الحاشية على الروضة البهيّة

الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي

الحاشية على الروضة البهيّة

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-632-3
الصفحات: ٨٤٨

وثالثها : أن يكون كلّ منهما باقيا على الوصف الأصلي ولم يكن الوصف الأصلي للنجاسة موجبا لتغيّر الماء ، فيقدّر لها وصف غيرها من النجاسات أو غيرها ، فيقال : إنّ هذا القدر من البول لو كان له لون الدم أو حدّة الخلّ أو ذكاء المسك لكان موجبا لتغيّر رائحة الماء ، فينجس الماء بذلك.

ورابعها : أن يخرج كلّ منهما عن الوصف الأصلي كأن يصير الدم أصفر والماء أيضا كذلك كماء الفرات ، فيقدر كلّ منهما على الوصف الأصلي.

وخامسها : أن يكون كلّ منهما باقيا على وصفه الذاتي ، ولكن كان الوصف الأصلي لهذا الفرد من الماء ممّا يمنع التغيّر ولا يقبله كما يقبله غيره كماء البحر الذي وقع فيه نجاسة ملحة أو ماء الفرات إذا وقعت فيه نجاسة صفراء فيعد هذا الفرد من الماء على نحو غيره من المياه الفاقدة لهذا الوصف.

ثمّ غير الصورة الأولى من هذه الصور داخل في التقديري الذي نفاه الشارح قطعاً. وأمّا الصورة الأولى ، فهي معتبرة وداخلة في الحسّي ؛ لأنّ المراد بالحسّي ليس ما يحسّ به ويشاهد بالفعل ، بل المراد ما كان متحقّقا في الواقع وكان من شأنه أن يدرك بالحس سواء حصل مانع من إدراكه كما في الصورة الأولى ، أو لم يحصل كما في سائر التغيّرات.

قوله : ولو بنفسه أو بعلاج.

المراد بزوال التغيّر بنفسه أن لم يحصل من الخارج أمر يوجب زوال التغيّر ، بل زال هو من غير حدوث أمر خارجى ، والضمير فيه راجع إلى التغيّر.

والمراد بزواله بالعلاج : أن يعمل في الماء عمل يوجب زوال تغيّره كإلقاء عطر عند تغيّر الرائحة ونحوه ، والقسم الآخر الأظهر الذي يقتضيه لفظه : هو أن يزول التغيّر بسبب اتصال المطر المتقاطر ، أو تدافع المياه الكثيرة الواردة عليه بنفسه من غير إلقاء أحد ؛ لأنّه يدخل في الزوال بالعلاج.

قوله : من الأرض مطلقا.

أي : سواء جرى على وجه الأرض أو لم يجر كما في بعض الوهدات التي ينبع الماء منها ويجتمع فيها.

٢١

ويمكن أن يكون المراد أنّه سواء دام نبعه أم لا ، أو سواء كان قليلا أم كثيرا ، ويمكن إرادة الجميع ، ولكنّ الأوّل أظهر ؛ لأنّ الأخيرين ممّا لا يحتاج فيهما إلى التعميم ؛ لوضوح الجريان مع عدم دوام النبع أو القلة إذا جرى على الأرض ، والخلاف الواقع فيهما إنّما هو في قبول النجاسة والطهر بزوال التغيّر وعدمهما ، لا في صدق الجاري ؛ ولذا فسّر الشارح أيضا في الحاشية : « مطلقا » بالأوّل فقط.

قوله : غير البئر.

فإنّ البئر وإن كان نابعا من الأرض ، إلّا أنّه لا يسمّى في العرف جاريا. ومن أخذ في تعريف الجاري قيد الجريان في الأرض استغنى عن هذا القيد.

قوله : على المشهور.

متعلّق بقوله : « ويطهر بزواله ». أي : يطهر بزوال التغيّر إن كان جاريا ، على القول المشهور. والقول الآخر هو أنّه لا يطهر إلّا بامتزاج الماء الطاهر الخارج من المنبع بالمتغيّر ، ولا يكفي مجرد الزوال. ونسب هذا القول إلى الشهرة ؛ لأنّه أقدح في أدلّته في هذا الكتاب حتّى في الإجماع الذي ادّعاه بعضهم.

وقال في الروض بعد الكلام عليهما : ولا شك أنّ للشهرة ترجيحا ، إلّا أنّ الدليل على مدّعاها غير قائم.

