الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

كغفران ذنب التائب ، أو جسماني كاللذات الجسمانيّة المستجلبة بالطاعات ، وإمّا دنيوي موهبي روحاني كإفاضة العقل ، أو جسماني كخلق الأعضاء ، وإمّا دنيوي كسبي روحاني ، كتحلية النفس بالأخلاق الزكية ، وتحليتها بالفضائل العلية ، وتخليتها من الرذائل الرديّة الدنيَّة ، أو جسماني [ كتزين (١) ] البدن بالهيئات المطبوعة ، وهو المراد هنا.

كما أنَّ الفضل كما في ( القاموس ) : ( ضدّ النقص ) (٢) والبقية ، إلّا إنَّ المراد به هنا : ( ابتداء الإحسان بلا علّة ) ، كما في كتاب ( التعريفات والاصطلاحات ) (٣).

والظاهر أنَّ ما ذكره في ( القاموس ) معناهما اللغوي ، وما ذكرناه معناهما العرفيّ ، وهو المعنى المناسبُ للمقام.

وإنّما عقَّبَ الحمد بالشكر في قوله : ( وإيَّاه أشكرُ استسلاماً لعزَّتِهِ والشكرُ طَوْلُه ) جمعاً بين الوظيفتين ، وإحرازاً للفضيلتين ، وللإشعار باستحقاقه جلّ شأنه الحمدَ على كلّ حال ومقام ، سواء وصلت النعمة إلى الحامد ، أو اتّصلت بغيره من الأنام ، منبِّهاً بتقديم الحمد على الاعتناء بشأنه ، إذ هو للشكر مدارٌ ونظام ؛ ولهذا ورد عن النبيّ عليه وآله أفضل الصلاة والسلام : « الحمدُ رأسُ الشكرِ ، ما شكر الله مَنْ لم يحمده » (٤).

وهو وإنْ كان من طرق العوام إلَّا إنّه متلقًّى بالقبول عند علمائنا الأعلام (٥).

ومعناه أنَّ ذكر النعمة والثناء على المنعم باللسان أشْيعُ لها ، وأدلُّ على مكانها ، وأظهر لشأنها من ذكرها بالجنان والأركان ، ولكون اللسان مُظهراً لما انطوى عليه الجنان لخفاء حقيقة الاعتقاد ، بخلاف عمل اللسان الذي هو النطق المفصح عن خفيِّ المراد ، مشيراً بتقديم المشكور إلى انحصار الشكر فيه وقصره عليه ؛ لرجوع النعم كلّها إليه. ولهذا اعترف بأنَّ حمدَه من جملة فضله الواسع العميم ، وشكره من بعض مَنِّه وجوده العظيم ، فلا محمودَ سواه ولا مشكورَ في الحقيقة عداه.

__________________

(١) في المخطوط كلمة غير مقروءة.

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٤٢. باب اللام فصل الفاء.

(٣) كتاب التعريفات : ٧٢.

(٤) كنز العمّال ٣ : ٢٥٥ / ٦٤١٩ ، باختلاف فيه.

(٥) كنز الدقائق ١ : ٤٤.

١٤١

وهذا على رأي الأشاعرة من أنَّ جميع الأفعال مخلوقة له تعالى (١) ظاهر لا ريب فيه ؛ لأنَّ كلّ جميل فهو له خَلْقاً وتمكيناً ، ولاختصاص الحمد بالأفعال الاختياريّة ، ولا اختيار لغيره سبحانه وإنّما العبد مختار في صورةٍ ، مضطر في أُخرى ، فيختصّ الحمد به ولا يسري إلى غيره.

القول في أفعال العباد

وبيانه أنَّهم ذهبوا إلى أنَّه لا مؤثِّر في الوجود إلّا الله سبحانه ، وليس شي‌ء مؤثِّراً في شي‌ء أصلاً ، فجميع أفعال العباد من الصلاح والفساد صادرة عندهم من الله الجواد ، وليس لهم منها إلّا الكسب الذي هو عند أكثرهم الإرادة والاختيار ، بمعنى أنَّ العبد إذا أراد الطاعة أو المعصية فعلهما الله فيه. فأصل الفعل من القادر المختار وليس للعبد سوى الاختيار فيه ، فمن حيث إنَّه لا قدرة له على إيجاد الفعل ، حيث إنَّ الموجد هو الله تعالى يتّصف بالاضطرار ، ومن حيث صدور ذلك الفعل منه تعالى بعد اختياره وإرادته يوصف بالاختيار.

وفساد هذا القول الشنيع أظهر من الشمس في رابعة النهار ( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) (٢) ، ( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً ) (٣) ( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (٤).

وأمَّا على مذهب الإماميّة ، فلأنَّ تمكين العباد وإقدارهم على الأفعال الحسنة منه تعالى ؛ لأنَّ أُصول النعم وفروعها منه ، وأمَّا مُلْكُ غيرهِ فتسليطٌ منه واسترعاء ، فهو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فبهذا صحّ رجوع المحامد إليه وقصرها عليه ؛ لاستناد ما يصدر منّا إلى جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا ، وكلّها مستندة الى جوده ومتفرّعة على وجوده. فيصير توفيقه إيّاهم لحمده وشكره من جملة النعماء

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ١٤٥ ١٤٦ ، شرح المقاصد ٤ : ٢٢٣ ٢٢٤.

(٢) الإسراء : ٤٣.

(٣) الفرقان : ٤.

(٤) الإسراء : ٤٣.

١٤٢

وبعض القِسَم والآلاء ؛ ولهذا قال سيّد الساجدين وسند العابدين عليه‌السلام في دعاء التحميد : « والحمدُ لله الَّذي لو حَبَسَ عنْ عِبادِه معرفةَ حَمْدِهِ على ما أبْلَاهم من مِنَنِهِ المُتتابعةِ ، وأسبَغَ عليهم مِنْ نِعَمِه المُتظاهرةِ ، لَتصرَّفوا في مِنَنِهِ فلم يَحمَدُوه ، وَتَوَسَّعُوا في رِزْقِهِ فلم يَشْكُروه » (١).

وفي مناجاة داود عليه‌السلام : « إلهي كيف أشكُرُكَ وأنَا لا أستطِيعُ أنْ أشْكُرَكَ إلّا بنعمَةٍ ثانيةٍ من نِعَمِكَ. فأوحى اللهُ تعالى إليه : إذا عَرفتَ هذا فقد شَكَرْتَني » (٢).

