الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

ذكر الأقوال والمناقشة في بعض الأنقال

وبالجملة ، فالأقوال في هذا الموضع غير مضبوطةٍ ، والنقول غير منقّحةٍ ، فلا بدَّ من الرجوع إلى كلمات أولئك الفحول من تلك الأُصول ، من غير اعتماد على النقول.

فأقول : أمّا الصدوق رحمه‌الله ، فاقتصر في باب صلاة الجماعة من ( الفقيه ) على الأخبار الناهية بعد ضمّ بعضها إلى بعض عن القراءة خلف الإمام المرضي إلّا في الجهريّة إذا لم يسمع ولا همهمة ، وعلى الأخبار الآمرة بالتسبيح في الركعتين الأخيرتين من غير فصل بين الجهريّة والإخفاتيّة.

ومنها : صحيح الأزدي الآمر بالتسبيح خلف الإمام في الصلاة الإخفاتيّة ، وظاهره وجوب التسبيح ، كما يدلّ عليه عبارته التي نقلها عنه العلّامة في ( المختلف ) ، ولعلّها من غير ( الفقيه ) ، قال ما لفظه : ( وقال الصدوق أبو جعفر بن بابويه : واعلم أنّ على القوم في الركعتين الأُوليين أن يسمعوا إلى قراءة الإمام ، وإن كان في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة سبّحوا موضع القراءة ، وعليهم في الركعتين الأخيرتين أن يسبّحوا ) (١). انتهى.

وهو ظاهرٌ في وجوب التسبيح على المأمومين عيناً في الأخيرتين مطلقاً ، فيوافق ما نقله عنه في ( مجمع الأحكام ).

وقال رحمه‌الله في ( المقنع ) : ( وإذا كنت إماماً فعليك أن تقرأ في الركعتين الأُوليين ، وعلى الذين خلفك أن يسبّحوا ، يقولون : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر. وإذا كنت في الركعتين الأخيرتين فعليك أن تسبّح مثل تسبيح القوم في الركعتين الأُوليين ، وعلى الذين خلفك أن يقرءوا فاتحة الكتاب. وروى : « إنّ على القوم في الركعتين أن يستمعوا إلى قراءة الإمام وإن كان في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة سبّحوا ، وعليهم في الركعتين الأخيرتين أن يسبّحوا » ولهذا أحبّ إليَّ ) (٢).

وما ذكره أوّلاً هو مضمون خبر أبي خديجة (٣) ، بإبدال ( الأخيرتين ) في آخره بـ ( الأُوليين ) وما ذكره أخيراً ينافي صحّة ما نقل عنه من الجزم بوجوب التسبيح ، وإنْ

__________________

(١) المختلف ٣ : ٧٦.

(٢) المقنع ( الصدوق ) : ١١٩ ـ ١٢٠.

(٣) انظر ص ٢٥٤ هامش ٣.

٢٦١

احتمل أنْ يكون جميع المذكور في الباب من كلام والده المبرور ، فهو نورٌ على نور.

وأمّا السيّد المرتضى رحمه‌الله ، فلم يتعرّض لقراءة المأموم في انتصاره ولا ناصريّاته ، وإنّما اقتصر فيهما على الوجوب التخييري في الأخيرتين بين القراءة والتسبيح ، ولعلّه أراد ما يشمل المأموم ، فلعلّ ما في ( مجمع الأحكام ) مستند إلى ذلك الإطلاق والعموم ، ولكن قال في ( المختلف ) ما لفظه :

( وقال السيّد المرتضى : لا يقرأ المأموم خلف الموثوق به في الأُوليين في جميع الصلاة من ذوات الجهر والإخفات ، إلّا أن يكون صلاة جهر لم يسمع فيها المأموم قراءة الإمام ، فيقرأ كلّ واحدٍ لنفسه. وهذه أشهر الروايات ، وروى أنّه لا يقرأ في ما جهر فيه الإمام ، وتلزمه القراءة في ما يخافت فيه الإمام ، وروى : أنّه بالخيار في ما خافت فيه ، فأمّا الأخيرتان فالأوْلى أن يقرأ المأموم ، أو يسبّح فيهما. وروى : ليس عليه ذلك ) (١). انتهى.

ولا يخفى أنّ تعبيره بالأولويّة غير صريحٍ في الوجوب إنْ لم يكن صريحاً في عدمه ، فلا يوافق ما نقله أوّل الشهيدين (٢) عنه من استحباب قراءة الفاتحة ، ولا ما نقله عنه في ( مجمع الأحكام ) من وجوب إحداهما تخييراً إلّا بالتصرّف في لفظ الأُولى. وظاهره أيضاً عدم الفرق بين أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة.

وأما الشيخ قدس‌سره فعبارته التي نقلناها عنه سابقاً من ( التهذيب ) (٣) إنّما تدلّ على حرمة القراءة مطلقاً ، إلّا في الصلاة التي لا يسمع فيها ولا همهمة ، وإنّ الواجب على المأموم التسبيح أو التهليل.

نعم ، عبارته في ( النهاية ) صريحة في استحباب قراءة الفاتحة في الإخفاتيّة مطلقاً ، قال رحمه‌الله : ( وإذا تقدّم مَنْ هو بشرائط الإمامة فلا تقرأنَّ خلفه سواء كانت الصلاة ممّا يجهر فيها بالقراءة أو ممّا لا يجهر ، بل تسبّح مع نفسك ، وتحمد الله تعالى وإنْ كانت الصلاة ممّا يجهر فيها بالقراءة فأنصت للقراءة ، فإنْ خفي عنك قراءة الإمام قرأت لنفسك ، وإنْ سمعت مثل الهمهمة من قراءة الإمام جاز لك إلّا تقرأ ، وأنت مخيّرٌ في

__________________

(١) المختلف ٣ : ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) غاية المراد : ٢١٤.

(٣) التهذيب ٣ : ٣٢ / ذيل الحديث ١١٣.

٢٦٢

القراءة. ويستحبّ أن يقرأ الحمد وحدها في ما لا يجهر الإمامُ فيها بالقراءة ، وإنْ لم تقرأ فليس عليك شي‌ءٌ ) (١). انتهى.

ونقل في ( المختلف ) (٢) عنه في ( المبسوط ) (٣) نحوه. وهو صريحٌ في استحباب قراءة الفاتحة في جميع المواضع الإخفاتيّة ، كالظهرين مطلقاً ، وأخيرة الثلاثيّة ، وأخيرتي الرباعيّة ، فيوافق ما نقله عنه الشهيدان في ( النكت ) (٤) و ( روض الجنان ) (٥) ، لكنّه مناقض لقوله رحمه‌الله في أوّل الكلام : ( فلا تقرأنّ خلفه ، سواء كانت الصلاةُ ممّا يجهر فيها بالقراءة ، أو ممّا لا يجهر ) ، إذ أقلُّ مراتب النهي الكراهة ، الملازم للمرجوحيّة ، فلا يلائم الاستحباب الملازم للرجحان.

وأما عبارته في ( الخلاف ) فغير نصٍّ في ما نقله عنه في ( مجمع الأحكام ) من الجزم بالتحريم وإنْ لم تخلُ من إشعارٍ.

