الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

بها للتعويض عن المحذوف كما هو المنقول عن الكوفيّين ليرد ما أُورِد عليهم مِنْ أنَّه خلاف المعهود ، إذ المعهود التعويض بالهاء في العجز كـ ( العدة ) لا التعويض بالهمزة في الصدر.

وقال البصريّون (١) : إنّه مشتق من ( السمو ) بمعنى العُلوّ والارتفاع ؛ لأنَّه رفعةٌ لمسمّاه ، فهو عندهم من الأسماء المحذوفة الأعجاز كيدٍ ، ودمٍ ، وغدٍ ، واصلة سمو ، بكسر الفاء أو ضمِّها ، فحذفت لامه ؛ تخفيفاً لكثرة الاستعمال ثمّ أُسقطت حركة فأية حذراً من الاستثقال فاتي بهمزة الوصل حال الابتداء لتعذر الابتداء بالساكن.

وآثروا الهمزة على غيرها لأنّها تثبت في الابتداء فيتحصّل بها الغرض وتسقط في الدرْج لعدم الحاجة إليها ، وليس غيرها كذلك.

وتظهر ثمرة الخلاف في أصله الموزون به ، فعلى قول ( الكوفيّين ) يكون وزنه ( اعلاً ) وعلى قول البصريين ( افعاً ).

وقد أرخينا زمام الكلام في هذا المقام بإيراد الأدلّة من الجانبين ، وترجيح قول الكوفيّين من البين ببعض أدلّةٍ قويّةٍ في بعض أجوبة المسائل النحويّة. إلّا إنَّ الإنصاف أنّ قول البصريّين أيضاً قويٌّ متين لسلامته من كثير من التكلّفات وإنْ كان قول الكوفيّين أوفق بظواهر بعض أخبار الهُداة.

وفيه خمس عشرة لغةً جمعت في قول بعضهم :

سماة سم واسم كذا سمة سما

لغاتٌ بتثليث الأوائل فاعلما

والأصل في همزته أنْ تثبت خطّاً وإنْ حُذفت لفظاً كغيرها من همزات الوصل ، وإنّما حذفت حين الإضافة إلى اسم الجلالة تخفيفاً لكثرة الاستعمال أو للتعويض عنها بمد الباء ، قيل : أو ليوافق الخط اللفظ (٢). ولا يخفى عدم اطّراده لانتقاضه بِاسمِ رَبِّكَ (٣) ؛ إذ لم تُحذف في الخط تبعاً للّفظ.

وعن الكسائي والأخفش جواز حذفها إذا أُضيفت إلى غير اسم الجلالة من

__________________

(١) الإنصاف في مسائل الخلاف ١ : ٦ ـ ٧ ، التفسير الكبير ١ : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون ١ : ٥٥.

(٣) الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون ١ : ٥٥.

١٢١

أسمائه تعالى كـ ( بسم ربِّك وبسم الخالق ) (١).

وحكى النحاس عن بعضهم أنَّه لا حذف أصلاً وإنّما أصله : ( سِم ) أو ( سُم ) بكسر السين أو ضمّها من غير همز ، وسُكِّنت السين بدخول الباء تخفيفاً لوقوعها بعد كسرة أو ضمّةٍ (٢). وهو غير بعيد عن الصواب ؛ لأنَّ ذلك إحدى لُغاته بلا ارتياب ، مع سلامته من التكلُّف والاضطراب.

وحيث كان الجار والمجرور وُصْلة ورابطة لغيرهما فلا بدّ لهما من متعلَّق يتعلّقان به ، وهو واحد من ثمانية أُمور حاصلة من ضرب اثنين : الفعليّة والاسميّة ، في أربعة : العموم والخصوص والتقديم والتأخير ، ولكلٍّ واحد منها مناسبة ترجِّحه في الجملة ، ولعلّ أوّلها ما كان فعلاً خاصّاً مقدّماً أو مؤخّراً ؛ لما لا يخفى على الفطن اللبيب ، وكان له من المعرفة بالأساليب أوفر نصيب.

في لفظ الجلالة

و ( الله ) عَلَمٌ عربي للذَّات الواجب الوجود البحت الباتّ ، كما هو الحقّ عند أهل التحقيق ، وهو الحريّ بالقبول والتصديق ؛ ولهذا صحَّ وصفه دون الوصف به كما هو حقُّ الأسماء العَلَمِيَّة ، ولاتّصافه تعالى بالوحدة الحقيقيَّة عن جميع التكثُّرات ولو اعتباريَّة ذهنيّة أو خارجيّة ، لا أنّه معرّب ( لاها ) الذي هو لفظ سرياني فحذفت الألف من آخره للتخفيف ثمّ أُدخلت عليه أداة التعريف ، ولا أنّه وصف لمفهوم الواجب لذاته أو مفهوم المعبود بالحقّ كما قيل ؛ إذ لو كان كذلك لم يكن قولنا : ( لا إله إلّا الله ) ، مفيداً للتوحيد الحقيقي ؛ لاحتمال المفهوم من حيث هو الشركة المستلزمة للتكثُّرات المنافية للوحدة الحقيقيَّة.

فقُصارى ما تفيده حينئذٍ انحصار الإله في هذا المفهوم الكُلّي المحتمل للأفراد المنتشرة والمصاديق المتكثّرة ، لكن التالي باطل فالمقدّم مثله ، لا لما قيل من أنَّه لو

__________________

(١) الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون ١ : ٥٥.

(٢) الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون ١ : ٥٥.

١٢٢

كان اسماً لذلك المفهوم لكان الإله ؛ إمّا أنْ يُراد به المعبود بالحقّ فيلزم استثناء الشي‌ء من نفسه ، أو مطلق المعبود فيلزم الكذب لكثرة المعبودات الباطلة ؛ لأنَّه غير تامّ في إثبات المرام ؛ لأنّ لهم اختيار الشقّ الأول ، ودفع لزوم استثناء الشي‌ء من نفسه بأنَّه يكفي في المفهوم لا استثناء العموم ولو بحسب المفهوم. ولهذا صحّ استثناء كلّي من كلّي آخر إذا كان مفهوم الأوّل أعمّ من مفهوم الثاني ، كما تقول : ( لا ناطق إلّا الإنسان ، ولا صاهل إلّا الفرس ) مع أنّه في قوّة ( لا ناطق إلّا الناطق ، ولا صاهل إلّا الصاهل ) ، ولكن لمّا كان مفهوم الأوّل أعمّ صحّ الاستثناء.

