الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

القطعية ، وخلو الأدعية الموظفة ، والخطب المعروفة ، والقصص المنقولة عن المعصومين عليهم‌السلام غالباً عنها ، وعدم تعليمها للمؤذّنين ، ولأنَّه لو كان كذلك لاشتهر حتى صار أشدّ ضرورةً من وجوب الصلوات الخمس ، إلّا إنَّ الإنصاف أنّ الجميع لا يخلو من نظر واعتساف :

أمّا الأصل فلإمكان القول من جهة الخصم بانقطاعه بالأخبار الكثيرة المستدلِّ بها على القول بالوجوب عند الذكر كما سيأتي.

وأمّا إجماعات وجوبها في التشهّدين فلا تنفي وجوبها في غيرهما ؛ لعدم تعرّضها لغير معاقدها.

وأمّا السيرة ، فبعدم تحقّقها على وجه يكشف عن حجّيتها إن لم تُدَّعَ السيرة على خلافه كما يكشف عنه عمل الناس في عصرنا ، مع أنَّ تلك السيرة المدّعاة تَرْكِيّة ، وغاية ما ثبت اعتبار السيرة الفعليّة.

وأمّا خلوّ الأدعية والخطب والقصص ، فيمنعه كما يشهد به التتبُّع أوّلاً ، وعدم دلالته على المدّعى لو سلّم لأنّها لم تسق لبيان وجوبها ثانياً.

وأمّا عدم تعليم المؤذّنين ؛ فلعدم سَوْق أخباره لما سوى بيان فصول الأذان ، وما نحن فيه خارج عنه كما لا يخفى على اولي الأذهان ، بل يمكن الاستدلال بالخلوّ المذكور وعدم التعليم المزبور على خلاف المشهور ، بتقريب أنّ العلّة فيهما استغناء الحكم المذكور عن البيان لكونه في غاية الاشتهار بين أهل الإيمان ، نظير ما وجّه المستدلّ إهمال الصدوق لها في التشهُّدين من قوّة الظنّ بأنّ تركه لها في مثل ( الفقيه ) لمعروفيّة فعل الصلاة عقيب اسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أنَّ عدم تعليم المؤذّنين ممنوع ؛ لما سيأتي من الأمر بها في الأذان وغيره.

وأمّا الاستدلال بأنَّه لو كان كذلك لاشتهر ؛ فلأنّ كثيراً من الواجبات لا يعلمها إلَّا العلماء الثقات.

وحينئذ فينحصر الاستدلال في الأصل إنْ لم يتم معارضته بالدليل ، وفي إجماع

١٨١

( الناصريات ) (١) كما يقضي به التأمّل في عبارته ، مع المناقشة في هذا الإجماع أيضاً بوجوبها في خطبتي الجمعة كما هو قول الأكثر نقلاً وتحصيلاً كما قيل ، ومنهم أهل هذا الإجماع ، بل هو من معقد إجماع الخلاف (٢) والغنية (٣) والتذكرة (٤) وغيرها كما في ( جواهر الكلام ) (٥) ، بل فيها وفي ( الرياض ) نفي الخلاف عنه في الخطبة الثانية (٦) ، فيكشف هذا عن فساد ذلك الإجماع وعدم حسمه لمادة النزاع. والإجماع لا يقبل التخصيص ليخصّص بهذا المقام.

اللهمّ إلّا أن يُتكلّف دخوله في الحكم المجمع عليه بدعوى دخول الخطبتين في الصلاة ؛ لقيامهما مقام الركعتين في وجه ومقام الظهر في آخر ، ولا يخفى ما فيه وبُعده عن مذاق الفقيه.

واحتجّ للثاني بأمرين :

الأوّل : إطلاق قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٧) ، وإطلاق الأخبار الواردة في تفسيرها بعد تقييدها بما بعد الذكر فقط ؛ للإجماع على عدم وجوبها ابتداءً ، وإمكان جعل وجوبها في التشهّد لأجل الذكر ، لا من حيث الخصوصية ، إذ لا يبعد جعل الشارع إيّاها سبباً لترتّب هذا الحكم عليها. وحينئذ فتبقى الأحوال المتأخّرة من الذكر داخلةً تحت إطلاق الأمر إلّا إذا ذكر في ضمن الصلاة عليه لاستلزامه الدور المستلزم للعسر والحرج المنفيّين.

والثاني : الأخبار الخاصّة في المقام ، ففي ( الكافي ) بسندين عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا ذُكِر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأكثروا الصلاة عليه ، فإنَّ مَنْ صلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة واحدة صلّى الله عليه ألف صلاة في ألف صفّ من الملائكة ، ولم يبقَ شي‌ء ممّا خلقه الله إلّا صلّى على العبد لصلاة الله عليه وصلاة ملائكته ، فَمَنْ لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور ، قد برئ الله منه ورسوله

__________________

(١) الناصريات : ٢٢٩ / المسألة : ٩١.