وفي خبرٍ آخر : « إذا عَرفتَ أنَّ النِّعَمَ منّي رَضيتُ منك بذلك شكراً » (٣).

وبهذا صحّ كون الاعتقاد الجناني حمداً وشكراً كما مرَّ في تعريف الحمد العرفي.

__________________

(١) البلد الأمين : ٤٣٩ ، الصحيفة السجادية الجامعة : ١٨.

(٢) البحار ٦٨ : ٣٦ / ٢٢ ، وفيه : « يا ربِّ » بدل « إلهي ».

(٣) الجواهر السنيَّة في الأحاديث القدسية : ٧٤ ، عدّة الداعي : ٢٢٥ ، بالمعنى.

١٤٣

معنى الشكر وفلسفته

الشكر لغة

وأمَّا الشكر ، فالمشهور المنصور أنَّه لُغَةً (١) مرادفٌ للحمد المذكور ، فيجري فيه ما يجري فيه حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة ، بل لم يخالف فيه إلّا السيّد الشريف ، فاعتبر فيه وصول النعمة إلى الشاكر ، فجعل النسبة بينهما العموم المطلق مع احتماله الترادف أيضاً ، بناءً على عدم التقييد كما هو الظاهر ، إذ ما لعلّه يصلح دليلاً له ضعيفٌ قاصرٌ.

وأضعف منه ما عن بعض شرّاح ( الكشّاف ) مِنْ أنَّ الشكر اللّغوي لا يكون إلَّا باللسان. ولعلّه لما عن ( مجمل اللغة ) من تعريف الشكر بالثناء على الإنسان بما يوليكه (٢). وتعريفهُ الثناء بالكلام الجميل (٣) بناء على أنَّ الثناء لا يكون الّا باللسان ولا يكون بغيره ولو مجازاً.

وفيه : مع عدم استلزامه الاختصاص باللسان ، أنَّه معارَضٌ بما عن غير واحد من عدم الاختصاص ، فعن الخطابي التصريح بأنَّ الثناء يُطلق حقيقة على ما ليس باللسان ، كما في قولك : أثنى اللهُ سبحانه على ذاته ، وكما في الحديث : « أنْتَ كما أثنَيتَ على نَفْسِكَ » (٤).

وعن الجوهري والزمخشري أنَّ الثناء هو الإتيان بما يُشعر بالتعظيم مطلقاً ، سواء كان بآلةِ اللسان أو بغيرها (٥) ، بل قد يستفاد من تعريف الحمد اللغوي بالثناء باللسان كما صدر من غير واحد من الأعيان ، إذ لو اختصّ الثناء به لكان ذكره حشواً تُصان منه التعاريف ويستهجنه الذوق اللّطيف.

__________________

(١) كتاب العين ٥ : ٢٩٢ / باب الكاف والشين والراء معهما. لسان العرب ٣ : ٣١٤ حمد.

(٢) مجمل اللغة ٣ : ١٧٣ / باب الشين والكاف وما يثلثهما.

(٣) مجمل اللغة ١ : ٣٧١ / باب الثاء والنون وما يثلثهما.

(٤) البحار ٨٨ : ٨٧ ، و ٩٤ : ١٩٦ ، وفيه : « وأنت » بدل « أنت ».

(٥) نقل ذلك حسن الچلبي في حاشيته على المطوّل : ٤٠.

١٤٤

وفي كتاب ( التعريفات والاصطلاحات ) : ( الثناء للشي‌ء : فعل [ ما (١) ] يشعر بتعظيمه ) (٢). انتهى.

ولا يخفى عليك صراحة هذه العبارات في عدم الاختصاص ، ولات حين مناص. نعم قال في ( القاموس ) : ( والثَّناء والتثنية : وصف بمدحٍ أو ذمٍّ ، أو خاصٌّ بالمدح ) (٣).

وفي ( مجمع البحرين ) : ( واثنِ على ربّك ، أي أذكره ذكراً حسناً جميلاً ، من الثناء بالمد وهو الذكر الحسن والكلام الجميل ، يقال : أثنيت على زيدٍ بالألف مدحته. والاسم الثناء. واستعماله في الذكر الجميل أكثر من القبيح ) (٤) انتهى.

وهما لا يثبتان المُدَّعى ، إذ قُصَارى ما فيهما الاقتصار في تعريف الثناء على الوصف والذكر الحسن والكلام الجميل الظاهر كلٌّ منها في اللساني ، وليس ذلك إلّا لكونها أظهر الأفراد وأكثرها في الاستعمال. ومع التنزل عن تعيُّن ذلك فلا أقلّ من راجح الاحتمال وهو يكفي في إبطال الاستدلال ، على أنَّ هنا دعويين في هذا المجال :

إحداهما : أنَّ الشكر لا يكون إلّا باللسان.

وثانيتهما : أنَّ الثناء كذلك ، الذي هو من البعد بمكان.

ولئن سلّمنا الثانية فلا نسلّم الاولى ، ولا يلزم من تسليمِها تسليمُها ، كما لا يخفى على مَنْ رَقي ذُرا العرفان. ألا ترى أنَّ مَنْ عرّف الثناء بما سمعت كالفيروزآبادي والطريحي عرّف الشكر بالمعنى الأعمّ؟

قال في القاموس : ( الشُّكر بالضم عرفان الإحسان ونشره ، أو لا يكون إلّا عن يدٍ ، ومن الله تعالى المجازاة والثناء الجميل ) (٥).

وقال في ( المجمع ) في مادة شكر : ( الشَّكور بفتح الشين المتوفِّر على أداء الشكر ، الباذل وسعه فيه ، قد شغَلَ فيه قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً

__________________

(١) من المصدر.

(٢) كتاب التعريفات : ٣٢.

(٣) القاموس المحيط ٤ : ٤٤٨ / باب الواو والياء فصل الثاء ، ثنا.

(٤) مجمع البحرين ١ : ٧٦ ثنا.

(٥) القاموس المحيط ٢ : ٩٠ / باب الراء فصل الشين.

١٤٥

وكدحاً ) (١).

وقال فيها أيضاً : ( وشكرت الله : اعترفتُ بنعمته وفعلتُ ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية ) (٢).

وقال في مادة حمد ، بعد تعريف الحمد بالمعنى اللغوي السابق : ( والشكر فعلٌ ينبئ عن تعظيم المنعم ؛ لكونه منعماً سواء كان باللسان ، أو بالجنان ، أو بالأركان ) .. (٣) إلى آخره.