وما قيل من أنَّه لو كان عَلَماً لما أفاد ظاهر قوله تعالى ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) (١) ولا ظاهر قوله تعالى ( وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ) (٢) معنىً صحيحاً ؛ لأنّه فيهما بمنزلة قولنا : اللهُ اللهُ ؛ لصيرورته حينئذٍ جزئيّاً حقيقيّا وعود الضمير إلى الله تعالى بخلاف الحمل على الوصفيّة.

ومن أنّه لو كان جزئيّاً حقيقيّا لما أُخبر عنه بأحد ؛ للزوم التكرار.

ومن أنّ وضع العَلَم بإزاء ذاتٍ فرعُ تعقّلها ، وذاته تعالى من حيث هي غير معقولة للبشر فلا يتصوّر كونه عَلَماً له.

لا يثبت المدّعى :

أمّا الأوّل ، فلأنّه لمّا اشتهرت تلك الذّات بوصف المعبوديّة بالحقّ وجَمْعِ الكمالات صحّ جعله خبراً باعتبار تضمّنه تلك الصفات ، فيؤول إلى قولنا : الجامع لتلك الأوصاف أحد وهو المعبود بالحقّ مثلاً ، أو المستحقّ للعبادة في السماوات والأرض ؛ لأنّ الأسماء قد يلاحظ فيها معانٍ تصلح لتعلُّق الظروف بها مستفادة من تصوّر مسمّاها ، كما يلاحظ في ( حاتم ) معنى الكريم وفي ( الأسد ) معنى المتجري وفي ( قس ) معنى الفصيح ، ولهذا صحّ تعلّق الجار والمجرور بـ ( أسد ) في قول الشاعر :

__________________

(١) الإخلاص : ١.

(٢) الأنعام : ٣.

١٢٣

أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة

[ ربداءُ تجفلُ من صفير الصافرِ ] (١)

باعتبار الصفة اللازمة له من الصولة والتجرؤ. فيلاحظ هنا المعبود بالحقّ لاشتهاره به في ضمن هذا الاسم الأقدس.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الجزئي الحقيقي إنّما ينفي الكثرة الذاتيّة والتعدّدات الذاتيّة فيرادف الواحد فلا يفيد إلّا نفي الشريك المماثل ، لا نفي الكثرة الأجزائيّة والصفاتيّة ، بخلاف ( الأحد ) ؛ فإنّه يقتضي نفي التعدّد والتكثّر في الذات والأجزاء والصفات ؛ لأنَّ جميع الصفات لا وجود لها في الخارج ، بل نِسَبٌ واعتبارات ، ولهذا قال سيّد الموحّدين وإمام العارفين : « وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه » (٢).

فيؤول إلى : هو واحد أحد. ولا ضير فيه ، مع أنّ كلام الخصم لا يتمّ إلّا بجعل ( هو ) ضمير الشأن ، وليس بمتعيّن ؛ لجواز كونه مبتدأ بمعنى المسئول عنه و ( الله ) خبراً و ( أحد ) بدلاً ، لأنَّه في معرض الرد على المشركين حيث سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ربّه هل هو من نحاس أم من ذهب (٣) فيسقط كلام الخصم من رأس وينهدم من الأساس.

وأمّا الثالث ؛ فلأنّ التعقّل الممتنع إنّما هو التعقُّل بكنه الحقيقة ، وهذا غيرُ لازم في الوضع بل يكفي فيه تعقُّل معناه بوجه يمتاز به عن جميع ما سواه ، ولا نزاع في معلوميَّته بصفاته الحقيقيّة الإضافيّة والسلبيّة على قدر ما ظهر منها بالفيض الإلهي ، والإلهام السبحاني ، والتعليم النبويّ والإماميّ ، والعقل الفطريّ. على أنّه إنّما يتمّ لو كان الواضع مطلقاً أو واضع هذا الاسم الشريف غيره تعالى ، أمّا إذا كان هو هو كما هو الحقّ فلا مانع من أنْ يعلم غيره بالوحي أو الإلهام ، أو يضع لنفسه علماً ثمّ يظهره

__________________

(١) البيت لعمران بن حطّان قاتل الحجّاج : الأغاني ١٨ : ١١٦.

(٢) نهج البلاغة : خطبة (١).

(٣) تفسير فرات الكوفي : ٦١٧ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٢٢.

١٢٤

لعباده على لسان أوليائه.

وهل هو مشتقّ أو لا؟ قولان ، أشهرهما وأظهرهما الأول ؛ للخبر الصحيح ، والأثر الصريح عن هشام بن الحكم : أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها ، الله ممّ هو مشتقّ؟ قال : فقال لي : « يا هشام ، الله مشتقّ من إله والإله يقتضي مألوهاً » (١) إلى آخر كلامه ، عليه أفضل صلاة الله وسلامه.

وعلى القول باشتقاقه فهل هو مشتقٌّ من أَلَه وأَلِه كَضَرَبَ وفَرِحَ إلاهَة وأُلوهية وأُلُوهة بمعنى عبد (٢) ، أو من أَلِه بمعنى سكن ، أو من إله إذا أولع ، أو مِنْ ألِه إليه كفَرِحَ بمعنى فزع (٣) ولاذ ، أو بمعنى تحيَّر (٤) ، أو مِنْ لَاهَ ليهاً إذا احتجب وعلا وارتفع ، أو مِنْ لَاهَ لوهاً ولوهاناً بمعنى اضطرب وبرق ، أو مِنْ لَاهَ لوهاً بمعنى خَلَقَ ، أو مِنْ لَاهَ يليه بمعنى خفي واستتر ، أو مِنْ وَلِهَ بمعنى تحيّر أو بمعنى حزن (٥) وخاف ووجل (٦) ، أو من ألِهَ إذا أقام؟

وجوه وأقوال ، قد استوفينا الكلام عليها في أجوبة بعض المسائل ، موشّحاً بالشواهد والدلائل وبيان وجوه المناسبات بين تلك الاشتقاقات.

ولا يخفى على ذي حِجْر وحجا وفطنة وذكاء صدق هذه الاشتقاقات عليه سبحانه بأسرها وإنْ تفاوتت قوَّةً وضعفاً وظهوراً وخفاءً.

وقد تقرّر في محلّه أنّ الكلمة متى رجعت إلى اشتقاقات واضحة محقّقة جاز الحمل على كلّ منها وإن ترجّح الأوضحُ الأجلى. لكن على اشتقاقه من أَلَهَ بمعنى عبَدَ وسكن وأولع وفزعَ وتحيّر ، ومن وَلِهَ بمعنى تحيّر وحزن وخاف ووجل ، يكون وزنه فعالاً بمعنى مفعول ، أي معبود ومسكون إليه ومولَع به بفتح اللام ، ومفزوع إليه

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٧ / ٢ ، البحار ٤ : ١٥٧ / ٢.

(٢) مختار الصحاح : ٢٢ أله ، لسان العرب ١ : ١٨٩ إله.