(٢) الخلاف ١ : ٦١٦ / المسألة : ٣٨٤.

(٣) الغنية ( ضمن الجوامع الفقهية ) : ٤٩٨.

(٤) تذكرة الفقهاء ٤ : ٦٥ / المسألة : ٤٠٧.

(٥) جواهر الكلام ١١ : ٢٠٩.

(٦) جواهر الكلام ١١ : ٢١٠ ، رياض المسائل ٢ : ٤١٢.

(٧) الأحزاب : ٥٦.

١٨٢

وأهل بيته » (١).

والتقريب فيه : أنَّ هذا الوعيد الشديد والزجر والتهديد حتى استلزم تركها براءة الله ورسوله وأهل بيته لا يكون إلّا على الواجب ، إذ لا عقاب على ترك المستحبّات.

وفيه أيضاً عنه عليه‌السلام في حديث قال فيه : « وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَنْ ذُكِرتُ عنده فلم يصلّ عليّ دخل (٢) النار فأبعده الله. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ومَنْ ذُكِرْتُ عنده فنسي الصلاة عليّ خطئ به طريق الجنّة » (٣).

وفيه أيضاً عنه عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثله بتغيير يسير لفظي (٤) ، كما أنَّ بمضمونه أيضاً جملة من الأخبار.

كما أنَّ مثل الخبر الثاني ما عن ( ثواب الأعمال ) عن الباقر عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال فيه : « ومَنْ ذُكِرْتُ عنده فلم يصلّ عليّ فلم يغفر الله له [ فأبعده (٥) ] الله » (٦).

والتقريب في هذه الأخبار بعد حمل « نسي » بمعنى ( ترك ) : أنَّ دخول النار والبعد من العزيز الغفّار و [ الأخطاء (٧) ] به طريق الجنّات لا يكون إلّا على الواجبات.

وفي بعض الأخبار : قيل : يا رسول الله أرأيت قوله تعالى ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) (٨)؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هذا من العلم المكنون ، لولا أنَّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم ، إنَّ الله وكّلَ باسمي ملكين ، فلا اذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان عن الله تعالى : ولك مثله ، وقال الله تعالى ( وَمَلائِكَتَهُ ) جواباً لذينك الملكين : آمين ، ولا اذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان : لا غفر الله لك ، وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين : آمين » (٩).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٩٢ / ٦.

(٢) في المخطوط : « ودخل » ، وما أثبتناه موافقٌ للمصدر.

(٣) في المخطوط : « ودخل » ، وما أثبتناه موافقٌ للمصدر.

(٤) الكافي ٢ : ٤٩٥ / ٢٠.

(٥) في المخطوط : « وأبعده » ، وما أثبتناه من المصدر.

(٦) ثواب الأعمال : ٩٠ / ٤ ، وفي المخطوط : « وأبعده ».

(٧) في المخطوط : ( الخطو ).

(٨) الأحزاب : ٥٦.

(٩) البحار ٨٢ : ٢٧٩. باختلاف.

١٨٣

والتقريب فيه : أنَّ توكيل الله تعالى ذينك الملكين في الدعاء على تاركها بعدم المغفرة التي يتسبّب عنها العقاب ، وتأمينه تعالى وتأمين باقي الملائكة على ذلك الدعاء ينافي الاستحباب.

وفي ( الوسائل ) عن الصدوق بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال فيه : « وصلّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ذكرته أو ذكره عندك ذاكر في أذان أو غيره » (١).

والتقريب فيه : ظهور الأمر في الوجوب.

وفيه : عنه في ( العيون ) بإسناده عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون ، وفي ( الخصال ) عن الصادق عليه‌السلام في حديث شرائع الدين ، قال : « والصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واجبة في كلّ موطن ، وعند العطاس ، والذبائح ، وغير ذلك » (٢).

والتقريب فيه : أنَّ الظاهر من الوجوب المعنى المصطلح عليه ، ولمّا كان ظاهره الوجوب ابتداءً خرجنا عنه إلى تقييده بحالة الذكر ، فيتمّ المطلوب.

والجواب : أمّا عن الإطلاقات :

فأوّلاً : أنّ الظاهر منها أنّها مسوقة لبيان مطلق التشريع والإثبات من دون تعرّض لبيان الأمكنة والأوقات بنفي ولا إثبات. وعلى تسليم الإطلاق فهي مقيَّدة بحال التشهّد في الصلاة ، كما يشعر به ما في ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا صلّى أحدكم ولم يذكر النبيّ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته ، يسلك بصلاته غير سبيل الجنّة » (٣).