ويمكن أن يكون القول الآخر هو عدم طهر مطلق الجاري بالزوال ، حيث إنّ قوله : « إن كان الماء جاريا » يدلّ على طهر مطلق الجاري بالزوال ، فيقابله القول بطهر دائم النبع أو الجاري الكثير.

وقد يجعل قوله : « على المشهور » قيدا لقوله : « مطلقا » ويقال : إنّ المراد أنّ الطهر بالزوال للنابع المقيّد بالإطلاق إنّما هو على المشهور ، وأمّا في غير المشهور مقيّد بدوام النبع أو بالكثرة.

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّه لو كان كذلك لكان المعنى أنّ كون الماء الجاري هو النابع من الأرض مطلقا على المشهور ، وأمّا على غير المشهور فيعتبر في كونه جاريا الكثرة ودوام النبع ، مع أنّ غير المشهور ليس كذلك ، بل اعتبر في الطهر بالزوال أو عدم النجاسة بمجرّد

٢٢

الملاقاة الكثرة ودوام النبع ، لا في صدق الجاري ، فلا تغفل ، إلّا أن يقال : إنّ الجاري فى عرفهم ما كان حكمه مخالفا للواقف دون ما يصدق عليه الاسم عرفا ، فيتفاوت تعريفه بتفاوت الحكم ، فلا يكون غير دائم النبع ، أو القليل جاريا عند مشترط الدوام والكثرة ، وهو بعيد.

وقد يجعل قوله : « على المشهور » قيدا لقوله : « غير البئر » ؛ لأنّ غير المشهور أنّ البئر لا ينجس بمجرّد الملاقاة ويطهر بمجرّد زوال التغيّر.

وفيه ما مر من أنّ عدم التنجّس بالملاقاة والطهر بالزوال لا يوجب صدق الجاري.

أو لأنّ غير المشهور في البئر لمّا كان هو عدم التنجّس بالملاقاة والطهر بالزوال ، فيكون هو أيضا ماء جاريا ، فلا وجه لإخراجه عنه ؛ لاتحاد حكمهما.

وفيه : أنّ القائل بعدم تنجّس البئر بالملاقاة وطهره بالزوال يقول باستحباب النزح في النجاسات المعيّنة ، وليس ذلك مستحبّا في الماء الجاري عنده ، فيختلف حكمهما ، ويفترق عن الجاري أيضا ، على أنّ اتحاد الحكم لا يوجب صدق الاسم.

وقوله : واعتبر المصنّف إلى آخره.

الضمير المجرور راجع إلى التطهير المدلول عليه بقوله : « ويطهر » ، أو إلى الحكم المذكور ، أو إلى الجاري أي : اعتبر في الجاري من حيث تعلّق الحكم المذكور به ، أو من حيث إطلاق الجاري عليه ، ولكن هذا إنّما هو على الاحتمال البعيد المتقدّم.

هذا ، ثمّ إنّه تبع المصنّف في هذا الشرط جمال الدين أحمد بن فهد في موجزه.

وقد ذكروا في بيان المراد بدوام النبع وجوها ثلاثة :

أحدها : ما ذكره الشارح في روض الجنان وهو : أنّ المراد بدوام النبع عدم الانقطاع في أثناء الزمان ككثير من المياه التي تخرج زمن الشتاء وتجفّ في الصيف.

ولا يخفى أنّ هذا المعنى وإن كان أربط باللفظ والأقرب إليه لكونه المتبادر منه عرفا ، لكنّه ممّا يقطع بفساده. أمّا أوّلا ؛ فلأنّه لا شاهد له من الأخبار ولا يساعده الاعتبار ، فهو تخصيص بلا مخصّص. وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ الدوام بالمعنى المذكور إن اريد به ما يعم الزمان كلّه ، فلا ريب في بطلانه ؛ إذ لا سبيل إلى العلم به وإن خصّ ببعضها ، فهو مجرّد الحكم. ( كذا )

٢٣

وثانيها : أنّ المراد منه استمرار النبع حال ملاقاة النجاسة. ذكره المحقّق الشيخ على بعد أن أطال في الشنع على من فسّره بالمعنى الأوّل. واستحسن هذا المعنى جملة ممّن تأخّر عنه. وهو وإن كان خلاف ظاهر اللفظ ، إلّا أنّه في حدّ ذاته مستقيم ؛ إذ متى كان حال ملاقاة النجاسة غير مستمر النبع كان بمنزلة القليل ، ولكن مرجع هذا إلى اعتبار المادّة ، وحينئذ فلا يزيد على اشتراط الجريان ؛ إذ الجاري هو النابع ، والنبع يستلزم المادّة ، إلّا أن يحمل الجاري على المعنى اللغوي.