(٣) لسان العرب ١ : ١٨٩ ، ١٩٠ إله.

(٤) مختار الصحاح : ٢٣ إله ، لسان العرب ١ : ١٨٨ ، ١٩٠ إله.

(٥) لسان العرب ١٥ : ٣٩٩ إله.

(٦) لسان العرب ١٥ : ٣٩٩ إله.

١٢٥

ومتحيّر فيه ومخوف ومحزون وموجول من سطوته وقدرته ، فالهمزة فيه والواو المبدلة همزة أصليّتان.

وأمّا على اشتقاقه من ألِهَ بمعنى أقام فوزنه أيضاً ( فعال ) لكن من غير نقل إلى معنى ( مفعول ) ، وما ذكرناه هنا فهو قليلٌ من كثير ونقطة من غدير ، حرصاً على الاشتغال بما هو أهمّ ، ونفعه أتمّ وأعمّ.

ومن أراد استقصاء الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام في جميع مباحث هذه اللفظة الشريفة التي حارت في لفظها ومعناها الأفهام ، فليرجع إلى جواب تلك المسائل التي أشرنا إليها ، وإلى شرحنا على خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل قد عملنا فيها رسالةً في سالف الزمان سمّيناها ( شمس الدلالة في تحقيق الجلالة ). لكنّها لم تتمّ ونسأل الله التوفيق للإتمام.

معنى الرحمن والرحيم

و ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) صفتان مشبَّهتان من رَحِمَ كعلم ، بعد جعله لازماً بمنزلة الغرائز بنقله إلى فَعُلَ ككَرُمَ.

ولمّا كانت الرحمة في اللغة بمعنى رقّة في القلب (١) ، وانعطاف يقتضي الفضل والإنعام امتنع صدق حقيقتهما في حقّ الملك العلَّام ؛ لتنزّهه عن القلب ورقّته ، إذ هما من صفات الأجسام ، وإنّما يوصَفُ بهما باعتبار غايتهما التي هي فعل من الإحسان والإفضال ، لا باعتبار مبدئها الذي هو انفعال ، فيكون إمّا مجازاً مرسلاً من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبّب ؛ لأنّ رقّة القلب سبب لإرسال شآبيب النوال ، وإمّا استعارة تمثيلية بتمثيل حال ذي الجلال بحال ملك قد عطف على رعيته فغمرهم معروفُه على الأزل ؛ ولهذا اشتهر : ( خذوا الغايات واحذفوا المبادئ ) (٢) على ألسنة العلماء الأبدال.

__________________

(١) لسان العرب ٥ : ١٧٣ رحم ، مجمع البحرين ٦ : ٦٩ رحم.

(٢) القواعد والفوائد ٢ : ١٦٧ ، كنز الدقائق ١ : ٣٩.

١٢٦

وهذا أحد الوجهين في صحّة إطلاق بعض الصفات على الملك المتعال ، وإليه الإشارة بما في أخبار الآل : « إنّما سُمّي عالماً ؛ لهبته العلم للعالمين » (١) « ولطيفاً ؛ لخلقه الشي‌ء اللطيف وعلمه به » (٢) ، والله العالم بحقيقة الحال.

والفرقُ بين هذين الوصفين من وجهين :

الأوّل : أنّ الأوّل أبلغُ من الثاني ؛ لأنّ زيادة المباني تدلّ غالباً على زيادة المعاني ، كما في ( تبيان وبيان ، وقطَّع وقطع ، وغلَّق وغلَق ) وإنْ انعكس في بعض الموارد كحذِر وحاذِرِ.

وإنّما صار أبلغ منه لزيادته عليه كيفاً وكمّاً ، أمّا كيفاً فلأنّ معنى الرحمن هو المعطي لجلائل النعم ، والرحيم هو المعطي لصغائرها بالنسبة إلى الجلائل وإنْ كانت كلّها جلائل بالنسبة إلى صدورها منه تعالى ، كذا قيل.

وأمّا كمّاً فلأنّ الرحمة الرحمانيّة عامّةٌ لجميع الخلق من المؤمنين والكافرين ، بخلاف الرحمة الرحيمية فإنّها مختصّة بالمؤمنين ، قال تعالى ( وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) (٣) ، وفي تفسير الإمام عليه‌السلام : « فأمّا الرحيم فإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : رحيمٌ بعباده المؤمنين » (٤).

وفيه أيضاً : « الرحمن العاطف على خلقه بالرزق ، ولا يقطع عنهم موادّ رزقه وإنْ انقطعوا عن طاعته » (٥).

وفي ( الكافي ) و ( التوحيد ) و ( المعاني ) و ( تفسير العياشي ) و ( القمّي ) عن الصادق عليه‌السلام : « الرحمن بجميع خلقه ، والرحيم بالمؤمنين خاصّة » (٦).

وفي ( الصافي ) عن ( المجمع ) قال الصادق عليه‌السلام : « الرحمن اسم خاصٌّ بصفة عامّة ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ( ميثم البحراني ) ١ : ١١٠ ، باختلاف.

(٢) شرح نهج البلاغة ( ميثم البحراني ) ١ : ١١٠ ، باختلاف.

(٣) الأحزاب : ٤٣.

(٤) الأحزاب : ٤٣.

(٥) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٤ / ١٢.

(٦) الكافي ١ : ١١٤ / ١ ، التوحيد : ٢٣٠ / ٢ ، معاني الأخبار : ٣ / ١ ، وفيه : « لجميع العالم » بدل « بجميع خلقه » ، تفسير العياشي ١ : ٣٦ / ١٩ وفيه : « العالم » بدل « خلقه » ، تفسير القمّي ١ : ٥٦.

١٢٧

والرحيم اسمٌ عامٌّ بصفة خاصّة » (١).

وقال عيسى بن مريم عليه‌السلام : « الرحمن رحمن الدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة » (٢).

وفي كثير من الأدعية : « يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة » (٣) وفي بعضها : « يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ».

فقد دلّت هذه الروايات على أنَّ الرحمة الرحمانيّة تشمل الفرق الكافرة والمؤمنة ، كما تشمل النعم الظاهرة والباطنة ، من إحسان الخلق والإتقان والتوفيق للهداية والإيمان ، وإليه الإشارة بقوله تعالى ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (٤).