قال رحمه‌الله في ( الخلاف ) : ( الظاهر من الروايات أنّه لا يقرأ المأموم خلف الإمام أصلاً ، سواءٌ جهر أو لم يجهر ، لا فاتحة الكتاب ولا غيرها ).

ثمّ ذكر أقوال أهل الخلاف ، إلى أنْ قال : ( فأمّا إذا خافت فالرجوع في ذلك إلى الروايات ، وقد أوردناها في الكتابين يعني بهما التهذيبين وبيّنّا الوجه فيها. منها : ما رواه يونس بن يعقوب : قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة خلف مَنْ أرتضي به ، أقرأ خلفه؟. قال : « مَنْ رضيت فلا تقرأ خلفه » ) (٦).

ثمّ ذكر خبري سليمان بن خالد والحلبي ، السابقين (٧).

ولعلّ الناقل رحمه‌الله استظهر التحريم من ظواهر هذه الأخبار.

ويمكن الجمع بين كلماته المزبورة في الكتب المذكورة بحمل القراءة المنهي عنها على قراءة السورتين في الأُوليين ، واستحباب قراءة الحمد وحدها على القراءة في الأخيرتين ؛ لكونها عنده أفضل الفردين.

__________________

(١) النهاية : ١١٣.

(٢) المختلف ٣ : ٧٥.

(٣) المبسوط ١ : ١٥٨.

(٤) غاية المراد : ٢١٤.

(٥) روض الجنان : ٣٧٣.

(٦) الخلاف ١ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ / مسألة ٩٠.

(٧) انظر ص ٢٥٤ هامش ٧ وص ٢٥٥ هامش ١.

٢٦٣

وأمّا أبو الصلاح ، فعبارته السابقة صريحةٌ في صحّة المنقول عنه من الوجوب التخييري بين القراءة والتسبيح في الأخيرتين ، وأفضليّة قراءة الحمد ، فلا وجه للإخلال بذكره ، وطيِّه على غرّه.

وأمّا ابن زهرة فعبارته في ( الغنية ) ، والحكاية السابقة عنه (١) في أخيرتي الجهر ، صريحتان في صحّة ما نقل عنه من سقوط القراءة في الأُوليين ، والتخيير بين القراءة والتسبيح في الأخيرتين ، من غير فصل بين أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة.

قال رحمه‌الله في كيفيّة أفعال الصلاة بعد ذكره وجوب قراءة الحمد وسورةٍ في الثنائيّة والأُوليين في ما زاد عليها عيناً ما لفظه : ( وهو مخيّرٌ في الركعتين الأخيرتين وثالثة المغرب بين الحمد وحدها ، وبين عشر تسبيحات ، وهن : ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله ) يقول ذلك ثلاث مرّات ، ويقول في الثالثة : والله أكبر ) (٢).

وقال في صلاة الجماعة ما لفظه : ( ولا يقرأ في الأُوليين من كلِّ صلاة ولا في الغداة إلّا أن يكون في صلاة جهرٍ وهو لا يسمع قراءة الإمام ، فأمّا الأخيرتان وثالثة المغرب فحكمه فيها حكم المنفرد ) (٣). انتهى.

وهو صريحٌ في التخيير في الأخيرتين مطلقاً ، كما مرّ نقله عنه (٤).

وأمّا سلّار بن عبد العزيز ، فقال في ( المراسم ) في شرح كيفيّة الصلاة بعد ذكره وجوب القراءة في الأُوليين ما لفظه : ( وفي الثالثة والرابعة الحمد وحدها ، أو يسبّح فيقول : ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله ) ثلاث مرّات. ويزيد في الثالثة : والله أكبر ) (٥). انتهى.

ثمّ قال في أحكام صلاة الجماعة في قسم المندوب ما لفظه : ( وألّا يقرأ المأموم خلف الإمام. وروى : إنّ ترك القراءة في صلاة الجهر خلف الإمام واجبٌ. والأوّل

__________________

(١) انظر ص ٢٦٠ هامش ٤ ، ٦.

(٢) الغنية ( ابن زهرة ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ٤ : ٥٤٦.

(٣) الغنية ( ابن زهرة ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ٤ : ٥٥٤.

(٤) انظر ص ٢٦٠ هامش ٤ ، ٦.

(٥) المراسم العلوية ( سلّار ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ٣ : ٣٧٣.

٢٦٤

أثبت ) (١). انتهى.

ونقله عنه أيضاً في ( المختلف ) (٢) من غير ذكر الكتاب.

وأنت خبيرٌ بأنّ قصاراه كراهة قراءة المأموم خلف الإمام ، فلعلّ إطلاقه منصرفٌ بحكم الغلبة والشياع للأُوليين ، ويكون حكمه حكم المنفرد من التخيير مطلقاً في الأخيرتين ، كما مرّ في كلام ابن زهرة (٣) ، بقرينة موافقته له في كيفيّة التسبيح ، فيؤول للوجوب التخييري ، وإنْ كان التسبيح في أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة أفضل الفردين فلا ينبغي الجزم بعدّه قسيماً للقول المشهور في الأخيرتين.

وأمّا ابن حمزة ، فلم يذكر في ( الوسيلة ) (٤) في صلاة الجماعة ممّا يتعلّق بالقراءة إلّا وجوب الإنصات للقراءة إذا سمع ، وليس فيها تعرّضٌ للمنقول عنه بعينٍ ولا أثر ، ولذا اقتصر في ( المختلف ) (٥) على نقله عنه وجوب الإنصات إذا سمع القراءة ، إلّا أنْ يكون منقولاً من غيرها ، ولكن يبعده عدم نقله في ( المختلف ).

وأمّا المحقّق نجم الدين جعفر بن سعيد ، فقال في ( الشرائع ) في أفعال الصلاة : ( والمصلّي في كلِّ ثالثة ورابعةٍ بالخيار ، إنْ شاء قرأ الحمد ، وإنْ شاء سبّح ، والأفضل للإمام القراءة ) (٦).

وقال في صلاة الجماعة : ( ويكره أنْ يقرأ المأموم خلف الإمام ، إلّا إذا كانت الصلاة جهريّةً ثمّ لا يسمع ولا همهمةً. وقيل : يحرم. وقيل : يستحبّ أنْ يقرأ الحمد في ما لا يجهر فيه. والأوّل أشبه ) (٧).

وقال في ( النافع ) في أفعال الصلاة : ( ويتخيّر المصلّي في كلِّ ثالثة ورابعة بين قراءة الحمد أو التسبيح ) (٨).

وقال في صلاة الجماعة : ( وتُكره القراءة خلف الإمام في الإخفاتيّة على الأشهر ، وفي الجهريّة لو سمع ولو همهمةً. ولو لم يسمع قرأ ) (٩). انتهى.

__________________

(١) المراسم العلوية ( سلّار ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ٣ : ٣٨٣.

(٢) المختلف ٣ : ٧٦. (٣) انظر ص ٢٦٤ هامش ٢ ، ٣.

(٤) الوسيلة ( ابن حمزة ) : ١٠٦. (٥) المختلف ٣ : ٧٨.

(٦) الشرائع ١ : ٧٢. (٧) الشرائع ١ : ١١٣.

(٨) المختصر النافع : ٨١. (٩) المختصر النافع : ١٠٢.

