج الظاهر ، والله العالم بالسرائر.

القول السادس : استحباب الجهر بها مطلقاً ، لكن الإخفات في الأخيرتين أحوط.

وهو مختار جمع من علمائنا المتأخّرين ، كالمحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح في ( منية الممارسين ) ، وتبعه عليه جملةٌ من محقّقي المتأخّرين كالمحدّث المنصف الشيخ يوسف في ( الحدائق ) (١) ، بل قوّى قول ابن إدريس وجعله الأظهر ، وكالفاضل العليّ الشيخ محمّد بن الشيخ عبد علي آل عبد الجبار في ( رسالة الصلاة ) (٢) ، والعالم الأمجد الشيخ سليمان بن الشيخ أحمد آل عبد الجبار في ( النجوم الزاهرة ) و ( شرح المفاتيح ) ، ومنهم شيخنا وأستاذنا المحقّق المدقّق المرتضى الأنصاري في تعليقه على الرسالة العمليّة ، إلّا إنّه في ( فرائد الأُصول ) (٣) احتمل الاحتياط بالجمع بتكرار الصلاة بالجهر والإخفات. ومنهم شيخنا وأستاذنا المحقّق المدقّق الشيخ محمد حسين الكاظمي منبعاً والنجفي موضعاً في شرحه على الشرائع ، إلّا إنّه قرّب وجوب هذا الاحتياط ، أمّا بالإخفات ، أو بالتكرار بالجمع بين الجهر والإخفات ، والله الموفّق والهادي في الغايات والمبادي.

__________________

(١) الحدائق ٨ : ١٦٧ ١٧٠.

(٢) الرسالة الصلاتيّة : ٣٨ ( مخطوط ).

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٥٠٢ ٥٠٣.

٢٩٥

المقام الثاني

في ما يصلح للاستدلال على تلك الأقوال

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في الاستدلال على القول الأوّل

الذي عليه عند جلّ الإماميّة المعوّل ، فنقول : لنا على ذلك وجوه :

[ الدليل ] الأوّل : ما قاله الشهيد الأوّل قدس‌سره في ( الذكرى ) (١) ، والسيّد السند في ( المدارك ) (٢) ، وبهاء الملّة والدين في ( الحبل المتين ) (٣) ، وغيرهم من الأفاضل المحقّقين ، من أنّ الجهر بالبسملة شعار الملّة المحقّة ، والثلّة الحقّة ، من حيث كونها بسملةً من غير تقييد بحالة من الحالات ، ولا بصلاةٍ من الصلوات ، ولا بركعةٍ من الركعات.

ولا يخفى أنّ كونه من شعارهم يشعر بكونه من ضروريّات مذهبهم التي لا يجوز إنكارها.

ويؤيّده : ما نقلوه أيضاً عن الثقة الجليل الحسن بن أبي عقيل (٤) من تواتر الأخبار بعدم التقيّة فيه ؛ ويؤيّده ما رواه في ( البحار ) مرسلاً عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال : « التقيّة ديني ودين آبائي ، إلّا في ثلاث : في شرب المسكر ، والمسح على الخفّين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » (٥).

__________________

(١) الذكرى : ١٩١.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٣٦٠.

(٣) الحبل المتين : ٢٢٨.

(٤) عنه في مدارك الأحكام ٣ : ٣٦٠.

(٥) دعائم الإسلام ١ : ٢٠٩ ، عنه البحار ٧٧ : ٣٠٠ ، وفيهما عن جعفر بن محمَّد عليه‌السلام.

٢٩٦

وحينئذ فيدخل منكره من حيث هو في منكر الضروري بالدليل القطعي.