وأمّا الرحمة الرحيمية بمعنى التوفيق في الدنيا والدين ، فهي مختصّة بالمؤمنين ، وأمّا ما في تفسير الإمام عليه‌السلام من شمولها للكافرين حيث قال عليه‌السلام في موضع آخر : « الرحيم : بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته ، وبعباده الكافرين في الرفق بهم في دعائهم إلى موافقته. قال : « وإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : [ الرحمن هو العاطف على خلقه بالرزق ] (٥) » (٦). فلا ينافي ما ذكرناه ؛ لأنَّه ظاهر بل صريح في أنَّ الرحمة بهم إنّما هو من أجل الرفق بهم في الدنيا برزقه إيّاهم ، أو بدعوتهم إلى الإيمان ، وتعريضه إيَّاهم لما يوجب لهم الرضوان وإنْ خالفوه وأطاعوا ناعق الشيطان وداعي الطغيان.

وأمّا ما في بعض الأدعية من قولهم عليهم‌السلام : « يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما » (٧) ، و « يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا » فلعلّه مبنيٌّ على التوسّعات واختلاف الاعتبارات.

وأمّا حمل الثاني على ما مرّ من زيادة الرحمن على الرحيم باعتبار الكيف ، لجسامة نِعَم الآخرة بأجمعها بخلاف نعم الدنيا.

ففيه : أنَّ الرحمة الأُخروية كما هي زائدة على الرحمة الدنيوية كيفاً ؛ لجسامتها

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ٨١ ، وفيه : « الصفة » في الموضعين بدل « بصفة » ، مجمع البيان ١ : ٢٢.

(٢) التفسير الصافي ١ : ٨١ ، مجمع البيان ١ : ٢٢. (٣) البحار ٨٨ : ٣٥٥ / ١٩.

(٤) طه : ٥.

(٥) في المخطوط : ( وإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : في تخفيفه عليهم طاعته إلى موافقته ، وبعباده الكافرين في الرزق وفي دعائهم ).

(٦) تفسير الامام العسكري عليه‌السلام : ٣٤ / ١٢.

(٧) البحار ٩٥ : ٧٣.

١٢٨

وجلالتها كذلك زائدة عليها كمَّاً ؛ لتواترها وعدم انقطاع أفرادها ، بل تناهي الثانية وعدم تناهي الاولى يوجب اضمحلالها في مقابلتها ويجعلها كالمعدومة بالنسبة إليها.

والتحقيق : أنَّ شيئاً ممّا ذكر لا يثمر فرقاً بين الكمّ والكيف ؛ لرجوع وجه الزيادة كيفاً إليها كمّاً إنْ لم يكن انطباقه على الكمّ أظهر. ولا يوجبُ الزيادة الكميّة الحقيقيّة ، إذ ليست الزيادة في نفس المعنى المصدري وإنّما هي باعتبار زيادة متعلّقة من المرحومين ، حيث عمَّ الرحمن جميع الخلق وخصّ الرحيم المؤمنين.

اللهم إلّا أنْ يراد الفرق في الجملة ولو بالاعتبار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

الثاني : أنَّ الرحمن مختصٌّ به تعالى فلا يُوصَفُ ولا يُسمَّى به غيره ، دون الرحيم ، وإليه الإشارة بقول الصادق عليه‌السلام : « الرحمن اسمٌ خاصٌّ بصفةٍ عامّة ، والرحيمُ اسمٌ عامٌّ بصفة خاصّة » (١). انتهى.

وأمّا تسمية مسيلمة برحمن اليمامة وقول شاعرهم فيه :

فأنتَ غيثُ الورى لا زلتَ رحماناً (٢)

فهو تعنّتٌ في الكفر وخروجٌ عن قانون اللغة ، فلا يعتد به.

ولهذا الاختصاص ذهب ابن مالك ، وجماعةٌ (٣) إلى أنّه عَلَمٌ له تعالى ، ولهذا يوصف ولا يوصف به ، والأكثر على أنّه وصفٌ مختصٌّ به لا عَلَمٌ له ، والاختصاص لا يستلزم العلميّة ، وعدم الوصف به ؛ إمّا لأنَّه لاختصاصه به اجري مجرى العَلَم أو أنّه شرعيٌّ لا لغويٌّ.

واستدلال بعضهم للعلميّة بإشعار بعض الآيات بها كقوله تعالى ( الرَّحْمنُ. عَلَّمَ ،

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٢٢ ، التفسير الصافي ١ : ٨١.

(٢) لرجلٍ من بني حنيفة يمدح مسيلمة الكذّاب. الكشاف ( الزمخشري ) ١ : ٧ ، الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون ١ : ٦٢.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١ : ١٠٦.

١٢٩

الْقُرْآنَ ) (١) ، وقوله سبحانه ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ) (٢) و ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ) (٣) لا يدلّ عليها ، لما عرفت ، إذ قصاراها إفادة الاختصاص ، ولات حين مناص ، مع إمكان ابتنائها على حذف الموصوف وإقامة الصفة فيها ، كقوله تعالى ( أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ) (٤) و ( أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ) (٥) وغيرهما من الآيات.

وكأنّ وجه الاختصاص بعد النصّ والإجماع أنّ معناه المنعم الحقيقي ، البالغ في الرحمة أقصاها ، ومفيض جميع النعم أعلاها ، وأخلاها ، وأهناها ، وأسناها ، تفضّلاً منه وإحساناً ، وتطوّلاً وامتناناً ، لا على وجه الاستحقاق لما يسبغه من أنواع الأرزاق. ولا يصلح لهذه الأوصاف إلّا الخالق الرزّاق على وجه العموم والإطلاق ؛ لأنّ ما سواه تعالى إنّما يطلب بإحسانه ؛ إمّا ثواباً أُخرويّا ، أو ثناءً دنيويّاً ، أو إزالة خساسة البخل ، أو غير ذلك من الأغراض والأخلاق ، مع أنَّ ذات المنعم والنعَم والتمكين من إيصالها وإقداره على تحصيلها من جملة نعمه الجزيلة وأياديه الجميلة.

إلّا إنّ هذا التوجيه موقوف على كون هذه اللفظة بهذه المعاني عند أهل اللغة ، وليس كذلك ، اللهمّ إلّا أن يثبت كون معناها في العرف ذلك ، كما هو صريح بعض وظاهر آخرين من العلماء المحقّقين (٦).

وجه تقديم الرحمن على الرحيم

فإنْ قيل : إنّ القاعدة في المدح إنّما هي الانتقال من الأدنى إلى الأعلى ، كما يقال : عالم نحرير ، وناقد خبير ، وعالم حليم ، فلِمَ قدّم الرحمن على الرحيم؟

قلتُ : ذلك إمّا من قبيل التتميم فإنّه لمّا دلّ على جلائل النعم وأُصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها ، وهو باب سائغ مطلوب وشائع محبوب ، أو أنّ ذلك إنّما يجب فيما إذا كان الأعلى يدلّ على الأدنى بإحدى الثلاث ؛ لئلّا يلغو ذكر الأدنى لدلالة

__________________

(١) الرحمن : ١ ـ ٢.