٢٦٥

ولا يخفى عدم صراحتهما في الشمول لقراءة الأخيرتين بالتقريب السابق في عبارة سلّار (١) ، مضافاً إلى حكمه رحمه‌الله فيهما برجحان القراءة في الجهريّة إذا لم يسمع الهمهمة المختصّ ذلك بالأُوليين ، فيرجع أيضاً بالآخرة إلى ما ذكرناه من بقاء التخيير للمصلّي في الأخيرتين وإنْ كان التسبيح أفضل الفردين.

وأمّا ابن عمّه نجيب الدين يحيى بن سعيد الأصغر ، فقال في ( الجامع ) :

( ويخيّر في الثوالث والروابع بين الحمد والتسبيح ، وهما سواء ) (٢) .. إلى آخره.

ثمّ قال في صلاة الجماعة : ( ولا يقرأ المأموم في صلاة جهرٍ ، بل يصغي لها ، فإن لم يسمع أو سمع كالهمهمة أجزأه ، وجاز أنْ يقرأ ، وإنْ كان في صلاة إخفاتٍ سبّح مع نفسه وحمد الله ، وندب إلى قراءة الحمد في ما لا يجهر فيه ) (٣). انتهى.

ولا يخفى أنّ ظهوره في إرادة الأُوليين بقرينة الإصغاء للقراءة ومقابلته بالتسبيح في نفسه أرجح من شموله للأخيرتين ، مضافاً إلى قوّة احتمال أنْ يريد بقوله : ( وندب إلى قراءة الحمد ) إلى الرواية الدالّة على قراءة الحمد عيناً ، لا أنّها أحد الفردين.

وأما الفاضل العلّامة رحمه‌الله ، فقال في ( القواعد ) : ( ولا يقرأ خلف المرضي إلّا في الجهريّة مع عدم سماع الهمهمة ، والحمد في الإخفاتيّة ) (٤). انتهى.

وفي ( الإرشاد ) في قسم المكروه : ( والقراءة خلف المرضي ، إلّا إذا لم يسمع ولا همهمة فتستحبّ على رأيٍ ) (٥) انتهى.

ولا يخفى ظهور كلامه في الكتابين في إرادة القراءة في الأُوليين ؛ بقرينة تقييده الاستحباب بعدم سماع الهمهمة ، بل لا ظهور له في الأخيرتين ، فلا يطابق المنقول عنه في الكتابين.

والعجب من هؤلاء الفضلاء كيف غفلوا عن نقل كلامه في ( المختلف ) الصريح في التخيير بين القراءة والتسبيح في الأخيرتين من الإخفاتيّة. قال رحمه‌الله في ( المختلف ) بعد ذكر الأقوال في قراءة المأموم ، وبعض الأخبار الواردة فيها ما لفظه :

__________________

(١) انظر ص ٢٦٤ ٢٦٥.

(٢) الجامع للشرائع : ٧٤ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

(٣) الجامع للشرائع : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٤) قواعد الأحكام ١ : ٤٧.

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٧٢.

٢٦٦

( والأقرب في الجمع بين الأخبار استحباب القراءة في الجهريّة إذا لم يسمع قراءته ولا همهمته لا الوجوب ، وتحريم القراءة فيها مع السماع لقراءة الإمام ، والتخيير بين القراءة والتسبيح في الأخيرتين من الإخفاتيّة ) (١). انتهى.

وأغرب منه أنّهم رضوان الله عليهم نقلوا عنه في ( المختلف ) التخيير استحباباً بين القراءة والتسبيح في أخيرتي الجهريّة أو أخيرتها ، وليس فيه كما ترى تعرّضٌ لوجه التخيير ، ولا لأخيرتي الجهريّة أو أخيرتها ، بقليلٍ ولا كثيرٍ ، ولا ينبّئك مثل خبير.

وبالجملة ، فمفاد عبارة ابني سعيد في ( الشرائع ) و ( النافع ) و ( الجامع ) ، والعلّامة في ( الإرشاد ) و ( القواعد ) كما سمعته في تلك المواضع إنّما هو التنبيه على أنّ تعيّن القراءة في الأُوليين مخصوصٌ بغير المأموم ، وأنّ حكمه فيهما ؛ إمّا تحريم القراءة ، أو كراهتها ، أو استحبابها ، على ما مرّ من الأقوال المذكورة. وأمّا في الأخيرتين فهو باقٍ على أصل حكم التخيير وإنْ وقع الخلاف في تعيين الراجح الأثير.

فالوجه الجامع بين الأخبار ، الملائم لها بعد الانتشار ، والناظم لها بعد الانتثار ، هو ترك القراءة في الأُوليين من غير فصلٍ بين ذوات الإجهار والإسرار ، إلّا في الجهريّة إذا لم يسمع ولا همهمة فتستحبّ. ووجوب الإنصات في أوليي الجهريّة. واستحباب التسبيح في أُوليي الإخفاتيّة ، والاستدلال عليه يظهر ممّا مرّ من تلك الأخبار المعتبرة القويّة. والتخيير وجوباً بين قراءة الحمد والتسبيح في الأخيرتين من غير فصلٍ بين أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة ، وأفضليّة التسبيح ؛ لإطلاق ما دلّ على الوجوب التخييري للمصلّي الشامل للمأموم ، وما يصلح للتقييد غير معلوم ، بل هو معدوم ، مضافاً الى ظهور أخبار الضمان في القراءة العينيّة المستقرّة في ذمّة المكلّف ، المبدل عنها في الأُوليين بقراءة الإمام ، فيبقى غيرها في ذمّة المأموم ، الذي اشتغاله بها معلوم ، إلّا أنْ يثبت بقرينة الأخبار المسقطة ، المتوعّد فيها بالبعث على غير الفطرة أصلٌ ثانوي حاكمٌ على ذلك الأصل ، وهو لما مرّ غير معلوم.

وأمّا ما في خبر ابن سنان (٢) المشتمل على إجزاء التسبيح في الإخفاتيّة ، بحمل

__________________

(١) المختلف ٣ : ٧٨.

(٢) التهذيب ٣ : ٣٥ / ١٢٤.

٢٦٧

الركعتين اللّتين لا يجهر فيهما على خصوص الأخيرتين ، أو على ما يشملهما مع الأُوليين ، المشعر بأفضليّة القراءة وخبر أبي خديجة (١) المشعر بأفضليتهما في الأخيرتين فقد مرّ الجواب عنهما ، مع ما سيأتي من المناقشة في صحّة خبر ابن سنان ؛ لاحتمال كونه ليس عبد الله ، وكونه محمّداً أخاه ، كما سيأتي إنْ شاء الله.

وأمّا ما استدلّ به لكراهة القراءة بدعوى شموله لقراءة الأخيرتين فقد مرّ الجواب عنه في حكم الأُوليين ، اللهمَّ الّا أنْ يراد بها مرجوحيّتها بالنسبة للتسبيح فيرتفع الخلاف في البين.

واحتجّ له بعض الفضلاء بالجمع بين الأصل المقتضي للإباحة ، والأخبار الناهية عن القراءة.

ولا يخفى ما فيه ؛ إذ لا يصحّ التعويل على الأصل مع وجود النصّ الخاصّ ؛ لارتفاع موضوع الأصل بورود الدليل عليه ، وإلّا لم يمكن إثبات التحريم أبداً ؛ لأصالة الإباحة ، وإمكان حمل النهي على الكراهة.