وثانياً : أنَّ غاية ما تفيده الآية (٤) هو الاستحباب لعدم القرينة على الإيجاب ، وكونه الأصل في صيغة الأمر لا يجدي في إثبات كونه هنا له بعد قيام القرينتين الصارفة والمعيِّنة من سائر الأخبار وإجماع الأصحاب.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨٤ / ٢ ، وفيه : « وذكره ذاكر عندك » ، الوسائل ٥ : ٤٥١ ، أبواب الأذان والإقامة ، ب ٤٢ ، ح ١ ، الفقيه ١ : ١٨٤ / ٨٧٥ ، وفيها : « أو ذكره ذاكر عندك ».

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٤ وفيه : « الصلوات » بدل « الصلاة » ، الخصال : ٦٠٧ ، وفيه : « والرياح » بدل « والذبائح » ، الوسائل ٧ : ٢٠٣ ٢٠٤ ، أبواب الذكر ، ب ٤٢ ، ح ٨.

(٣) الكافي ٢ : ٤٩٥ / ١٩. (٤) الأحزاب : ٥٦.

١٨٤

وثالثاً : أنّا وإنْ سلَّمنا الظهور في الوجوب إلّا إنَّ متعلّق الأمر فيها مجمل ، والقدر المتيقّن ما قام النصّ والإجماع على وجوبه ، ويبقى الوجوب في الثاني مشكوكاً فيه فيُنفى بالأصل السالم عمّا يصلح للمعارضة. وجعل الذكر قدراً متيقّناً ، وجعل وجوبها في التشهّد للفرديّة لا الخصوصية ساقطٌ عن درجة الاعتبار بالكلّيّة ؛ لأنّ الظاهر من أخبار الآل هو الوجوب من حيث الاستقلال ، كما لا يخفى على مَنْ أصلح الله له البال. على أنّه وإنْ تمّ في الوجوب التشهّدي فلا يتمّ في الوجوب في خطبة الجمعة ؛ لعدم تقدّم الذكر فيها إلّا أنْ نجعله متيقّناً آخر ، وهو خلاف ظاهره.

ورابعاً : أنَّ جعل الشارع إيّاها سبباً لترتّب الحكم عليها لا يستلزم الإيجاب ، بل يجمع مع الاستحباب.

وأمّا عن الأخبار الخاصّة :

فأمّا إجمالاً ، فلأنّ الحقّ أنَّ صحيح النظر والاعتبار والمعرفة بلسان الأخبار والممارسة لكلام الأئمّة الأطهار ، إنّما تقضي بظهورها في الاستحباب دون الإلزام والإيجاب ، كما يستفاد من تسمية تاركها عند الذكر بخيلاً أو جافياً ، كقوله عليه‌السلام في الخبر المنقول عن ( المعاني ) : « البخيل حقّا مَنْ ذُكرت عنده فلم يصلّ عليّ » (١).

وفي المنقول عن ( الإرشاد ) : « والبخيل كلّ البخيل مَنْ إذا ذكرتُ عنده لم يصلّ عليّ » (٢).

وفي المنقول عن ( عدّة الداعي ) : « أجفى الناس رجل ذُكرت بين يديه فلم يصلّ عليّ » (٣).

وذلك لأنّ البخل ضد الكرم وفاعل الواجب العيني لا يوصف به ؛ لأنّ موضوع الكرم فعل ما لا يلزمه فعله ، فإنَّ مؤدّى الزكاة لا يوصف بالكرم من هذه الجهة ما لم ينضمّ إليه فعل ما لم يجب عليه ، كما أنَّ [ تاركها (٤) ] لا يوصف بالبخل فقط بل

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٤٦ / ٩.

(٢) الإرشاد ( سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١١ / ٢ : ١٦٩ ، باختلاف.

(٣) عدّة الداعي : ٣٤ ٣٥ ، باختلاف ، الوسائل ٧ : ٢٠٧ ، أبواب الذكر ، ب ٧ ، ح ١٨.

(٤) في المخطوط : ( تاركه ).

١٨٥

يسمّى عاصياً فاسقاً. فلو دلَّ هذا الخبر على وجوب الصلاة لدلَّ ما ورد في تسمية تارك السلام بالبخيل ، بل حصر البخيل فيه على وجوب السلام ، ففي ( الكافي ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إنَّ الله عزوجل قال : البخيل مَنْ يبخل بالسلام » (١).

والعمل بأحدهما دون الآخر مع أنّهما خطاب واحد تحكّم بارد. ومثله الكلام في لفظ الجفاء ، فإنَّ تارك الواجب لا يسمّى جافياً بل فاسقاً عاصياً ، سواء جعلناه من الجفاء بمعنى الثقل على القلوب والطباع ، أو منه بمعنى القطع : ضدّ الصلة.