(٢) الفرقان : ٦٠.

(٣) الرحمن : ١ ـ ٢.

(٤) سبأ : ١١.

(٥) الحديد : ٢٥.

(٦) البحر المحيط ١ : ٣١.

١٣٠

[ الأعلى (١) ] عليه ، وهنا ليس كذلك ؛ لأنَّ الرَّحمن لمَّا كان يتناول جلائل النعم وأُصولها ، والرحيم يتناول دقائقها وفروعها ، كانا كالجنسين المتغايرين.

بقي شي‌ء ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنَّ قضية البسملة محصورةٌ كلّيّة إن جعلنا إضافة الاسم استغراقيّة ، أو شخصيّة إنْ جعلناها عهديَّة ، والفضليّة لا تنافي الموضوعيّة ؛ لأنّ اللفظ قد يكون موضوعاً معنىً وإن كان فضلةً لفظاً. هذا على تقدير إطلاق القضية. وأمّا على تقدير توجيهها ، فأمّا مطلقة عامَّة إن اعتبر فعليّة النسبة في المستقبل ، أو قضيّة دائمة ، أي كلّ اسم الله أو المعهود منه ابتدئ أو أستعين به بالفعل أو دائماً.

وأمّا قياسها فقضيّتها كبرى فتضمّ إليها صغرى من الشكل الأوّل ، هكذا :

هذا الابتداء باسم الله ، لأنّه ابتدائي.

وكلّ ابتدائي باسم الله.

فهذا الابتداء باسم الله.

فإذا أُريد الاستدلال على الكبرى استدلّ عليها بمعنى الرحمن ، فتقول :

كلّ ابتدائي أو استعانتي باسم الله ؛ لأنّ كلّ ابتدائي واستعانتي باسم مفيض خيرات الدارين.

وكلّ اسم مفيض ذلك فهو اسم الله.

فابتدائي أو استعانتي باسم الله.

والله العالم بحقيقة الحال.

شرح الحمد

ثمّ لمّا ابتدأ المصنّف قدس الله لطيفه وأجزل تشريفه بالبسملة حذراً من النقص وطلباً للكمال لاحظ ما اشتملت عليه ألفاظها من الجمع لصفات الكمال والجلال

__________________

(١) في المخطوط : ( الأدنى ).

١٣١

ونعوت الجمال ، فوجد من نفسه محرِّكاً للإقبال بالثناء عليه ببعض ما إفاضة من شآبيب الطول والإفضال ، التي منها التوفيق لتأليف هذا المؤلف المفضال ، ثمّ لاحظ غيبة الذات الأحديّة عن إدراك الأبصار ولمس الحواس والتمثال ، وعدم الأهليّة لخطاب تلك الذات التي هي المبدأ الفيّاض لجميع الكمالات ، فقال : ( اللهَ أحمدُ ) منبّهاً بتقديم المحمود وإنْ كان حقّه التأخير بحسب المعموليّة على إرادة الحصر وإفادة الأهمية ، وبيان تقدّمه في الوجود البياني اللفظي ، كتقدّمه في سائر الوجودات من العينيّة والذهنيّة ، وبإيثار الجملة الفعليّة المضارعيّة على إرادة التجدّد والاستمرار وحسن العاقبة ؛ لعدم حصول ذلك في الاسميّة والماضويّة. وعلى العجز عن دوام الحمد المنبئ عن الاعتراف بالتقصير كما هو مفاد الاسميّة. وبصيغة التكلّم على التنصيص على صدور الحمد عن نفسه لا بانضمامه إلى سائر البريَّة. وبصيغة المفرد على هضم نفسه العليّة ، وانفراد المحمود بالنعم التي يجب الحمد عليها ، وعدم المشاركة فيها وفي الوحدة الحقيقيّة لذاته الأحديّة.

وإنّما آثر لفظ الجلالة كما آثرها في البسملة دون سائر الصفات ؛ إمّا على كونه عَلَماً للذات ، أو لدلالته على جمع جميع الكمالات ، أو لدلالته بالعدد المكتوبي على الأسماء الحسنى التسعة والتسعين ؛ لأنّك إذا جمعت طرفيها وهما ستة ، وقسّمتها على حروفها الأربعة المكتوبة ، صار لكلّ حرف منها واحدٌ ونصفٌ ، فإذا ضربت الواحد والنصف في عدد الجلالة بالجمل وهو ستّة وستون ، بلغت تسعة وتسعين ، أو للاستلذاذ والتبرّك في موضعين.

وما ذكرنا من تعليل الجمع بين البسملة والحمدلة بما سمعت من الكلام كافٍ في المقام وافٍ بالمرام ، إلّا إنّه خلاف المتداول على ألسنة العلماء الأعلام ؛ لأنّهم إنما يُعلّلون ذكر الحمدلة بالنبويّ الذي لم يوجد في أُصول الإماميّة الكرام ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : « كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع » (١).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٦١٠ / ١٨٩٤ ، المعجم الكبير ١٩ : ٧٢ / ١٤١.

١٣٢

فلهذا وقعوا في إشكال التعارض ، واضطربوا في وجوه الجمع بينهما.

الجمع بين خبري البسملة والحمدلة

والذي يختلج في الفكر الكليل والفهم العليل بعد الإغماض عن سند حديث الحمدلة عدم التنافي بينهما ؛ لأنّ ظاهر الأمر بالابتداء فيهما تقديم البسملة والحمدلة على المقاصد الذاتيّة التي هي مسائل الفنّ المشروع فيه ، من غير تعرّض لتقديم أحدهما على الآخر ، وإنّما قُدِّمت البسملة للاهتمام أو الاقتداء بخير الكلام كلام الملك العلّام ، أو لقصرها واستدعاء الحمد غالباً طول الكلام وإرخاء الزمام.

اللهم إلّا أنْ يقال : إنَّ المتبادر من الابتداء فيهما هو الابتداء الحقيقي دون أخويه ، فتأمّل فيه.

ولك أنْ تحمل الخبرين على منع الخلوّ من أحدهما ، فلا يلزم الجمع بينهما ، وإنَّما يجمع بينهما جمعاً بين الوظيفتين وإحرازاً للفضيلتين.