وأما ما استظهره في ( السرائر ) (٢) من سقوط القراءة والتسبيح معاً مطلقاً ، فأخبار الأمر بالذكر والصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تدفعه ، وأخبار السكوت الظاهرة في السكوت عن القراءة خاصّة لا السكوت مطلقاً لا تنفعه.

ومن الغريب عدم نقل هذا القول في ( روض الجنان ) ، ولا في رسالة الشيخ سليمان ، مع أنّ عبارة ( السرائر ) في الصراحة فيه بمكان.

بحث مع صاحب ( مجمع الأحكام )

كما أنّ من الغريب أيضاً ما في ( مجمع الأحكام ) حيث استدلّ على وجوب التسبيح عيناً بصحيحي ابن سنان (٣) ، والأزدي (٤) ، وخبر علي بن جعفر (٥). وأجاب عنها بعدم دلالة شي‌ءٍ منها على الوجوب.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٧٥ / ٨٠٠.

(٢) السرائر ١ : ٢٨٤.

(٣) التهذيب ٣ : ٣٥ / ١٢٤.

(٤) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦١.

(٥) قرب الإسناد : ٥١ / ٨٢٦ ، مسائل علي بن جعفر : ١٢٨ / ١٠٢.

٢٦٨

ثمّ استدلّ على الوجوب التخييري بالجمع بين هذه الروايات الدالّة على الوجوب ، وبين خبري الرافعي والبصري (١) وأبي خديجة (٢). وأجاب بعدم دلالتها على وجوب أحدهما مطلقاً حتى يصحّ الجمع بالحمل على الوجوب التخييري ، إذ أقصى ما في صحيح ابن سنان أنّه قال : « يُجزيك التسبيح » فكان التسبيح أحد الفردين المجزيين ، وجاز أنْ يكون الفرد الآخر السكوت ، أو يكون التسبيح أحد الأفراد الواجبة التي منها السكوت ، فلا يتعيّن أنْ يكون الواجب أحد الأمرين : التسبيح ، أو القراءة.

بل قد يقال : إنَّه إلى الدلالة على وجوب التسبيح عيناً أقرب .. إلى آخره.

وفيه نظرٌ من وجوه :

أمّا أوّلاً ؛ فلنفيه دلالة تلك الأخبار التي منها صحيح ابن سنان على وجوب التسبيح عيناً ولا تخييراً ، ثمّ جعل دلالته على وجوب التسبيح عيناً أقرب ، وهو كرٌّ على فرّ ، وتناقضٌ مستغرب.

وأمّا ثانياً ؛ فلاشتمال الخبر المذكور بعد التعبير عن التسبيح بالمجزي على رجحان القراءة ، سواء جعلنا ( اقرأ ) مضارعاً أو أمراً ، وهذا أغرب.

وأمّا ثالثاً ؛ فلجعله أحد الأفراد الواجبة السكوت ، وهو ممّا لا يحسن عليه السكوت ؛ إذ السكوت فردٌ مرجوحٌ نادرُ الاستعمال ، فلا يحمل عليه كلام الآل ، ولا يؤسّس عليه بمجرّد ذلك الاحتمال ، مضافاً لما مرّ من قوّة احتمال قوله عليه‌السلام : « لا بأس إنْ قرأ وإنْ سكت » (٣) إرادته السكوت عن القراءة خاصّة ، فلا ينافي التسبيح واختصاصه.

وأمّا رابعاً ؛ فلأنَّ كلامه في ردِّ الاستدلال على الوجوب التخييري بعدم دلالة شي‌ءٍ منها على وجوب أحدهما مطلقاً ، إنّما يتمّ لو أراد الاستدلال بخصوص ما ذكره ، فتبقى أدلّة التخيير للمصلّي مطلقاً من النصّ والإجماع سالمةً عن النزاع.

والإنصاف أنّ للمناقشة فيها أيضاً مجالاً ذا اتّساع.

أمّا الأخبار ؛ فلقوّة احتمال كون أدلّة المأموم حاكمةً أو مخصّصة لذلك العموم.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٣ / ١٢٠.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٧٥ / ٨٠٠.

(٣) التهذيب ٣ : ٣٤ / ١٢٢ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

٢٦٩

وأمّا الإجماع ؛ فقد يستفاد من تعدّد الأقوال ، وانتشار الخلاف في قراءة المأموم في ما عدا الأُوليين بين علمائنا الأبدال ، أن مورد الإجماعات المستفيضة على التخيير بين القراءة والتسبيح إنّما هو خصوص المنفرد ، أو ما عدا المأموم ، إذ يبعد غاية البعد اجتماع مثل هذه الإجماعات على التخيير مع هذا الاختلاف الفاحش الكثير.

ويؤيّده تصريح المحدّث المنصف (١) بأنّ التخيير المجمع عليه في الأخيرتين مخصوصٌ بغير أخيرتي المأموم ، وإنّه من كلام جملةٍ من الأصحاب هو المفهوم. وإنْ صحّ الجمع بأنّ تلك الأقوال ليست على التخيير والتعيين ، بل بالنسبة إلى الراجحيّة والمرجوحيّة ، وإلى وجوب شي‌ءٍ وعدمه.

المسألة الحادية عشرة : في الصلاة المركّبة من الجهر والإخفات

وأما الصلاة المركّبة من الجهر والإخفات فيعلم حالها ممّا مرّ ، فأحوال الجهريّة واختلافاتها يجري في الركعتين الأُوليين ، وأحوال الإخفاتيّة وخلافها يجري في الأخيرتين.

المسألة الثانية عشرة : في حكم المسبوق

وأما المسبوق ففي ( مجمع الأحكام ) : إنّ الأقوال فيه أربعة : وجوب الحمد وحدها في أُولاه إنْ كان مسبوقاً بركعتين ، وفي ثانيته إنْ كان مسبوقاً بركعة وهو للسيّد رحمه‌الله (٢) ، ووجوب الحمد والسورة معاً كذلك وهو للشيخ رحمه‌الله (٣) ، واستحباب القراءة من غير نصٍّ على السورة وهو لعلّامة ( المنتهى ) (٤) ، وتحريم القراءة وهو للصدوق رحمه‌الله ، والكراهة وهو للمعتبر. انتهى بمعناه.

وظاهره أنّ الأقوال خمسةٌ لا أربعة ، إلّا أنْ يجعل قول السيّد والشيخ واحداً باعتبار مغايرتهما للاستحباب والتحريم والكراهة. فأمّا ما عزاه للسيّد رحمه‌الله فهو صريح عبارته المنقولة عنه في ( المختلف ) ، قال فيه : ( قال السيّد المرتضى : لو فاتته ركعتان من الظهر أو العصر أو العشاء وجب أنْ يقرأ في الأخيرتين الفاتحة في نفسه ، وإذا سلّم

__________________

(١) الحدائق ٨ : ٤٢٢.

(٢) رسائل المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : ٤١.

(٣) المبسوط ١ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٤) المنتهى ١ : ٣٨٤.

٢٧٠

الإمام قام فصلّى الركعتين الأخيرتين مسبّحاً فيهما ، وأصحابنا وإنْ قالوا : إنّه يقرأ ، لكن لم يذكروا الوجوب ، والأقرب عدم الوجوب ) (١) .. إلى آخره.

وأما ما نقله عن الشيخ رحمه‌الله فهو صريح كلام ( النهاية ) (٢).