وقال ابن الأثير في النهاية : ( والشكر : مقابلة النعمة بالقول والفعل والنيّة ، فيثني على المنعم بلسانه ويذيب نفسه في طاعته ، ويعتقد أنَّه موليها ) (٤). انتهى.

ولا يخفى ما في هذه العبارات من الظهور كالنور على الطور ، وبه يظهر ما في القول المذكور من الضعف والقصور. كما ظهر أنَّ مرادفة الشكر اللغوي للحمد العرفي هو القويّ المنصور :

وليس يصحّ في الأذهان شي‌ء

إذا احتاج النهار إلى دليل

الشكر عرفاً

نعم ، هو بالمعنى العرفي كما صرّح به غير واحد من الأعلام عبارة عن صرف العبد جميع ما أنعم عليه به ربّ الأنام فيما خلقه لأجله من المصالح والمهام ، كصرف [ .. (٥) ] والبصر في النظر إلى ما في المخلوقات من الصنع المحكم الغريب والفعل المتقن العجيب ، والقلب إلى التدبّر فيها والاستدلال بها على وجود باريها وحكمة مبدئها ، كذا قاله غير واحد.

والظاهر أنَّ المُراد من جميع ما خلق لأجله جميع ما كلّف به ، إذ لو أُريد صرف الجميع في جميع ما خلق لأجله لا في جنسه كما نصّوا عليه لم يكد يتحقّق الشكر

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٣٥٣ شكر.

(٢) مجمع البحرين ٣ : ٣٥٤ شكر.

(٣) مجمع البحرين ٣ : ٣٩ حمد.

(٤) النهاية ٢ : ٤٩٣ شكر.

(٥) سقط في أصل المخطوط.

١٤٦

العرفي أصلاً ؛ إذ لا يمكن صرف جارحة اللسان مثلاً في وقت من الأوقات في جميع ما خلق لأجله ، كالذكر والنصيحة وإنذار الأعمى من الوقوع في البئر وغيرها ، فضلاً عن صرف الجميع.

أمَّا على ما ذكرنا فلإمكان إتيان المكلّف بما يكلَّف به في وقته وإلَّا لزم التكليف بالمحال ، وهو محالٌ على الحكيم المتعال.

النسبة بين الحمد اللغوي والحمد العرفي

إذا عرفت هذا ، فالنسبة بين الحمدين العموم والخصوص من وجه ؛ لاجتماعهما في الثناء باللسان في مقابلة النعمة والفواضل ، وانفراد اللغوي بصدقه بذلك في مقابلة غيرها من الفضائل ، وانفراد العرفي بصدقه بغير فعل اللسان من قول الجنان والأركان. فاللغويّ أعمّ متعلّقاً وأخصّ مورداً ، والعرفي أعمّ مورداً وأخصّ متعلّقاً.

النسبة بين الشكر اللغوي والشكر العرفي

وبين الشكرين ؛ إمَّا العموم والخصوص المطلق واللغويّ أعمّ مطلقاً ، أو التباين :

أمَّا الأول : فنظراً إلى أنَّ صَرْف جميع الأعضاء فيما خلق لأجله في العرفي فعل واحدٌ وإنْ تعدّد متعلَّقه من الأعضاء والآلات ، ضرورة عدم منافاة ذلك وصفه بالوحدة ظاهراً بالنظر إلى ذاته ؛ ولهذا يقال : صدر عن زيد فعلٌ واحد هو ضرب القوم ، مع تعدّد مَنْ وقع عليه الضرب ؛ ولأنَّ المركَّب تارةً يوصف بالوحدة الحقيقية كذي الأجزاء الارتباطيّة كبدنٍ واحد ، وتارة بالاعتباريّة كذي الأجزاء الاستقلاليّة كعسكرٍ واحد. والصرْفُ المذكور من الثاني لا الأوّل ، فيكون كلا الشكرين فعلاً واحداً بهذا الاعتبار ، فيتصادقان وإنْ كان اللغويّ أعمّ.

وأمّا الثاني : فنظراً إلى أنَّ الصرْف المذكور ينحلّ انحلال الكلِّ إلى أجزائه إلى أفعال متعدّدة كصَرْف اللسان ، وصَرْف القلب ، وصَرْف السمع والبصر ونحوها ، فلا يصدق عليها فعل واحدٌ فيتباينان ، ضرورة مباينة الواحد للمتعدّد ؛ ولأنَّه لو جعل

١٤٧

الصرْف المذكور فعلاً واحداً لم ينحصر الشكر اللغوي في اللسان أو الجنان أو الأركان ، بل كان المجموع قسماً رابعاً ، بل كلُّ اثنين قسماً آخر.

اللهمّ إلّا أنْ يمنع بطلان اللازم أو يجعل التقسيم هناك لمنع الخلوّ لا الجمع.

وربّما يجعل اللغوي أخصّ ؛ نظراً إلى أنَّه لا يقع إلّا بإزاء النعمة ، وعموم العرفي لها ولغيرها من سائر الكمالات كما هو ظاهر تعريفه ؛ لعدم إشعاره بكونه بإزاء النعمة.

وفيه : منع عموم العرفي لغيرها لاعتبار الإنعام فيه أيضاً ؛ لأنّ تعريفه بصَرْف العبد جميع ما أنعم الله به عليه ينادي باعتبار الإنعام.

اللهمَّ إلّا أن يكون مراده أنَّه لم يذكر في الشكر العرفي مقابلة للإنعام كما ذكر في اللغوي ، ولكنَّه لا يثبت إلّا العموم من وجه لا العموم مطلقاً ؛ إذ لا ينكر عموم الشكر اللغوي من جهات شتّى :

منها : أنَّ فعل كلّ من اللسان أو الجنان أو الأركان على جهة الانفراد يكون شكراً لغويّاً لصدق تعريفه عليه ، بخلاف العرفي لعدم صدق شي‌ء منها على أنَّه صَرْف الجميع في الجميع ؛ لأنَّه جزءٌ منه ولا يصدق الكلّ على جزئه الخارجي ، فيوجد اللغوي بدون العرفي وهو قرينة العموم. وإنَّ المُنْعم المذكور في تعريف اللغوي لم يقيّد بكونه منعماً مخصوصاً على الشاكر لا غيره ، بخلاف العرفي إذ اعتُبر فيه الخصوصيّتان ، فيكون اللُّغويّ أعمّ مطلقاً.