وأمّا ما اشتملت عليه من التهديد والوعيد بالنار وبراءة الله ورسوله وآله الأطهار صلوات الله عليهم آناء الليل وأطراف النهار فهو لا يدلّ على الوجوب ؛ لورود مثل هذا التهديد والوعيد ، بل أشدّ منهما على ترك بعض المستحبّات وفعل بعض المكروهات ؛ تنبيهاً على شدّة الكراهة ، وتأكُّدِ الاستحباب كما يشهد به تتبّعُ أخبار الأئمّة الأطياب. أو لأنّهما ليسا مرتَّبين على مطلق الترك بل على الترك المسبَّب عن السخريّة والاستهزاء واستعظام ذلك الأجر عليها ، والجزاء والاستخفاف بأوامر الله ورسوله وآله الشرفاء ، فيستحقّ تاركها على هذا الوجه ما هو أشدُّ وأذلّ وأخزى.

وأمّا تفصيلاً ، فعن الخبر الأوّل :

أوّلاً : بمخالفة ظاهره لمراد المستدلِّ ؛ لأنّ متعلَّق الأمر فيه المرتَّب على الذكر إنّما هو الإكثار لا إيجاد الطبيعة ؛ فإمّا أنْ يجعل الأمر للوجوب كما هو معنى الاستدلال فيستلزم وجوب الإكثار ويفيد التعدّد والتكرار ، ولا أظنّ الخصم يلتزمه كما لا يخفى على مَنْ جاس خلال الديار. وإمّا أنْ يجعله للاستحباب فيسقط الاستدلال من رأسٍ وينهدم من الأساس.

وثانياً : بأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام فيه : « فمَنْ لم يرغب في هذا » (٢) .. إلى آخره ، ليس أنّ ذلك الوعيد والعقاب مرتّبٌ على نفس ترك الصلاة ، بل على عدم الرغبة في ذلك الثواب العظيم والأجر الجسيم العميم. وما يستلزم الوجوب هو الأوّل ، ولكن الخبر عنه

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٤٥ / ٦ ، وفيه : « إن البخيل ».

(٢) الكافي ٢ : ٤٩٢ / ٦.

١٨٦

بمعزل.

وعن الخبر الثاني وما بمعناه :

أوّلاً : بأنّهما ليسا نصّاً في ترتُّب البعد من الملك الجبّار على نفس ترك الصلاة ، بل يُحمل ترتُّبه عليه مع انضمام بعض موجبات دخول النار بقرينة العطف بالواو ، بل على تقدير العطف بالفاء الظاهر في السببيّة كما في بعض النسخ لا مانع من قيام ذلك الاحتمال وبه يسقط الاستدلال.

وثانياً : أنَّ الظاهر منهما بقرينة بعض الأخبار وروده مورد التعجّب ممَّنْ يجعل نفسه مستحقاً لدخول النار ولا يتدارك ذنوبه بالصلاة على النبيّ وآله الأطهار ، وأنّ ذلك من سوء التوفيق وإيكال الله إيّاه لنفسه ، حتى استوجب البعد من الله وعدم الهداية إلى سواء الطريق ، ففي ( الوسائل ) عن ( المقنعة ) عن الباقر عليه‌السلام في حديث فيه : « إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قال لي جبرئيل عليه‌السلام : مَنْ ذُكرت عنده فلم يصلّ عليك فأبعده الله ، قلت : آمين ، فقال : ومَنْ أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فأبعده الله ، قلت : آمين ، قال : ومَنْ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يُغفر له فأبعده الله ، فقلت : آمين » (١).

وهو ظاهر في أنَّ معنى هذين الخبرين التعجّب ممَّنْ يهمل نفسه ولا يتدارك ذنوبه بهذه المكفّرات للذنوب ، من الصلاة على النبيّ وآله ، والدعاء والاستغفار في شهر رمضان ، وبِرّ الوالدين ، وأنّ التهاون بهذه الأُمور التي يُتداركُ بها العصيان ، يوجب البعد عن حضرة الملك المنّان.

وعن أخبار [ الأخطاء (٢) ] بناسيها طريق الجنة (٣) :

أوّلاً : باشتمالها على ترتُّب العقاب على النسيان ، وهو مخالفٌ لما علم ضرورةً من رفع العقاب عليه ، وكونُهُ بمعنى الترك وإنْ ورد في القرآن ، إلّا إنَّ كونه بمعنى ( ضد الحفظ ) أظهر ، واستعماله فيه أكثر وأشهر ، بل هو المتبادر والمنساق عند الاستعمال

__________________

(١) المقنعة : ٣٠٨ ٣٠٩. الوسائل ٧ : ٢٠٦ ، أبواب الذكر ، ب ٤٢ ، ح ١٣.

(٢) في المخطوط : ( الخطو ).

(٣) الكافي ٢ : ٤٩٥ / ١٩.

١٨٧

والإطلاق.