وأما ما نقله عن المنتهى فهو أيضاً ظاهر ( المختلف ) (٣) في عدم الوجوب.

وأمّا نقله عن الصدوق رحمه‌الله تحريم القراءة ، فلعلّه أخذه ممّا رواه في ( الفقيه ) من الأخبار المسقطة لقراءة المأموم ، إلّا أنّ بعدها ما يخرج المسبوق من ذلك العموم ، قال رحمه‌الله : ( وروى عمر بن أُذَيْنَة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « إذا أدرك الرجل بعض الصلاة ، وفاته بعضٌ ، خلف إمام يحتسب بالصلاة خلفه ، جعل أوّل ما أدرك أوّل صلاته ، إنْ أدرك من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ركعتين ، وفاته ركعتان ، قرأ في كلّ ركعةٍ ممّا أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب » (٤) .. إلى آخر ذلك الصحيح ، وهو في الأمر بالقراءة صريح.

بل في ( الجواهر ) : ( إنّ الحرمة لم يصرّح بها أحد ، بل الظاهر الاتّفاق بين من تعرّض لذلك على الرجحان في الجملة وإن اختلفوا في وجوبه وندبه ) (٥). انتهى.

وبه يظهر ما في نقل الحرمة من الاشتباه ، والمعصوم مَنْ عصمه الله.

وأمّا نقلَهُ عن المحقّق الكراهة ، فلعلّه أخذه من إطلاق حكمه بقراءة المأموم ، وشموله لهذه الصورة غير معلوم ، ولذا حصر في ( السرائر ) (٦) ، و ( المدارك ) (٧) ، و ( المختلف ) (٨) ، و ( الجواهر ) (٩) ، و ( الرياض ) (١٠) الخلاف في الوجوب أو الاستحباب ، وهو ظاهر في هذا الباب.

ولا يلزم من تحريم القراءة أو كراهتها في مطلق المأموم جريانهما في المأموم المسبوق ، ولهذا إنّ الصدوق (١١) وابن إدريس (١٢) والمرتضى (١٣) مع قولهم بتحريم

__________________

(١) المختلف ٣ : ٨٤ ـ ٨٥. (٢) النهاية : ١١٥.

(٣) المختلف ٣ : ٨٥.

(٤) التهذيب ٣ : ٤٥ / ١٥٨ ، الوسائل ٨ : ٣٨٨ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٤٧ ، ح ٤.

(٥) الجواهر ١٤ : ٤٢. (٦) السرائر ١ : ٢٨٦.

(٧) مدارك الأحكام ٤ : ٣٨٣. (٨) المختلف ٣ : ٨٥.

(٩) الجواهر ١٤ : ٤٢. (١٠) رياض المسائل ٣ : ٧٥.

(١١) عنه في رياض المسائل ٣ : ٧٦.

(١٢) السرائر ١ : ٢٨٦.

(١٣) رسائل المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : ٤١.

٢٧١

القراءة كما مرّ جزموا بالوجوب هنا ، والعلّامة (١) مع قوله بالكراهة جزم بالاستحباب هنا ، فظهر سقوط القولين من البين ، كما لا يخفى على ذي عين.

وكيف كان ، فالأخبار الواردة في هذا العنوان :

ما بين آمرٍ بمطلق القراءة ، كصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن الصادق عليه‌السلام : عن الرجل يدرك الركعتين الأخيرتين من الصلاة ، كيف يصنع بالقراءة؟ قال : « اقرأ فيهما ، فإنهما لك الأوليان ، ولا تجعل أوّل صلاتك آخرها » (٢).

وقوله عليه‌السلام : « ولا تجعل أوّل صلاتك آخرها » كلامٌ مستأنف للردّ على مَنْ خالف ، ويجوز أنْ يكون تأكيداً للأمر بالقراءة ، أي : لا تسبيح فيهما كالإمام ، فتجعل أوّل الصلاة الذي هو القراءة آخرها الذي هو التسبيح ، أو : لا تقرأ في أخيرتيك فيكون آخرها كأوّلها.

وصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، عنه عليه‌السلام ، قال : « إذا سبقك الإمامُ بركعة فأدركت القراءة الأخيرة ، قرأت في الثالثة من صلاتك ، وهي ثنتان لك ، فإنْ لم تدرك معه إلّا ركعةً واحدةً قرأت فيها ، وفي التي تليها » (٣) .. إلى آخره.

ومنه صحيح معاوية بن وهب ، عنه عليه‌السلام : عن الرجل يدرك آخر صلاة الإمام ، وهي أوّل صلاة الرجل، فلا يمهله حتى يقرأ، فيقضي القراءة في آخر صلاته؟ قال : « نعم » (٤). بحمل القضاء على معنى الفعل كقوله تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) (٥)، (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) (٦) لا المعنى الاصطلاحي ، وحمل آخر صلاته على ركعته الثانية التي انفرد فيها مجازاً، أو على الثلاث جميعاً، وقصد القراءة عيناً في أوّلها، وتخييراً في غيرها.

وخبر علي بن جعفر المرويّ في كتاب ( قرب الإسناد ) ، عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل أدرك مع الإمام ركعةً، ثمّ قام يصلّي ، كيف يصنع؟ يقرأ في الثلاث كلّهن ، أو في ركعتين، أو في ثنتين؟ قال : « يقرأ في ثنتين ، وإنْ قرأ واحدةً أجزأه » (٧).

__________________

(١) المنتهى ١ : ٣٨٤.

(٢) الكافي ٣ : ٣٨١ / ١ ، الوسائل ٨ : ٣٨٧ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٤٧ ، ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٣٨١ ٣٨٢ / ٤ ، التهذيب ٣ : ٢٧١ / ٧٨٠.

(٤) التهذيب ٣ : ٤٧ / ١٦٢ ، الوسائل ٨ : ٣٨٨ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٤٧ ، ح ٥.

(٥) البقرة : ٢٠٠. (٦) الجمعة : ١٠.

(٧) قرب الإسناد : ٩٠ ، الوسائل ٨ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٤٧ ، ح ٨.

٢٧٢

وبين آمرٍ بقراءة الحمد والسورة مع التمكّن ، وإلّا فالحمد ، كصحيح زرارة بطريق الشيخ رحمه‌الله ، قال : « إذا أدرك الرجل بعض الصلاة ، وفاته بعض ، خلف إمام يحتسب بالصلاة خلفه ، جعل ما أدرك أوّل صلاته ؛ إنْ أدرك من الظهر أو من العصر أو من العشاء ركعتين وفاته ركعتان قرأ في كلِّ ركعة ما أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب وسورة ، فإنْ لم يدرك السورة تامةً أجزأته أُمّ الكتاب ، فإذا سلّم الإمام قام فصلّى ركعتين لا يقرأ فيهما ؛ لأنّ الصلاة إنّما يقرأ فيها في الأوليين في كلِّ ركعة بأُمّ الكتاب وسورةٍ ، وفي الأخيرتين لا يقرأ فيهما ، إنّما هو تسبيحٌ وتكبيرٌ وتهليلٌ ودعاء ليس فيهما قراءة ، وإنْ أدرك ركعة قرأ فيها خلف الإمام ، فإذا سلّم الإمام قام فقرأ بأُمّ الكتاب وسورة ، ثمّ قعد فتشهّد ، ثمّ قام فصلّى ركعتين ليس فيهما قراءة » (١).