وربّما يمنع العموم والخصوص المطلق بين الشكْرَين بحسب الحمل والصدق ، لا الوجود والتحقّق :

أمَّا الأوّل ؛ فلأنّ الشكر اللُّغوي كصرف أحد آلات العرفي جزءٌ خارجيٌّ من صَرْف الجميع الذي هو العرفي ، فلا يحمل عليه ؛ لامتيازه في الوجود الخارجي عن سائر الأجزاء والآلات. وبين الكلّ وجزئه تباين لا عموم وخصوص ؛ لحمل العامّ على الخاصّ ، وعدم حمل الجزء الخارجي على كلّه.

وأمّا الثاني ؛ فلأعمّيّة الجزء الخارجي مطلقاً من كلِّه ؛ لاستلزام وجود الكلِّ وجودَ

١٤٨

الجزء بلا عكس ، فيكون اللُّغوي أعمّ تحقُّقاً من العرفي.

وفيه : أنَّه ناشئٌ من اشتباه المفهوم بالمصداق ، إذ مفهوم اللغويّ فعل ينبئ عن تعظيم المُنْعم لكونه مُنْعماً ، ومصداقه الذي هو صَرْف اللسان أو الجنان مثلاً مغايرٌ له مغايرة الكلّي لجزأيه. وما لا يحمل على الصرْف ما صدق عليه الشكر اللغوي لا مفهومه الذي هو الفعل المذكور ، فعموم مفهوم اللغوي للعرفي وحمله عليه لا يستلزم عموم ما صدق هو عليه وحمله عليه. فعليك بالتأمّل التامّ ، فإنّ هذا المقام من مزالِّ الأقلام بل الأقدام ، ومن الله الهداية وبه الاعتصام.

النسبة بين الحمد والشكر اللغويّين

وبين اللغويّين العموم والخصوص من وجه ، كالحَمْدَين ؛ لعموم الحمد باعتبار المتعلّق وخصوصه باعتبار المورد ، والشكر عكسه كما مرّ في الحَمْدَين ، هذا على ما هو المشهور ، بل المجمع عليه من عموم الشكر اللغوي للموارد الثلاثة ، أمّا على ما نقله بعضُ المحشّين على ( المطوَّل ) من خصوصه بجارحة اللسان ، فالحمد اللُّغوي أعمّ منه مطلقاً ؛ لفوات وجه عموم الشكر عليه. ولكنّه ضعيفٌ لا يلتفت إليه لما سمعتَ من الكلام فيه.

النسبة بين الحمد والشكر العرفيَّين

وبين العرفيّين العموم المطلق كالنسبة بين الحمد اللغوي والشكر العرفي ، والثاني أخصّ مطلقاً ؛ نظراً إلى شمول تعلُّق الأوّل به تعالى وبغيره ممَّنْ اتّصف بالفضائل أو الفواضل ، واختصاص تعلّق الثاني به سبحانه ؛ لأخذه في تعريفه ، كذا قيل.

وفيه : أنّ ما وجّهوا به عموم متعلَّق الحمد اللغوي إنّما يفيد عموم المتعلَّق ، لا عموم الحمد باعتبار المتعلَّق بحيث يصدق على الشكر العرفي أنَّه حمد لغويّ.

والحقّ أنّ النسبة بينهما التباين الكلّي بحسب الحمل والصدق ، والعموم والخصوص المطلق باعتبار الوجود والتحقّق :

١٤٩

أمَّا الأوّل ؛ فلصدق الحمد اللغوي على جهة الانفراد بالثناء باللسان فقط ، مجرّداً عن فعل الجِنان والأركان وإنْ كان مطابقة الأوّل وعدم مخالفة الثاني شرطاً في الصدق لا شطراً منه ، وعدم صدق الشكر العرفي بذلك ؛ إذ لا يصدق إلّا بانضمام فعل جميع الآلات ، فيصير الحمد اللغوي جزءاً خارجياً من الشكر العرفي ، ومن الواضح الجليّ مباينة الكلّ لجزئه الخارجي ؛ لامتناع حملهما على شي‌ء أو حمل أحدهما على الآخر.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّه متى تحقّق الكلّ تحقّق الجزء في ضمنه من دون عكس ، فكان اللغوي أعم مطلقاً بهذا الاعتبار ، وإلَّا فلا مجال لإنكار مباينة الكلّ لجزئه بحسب الحمل. وحينئذ فإنْ أراد القائل الأول العموم والخصوص المطلق باعتبار الوجود والتحقّق فمرحباً بالوفاق. وإنْ أراد بحسب الحمل والصدق ففيه ما مرّ.

وقد تجعل النسبة بينهما بذلك الاعتبار العموم والخصوص من وجه ؛ لانفراد الشكر العرفي عن الحمد اللغوي في مادة فاقد اللسان أو آلة التعبير مطلقاً ، فإنّه يتحقّق منه حينئذ صرف الجميع في الجميع ، إذ جارحة اللسان حينئذ ليست ممّا أنعم الله بها عليه ، فلا ينافي فقدانها تحقّق الشكر العرفي ، فتأمَّل.

النسبة بين الحمد العرفي والشكر اللغوي

قيل : وبين الحمد العرفي والشكر اللغوي التساوي.

وفيه : أنَّ نسبة التساوي وسائر النسب إنّما تعتبر بين الشيئين المتغايرين في المفهوم ؛ لامتناع نسبة الشي‌ء إلى نفسه بأحدها ، ومجرّد التساوي في الصدق في الترادف لا يكفي في تحقّق التساوي ؛ إذ المتساويان هما المفهومان المتّحدان مصداقاً ، والمترادفان ليسا مفهومين وإنْ اتّحدا فيه ، فالأقرب سقوط النسبة بينهما عن درجة الاعتبار.

نعم ، على ما نقل عن بعض شرّاح ( الكشّاف ) من خصوص الشكر اللغوي بجارحة اللسان يكون الحمد العرفي أعمّ مطلقاً ، كما أنَّه على تقدير تقييد النعمة في

١٥٠

الشكر اللغوي بالوصول إلى الشاكر يكون الشكر أخصّ مطلقاً ، ولكن قد عرفت ضعف القولين وسقوطهما من البيَنْ.