وثانياً : أنّا لو تنزّلنا ، وحملنا النسيان فيها على الترك ؛ تحاشياً عن الطرح وحرصاً على الجمع ، إلّا إنّها بعيدة عن الدلالة على المراد غايةً ، وأجنبية عنه نهايةً ؛ لأنّ غايةَ ما تدلّ عليه أنَّ الصلاة على محمّد وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله طريق من طرق الجنّة فمَنْ تركها فقد أخطأ طريقاً منها. وهذا ممّا لا نزاع فيه ، ولا شكّ يعتريه.

وعن خبر توكيل الملكين وتأمين الله والملائكة (١) ، بعدم دلالته على الوجوب كما لا يخفى على أُولي الألباب والقلوب ؛ لأنّ قصارى ما فيه الدعاء بعدم المغفرة ، المحتمل احتمالاً راجحاً أو مساوياً ترتُّبه على الاستخفاف والاستهزاء واستكثار الثواب والجزاء ، لا على مطلق الترك ، وإنّما ينفع الثاني دون الأوّل.

وعن قوله عليه‌السلام في صحيح زرارة :« وصلِّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلَّما ذكرته » (٢) .. إلى آخره ، وقول الصادق والرضا عليهما‌السلام : « والصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واجبة في كلّ موطن » (٣) .. إلى آخره ، بعدم دلالتهما على الوجوب :

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّ الأمر وإنْ قيل بأنّ الأصل فيه الوجوب ، لكنّه مدفوع بالقرائن الصارفة عن إرادته هنا ، مع استعماله في أخبار الأئمّة الأطياب في الندب والاستحباب على وجه يساوي الحقيقة أو يرجح عليها كما قاله بعض الأصحاب ، ولأنّ الوجوب في كلام المتشرّعة وإنْ كان ظاهراً في مقابل الاستحباب إلّا إنّ المراد بالوجوب هنا إنّما هو المعنى اللغوي وهو مجرّد الثبوت ، لا المعنى الاصطلاحي. ومن تتبّع الأخبار ظهر له استعمال الوجوب في المعنى الأوّل في لسان الأئمّة الأطهار ظهور الشمس في رابعة النهار.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ الظاهر منهما ورودهما لرفع توهّم الحظر الظاهر في غير الوجوب بقرينة ما في ( الكافي ) عن الفُضَيْل بن يَسَار ، قال : قلتُ لأبي جعفر عليه‌السلام : إنَّ الناس

__________________

(١) البحار ٨٢ : ٢٧٩.

(٢) الفقيه ١ : ١٨٤ / ٨٧٥ ، الوسائل ٥ : ٤٥١ ، أبواب الأذان والإقامة ، ب ٤٢ ، ح ١.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٤ ، الخصال : ٦٠٧ ، الوسائل ٧ : ٢٠٣ ٢٠٤ ، أبواب الذكر ، ب ٤٢ ، ح ٨.

١٨٨

يكرهون الصّلاة على محمّد وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاثة مواطن : عند العطسة وعند الذبيحة وعند الجماع ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « مالهم؟! ويلهم نافقوا ، لعنهم الله » (١).

وهو من الظهور في المراد بمكان لا ينكره إلّا عادمو الأذهان.

على أنَّ فهم الاستحباب الصادر من قدماء الأصحاب الذين هم أعرف بعرف الأئمّة الأطياب من أقوى القرائن في هذا الباب ، وحينئذ فلا وجه لجعل الوجوب في الخبر الأخير بالمعنى المصطلح والتزام التقييد ، مع أنَّ التجوُّز في لفظ الوجوب أوْلى من مجاز التقييد ، ومن الله العصمة والتسديد.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٥٥ / ١٠.

١٨٩
١٩٠

كتاب الطهارة

الرسالة الخامسة

حكم الماء المتقاطر من السقف

حال نزول المطر

الرسالة السادسة

مسألة فيما لو ماتت الأُم وقد خرج نصف الولد

١٩١
١٩٢

الرسالة الخامسة

حكم الماء المتقاطر من السقف

حال نزول المطر

١٩٣
١٩٤

حكم الماء المتقاطر من السقف حال نزول المطر (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال سلّمه الله تعالى ، وأصلحَ له الحالَ والبال ـ : ( ما يقول مولانا في المتقاطر من السقف حال نزول المطر ، يُطهّر الأرض إذا كانت نجسة ، أم لا؟ ).

أقولُ مستمدّاً منه سبحانه التوفيق لارتقاء سلّم الوصول لتحقيق الفروع والأُصول ـ : لا خلاف بين علمائنا الأشراف كما في ( الحدائق ) (٢) ، بل الظاهر حصول الإجماع في أنّ ماء المطر في الجملة حال نزوله كالجاري وإنْ اختلفوا في إطلاق كونه بحكمه جرى أو لم يجرِ ، كما نسبه في ( المعالم ) و ( البحار ) (٣) للأكثر. ونسبه في الأوّلِ للفاضلين ، والشهيدين ، وغيرهم (٤).