هذا ، وقد جُمع بينهما ؛ تارةً بحمل الحمد على مطلق الثناء الجميل بأيّ صيغة أفاده ، سواء كان بلفظ الحمد أم لا ، فيعمّ الثناء بالبسملة لاشتمالها على إظهار صفاته الجميلة وتضمّنها النعم الجزيلة ، فيكون في الابتداء بها عمل بالحديثين لتحقّق الابتداء بالحمد في ضمن الابتداء بها ، فيرتفع البَوْنُ من البين. وتارةً بحمل الباء في الخبرين على الاستعانة أو الملابسة. ولا ريب في أنّ التلبّس بشي‌ء والاستعانة به لا ينافي التلبّس والاستعانة بغيره ؛ ولأنَّ التلبّس يعمُّ الابتداء بالشي‌ء على وجه الجزئية. وَذَكَرَهُ قبل الابتداء بلا فصل فيجوز جعل أحدهما جزءاً ، وذكر الآخر قبله بلا فصل ، فيكون آنُ الابتداء آنَ التلبّس بهما.

وأُورد عليه بأنّ حمل الباء على الاستعانة ليس بسديد ؛ لاقتضاء حمل الباء [ في البسملة (١) ] عليها (٢) جعل بسم الله آلةً ، والآلة غير مقصودة بذاتها ، وخروج الحمد

__________________

(١) في المخطوط : فيهما بسملة عليها.

(٢) أي : على الاستعانة.

١٣٣

عن الكتاب وهو منافٍ للعُرف ، ولا يخفى ما فيه على نبيل نبيه.

وتارةً بحمل أحدهما على الابتداء اللساني والآخر على الجناني ، فيكون كلا الابتداءين حقيقيّا ، إلّا إنَّه خلاف الظاهر كما لا يخفى على اولي البصائر.

وتارةً بحمل الابتداء فيهما على الابتداء العرفيّ الممتدّ من حين الابتداء في التصنيف إلى آن الشروع في المقصود ، فيقارنه التسمية والتحميد. وتارةً بحمل خبر البسملة على الحقيقي والحمدلة على الإضافي ، وتارة بالعكس.

وبيان هذه الثلاثة أنَّ الابتداء على ثلاثة أقسام : حقيقيٌّ ، وإضافيٌّ ، وعرفيٌّ ، وبضرب ثلاثتهما في ثلاثة الابتداء بالبسملة والحمدلة معاً ، أو بالبسملة فقط ، أو بالحمدلة فقط ، تحصل تسعة أقسام بالقسمة العقليّة ، حاصلة من ضرب ثلاثة في مثلِها كما هو القاعدة الكلّيّة ، وهي مجموعة في هذا الجدول فتأمّله تجده صحيحاً ، وفي المطلوب واضحاً صريحاً :

الابتداء بالبسملة والحمدلة معاً

حقيقي

إضافي

عرفي

الابتداء بالبسملة فقط

حقيقي

إضافي

عرفي

الابتداء بالحمدلة فقط

حقيقي

إضافي

عرفي

وتوضيحه : أنْ تجعل الابتداء بكليهما حقيقيّا أو بكليهما إضافيّاً ، أو بكليهما عرفيّاً ، أو بالبسملة فقط حقيقيّا وبالحمدلة إضافيّاً أو عرفيّاً ، أو بالبسملة إضافيّاً وبالحمدلة حقيقيّا أو عرفيّاً ، أو بالبسملة عرفيّاً وبالحمدلة حقيقيّا أو إضافيّاً ، أو هكذا تفعل في الحمدلة فتكمل تسعة.

هذا كلّه بناء على كون الابتداء بهما معاً على النهج المعتاد المعتبر من تقديم البسملة على الحمدلة ، وإلّا فتصير الاحتمالات ثمانية عشر.

وهذه الوجوه ؛ منها ما هو صحيح معتبر ، ومنها ما هو صحيح غير معتبر ، ومنها ما هو ممتنع ، كما لا يخفى على ذي نظر. ويحصل الجواب بالقسمين الأوَّلين ، وإنّ

١٣٤

الأوْلى الأوّل الذي عليه المعوّل ، فالممتنع كون الابتداء بهما حقيقيّا لاستلزامه المحال.

الحمد لغة

وكيف كان ، فالحمد لغةً : الوصفُ باختياريّ الجميل ، بقصد التعظيم والتبجيل (١). ومثله المدح اللغوي (٢) على القول بترادفهما كما اختاره بعض ذوي التحصيل (٣).

وأمَّا على المشهور من التغاير بينهما فيخرج باختياريّ الجميل ، كما يخرج بقصد التعظيم والتبجيل ما كان ثناءً على جهة الاستهزاء والسخرية والتخجيل.

اللهمّ إلّا أنْ يقال : إنَّ الوصف على جهة الاستهزاء لا يُسمَّى ثناءً عرفاً ؛ لاشتراط الإشعار بالتعظيم في صدق الثناء ، فالخالي عنه إنَّما يسمّى سخريَّة واستهزاءً ، فحينئذ يخرج بقيدي الثناء [ و (٤) ] الجميل ، لكنَّه إنّما يتمّ بناءً على المشهور المنصور من أنَّ الثناء حقيقةٌ في الخير فقط ، وأنَّ الوصف بالجميل لا يكون إلّا بقصد التجليل.

أمَّا على القول بمقوليّة الثناء بالاشتراك أو التواطؤ على الخير والشرّ ، وأنَّ الوصف بالجميل لا يستلزم التفضيل ، بل قد يكون على وجه الاستهزاء والتخجيل ، فلا يخرج ذلك عن الحمد ، كما لا يخفى على ذي تحصيل.

وقد نُقض هذا التعريف في عكسه بالثناء على صفات الله تعالى حيث قد قيَّد فيه المحمود عليه بالاختياري بالثناء على صفات الله الذاتية ، فإنَّها ليست باختياريّة ، فإنّه تعالى بالنسبة إليها موجب لعدم انفكاك الذات في حال من الحالات ، فلا يجوز الحمد عليها بخلاف الصفات الفعليّة التي يمكن انفكاكها عن الذات كالخلق والرزق ، فإنّها اختياريّة له تعالى فيجوز الحمد عليها.

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٣٩. حمد ، التعريفات : ٤٢.

(٢) مجمع البحرين ٢ : ٤١١. مدح.

(٣) الكشّاف ( الزمخشري ) ١ : ٨.

(٤) في المخطوط : ( أو ).

١٣٥

وأنت خبيرٌ بأنّه إنّما يَرِدُ على الأشاعرة (١) وأمثالهم ممَّنْ يقول بزيادة الصفات الذاتيّة على الذات الأحديّة ومغايرتها لها ، دون المذهب الحقّ من عينيّتها لتلك الذات العليّة ، كما هو مذهب الحكماء والمعتزلة والإماميّة (٢) ، بمعنى أنَّه يترتّب على تلك الذات ما يترتَّب على ذات وصفه في سائر المخلوقات.