تبصرة :

ثمّ عقّب الحمد والشكر المذكورين بقوله ( حمداً وشكراً كما هو أهلُهُ ) تنبيهاً على العجز عن أداء ما هو أهله وحقّه من الحمد والشكر اللذين يستحقّهما على نعمائه المتواترة وآلائه المتظافرة من النعم الباطنة والظاهرة ، فيكونان حينئذ صوريَّين لا حقيقيّين ، لما مرّ من اعترافه بأنَّ الحمد والشكر المذكورين من جملة النعم التي تستدعي حمداً وشكراً آخَرينِ ، بناء على جعل الكاف على حقيقتها للتشبيه لا زائدة ؛ إذ الأصل عدم الزيادة ، مع منافرة تنكيرهما لجعل ( ما ) الموصول صفةً لهما أو نكرةً موصوفةً بدلاً منهما كما قيل. وإن جُعلت زائدة لزم خلاف الأصل مع عدم الحاجة إليه ، بل ومخالفته لظاهر المقام من الاعتراف بالعجز عن الحمد على ما أنعم به عليه.

ويمكن جعل الكاف هنا تعليلية مثلها في قوله تعالى ( وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ ) (١) ، فيكون حينئذ إشارة إلى أعلى مراتب العبادة من عدم ملاحظة رجاء الثواب ودفع العقاب ، التي هي عبادة الأحرار ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام. بمعنى : أنّه يحمده تعالى لأنَّه أهلٌ للحمد ومستحقّ للشكر مع قطع النظر عن الإنعام على حدّ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارِك ، ولا طمعاً في جَنَّتِك ، ولكن وجدتُك أهلاً للعبادةِ فعبدتُك » (٢).

ولعلّ هذا أحسن الوجوه لأوفقيّته بشأن المخلِصِين الأبرار ، جعلنا الله منهم بحقّ محمّد وآله الأطهار.

وإنّما وحّد الضمير في « أهله » مراعاة للسجع ؛ ليناسب ما بعده من قوله :

__________________

(١) البقرة : ١٩٨.

(٢) الأربعون حديثاً ( البهائي ) : ٤٤١ ، البحار ٦٧ : ١٨٦.

١٥١

( وأسأله تسهيلَ ما يلزمُ حملُهُ وتعليمَ ما لا يسعُ جهلُهُ ) لكون ذلك مطلوباً عند الأُدباء محبوباً عند العرب العُرباء.

والسؤال : طلب الأدنى من الأعلى ، كالدعاء في مقابلة الأمر والالتماس ، فإنَّ الأوّل طلبُ الأعلى من الأدنى ، والثاني طلب المساوي من مثله ، فإنْ كان متعلَّقه الاستكشاف ودفع الشبهة فالغالب فيه التعدية بـ ( عن ) ، كقوله تعالى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ) (١) ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) (٢) ، وقد يتعدّى بنفسه. وإن كان متعلّقه الاستعطاء من المال ونحوه فالغالب فيه التعدية بنفسه ، كقوله تعالى ( وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً ) (٣). وقد يتعدّى بـ ( من ) ، كقوله تعالى ( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) (٤) ، وهو هنا من قبيل الثاني.

مراتب العلم وفضله

وأصل ( يَسَع : يوسع ) فحذفت الواو لكونه مكسور العين في الأصل ، وإنّما فُتحت لأجل حرف الحلق. والقاعدة في مثله حذفها كـ ( يلد ، ويعد ) لوقوعها بين عدوَّين : فتحة وكسرة أصليّة ؛ لأنَّها إنَّما يناسبها الضمة لا الفتحة والكسرة ، ولهذا حملوا فتحة ( يؤجل ) على الأصالة حيث لم تحذف الواو كما تقرّر في محلّه (٥).

وأراد بالسعة عدم الجواز ؛ لتشاركهما في إفادة الحَجْر وعدم التجاوز ؛ تشبيهاً للضيق المعنوي بالضيق الحسّي. وأشار بذلك إلى العلم الشرعي الذي ورد فيه : إنَّ طلبه فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة (٦) وهو العلم المتعلِّق بمعرفة المعارف الخمس الإلهيّة الاعتقاديّة ، ومعرفة الأحكام الشرعيّة العمليّة ، فإنَّ لكلٍّ من هذين العلمين مرتبتين يصيران بأحدهما فرضَ كفايةٍ وبالأُخرى فرضَ عينٍ.

فالأُولى للأوَّل المرتبة التي يقتدر بها على معرفة ذلك بالأدلّة التفصيليّة ، ودفع

__________________

(١) الأنفال : ١.

(٢) الإسراء : ٨٥.

(٣) الأحزاب : ٥٣.

(٤) النساء : ٣٢.

(٥) انظر الممتع الكبير في التصريف : ٢٨٠ ٢٨٣.

(٦) إشارة إلى ما ورد في المحاسن ١ : ٣٥٣ / ٧٤٥ ، الكافي ١ : ٣٠ / ١.

١٥٢

الشكوك النفسانيّة ، وحلِّ الشبه السوفسطائيّة ، فإنَّ طلب هذه المرتبة فرضُ كفاية تسقط عن البعض بقيام بعض الرعية.

والثانية له المرتبة التي يحصل بها الاعتقاد الحقّ وإنْ لم يتمكّن من دفع تلك الشبه الرديَّة ، فإنَّ طلبَ هذه المرتبة فرضُ عين على جميع البريَّة.

والأولى من الثاني هي المرتبة التي يحصل بها العلم بالأحكام عن أدلّتها التفصيليّة ، فإنَّ طلبها فرضُ كفاية على المشهور بين الإماميّة.

والثانية له المرتبة التي يحصل بها العلم بما يحتاج إلى معرفة العبادات وغيرها ولو بتقليد أحد نوّاب الشريعة المحمّديّة ، فإنَّ طلبها فرضُ عين كما تساعد عليه الأدلّة القويّة.

وكأنّ المصنّف قدس‌سره أشار بهذا الكلام إلى ما في كثير من أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام أنَّ « طلبَ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ » (١).

وفي بعضها : « تفقَّهوا في الدينِ ، فإنَّ مَنْ لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي » (٢).

وفي بعضها : « عليكم بالتفقّهِ في دينِ اللهِ ولا تكونوا أعْراباً ؛ فإنّه مَنْ لم يتفقَّهْ في دينِ اللهِ لم ينظر الله إليه يومَ القيامة ، ولم يزكِّ له عملاً » (٣). وفي بعضها : هل يسع الناس ترك المسألة عمَّا يحتاجون إليه؟ ، فقال : « لا » (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في الحثِّ على طلب هذا العلم الواضح المنار ، وهو الذي أراده أيضاً بقوله :

( وأستعينُه على القيامِ بما يبقى أجرُه ) ، أي يدوم ثوابه ويُحْمَد مثابه.