اشتراط الكريّة

واستظهر بعضٌ (٥) من اشتراط العلّامة رحمه‌الله في الجاري الكريّة اشتراطها فيه بحكم المشابهة ، بل صرّح بعضُ المحقّقين كما في ( الحدائق ) (٦) بأنّه الظاهر من كلام العلّامة.

__________________

(١) وردت هذه المسألة ضمن رسالة تحتوي على ثلاث مسائل ، جعلنا الأُولى والثانية منها ضمن كتاب المواريث ، وهما الرسالتان الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون بحسب تسلسل الكتاب.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٢١٤.

(٣) البحار ٧٧ : ١١.

(٤) المختصر النافع : ٤١ ، المنتهى ١ : ٦ ، البيان : ٩٨ ، الذكرى : ٨ ، روض الجنان : ١٣٧ ، رياض المسائل ١ : ٣٢.

(٥) عنه في الحدائق ١ : ٢٢٥.

(٦) الحدائق ١ : ٢٢٥.

١٩٥

إلا إنّ في كلا الاستظهارين نظراً لا يخفى على ذي عين ؛ لظهور عدم اقتضاء التشبيه العموم كما هو معلوم ، ولتصريح العلّامة رحمه‌الله بعدم الاشتراط ، كما حكي عنه في ( التذكرة ) و ( التحرير ) (١) ، و ( النهاية ) (٢).

ففي محكي ( التذكرة ): ( لو انقطع تقاطر المطر وفيه نجاسةٌ عينيّة اعتبرت الكريّة ، ولا تعتبر حال التقاطر. ولو استحالت عينُها قبل انقطاعه ثمّ انقطع كان طاهراً وإنْ نقص عن كرٍّ ) (٣). انتهى.

ألا تراه كيف صرّح بعدم اشتراطها ، فالحكاية عنه لا وجه لها. اللهمَّ إلا أنْ يُريدَ القائلُ إلزامه باشتراطها ، ولا يخفى عدمُ اتّجاه الإلزام على ذوي الأفهام.

اشتراط الجريان

وعن ظاهر الشيخ في ( التهذيب ) (٤) ، و ( المبسوط ) (٥) ، وابن حمزة في ( الوسيلة ) (٦) ، وفي جامع (٧) نجيب الدين بن سعيد : اشتراطُ الجريان من ميزابٍ ؛ لظاهر صحيح هشام بن الحكم أو حَسَنه ـ : في ميزابين سالا ، أحدُهما بولٌ والآخر ماء ، فاختلطا فأصاب ثوب الرجل ، لم يضرّ ذلك (٨).

ونحوه خبر محمّد بن مروان (٩).

وصحيح علي بن جعفر : سأل أخاه عليه‌السلام عن البيت يُبال على ظهره ، ويغتسل من الجنابة ، ثمّ يصيبه المطر ، أيؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟ فقال : « إذا جرى فلا بأس » (١٠).

وخبره أيضاً : سأله عن الكَنِيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر ، فيكف فيصيب

__________________

(١) التحرير ١ : ٤.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٩.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ١٨.

(٤) التهذيب ١ : ٤١١.

(٥) المبسوط ١ : ٦.

(٦) الوسيلة : ٧٣.

(٧) الجامع للشرائع : ٢٠.

(٨) الكافي ٣ : ١٢ / ١ ، الوسائل ١ : ١٤٥ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٦ ، ح ٤.

(٩) الكافي ٣ : ١٢ / ٢ ، الوسائل ١ : ١٤٤ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٦ ، ح ٦.

(١٠) مسائل علي بن جعفر : ٢٠٤ / ٤٣٣ ، الوسائل ١ : ١٤٥ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٦ ، ح ٢.

١٩٦

الثياب ، أيصلّى فيها قبل أنْ تُغسل؟ قال : « إذا جرى من ماءِ المطر فلا بأس » (١).

وخبره الآخر : عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب ، أيصلّى فيه قبل أن يُغسل؟ قال عليه‌السلام : « إذا جرى به المطر فلا بأس » (٢).

ولا دلالة في الأوّلين عند الإنصاف على اعتبار الجريان من الميزاب ؛ لكونه واقعاً في كلام السائل ، لا في كلام الامام عليه‌السلام. ولعلّ تعبير الشيخ رحمه‌الله وأتباعه به للتمثيل ، لا التعيين. كما لا دلالة في الجميع أيضاً على اشتراط مطلق الجريان.