ولعلّ عدم النصّ على قراءة الحمد والسورة في قوله : « وإن أدرك ركعة قرأ خلف الإمام » اعتماداً على بيانه عليه‌السلام في الأوّل ، فيكون بياناً لذلك المجمل.

وبين آمرٍ بقراءة الحمد وحدها ، كصحيح زرارة السابق برواية الفقيه السابقة (٢) ، ومرسل أحمد بن النضر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قال لي : « أي شي‌ءٍ يقول هؤلاء في الرجل إذا فاته مع الإمام ركعتان؟ » قال : يقولون يقرأ في الركعتين بالحمد وسورة ، فقال : « هذا يقلب صلاته ، فيجعل أولها آخرها ». فقلت : كيف يصنع؟ فقال : « يقرأ بفاتحة الكتاب في كلّ ركعة » (٣).

والتقريب فيه : أنّ المراد ؛ إمّا كلّ ركعة من الأُوليين ، أو هما مع الأخيرتين ، ويستفاد منه أنّ العامّة يوجبون السورتين في الركعتين الأخيرتين الفائتتين ، وأنّهما صارتا له أوليين ، فتنقلب صلاتهم لمكان السورة ؛ ولذا تكثّرت الأخبار والإجماعات على أنّ ما يدركه المأموم يجعله أوّل صلاته ؛ نظراً للردّ على مخالفي المذهب وعداته ؛ محتجّين بما رووه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فاقضوا » (٤).

وهو عن الدلالة بوادٍ سحيق ، وعن سعة الحقِّ في أشدِّ المضيق.

وأمّا تحريم القراءة على المسبوق أو كراهتها فلا شاهد له من الأخبار ، بل لا قائل

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٤٥ / ١٥٨ ، الوسائل ٨ : ٣٨٨ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٤٧ ، ح ٤.

(٢) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦٢.

(٣) التهذيب ٣ : ٤٦ / ١٦٠.

(٤) مسند أحمد ٢ : ٣٨٢ ، وفيه : ( سبقكم ) بدل : ( فاتكم ).

٢٧٣

به من علمائنا الأخيار ، بل يستفاد من عبارات أصحابنا السابقة عدم الخلاف في رجحان القراءة ، وإنّما الخلاف في الوجوب أو الاستحباب ، بل قد يستفاد من كثير من الأخبار وكلمات القدماء الأخيار أنّ جعل المسبوق ما أدركه أوّل الصلاة الذي هو معقد كثير من الإجماعات كنايةٌ عن قراءته في ما يدركه من الركعات ، ومن أصرحها عبارة الشيخ رحمه‌الله في ( النهاية ) حيث قال : ( ومَنْ فاتته ركعة مع الإمام أو ركعتان فليجعل ما يلحق معه أوّل صلاته ، فإذا سلّم الإمام قام يتمّم ما قد فاته ، مثال ذلك : مَنْ صلّى مع الإمام الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة وفاتته ركعتان ، فليقرأ في ما يلحقه الحمد وسورة ) (١) .. إلى آخره ، كما مرّ مضمون صحيح زرارة.

والإنصاف أنّ تلك الأخبار إنّما سيقت للردّ على الأشرار ، الجاعلين آخر صلاة الإمام آخر صلاة المسبوق.

وبالجملة ، فما في ( المدارك ) بعد قوله : ( إنّ مقتضى الروايتين يعني : صحيح زرارة (٢) وابن الحجّاج (٣) أن المأموم يقرأ خلف الإمام إذا أدركه في الركعتين الأخيرتين ) : ( إنّ كلام أكثر الأصحاب خالٍ من التعرّض لذلك ) (٤) ، لا يخلو من نظر للسالك.

وفي ( الرياض ) إنّ الوجوب قول أعيان القدماء ، كالشيخ (٥) ؛ والحلبي (٦) ، والمرتضى (٧) ، والكليني ، والصدوق (٨). واختاره هو ؛ لقوّة أدلّته ، وضَعْفِ معارضها.

قلت : وهو كذلك ، إذ قصارى ما استدلّ به للاستحباب الجمع بين ما هنا وبين إطلاقات سقوط القراءة عن المأموم ، الذي شموله للمسبوق غير معلوم ، بل انصراف الإطلاقات إلى غيره هو المعلوم ، ولو سلّم فلا بدّ من حمل المطلق على المقيّد ، والعامّ على الخاصّ ، فالتنافي معدوم.

__________________

(١) النهاية : ١١٥.

(٢) التهذيب ٣ : ٤٥ / ١٥٨ ، الوسائل ٨ : ٣٨٨ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٤٧ ، ح ٤.

(٣) الكافي ٣ : ٣٨١ / ١ ، الوسائل ٨ : ٣٨٧ ، صلاة الجماعة ب ٤٧ ، ح ٢.

(٤) المدارك ٤ : ٣٨٣.

(٥) النهاية : ١١٥ ، التهذيب ٣ : ٤٥ / ١٥٨.

(٦) الكافي في الفقه ( الحلبي ) : ١٤٥.

(٧) رسائل المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : ٤١.

(٨) رياض المسائل ٣ : ٧٥ ـ ٧٦ ، بالمعنى.

٢٧٤

وأمّا ما في ( المدارك ) من ضعف دلالة الصحيحين على الوجوب ، باشتمال صحيح زرارة على النهي عن القراءة في الأخيرتين ، المحمول على الكراهة ، وكون القراءة في النفس الدالّ على عدم وجوب التلفّظ ، واشتمال صحيح ابن الحجّاج (١) على الأمر بالتجافي ، المحمول على الندب (٢).

فهو بناءٌ مهدوم :

أمّا أوّلاً ؛ فلعدم الانحصار في الصحيحين المذكورين.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنَّ الاشتمال على الأمر المحمول على الندب والنهي المحمول على الكراهة معارضٌ بالاشتمال على ما هو للوجوب قطعاً ، كجعل ما يدركه أوّل صلاته ، الذي لا خلاف فيه بين جميع الإماميّة الأطياب ، وانحصار الخلاف في أُولي الأذناب ، وكالجلوس للتشهّد الواجب ، ثمّ القيام لمتابعة الإمام.

فيبقى الأمر الظاهر في الوجوب سليماً عن المعارض في الباب.

وأمّا ثالثاً ؛ فلظهور صحيح زرارة في النهي عن القراءة العينيّة كقراءة الأُوليين ؛ ليحصل به الفرق بينهما وبين الأخيرتين ، كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : « لا تجعل أوّل صلاتك آخرها » ، لا القراءة التخييرية ، فيبقى النهي على التحريم ، ويُنفى التنافي في البين.

وأما رابعاً ؛ فلأنّ الخبر الآمر بالقراءة غير الخبر الآمر بالتجافي ، بل هو خبرٌ آخر وإن اتّحدا في السند ، بدليل انفصاله عنه بقوله : قال : وسألته عن الرجل الذي يدرك .. إلى آخره. ولذا اقتصرنا على إيراده دون ما قبله.