ألا ترى أنَّ ذواتنا غير كافية في انكشاف الأشياء لنا ، بل مفتقرة إلى تحصيل صفة العلم الذي يقوم بنا ، فيثبت الجهل في مرتبة ذاتنا؟! ولكنّه تعالى لا يحتاج في ذلك الانكشاف إلى صفة تقوم به ، بل الأشياء بأسرها منكشفة إليه وحاضرة لديه بنفس تلك الذات التي هي جميع الكمالات ، « فسبحان مَنْ دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » (٣).

فذاته تعالى بهذا الاعتبار حقيقة العلم والاقتدار ، لا بمعنى أنَّ هنا ذاتاً وصفة حقيقيّة ، وهما متّحدان كذلك ، كما يتخيّل في بوادي الأنظار ، وربّما جنح إليه بعضُ الأشرار ، فإنَّ فساده ممّا ليس عليه غبار ، بل كالشمس في رابعة النهار : « لشهادة كلِّ صفةٍ بأَنَّها غيرُ الموصوف ، وشهادةِ كلِّ موصوف بأنّه غيرُ الصفة » (٤) كما قاله والد الأئمّة الأطهار.

وبسط الكلام في هذا المقام يفضي إلى الإضجار ، وحينئذ فلا يرد النقض المذكور ؛ لأنّ الحمد على الصفات الذاتية راجعٌ إلى الآثار المترتّبة على الذات على نفس الذات الأحديّة.

فإذا قيل : الحمد لله على علمه وقدرته مثلاً فإنَّما يُراد الثناء على الآثار المترتّبة على الذات والتعلّقات التي هي أُمور نسبيّة إضافيَّة وأحوال اعتباريّة ، ولا ريب أنَّ تلك الأُمور والآثار اختياريّة لتلك الذات العليّة ؛ لكون تلك التعلُّقات حادثة متغيِّرة متغايرة بتغير تلك المتعلِّقات ، فيكون الثناء عليها ثناءً على جميل اختياري إفاضة مالك الخيرات.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ٤٤ ٤٥.

(٢) شرح المواقف ٨ : ٤٥.

(٣) دعاء الصباح المنسوب لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، الصحيفة العلوية : ١٧.

(٤) نهج البلاغة : خطبة (١). وفيه : « أنها » بدل « بأنها » و: « أنه » بدل « بأنه ».

١٣٦

وأمَّا مخالفونا فمنهم مَنْ اضطرّ إلى جعل الحمد هنا بمعنى المدح الشامل للاختياري وغيره مجازاً من باب ذكر الخاصّ وإرادة العامّ ، كما قيل في قوله تعالى ( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (١). ولا يخفى ما فيه.

ومنهم مَنْ التجأ إلى أنَّ تلك الذات لمّا كانت بنفسها كافيةً في اقتضاء تلك الصفات نُزِّلت منزلة أفعال اختياريّة يستقل بها فاعلها من باب الاستعارة لجامع الاستقلال ، فيصحّ الحمد عليها باعتبار مشابهتها للاختياري.

ولا يخفى ما فيه على ذي بال ؛ إذ لازمه كونها كالاختياريّة لا كونها اختياريّة حقيقيّة ، كما هو المفروض في ذلك المقال.

وبقيت لهم أجوبة أُخر لا يليق أنْ تذكر ، بل هي بالإعراض عنها أجدر.

الحمد عرفاً

وأمّا الحمد عرفاً فهو فعل يُقصد به تعظيم المنعم بسبب الإنعام على الحامد أو غيره من الأنام ، سواء كان ذِكْراً باللسان أم اعتقاداً بالجنان أم خدمةً بالأركان.

وقولنا : في فعل يقصد به ، مع أنَّ المتداول بينهم فعل ينبئ عن تعظيم المنعم (٢) ؛ لأنّ الإنباء عن الشي‌ء لا يستلزم تحقّقه فضلاً عن قصده مع اعتبار قصد التعظيم قطعاً.

اللهمَّ إلّا أنْ يُجعل شرطاً لا جزءاً ، أو يمنع عدم الاستلزام ولو ظاهراً ، بحيث يظهر من الفعل المنبئ عن التعظيم ؛ لأنّ ذلك الفعل إذا أنبأ عن شي‌ء كان ذلك الشي‌ء لازماً له ؛ لامتناع عدم تحقّق اللازم مع تحقّق الملزوم ، ولعدم اشتراط تحقّق التعظيم في نفس الأمر ، ضرورة تعذّر الاطّلاع عليها ، وعدم الوصول إليه. كما أنّ الجهل بالمنبئ عن التعظيم لا يقدح في تحقّق الإنباء ، وإلّا لقدح الجهل بالوضع في تحقّق الدلالة الوضعيّة.

فلا يرد النقض بأنَّ الاعتقاد الجناني لا يُتَصَوَّر إنباؤه عن التعظيم ، لعدم اطّلاع الغير

__________________

(١) الإسراء : ٧٩.

(٢) التعريفات : ٤٢.

١٣٧

عليه ، ومع إظهار الحامد إيّاه بقولٍ أو فعلٍ يكون المُنْبِئ هو المظهر لا الاعتقاد ؛ لأنَّ المُراد إشعار الفعل في حدّ ذاته بالتعظيم ، بحيث لو اطَّلع عليه لأنبأ عَنهُ فعلاً لا شأناً كما قيل ؛ لأنّ هذا المُنْبِئ ثبتت له هذه الحيثيّة عند الاطّلاع ، فتأمّل.

أو أنَّ المراد إشعاره بالنظر إلى الغير.

ولا ريب في إفادة الاعتقاد الجناني ذلك ؛ لجواز الاطّلاع على اعتقاد الحامد بإخبار غيره أو نفسه أو فعله ، فيتحقّق الإنباء في الاعتقاد بالنسبة إلى الغير بجعل المُنْبِئ حقيقة نفس الاعتقاد ، لتحقّق معنى الإنباء فيه وإنْ انضمّ إليه الفعل والقول المطَّلعان عليه ، وإنباء أحد الأمرين عن الآخر لا ينفي إنباء الآخر.

ولا يخفى على ذوي الأنظار أنّ الاطّلاع على الاعتقاد بالإخبار لا يستلزم أنْ يكون المُنْبِئ هو الاعتقاد ؛ لأنّ الأخبار بالمُنْبِئ لا يُنْبِئ عن التعظيم حقيقةً بلا واسطة ، وإنّما يُنْبِئ عن الاعتقاد المُنْبئ عنه ، فإنباؤه عنه إنّما كان ثانياً وبالعرض ، لأنّ المُنْبِئ عن المُنْبِئ عن الشي‌ء مُنْبِئٌ عن ذلك الشي‌ء. فالمُنْبِئ حقيقةً بلا واسطةٍ أوّلاً وبالذات ليس إلّا الاعتقاد ، وتلك الأشياء وسائط له ، كما لا يخفى على النقَّاد.