( ويحسنُ في الملإ الأعلى ذِكرُه ) ، أي : يعلو عند أهل العالم العلوي قدره ، ( وتُرجى مثوبتُه وذخرُه ).

__________________

(١) المحاسن ١ : ٣٥٣ / ٧٤٥ ، وليس فيه : « ومسلمة » ، الكافي ١ : ٣٠ / ١.

(٢) المحاسن ١ : ٣٥٨ / ٧٦٣ ، الكافي ١ : ٣١ / ٦ ، وفيهما : « فإنّه » بدل « فإن ».

(٣) المحاسن ١ : ٣٥٧ / ٧٦٢ ، باختلاف ، الكافي ١ : ٣١ / ٧.

(٤) المحاسن ١ : ٣٥٣ / ٧٤٧ ، الكافي ١ : ٣٠ / ٣.

١٥٣

وذلك كلُّه ممّا قامت عليه البراهين العقليَّة ونطقت به الأدلَّة النقليَّة من الآيات القرآنيّة والسنَّة المعصوميّة ، قال الله تعالى ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١). وقال سبحانه ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (٢). وقال جلّ شأنه ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (٣) ، حيث فُسِّرت الحكمةُ بالعلم أو ما يرجع إليه. إلى غير ذلك من الآيات.

وروى ثقة الإسلام في ( الكافي ) بسنده إلى عبد الله بن ميمون القدَّاح ، بطريقين معتبرين ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَنْ سلك طريقاً يطلبُ فيه علماً سلك اللهُ به طريقاً إلى الجَنَّة ، وإنّ الملائكةَ لتضعُ أجنحَتَها لطالبِ العلمِ رضاً به ، وإنّه يَستغفرُ لطالب العلم مَنْ في السماءِ وَمَنْ في الأرضِ حتَّى الحوتُ في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجُوم ليلة البدر ، وإنَّ العُلماءَ ورثةُ الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورَّثوا العلم فَمَنْ أخذ منه أخذ بحظّ وافرٍ » (٤). انتهى.

ومعنى أنَّهم « لم يورّثوا ديناراً ولا دِرْهماً » أنَّهم عليهم‌السلام لحقارة الدنيا عندهم وإعراضهم عنها لا يعدُّون حطامها ميراثاً ولا يهتمون به ، أو أنَّهم لم يجعلوا عُمدة ما يحصِّلونه في دنياهم وينتفع الناس به منهم في حياتهم وبعد وفاتهم الدينارَ والدرهمَ.

وحينئذ فلا ينافي أنْ يرثَ وارثهم الجسماني منهم ما يبقى بعدهم من الأموال ، فلا وجه لطعن بعض العُلماء فيه بموافقيّة الحديث المفترع والكذب المخترع على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : « نحنُ معاشرَ الأنبياءِ لانورِّث » (٥).

ويحتمل أنْ يقال : إنَّ وارثهم من حيث النبوّة الروحانية المختصّة بهم العلماءُ ؛ لأنَّ المتعلِّم ابنٌ روحاني لمعلِّمه ، ولهذا قيل :

مَنْ عَلَّمَ العِلْمَ كان خيرَ أبٍ

ذاك أبو الروح لا أبو الجسد

__________________

(١) المجادلة : ١١.

(٢) فاطر : ٢٨.

(٣) المجادلة : ١١.

(٤) الكافي ١ : ٣٤ / ١.

(٥) مسند أحمد ٢ : ٤٦٣ ، وفيه : « معشر » ، البداية والنهاية ٢ : ٢٢.

١٥٤

وحينئذ فلا ينافي إرث وارثهم الجسماني أموالهم الظاهرة.

وفي ( تفسير الإمام العسكري ) عليه‌السلام وكذا في ( الاحتجاج ) أيضاً عنه عليه‌السلام : « قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : مَنْ كان من شيعتنا عالِماً بشريعتنا ، فأخرج ضُعفاءَ شيعتنا من ظُلْمَةِ جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به ، جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاجٌ من نورٍ يضي‌ءُ لأهل جميع العرصات ، و [ عليه (١) ] حلّة لا يقوّم لأقلِّ سلك منها الدنيا بحذافيرها ، ثمّ ينادي منادٍ : يا عباد الله ، هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا فَمَنْ أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبّث بنوره ؛ ليخرجه من حيرةِ ظُلمةِ هذه العرصات إلى نزهة (٢) الجنان. فيخرج كلُّ مَنْ كان قد علَّمَه في الدنيا خيراً ، أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً ، أو أوضح له عن شبهة » (٣).

وفيهما أيضاً قال : « قال محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام : العالم كَمَنْ معه شمعة تضي‌ء للناس ، فكلّ مَنْ أبصر بشمعته دعا له بخير ، كذلك العالم له شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة ، فكلّ مَنْ أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل فهو من عُتقائه من النار ، والله يعوّضه عن ذلك بكلِّ شعرة لمَنْ أعتقه ما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار على غير الوجه الذي أمر الله عزوجل به ، بل تلك الصدقة وبالٌ على صاحبها ، لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة يصلّيها بين يدي الكعبة » (٤). انتهى.

وقد اشتمل الكتابان المذكوران على طرف وافر من الأخبار الواردة في هذا العنوان ، وَمَنْ أراد الاستكثار منها فليطلبها من المظانّ.

كلمة التوحيد

( وأشهدُ ) أي : أعلم ، من الشهادة بمعنى العلم المُعبَّر عنه بالإخبار عن يقين ، أو من الشهادة بمعنى الحضور لاستلزامه العلم غالباً بأنَّ الشهادة حضورٌ لمشهود به وإدراك

__________________

(١) من المصدر.

(٢) في نسخة : نزهات. ( منه ).

(٣) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٣٩ / ٢١٥ ، الاحتجاج ١ : ١٠ / ٣ ، باختلاف يسير.

(٤) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٤٢ / ٢٢٠ ، الاحتجاج ١ : ١١ / ١٢.

١٥٥

به بالبصر أو السمع. وأمّا ما كان بالدليل القطعي كما هنا ، فبتنزيل الحضور المعنوي الباطني منزلة الحضور الحسّي ؛ لأنَّه إذا نظر في الآثار ودلَّه صحيحُ النظر والاعتبار على الوحدة الحقيقيّة دلالة قطعيَّة كان كَمَنْ أبصر الشهود العدول من الآيات الجليَّة الآفاقيَّة والأنفسيَّة ، فإنَّ كلَّ شي‌ء منها يشهد شهادة حضور ومعاينة باللسان الصادق من حاله بوحدة المتعالي في عزّه وجلاله.