ولو سلّم الاتّحاد فلا يلزم من اشتماله على مندوبٍ كون كلّ ما فيه كذلك ، بل القرينتان متكافئتان ، فترجيح إحداهما على الأُخرى ترجيحٌ بلا مرجّح هنالك ؛ ولذا احتجّ البعض لوجوب التجافي ؛ لظهور الأمر فيه واشتماله على واجب ، فتتساقطان ويبقى الأمر على أصله ، كما لا يخفى على المرتاد السالك.

وأمّا خامساً ؛ فلأنّ القراءة في النفس كنايةٌ عن الإخفات ، ولذا شاع التعبير بها عنه في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨١ / ١ ، الوسائل ٨ : ٣٨٧ ، أبواب صلاة الجماعة ب ٤٧ ، ح ٢.

(٢) المدارك ٤ : ٣٨٣ ، بالمعنى.

٢٧٥

أخبار الصلاة خلف المخالف ، المتّفق على وجوب القراءة الحقيقيّة خلفه بلا مخالف ، مع أنّ سلب القراءة عنها يسقطها عن الصلاحيّة للقرينيّة وعن درجة الحجيّة ؛ لمخالفتها حينئذ كما في ( الرياض ) (١) إجماع الإماميّة.

وحيث ثبت انحصار الخلاف في الوجوب والاستحباب ، ووجوب السورتين معاً ، أو الحمد خاصّة ، وانتفى التحريم والكراهة ، فلا مناص عن قراءة السورتين مع إمكانهما ، وإلّا فالفاتحة ؛ لقاعدة الشغل الحاكمة بوجوب الفعل ، مضافاً إلى أنّ القدر المتيقّن من ضمان الإمام القراءة عن المأموم إنّما هو ما شاركه فيه في حال الائتمام ، فيبقى غيره على الأصل.

وبما ذكرنا تنتظم تلك الأخبار في سلك الالتئام ، وينجلي عن وجهها قَسْطل الإبهام.

ومن العجيب ما في ( مجمع الأحكام ) من جمعه بين تربيع الأقوال ، أو تخميسها بالتحريم والكراهة واعترافه بعدم ما يدل عليه من أخبار الباب وبين الحكم بوجوب القراءة محتجّاً ب : ( توقّف يقين البراءة عليه ، وتحصيله واجبٌ ، فلا يعدل عنه إلى مشكوكٍ فيه ؛ لأنّ صحّة الصلاة بالقراءة مجزومٌ به ، وصحّتها بالتسبيح فيه احتمال اختصاص الأدلّة الدالّة على سقوط القراءة عن المأموم وتحريمها وكراهتها بغير محلّ النزاع ) انتهى.

ولا يخفى ما فيه على ذي نُهى ؛ إذ مع إثباته تحريم القراءة يكون من قبيل الدوران بين الشرطيّة والمانعيّة ، ويسقط التزام الوجوب بالكلّيّة ، اللهمّ إلّا أنْ يجاب عنه بأنّ نفيه الدليل على عدم التحريم والكراهة من الأخبار يسقطهما عن درجة الاعتبار ، لكن نقله القول عمّن لا يعمل إلّا بها مع إشارته لمّا يدل عليه منها يسقط هذا الاعتذار.

المسألة الثالثة عشرة : دوران الأمر بين إكمال الفاتحة المفوِّت للقدوة وبين قطعها المحصِّل لها

وأمّا لو دار الأمر لضيق الوقت عن إكمال الفاتحة لعدم إمهال الإمام بين إكمالها

__________________

(١) رياض المسائل ٣ : ٧٦.

٢٧٦

المفوّت للمتابعة ، وبين قطعها المحصّل لها :

فأمّا على القول باستحباب القراءة وعدم فوات القدوة بالإخلال بركن أو ركنين ولو عمداً كما عزي للمشهور ، سواء جعلنا وجوب المتابعة تعبّديّاً على المشهور أو شرطيّاً على غيره فلا إشكال. كما لا إشكال أيضاً على القول بوجوبها وعدم الفوات بالإخلال المذكور.

وأمّا على القول بالوجوب وفوات المتابعة بالإخلال ولو بركنٍ في غير السهو ، فوجهان ، بل قولان ، منشأهما : عدم النصّ الخاصّ في هذا العنوان ، ويظهر من صحيح معاوية بن وهب السابق (١) تقديمُ المتابعة على إتمام القراءة ؛ فإنّ مناط قضاء القراءة لخوف عدم الإمهال إنّما هو تحصيل المتابعة ، بل قد استدلّ عليه أيضاً بصحيح زرارة (٢) الآمر بالسورتين مع الإمكان ، وإلّا فالفاتحة ، فإنّ ظاهره أيضاً أنّ المناط إنّما هو تحصيلها.

وقد يقال عليه : إنّ الاجتزاء بالفاتحة في صحيح زرارة الخالي عن المناط لا يستلزم الاجتزاء بأبعاضها ، بخلاف صحيح ابن وهب المشتمل عليه ، إلّا أنْ يستفاد من ضمّ أحدهما للآخر تنقيح المناط.

نعم ، يمكن الاستدلال عليه مضافاً لصحيح ابن وهب المذكور بما عن ( دعائم الإسلام ) (٣) بطريقين عن الصادق عليه‌السلام ، وما عن الفقه الرضوي (٤) من الاجتزاء بما يدركه ، مؤيَّداً بالأخبار العامّة الدالّة على الإتيان بالميسور ، ففي النبوي المشهور : « إذا أمرتكم بشي‌ءٍ فأتوا منه بما استطعتم » (٥). وفي المرتضويّتين : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (٦) ، و « لا يسقط الميسور بالمعسور » (٧).

والطعن فيها من حيث السند مدفوعٌ باشتهار العمل بها في جميع الأعصار ، بل صار كالمسلّمات بين جميع المتشرّعة في جميع الأمصار ، مضافاً للاستقراء في

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٤٧ / ١٦٢.

(٢) التهذيب ٣ : ٤٥ / ١٥٨.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

(٤) الفقه الرضوي : ١٤٤.

(٥) مسند أحمد ٢ : ٢٥٨.

(٦) غوالي اللئالي ٤ : ٥٨ / ٢٠٧.

(٧) غوالي اللئالي ٤ : ٥٨ / ٢٠٥ ، وفيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢٧٧

الموارد الفقهيّة من الاكتفاء بالمقدور ، فيلحق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب من تلك الأمور ، وإلى موافقة مضامينها لمجرى العادة العقلائيّة ، فتكون مؤكّدة باشتراط القدرة ، الذي هو مقتضى الأدلّة النقليّة والعقليّة ، وفهم هذا المعنى منها عند أهل العرف هو المحكم في التكاليف الشرعيّة ، فلا يلتفت إلى سائر الاحتمالات المبنيّة على التدقيقات الحكميّة.

وقد يستفاد من الصحيحين المذكورين عدم جواز التخلّف بركنٍ ، فضلاً عن ركنين.

وكيف كان ، فالأحوط حينئذٍ عدم الدخول إلّا بعد دخول الإمام في الركوع متى عرف في هذا المحذور الوقوع ، فلو دخل معه فالأحوط المبادرة للمتابعة ، ثمّ الإعادة ؛ تحصيلاً لإحراز السعادة.