كما لا يخفى أنَّ ظاهر التعميم للأقسام الثلاثة في التعريف كون كلّ منها حمداً مستقلا على الانفراد ، بل لم ينقل المناقشة فيه عن أحد من العلماء الأمجاد ، إلّا إنَّ المنقول عن المحقّق الشريف في ( حواشي شرح المطالع ) أنَّه قال : ( إنَّ الذكر اللساني والعمل الأركاني لا يكون شي‌ءٌ منهما حمداً عرفيّاً ما لم يطابقهما الاعتقاد الجناني ) (١).

بل ربّما قَيَّد بعضهم الأوَّلَين بما إذا لم يخالف أحدهما الآخر أيضاً ، وهو قريبٌ من الاعتبار ، إذ لو خالف أحدهما الآخر أو خالفهما الاعتقاد خرجت عن حيِّز الحمديّة وانتظمت في سلك الاستهزاء والسخرية.

بل ربّما يستفاد ذلك من قولهم في التعريف : فعلٌ يُنْبِئ عن تعظيم المنعم من حيث إنَّه منعم أو لكونه منعماً ، فإنَّه لمّا كان الباعث عليه الإنعام كان هناك تعظيم

__________________

(١) انظر حاشية المطوّل ( حسن الچلبي ) : ٤٣ ، وفيه : ( .. لا يكون شكراً ما لم يطابقه الاعتقاد ).

١٣٨

باطني ، إذ الإنعام لا يبعث على التهزِّي ، ولهذا لو صدر من المُنْعَم عليه بالنسبة إلى المُنْعِم لذمَّهُ العقلُ الفطري.

ليس بين الحمد والنعمة فرق

ثمّ عقَّب الحمد المستلزم للإنعام المدلول عليه بالفعل بقوله :

( استتماماً لنعمتِهِ والحمدُ فضلهُ ) تأكيداً لما دلّ عليه الحمد بالالتزام من الفضل والإنعام ؛ تارةً تلويحاً بطلب الإتمام الذي هو فرع الوجود ، وأُخرى تصريحاً بالاعتراف بأنَّ الحمد أيضاً من جملة النعم والجُود ، وتنبيهاً على أنَّه سبحانه كما يستحقّ الحمد لذاته كذلك يستحقّه لصفاته ؛ لأنَّ نسبة الحمد إلى الذات باعتبار وصفٍ يُشعر بعلِّيَّته ، فجمع بين وظيفتي الترتُّب على الذات والترتُّب على الصفات ، مراعياً قانون الحكيم في تقديم ما حَقّه التّقديم ، منبّهاً بتوحيد النعمة على أنَّ نعمه تعالى أجلّ من أنْ تُحصى بِعدٍّ وتحصر بحدٍّ ، وأعظم من أنْ تستتمّ على عبدٍ ؛ لتوالي فيوضه الجزيلة وتتالي أياديه الجميلة ، فلا يُعقل تناهيها ، وحصر بواطنها وبواديها ، وإنّما يفيضها على عباده من صالحٍ وطالحٍ على حسب الحِكَم والمصالح ، وبالمفعوليّة الأجلية التي جعلها للحمد علّة غائية ، على صغرى دليلٍ كبراه مطويّة ، فكأنّه قال :

الله مستحق للحمد ؛ لأنَّه منعمٌ.

وكلُّ منعمٍ مستحقّ للحمد.

فهو تعالى مستحقٌّ للحمد.

فإنْ اعتبر إيصال نعمة خاصّة إلى المنعم عليه تحقّق الحمد والشكر ؛ لكون ذلك مادّة اجتماعهما ، وإنْ اعتبر إيصال النعمة ولو إلى الغير تحقّق الحمد خاصّة ؛ لأنَّه مادة افتراقهما ، بناءً على أنَّه يُشترط في الشكر وصول النعمة إلى الشاكر.

وأمّا على عدمه ، فكلّما وجد الحمدُ وجد الشكر ، كما سيجي‌ء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

١٣٩

وبهذا الوجه يصحّ جعله رحمه‌الله الحمدَ علَّةً لطلب تمام النعمة المستلزم للزيادة ، ومع أنّ الذي تترتّب عليه الزيادة إنّما هو الشكر لا الحمد ، كما قال عزَّ من قائل في الكتاب المجيد ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) (١) ، بناءً على أنَّه أراد هنا الحمد العرفي الذي هو مرادف للشكر اللُّغَوي ، فحينئذ لا حاجة إلى تأويل الحمد إلى معنى الشكر كما فعله الشارح قدس‌سره.

معنى النعمة

والنعمة في الأصل مصدر بمعنى الحالة المستلَذَّة ، ككون الإنسان عالماً أو عابداً. أُطلقت على نفس الشي‌ء المستلَذِّ ، تسميةً للسبب باسم المسبّب.

وفي ( القاموس ) (٢) : ( النعمة بالكسر المسرّة. واليد البيضاء الصالحة كالنعمى بالضم ). وهي على ما فيه أيضاً : ( الخفضُ والدِّعة والمال ).

وفي ( مجمع البحرين ) (٣) : ( والنعمة : اليد ، وهي الصنيعة والمنّة ، وما أنعم الله به عليك ) انتهى.

وقد يُراد بها ما يقصد به النفع والإحسان لا لعوضٍ ولا لغرض ، وبهذا عرَّفها صاحب كتاب ( التعريفات والاصطلاحات ) ، والشهيد رحمه‌الله في الشرح ، مع اختلاف يسير في التعبير (٤).

وقد تطلق النعمة أيضاً في لسان الأئمّة عليهم‌السلام تارة على الدين والإسلام (٥) ، وتارة عليهم (٦) وعلى موالاتهم ومحبّتهم (٧) ، كما هو ظاهر من تتبّع.

وفي كلام بعض علمائنا : إنَّ نعمه سبحانه على كثرتها وتعذّر حصرها ؛ إمّا أخروي روحاني كغفران ذنب ، أو جسماني كأنهار العسل ، وإمّا أخروي كسبي روحاني ،

__________________

(١) إبراهيم : ٧.

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٢٥٦. باب الميم فصل النون.

(٣) مجمع البحرين ٦ : ١٧٩ نعم.

(٤) كتاب التعريفات : ١٠٦ ، الروضة البهية ١ : ١٠.

(٥) البحار ٢٤ : ٥٣ / ٩ ، ٣٥ / ٣٦٦.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٢٤٦ ٢٤٧ / ٢ ، البحار ٢٤ : ٥١ / ٢ ٤ و ٥٣ / ٨ ، ١٠ و ٥٤ / ١٦ ١٨ ، وغيرها.

(٧) البحار ٢٤ : ٥٢ / ٧ و ٥٤ / ١٦.

١٤٠