و ( أنْ لا إلهَ ) لجميع المخلوقات من الناطقات ، والصامتات ، والجامدات ، والناميات ، وأصناف [ المبروءات والمذروءات (١) ].

( إلّا الله ) الجامع لجميع الكمالات.

والإله في أصل اللغة (٢) يقال لكلّ معبودٍ سواء كان بحقّ أو باطل ، ثمّ غُلِّبَ في الاستعمال على المعبود بالحقّ.

وعن ( الكشّاف ) : أنَّ ( إلهاً ) بالتنكير لمطلق المعبود ، وبالتعريف للمعبود بالحقّ (٣).

وقد تُحذف همزته فيقال : لاه ، كقراءة بعضهم : وهو الذي في السماء لاه وفي الأرض لاه (٤).

وقول الشاعر :

كحلفَةٍ مِنْ أبي رباحٍ

يَسمعُها لاهُهُ الكبارُ (٥)

وهل هو اسم جنسٍ أو صفةٌ؟

قيل بالأوّل ؛ لأنَّه يوصف ولا يوصف به كما هو شأن الأسماء ، فيقال : إلهٌ واحد ، ولا يقال : شي‌ء إلهٌ ، كما لا يقال : شي‌ء رجل.

وقيل بالثاني ؛ لقوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) (٦) ، لتعلّق الظرف

__________________

(١) في المخطوط : ( المذروّات والمبروّات ).

(٢) لسان العرب ١ : ١٨٨. إله.

(٣) الكشّاف ١ : ٥ ٦ ، بالمعنى.

(٤) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ١ : ٥٧.

(٥) البيت للأعشى ، في ديوانه : ١١١ ، مجمع البيان ١ : ٢٠.

(٦) الزخرف : ٨٤.

١٥٦

به. وكلا الدليلين ليس نصّاً في المدّعى :

أمّا الأوَّل ؛ فلجواز كون الوجه في عدم الوصف به إجراؤه مجرى العلم وإعطاؤه حكمه.

وأمّا الثاني ؛ فلجواز تعلّق الظرف به باعتبار صفة لازمة له وهي المعبوديّة ، كقوله :

أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة

[ ربداءُ تجفلُ من صفير الصافرِ (١)

] وأمَّا خبر ( لا ) هذه فقد اضطربت فيه [ الأفهام (٢) ] ، وزلّت فيه أقدام الأقلام ، وانتصلت فيه سهام النقض والإبرام ؛ فذهب كثير من المحقّقين إلى الاستغناء في هذا المقام وأمثاله عن الخبر :

إمَّا لأنَّ ( إلّا الله ) مبتدأ و ( لا إله ) خبره ؛ لأنَّ أصله ( الله إله ) فزيدت ( لا ) و ( إلَّا ) لإفادة الحصر ، فمعناه : الله إلهٌ لا غيره. وإنَّمَا جُعل ( إلَّا الله ) مبتدأ ؛ لأنَّ إلهاً نكرة فلا يبتدأ بها.

وفيه : أولاً : أنَّه لا يتم في كلّ التراكيب ، كـ ( لا حول ولا قوّة إلّا بالله ) ، وليس مرادهم خصوص هذا التركيب.

وثانياً : أنَّه لا يدفع المحذور الذي أرادوا الفرار منه ؛ لأنّ حصر المستحقّ وهو معنى ( لا إله ) في الله تعالى ليس نصّاً في ما هو معتبر في الإيمان من عدم إمكان الغير ووجوده تعالى بالفعل ؛ لأنَّه إنْ أُريد بـ ( الإله ) واجب الوجود ؛ فإنْ أُريد حمله بالفعل فلا يدل إلّا على الوهيّته تعالى ونفي وجود إله غيره فعلاً ، ولا يدلّ على نفي إمكانه ، وإنْ أُريد حمله بالإمكان فلا يدلّ على وجوده سبحانه فعلاً ، وإنْ أُريد بالإله المعبود بالحقّ فلا ينفي تعدّد الواجب أصلاً.

وإمّا لأنَّ كلمة ( لا ) اسم فعل بمعنى انتفى ، كما أنَّ كلمة ( هاء ) اسم لـ ( خذ ) ، و ( يا ) اسم لـ ( أدعو ). وانتفاء نفس الشي‌ء معقول ؛ لتعلّق السلب في السالبة بنفس الاتّصاف ، لا بحال من أحواله ، وإلّا لم يتحقّق التناقض بين الموجبة والسالبة ؛ لجواز

__________________

(١) لعمران بن حطّان قاتل الحجاج : الأغاني ١٨ : ١١٦ ، الكشّاف للزمخشري ١ : ٧٨.

(٢) في المخطوط : ( الإبهام ).

١٥٧

تعلّق نفس الاتّصاف بالخارج ، وتعلّق السلب بحال من أحوال الاتّصاف ، فلا تناقض. وعلى هذا فتصير ( إلّا ) بمعنى غير ، فاعلاً لـ ( انتفى ).

وأُورد عليه بأنَّ حمل ( إلَّا ) على معنى غير مشروط بتبعيّتها لجمعٍ مُنكَّر غير محصور.

ويمكن الجواب عنه بجواز بناء القائل على عدم الاشتراط ، إذ لم يشترطه إلَّا ابن الحاجب وبعض مَنْ تبعه (١) ، مع أن سيبويه أنكره ومنعه (٢) ، بل نسبه المحقّق الرضي إلى أكثر المتأخّرين (٣) ، وعليه قول الشاعر :

وكلُّ أخ مفارقُهُ أخوهُ

لَعَمْرُ أبيكَ إلّا الفرقَدَان (٤)

وتنزيله على حذف ( أن ) (٥) يكون في غير محلّه.

وإمَّا لأنّ كلمة ( لا ) تدلّ عليه ، فالخبر محضور بالبال عند سماع كلمة ( لا إله إلّا الله ) ، لكنّه غير معتبر في نظم الكلام وإنْ كان مقدّراً في الإرادة ؛ ولهذا التزم التميميّون والطائيّون حذف خبر ( لا ) هذه ، إمَّا مطلقاً كما نقله ابن مالك عنهم (٦) ، وإمَّا إذا كان خبراً مرفوعاً كما هنا دون الظرف والجار والمجرور كما نقله ابن خروف ، وسيبويه في ظاهر كلامه ، بل نقله أبو حيّان عن الحجازيّين ، وقال : وأكثر ما يحذفه الحجازيون مع ( إلَّا ) ، نحو ( لا إله إلّا الله ) (٧).