المسألة الرابعة عشرة : حكم المسبوق على القول بعدم وجوب القراءة

ثمّ على القول بعدم وجوب القراءة على المسبوق لو أدرك الإمام في أخيرتيه وسبّح فيهما ، فهل يبقى في أخيرتيه على التخيير بين القراءة والتسبيح مطلقاً ؛ لإطلاق أدلّة التخيير ، أم تتعيّن عليه القراءة مطلقاً ؛ لئلّا تخلو الصلاة من الفاتحة التي لا صلاة إلّا بها ، أو يقرأ إنْ سبّح الإمام في أخيرتيه ، ويسبّح إنْ قرأ فيهما ؛ للجمع بين الأخبار؟.

أقوالٌ : أشهرها بل عن ( المنتهى ) (١) اتّفاق الأصحاب عليه الأوّل ، والثاني نقله في ( المدارك ) (٢) وضعّفه. والثالث عن موضع من ( البحار ) (٣).

وقد يجاب بمنع شمول الإطلاق وانصرافه لغير محلّ النزاع ، وبأنّه بأنّ معقد إجماع التخيير إنّما هو غير المأموم ، بل قال بعض مشايخنا المحقّقين : ( خصوص المنفرد ) ، وعهدته عليه ، فيبطل الأوّل.

وبمنع خلوّ الصلاة عن الفاتحة ؛ لابتناء صلاة المأموم على صلاة الإمام المشتملة

__________________

(١) المنتهى ١ : ٣٨٤.

(٢) المدارك ٤ : ٣٨٤.

(٣) البحار ٨٥ : ٥٤.

٢٧٨

عليها ولو في أُولييه اللتين لم يحضرهما المأموم ، فيبطل الثاني.

إلّا أنْ يقال : إنّ القدر المتيقّن من ضمان الإمام ضمانه القراءة العينيّة التي يحضرها المأموم ؛ لانصراف الإطلاق إليها ، دون التخييريّة التي لم يحضرها ؛ لكونه غير معلوم. فإنْ تمّ الإجماع على التخيير هنا وكونه مشمولاً لتلك الأخبار ، وإلّا فالتفصيل أوفق بالاعتبار.

وفي ( المدارك ) : أنّ مورد الخلاف إنّما هو من فاتته ركعتان ، أمّا من دخل معه في الرابعة فلا خلاف في التخيير. قال رحمه‌الله بعد قول الماتن : لو أدركه في الرابعة دخل معه ، فاذا سلّم قام فصلّى ما بقي عليه ، ويقرأ في الثانية له بالحمد وسورة ، وفي الاثنتين الأخيرتين بالحمد ، وإنْ شاء سبّح ما لفظه :

( لا خلاف في التخيير بين قراءة الفاتحة والتسبيح في هذه الصورة ، وإنّما الخلاف في ما إذا أدرك معه الركعتين الأخيرتين ، وسبّح الإمام فيهما ) (١) .. إلى آخره.

وفيه : أنّه إنْ كان من حيث قراءته في إحدى أُولييه كما هو ظاهر كلامه بعد سياق المتن فهو مطالب بدليل الفرق بين ما إذا أدرك معه الرابعة من الرباعيّة ، وبين من أدرك معه الثالثة من الثلاثيّة. وكذا لو أدرك معه أخيرتي الرباعيّة يقرأ المأموم في إحدى أُولييه ولو استحباباً ؛ لاتّحاد المناط. وإنْ كان الدليل خاصّاً فلا بدّ من بيانه ، ولات حين مناص.

ولعلّه رحمه‌الله أراد التمثيل ، والله يقول الحقّ ، وهو يهدي السبيل.

المسألة الخامسة عشرة : حكم الإخفات في قراءة المسبوق في الصلاة الجهريّة

وهل الإخفات في قراءة المسبوق واجب في الجهريّة ، أو مستحب؟

ظاهر أصحابنا ، بل صريح كثيرٍ من المتأخّرين والسيّد المرتضى الوجوب ، بل لم يُحْكَ الخلاف عن أحدٍ من الأسلاف والأخلاف ؛ لظاهر قوله عليه‌السلام في صحيح زرارة : « قرأ في نفسه » (٢) ؛ بناءً على ظهور الجملة الخبريّة في الوجوب ، وظاهر الأمر في ما عن

__________________

(١) المدارك ٤ : ٣٨٤.

(٢) التهذيب ٣ : ١٥٩ ٤٥ / ٨ ، الوسائل ٨ : ٣٨٨ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٤٧ ، ح ٤.

٢٧٩

( دعائم الإسلام ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « إذا سبق الإمام أحدكم بشي‌ءٍ من الصلاة فليجعل ما يدركه مع الإمام أوّل صلاته ، وليقرأ فيما بينه وبين نفس إنْ أمهله الإمام » (١). ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام : « إذا أدركت الإمام وقد صلّى ركعتين فاجعل ما أدركت معه أوّل صلاتك ، فاقرأ لنفسك بفاتحة الكتاب إنْ أمهلك الإمام » (٢).

وبها يقيّد إطلاقات الأمر بالجهر في الجهريّة إنْ لم تتمّ حكومتها عليها كما هو الظاهر من أخبار المأموم ، مع أنّ موردها ؛ إمّا المنفرد ، أو غير المأموم ، فلا إطلاق ولا عموم.

واحتمال الندب كما في ( الرياض ) (٣) للأصل مدفوعٌ بانقطاعه بما عرفت.

ولا داعي لحملها على سياق الأخبار الآمرة باستحباب عدم إسماع الإمام ؛ لحسن حفص بن البختري بل صحيحيه على الصحيح ، بطريق الكليني والشيخ رحمه‌الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « ينبغي للإمام أنْ يسمع من خلفه التشهّد ، ولا يسمعونه هم شيئاً » (٤).

وفيه بطريق الصدوق تقييده بقوله : « ولا يسمعونه هم شيئاً ، يعني : الشهادتين » (٥). ولعلّه من كلامه ، أو كلام أحد الرواة ، فلا تتعيّن حجيّته ؛ لقوّة استناده في ذلك إلى فهمه التقييد من قوله قبله : « ينبغي للإمام أنْ يسمع من خلفه التشهّد » ، فحمل « شيئاً » الذي هو نكرةٌ في سياق النهي على الشهادتين ، أي : التشهّد الذي ينبغي للإمام إسماعه المأموم.

وموثّق أبي بصير عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : « ينبغي للإمام أنْ يسمع من خلفه كلّ ما يقول ، ولا ينبغي لمن خلفه أنْ يسمعه شيئاً ممّا يقول » (٦).

وموثّقه الآخر عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : « لا تُسمعنَّ الإمام دعاءَك خلفه » (٧).

لعدم التلازم بين الأذكار التي ليست محلّاً لوجوب الجهر والإخفات ، وبين القراءة

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ٢٤٤. (٢) دعائم الإسلام ١ : ٢٤٥.

(٣) رياض المسائل ٣ : ٧٦.

(٤) الكافي ٣ : ٣٣٧ / ٥ ، التهذيب ٢ : ١٠٢ / ٣٨٤ ، الوسائل ٦ : ٤٠٠ أبواب التشهّد ، ب ٦ ، ح ١. (٥) الفقيه ١ : ٢٦٠ / ١١٨٩.

(٦) التهذيب ٢ : ١٠٢ / ٣٨٣ ، الوسائل ٦ : ٤٠١ ، أبواب التشهد ب ٦ ، ح ٢.

(٧) الفقيه ١ : ٢٦٠ / ١١٨٧.

٢٨٠