ولهذا ورد في بعض الأخبار النهي عن الصلاة خلف من لا يجهر بها ، وهو ما رواه أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي في ( أزهار الرياض ) ، قال : ( وجدت في كتابٍ عتيق مصحّح من كتب الحديث لأصحابنا الإماميّة رضوان الله عليهم حديثاً هذه صورته : سئل الصادق عليه‌السلام عمّن لا يجوز الصلاة خلفه؟ قال : « لا تصلِّ خلف مَنْ لا يمسح على الرجلين ، ولا خلف مَنْ لا يقنت في الركعتين قبل الركوع ، ولا خلف مَنْ لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ولا خلف مَنْ لا يؤمن بالرجعة ، ولا خلف مَنْ لا يقول : إنّ الإمام معصوم ، ولا خلف مَنْ يمسح على الخفّين » ) .. إلى آخره. وهو حديثٌ طويل ، أخذنا منه موضع الحاجة ، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى بتمامه وكماله عند الاستدلال بالأخبار.

ولا يخفى ما في ذكره مع ما هو من ضروريّات المذهب من الدلالة على المطلب.

بل قد اعترف خصومنا الأشرار باختصاصنا بهذا الشعار ، وأنّه مذهب أهل البيت الأطهار.

ففي تفسير الرازي : ( قالت الشيعة : السنّة هي الجهر بالتسمية ، سواء كانت في الصلاة السريّة أو الجهريّة ، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه ) (١).

وفيه أيضاً : ( إنَّ عليّاً عليه‌السلام كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات ) (٢).

وفيه أيضاً بعد نقله الجهر عن ابن الخطاب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ـ : ( وأمّا إنَّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يجهر بالتسمية ، فقد ثبت بالتواتر ، ومَنْ اقتدى في دينه بعليِّ بن أبي طالب فقد اهتدى. والدليل عليه قوله عليه‌السلام

اللهم أدِرِ الحقَّ مع عليٍّ حيث دارَ

) (٣). وفيه أيضاً : ( إنَّ عليّاً عليه‌السلام كان يبالغ في الجهر بالبسملة ، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعياً في إبطال آثار عليّ عليه‌السلام ) (٤). انتهى.

ومتى ثبت أنَّه مذهب أمير المؤمنين ثبت أنّه مذهب شيعته الميامين.

__________________

(١) التفسير الكبير ١ : ١٧٠. (٢) التفسير الكبير ١ : ١٦٨.

(٣) التفسير الكبير ١ : ١٦٨. (٤) التفسير الكبير ١ : ١٦٩.

٢٩٧

وعن أبي حاتم السجستاني ، أنّه قال : ( روى عبد العزيز بن الخطاب ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، قال : أجمع آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وعلى ألّا يمسحوا على الخفّين ).

قال ابن خالويه بعد نقله : ( هذا مذهب الشيعة ، ومذهب أهل البيت عليهم‌السلام ). انتهى.

ونقله بعض مشايخنا عن ( كشف الغمّة ) أيضاً ، حذو النعل بالنعل ، وهو شاهد بصحّة هذا النقل.

وممّا يدلّ على كونه من شعارهم ، نشرَ اللهُ أعلام انتصارهم مضافاً إلى الأخبار الآتية ما رواه شيخ الطائفة في ( التهذيب ) ، و ( المصباح ) ، عن أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام ، أنه قال : « علامات المؤمن خمسٌ : صلاة الخمسين ، وزيارة الأربعين ، والتختّم باليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » (١).

ونقله الشيخ محمّد المقابي من ( الاستبصار ) ، وقد تتبّعته فلم أقف عليه فيه ، ونسبة الزلّة للقلم أوْلى من نسبتها للقدم.

وناهيك بتظلّم سيّد الموحّدين وقائد الغرّ المحجّلين من تاركيه وردّه على منكريه ، وعدّه تركه من جملة المظالم التي لم يقدر ظاهراً على دفعها ، والمناكر التي لم يُطَع في رفعها ، دليلاً صحيحاً عليه ، وسنداً صريحاً إليه ، ففي ( روضة الكافي ) عن سُلَيْم بن قيس الهلالي ، قال : خطب أمير المؤمنين فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ صلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال : « ألا إنَّ أخوف ما أخاف عليكم خلّتان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقِّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة ».

إلى أنْ قال عليه‌السلام : « وقد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها التي كانت في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرّق عنّي جندي حتى أبقى وحدي ».

إلى أنْ قال عليه‌السلام : « أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان ، وأمضيت قطائع قطعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأقوام فلم يمض لهم ولم تنفذ ، ورددت

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٥٢ / ١٢٢ ، مصباح المتهجّد : ٧٣٠.