ولعلّ ارتكاب هذا أسهل من سائر التكلّفات لاستناده إلى ظاهر اللغات.

وذهب جماعة كالشارح الشهيد رحمه‌الله (٨) والفاضل الأبهري إلى أنَّ هذه الكلمة

__________________

(١) شرح الرضي على الكافية ٢ : ١٢٥.

(٢) شرح الرضي على الكافية ٢ : ١٢٩ ، همع الهوامع ١ : ٢٢٩.

(٣) شرح الرضي على الكافية ٢ : ١٢٩.

(٤) نسب لعمرو بن معديكرب ، كتاب سيبويه ١ : ٤٣٥ ، ولسان العرب ١ : ١٧٥ إلّا.

(٥) أي إلا أن يكون الفرقدان ، وهو قول الكسائي. انظر شرح الرضي على الكافية ٢ : ١٣٠.

(٦) عنه في شرح ابن عقيل ٢ : ٢٥.

(٧) شرح الرضي على الكافية ١ : ٢٩٢ ، قاله الرضي ولم ينسبه لأبي حيّان.

(٨) الروضة البهية ١ : ١٧ ـ ١٨.

١٥٨

وُضعت بوضع شرعي لإفادة التوحيد ، فهي مفردة فلا يطلب لها ما يطلب على تقدير التركيب.

وهذا وإنْ سَلِمَ من بعض التعسُّفات إلّا إنَّه يلزم منه عدم الحكم بالإسلام بمجرّد الإتيان بهذا الكلام ما لم يعلم إرادة المعنى الشرعي ، مع أنَّه خلاف ما جرت به السيرة من الحكم بإسلام قائلها من غير تفتيش عمّا قصد بها مع بُعد اطّلاعهم على الاصطلاح الشرعي وإرادته.

وما يقال : إنّ نفي وجود إله غيره كما هو ظاهرها لغةً يكفي في الإسلام ، ثمّ نقلت شرعاً إلى إفادة التوحيد التامّ ، ليقصده الموحّدون الكاملون ويترتَّب عليه لهم المرتبة العليا من الأجر والثواب.

ففيه : أنَّه إنّما يتمّ لو اعتبر في الإسلام نفي وجود الغير فقط ، أمَّا مع اشتراط ضميمة الإقرار بوجوده تعالى بالفعل فلا.

اللهمَّ إلّا أنْ يكتفى في صدور الإسلام بالمرتبة الاولى ثمّ بعد الإذعان بها يُكلَّفُ بالمرتبة العليا ، وهكذا كما هو غير بعيد ، والله العالم.

وذهب الأكثر إلى أنَّه لا بدَّ لها من الخبر وإنّما حذف لنكتتين : مصحِّحة ومرجِّحة :

أمّا الاولى ؛ فلأنَّ ( لا ) للسلب ، وهو فرع الوجود فيحذف لدلالة ( لا ) عليه ، كما يقال في ( لولا زيد لكان كذا ) : إنّ الخبر محذوف ؛ لأنّ ( لولا ) لانتفاء الثاني لوجود الأوّل ، فتدلّ على الوجود. ولا يخفى ما فيه من التكلّف :

أمَّا أوّلاً ؛ فلأنَّه إنّما يتمّ لو انحصر الخبر في الوجود ، ولكنّ المفروض بل الواقع خلافه.

وأمَّا ثانياً ؛ فلأنَّ الوجود المتوقِّف عليه صحّة السلب غير ما نحن فيه ؛ لأنّ ما تدلّ عليه ( لا ) و ( لولا ) إنّما هو الوجود اللفظي الرابطي ، والمُراد إنّما هو الوجود الذاتي الأصلي المعبَّر عنه في لسان بعض بالوجود المحمولي ، فما وجد لم يقصد وما قصد لم يوجد حتى يحذف.

١٥٩

وثالثاً : أنَّ هذا لو تمّ لكان دليلاً للطائفة الأُولى القائلة بعدم احتياج هذه الهيئة التركيبيّة إلى تقدير الخبر ؛ لدلالة ( لا ) عليه.

هذا كلّه مضافاً إلى استلزام قولهم : إنَّ السلب فرع الوجود ، وجود إله معبود غير واجب الوجود.

اللهم إلّا أنْ يكتفوا بوجوده بحسب دعوى ذوي الجحود.

وأمَّا جعل بعضهم النكتة المصحّحة للحذف ؛ إنّ ( لا ) لمّا كانت للسلب ولم تقم قرينةٌ على خصوص المسلوب صُرف إلى العامّ ؛ لأنّ عدم قرينة الخصوص قرينة العموم.

ففيه : أنّه إن أراد بالعامّ اللفظ الصادق على نحو الوجود والكون والحصول والثبوت فهو خروج عن المُدّعى ، وإنْ أراد به مطلق المتعدّد كما هو ظاهر كلامه فلا وجه لجعله نكتة اخرى غير نكتة ذهاب السامع كلّ مذهب ، بل إحداهما عبارة أُخرى عن الأُخرى.

وأمّا الثانية ، فهي أنَّ المتكلّم يتحاشى عن ذكر وجود غيره سبحانه ولا يريد أنْ يلوّث بذكره لسانه ، بل يريد أنْ يفرغ بسرعة عن السلب الذي هو بمنزلة العدم الذي هو شرّ محض إلى الإيجاب الذي هو كالوجود الذي هو خير محض ، وليذهب السامع كلّ مذهب ممكن.

أقول : هذه النكتة لا ضير فيها ولا تثريب على ذاكريها ، ثمّ اختلف هؤلاء في تقدير المحذوف على أقوال :

فمنهم مَنْ قال : إنّه موجود.

وأُورد عليه : بأنَّه وإنْ استلزم وجوده تعالى وعدم وجود غيره سبحانه ولكنّه لا ينفي إمكان وجود غيره جلَّ شأنه ، فلا يكون نصّاً في التوحيد المعتبر في الإيمان.

وأجاب عنه بعض المحقّقين ، منهم جمال الدين الخونساري رحمه‌الله في حاشية شرح الكتاب ، بأنّها حينئذٍ تفيد نفي إمكان المعبود بالحقّ غيره سبحانه ؛ لأنّ المعبود

١٦٠