أمّا صحيح ابن الحكم ، وخبر ابن مروان ؛ فلأنّ قصاراهما مضافاً إلى كون السيلان من الميزاب من كلام السائل نفي البأس عن ماء الميزابين المذكورين لو اتّفق ذلك ، وهو لا يستلزم قصر الحكم عليه وانحصارُه فيه ، كما لا يخفى على نبيهٍ.

وأمّا صحيح علي بن جعفر ؛ فبحمله على جعل الجريان من السماء علّةً مقتضية لتطهيره لما يقع عليه من النجس أو المتنجّس ، تنزيلاً لنزولهِ وجريانه من السماء منزلة المادّة للنابع ، لا أنّ الجريان شرطٌ في تطهيره.

وأمّا خبراه ؛ فلما مرّ ، أو بحمل الجريان فيهما على مثل جريان الماء في التطهير على الأعضاء أو غيرها ، من انتقال الأجزاء من مكان إلى مكان وإنْ لم يسل من الميزاب ونحوه ، وغيرها من وجوه الاحتمال ، فيبطل حينئذٍ الاستدلال. هذا في حال نزوله.

وأمّا بعد انقطاعه فهو كالواقف اتّفاقاً كما في ( كشف اللثام ) (٣) ، وبلا خلافٍ كما في ( المعالم ).

فما في ( الحدائق ) (٤) من استظهاره نفي الخلاف في أنّ ما يبقى من المطر بعد انقطاعه حكمه حكم القليل لعلّه من سهو القلم ، لا من زلّة القدم الجليل ؛ لعدم انطباقه على ظواهر الأخبار ، وكلمات علمائنا الأخيار.

__________________

(١) مسائل علي بن جعفر : ١٩٢ / ٣٩٨ ، الوسائل ١ : ١٤٥ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٦ ، ح ٣.

(٢) مسائل علي بن جعفر : ١٣٠ / ١١٥ ، الوسائل ١ : ١٤٨ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٦ ، ح ٩.

(٣) كشف اللثام ١ : ٢٧.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٢٢٤.

١٩٧

الأخبار الدالّة على كونه كالجاري

وقد احتجّوا على كونه حال نزوله كالجاري بجملةٍ من الأخبار :

منها : الخمسةُ المذكورة (١) ، وغيرُها من الآثار التي لا تخفى على من جاس خلال الديار.

أقواها سنداً صحيحُ هشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سأله عن السطح يُبال عليه ، فيصيبه السماء ، فيكفّ ، فيصيب الثوب؟ فقال عليه‌السلام : « لا بأس به ، ما أصابه من الماءِ أكثر منه » (٢).

وأقواها دلالةً مرسلُ الكاهلي عن الصادق عليه‌السلام : يسيل عليّ من ماء المطر ، أرى فيه التغيّر ، وأرى فيه آثار القذر ، فتقطر القطرات عليّ ، وينضح عليّ منه ، والبيتُ يتوضّأ على سطحه ، فيكفّ على ثيابنا؟ قال : « لا بأس ، لا تغسله ، كلّ شي‌ء يراه ماءُ المطر فقد طهر » (٣).

ونحوه خبر عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام : عن رجلٍ مرّ في ماء المطر ، قد صبّت فيه خمر ، فأصاب ثوبه ، هل يصلّي فيه قبل أنْ يغسله؟ قال : « لا يغسلْ ثوبَهُ ، ولا رجليه ، ويصلّي فيه ، ولا بأس » (٤).

إلا إنّه لا بدّ مِنْ صرفهما عن ظاهرهما ؛ ليلتئما مع غيرهما من الأخبار الواردة في هذا المضمار.

هذا ، مع أنّ في دلالتها على ما احتجّوا عليه من كونه حال النزول كالجاري مطلقاً وإن لم يجرِ نظراً ظاهراً لا يخفى على أُولي الأنظار ، بل قصارى ما تدلّ عليه كونه في بعض الصور المسئول عنها مخالفاً كحكم القليل المنفعل بالملاقاة عند غير ابن أبي

__________________

(١) انظر : ص ١٩٦ هامش ٨ ١٠ ، وص ١٩٧ هامش ١ ٢.

(٢) الفقيه ١ : ٧ / ٤ ، الوسائل ١ : ١٤٤ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٦ ، ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ١٣ / ٣ ، الوسائل ١ : ١٤٦ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٦ ، ح ٥.

(٤) الفقيه ١ : ٧ / ٧ ، الوسائل ١ : ١٤٥ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٦ ، ح ٢.

١٩٨

عقيل (١) ، بل قد ينطبق عليه بناءً على القول بالفرق بين الورودين كما نُسِبَ لجمعٍ من الأصحاب.

فلا دلالة لعدم الانفعال في بعض الصور المنصوصة التي موردها ورود الماء على النجاسة وغلبتُهُ عليها على إطلاق عدم الانفعال ، إذْ الدليل أخصُّ من المُدّعى بلا إشكال.