٢٩٨

قضايا من الجور قضاها ، ونزعت نساءً تحت رجالٍ بغير حقٍّ ، فرددتهن إلى أزواجهن ، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأحكام ، وسبيت ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا ، وأعطيت كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي بالسويّة ، ولم أجعلها دُولةً بين الأغنياء ، وأنفذت خمس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أنزل الله عزوجل وفرضه ، ورددت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب ، وفتحت ما سدّ منه ، وحرّمت المسح على الخفّين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجده ممّن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أدخله ، وحملت الناس على حكم القرآن ، وعلى الطلاق على السنّة ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل الى مواقيتهما وشرائعهما ومواضعهما ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائر الأُمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذاً لتفرّقوا عنّي » (١). إلى آخر كلامه ، عليه أفضل صلاة الله وسلامه.

وقريبٌ منه ما سيأتي في خبر هداية الحضيني.

فأجِلْ أيُّها الأديب الأريب العريف جواد فكرك في فيافي هذا الخبر الشريف ، وسرّح بريد فهمك في ما تضمّنه هذا الأثر الطريف ، تجد فيه شفاءً لما في الصدور ، وظهوراً في المدّعى ، ظهور النور على ذرى الطور ، حيث قد قرنه بالحدِّ على النبيذ ، وتحريم المسح على الخفّين ، والتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، التي كلٌّ منها من متفرّدات الأئمّة الهداة ، وسِمات شيعتهم السراة.

بل صرّح الرازي في تفسيره الكبير أنَّ الجهر بها في سالف الأعصار مذهب جميع المهاجرين والأنصار ، حيث إنّه روى فيه عن الشافعي بإسناده : ( إنّ معاوية قدم المدينة فصلّى بهم ، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبّر عند الخفض إلى

__________________

(١) الكافي ٨ : ٥ ٥٢ / ٢١.

٢٩٩

الركوع والسجود ، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية! سرقتَ من الصلاة ، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثمّ إنّه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير ).

ثمّ قال : ( قال الشافعي : إنّ معاوية كان سلطاناً ، عظيم القوّة ، شديد الشوكة ، فلولا أنّ الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرّر عند كلّ الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وإلّا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية ) (١). انتهى.

ولا يخفى ما فيه من الدلالة القويّة ، وحينئذ فيصدق على منكره بالكلّيّة قول ربّ البريّة ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) (٢) ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (٣).

فإن قيل : إنّ إقامة الشعار تتحقّق بالجهر بها في مواضع الإجهار.

قلنا : لا يخفى على نبيه نبيل ، بل على مَنْ له أدنى تحصيل ، أنّ إقامة ذلك الشعار إنّما يتحقّق بالجهر بها في مواضع الإسرار ، إذ الجهر بها هناك ليس لحيثيّة الشعار ، وإنّما وقع تبعاً لما لا بدّ فيه من الإجهار ، وإلّا لخرج الشعار عن كونه شعاراً بجهر المخالف الذي يراها آيةً من الفاتحة في المواضع الجهريّة ، كما لا يخفى على ذي رويّة.

نعم ، مقتضى الحكاية عن الشافعيّة من الجهر بها حتى في المواضع الإخفاتيّة ينافي تحقّق المخالفة أيضاً بالجهر في المواضع السريّة ، بل ينافي أيضاً ما دلّ من الآثار على أنّ الجهر بها من علامات الإيمان ولو كاملاً والشعار.

إلّا أنْ يقال : لمّا كان السواد الأغلب من العامّة العميّة والجمّ الغفير من الفرقة الغويّة ، على تحريم الجهر بها مطلقاً حتى من القائلين فيها بالجزئيّة ، وكان مَنْ يجهر بها قليلاً من كثير ، بل كنقطةٍ من غدير ، وردت هذه الأخبار على مقتضى ما دان به في

__________________

(١) التفسير الكبير ١ : ١٦٨.

(٢) النساء : ١١٥.

(٣) النور : ٦٣.

٣٠٠