بل غايةُ ما يستفاد منها بعد ضمِّ مطلقها لمقيّدها ، وعامّها لخاصّها أنّ له أحكاماً يشارك في بعضها الجاري وفي بعضها الراكد ، وأنّ القدر المتيقّن من كونه كالجاري صورة الكثرة والجريان ، وأمّا في غيرها فلا مناص من الرجوع للقواعد المقرّرة من الأئمّة الأعيان.

ولقد بالغَ بعضُ المتأخّرين كما نقله ثاني الشهيدين عن بعض معاصريه من السادة الفضلاء فحكم بتطهير القطرة الواحدة من المطر إذا وقعت على الماء النجس.

ثمّ قال بعد نقله ـ : ( وليس ببعيد ، وإنْ كان العمل على خلافه ) (٢).

واعترضه أيضاً في ( المعالم ) : ( بأنّه غلط ) (٣).

ولكن لا داعي لتغليطه في الحكم ، إذ بعد حكمه أنّه كالجاري مطلقاً ولو قطرة كما هو ظاهر مرسل الكاهلي (٤) ، وأنّه يطهر الجزء الملاقي له حال وقوعه فلا ريب في إجراء التقريب المذكور في الجاري. وصدقُ الانقطاع عليه في الآن الثاني غيرُ ضائر ؛ لحصول الطهارة في الآن الأوّل. اللهمّ إلّا أنْ يريد تغليطه في الدليل.

نعم ، قد يقال : إنّ مقتضى قوله تعالى في مقام التفضّل والامتنان والتمدّح بالإنعام والإحسان : ـ ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (٥) ، ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) (٦) ، مضافاً لما دلّ على أنّ جميع المياه الأرضية من ماء

__________________

(١) عنه في المختلف ١ : ١٣.

(٢) روض الجنان ١ : ١٣٩.

(٣) عنه في الحدائق ١ : ٢٢١.

(٤) انظر : ص ١٩٨ هامش ٣.

(٥) الفرقان : ٤٨.

(٦) الفرقان : ٤٨.

١٩٩

السماء ، كما نطق به القرآن كقوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) (١) ، وقوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ ) (٢) ، بمعونة تفسيرها في الأخبار بالأنهار والعيون والآبار (٣) ، وقوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ) (٤) هو أنّ علّة تطهير المياه الأرضيّة السفليّة نزولُ أصلها من المادّة السماويّة العلويّة ، وأنّ الطهارة والطهوريّة الثابتتين لذات الماء الجاري صفتان تابعتان للصفتين الذاتيّتين الثابتتين للمادّة المسلوكة في المنبع والمقرّ.

فالأصل فيهما حينئذٍ هو ماءُ المطر ، وأنّ ما سواه فرعٌ عليه وإنْ تكثّر ، فينبغي جعلُ تشبيهه بالجاري من عكس التشبيه ، وأنّ الحقّ تشبيهُ الجاري به لما مرّ ، وإنما عكس نظراً لإفهام العوام وتقريباً للمتعارف بين الأنام.

وحيث إنّ اعتصام المياه المطهّرة وعصمتها لغيرها إنّما هي بالمادّة ، فتختلف أحكامُها باختلافها كمّاً وكيفاً ، كما في تعليل طهارة ماء الحمّام بأنّ له مادّة (٥) ، وكذا في ماء البئر (٦) ، وبها استدلّ على أنّ قليل النابع كالكثير.

وحيث إنّه لا مادّة أقوى من مادّة اتّصال ماء المطر بالسحاب المسخّر لذلك من ربّ الأرباب ، ولا كثرة أكثر ممّا اتّصل سيلانه من مسافة السماء إلى الأرض ، فلا فرق في النازل بين الغزير والنزير ، ولا في النزول بين التواتر والتقطير.

ولعلّ هذا هو السّر في تعليق تطهيره على الجريان بالمعنى الذي ذكرناه في أوّل العنوان ، وعلى أنّ ما أصابه من الماء أكثر منه ، فإنّ ظاهره تنزيل نزوله من المادة السماويّة بمعنى سيلانه منها وإنْ لم يجرِ على المساحة الأرضيّة منزلةَ الكثرة المعتبرة في تطهير المياه الأرضيّة.

__________________

(١) الزمر : ٢١.

(٢) المؤمنون : ١٨.

(٣) تفسير القمّي ٢ : ٩١.

(٤) تفسير القمّي ٢ : ٩١.

(٥) التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٦٨ بالمعنى ، الوسائل ١ : ١٤٩ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٧ ، ح ٤.

(٦) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٦ ، الإستبصار ١ : ٣٣ / ٨٧ ، الوسائل ١ : ١٤١ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٣ ، ح ١٢ ، وفيه أيضاً : ١٧٢ ، أبواب الماء المطلق ، ب ١٤ ، ح ٦ ، ٧.

٢٠٠