وقد وجّه بعض المتأخرين هذا التوجيه :

بأنّ عدم الانفعال في القليل الجاري معلّق بوجود المادّة ، فلا بدّ في الحكم بعدم الانفعال فيه من العلم بوجودها حال ملاقاة النجاسة ، وربّما يتخلّف ذلك في بعض أفراد النابع كالقليل الذي يخرج بطريق الترشّح ؛ فإنّ العلم بوجود المادّة فيه عند ملاقاة النجاسة مشكل ؛ لأنّه يترشح آنا فآنا ، فليس له فيما بين الزمانين مادّة. وهذا يقتضي الشك في وجودها عند الملاقاة ، فلا يعلم حصول الشرط ، واللازم من ذلك الحكم بالانفعال بها عملا بعموم ما دلّ على انفعال القليل بسلامته عن معارضة وجوده المادّة ، واشتراط استمرار النبع يخرج مثل هذا.

وثالثها ما ذكره بعض المحدّثين من المتأخّرين حيث فسّر النابع على وجوه :

احدها : أن ينبع الماء حتّى يبلغ حدّا معيّنا ثمّ يقف ولا ينبع ثانيا إلّا بعد إخراج بعض الماء.

وثانيها : لا ينبع إلّا بعد حفر جديد كما هو المشاهد في بعض الأراضي.

وثالثها : ينبع ولا يقف على حدّ ـ كما في العيون ـ قال :

وشمول الأخبار المستفاد منها حكم الجاري للوجه الثاني غير واضح ، فيبقى تحت ما يدلّ على اعتبار الكرّية ، وكأنّ مراد شيخنا الشهيد ما ذكرناه ، وبذلك يندفع عنه ما أورد عليه. انتهى

قوله : والدليل النقلي يعضده.

المراد بالدليل النقلي : عموم ما يدلّ على اشتراط الكرّية في عدم انفعال الماء بالملاقاة

٢٤

كمفهوم الشرط في صحيحة معاوية بن عمّار ومحمّد بن مسلم : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١). وغيرها.

وإنّما قيّد الدليل بالنقلي ؛ لأنّ الدليل العقلي لا يعضده ، بل يخالفه ؛ لأنّ استصحاب الطهارة وأصالة عدم اشتراط الكرّية توجب عدم الانفعال ، نعم الدليل العقلي يعضد الحكم الثاني الذي ذكره بقوله : « وعدم طهره بزوال التغيّر » ؛ لأنّ النجاسة كانت سابقة ، فيستصحب ، ولا دليل نقلي يعضد هذا الحكم ، ولذا أقحم قوله : « والدليل النقلي يعضده » بين الحكمين.

قوله : بزوال التغير مطلقا.

« مطلقا » إمّا قيد للمنفي أو قيد للنفي ، فعلى الأوّل يكون النفي المستفاد من لفظ العدم متوجّها إلى قيد الإطلاق ويكون معنى قوله : « مطلقا » أي سواء لاقى كرّا أم لا ، ويكون المراد أنّه جعله العلّامة وجماعة كغيره في أنّه لا يتطهر بزوال التغيّر على الإطلاق ، بل يتطهر بزوال التغيّر المقيّد بملاقاة الكرّ.

وعلى الثاني يكون النفي متوجّها إلى الطهر ، ويكون معنى قوله : « مطلقا » أي : سواء كان بنفسه أو بعلاج ، ويكون المراد أنّهم جعلوه كغيره في أنّه لا يتطهر بزوال التغير أصلا أي : لا يكون زوال التغيّر علّة للتطهير ، بل يتطهر بزوال التغيّر مع ملاقاة الكرّ.

قوله : وإن كان إطلاق العبارة قد يتناول ما ليس بمراد.

توضيح الكلام : أنّ الماء المتغيّر الذي زال تغيّره ولاقى كرّا لا يخلو عن ثلاثة أوجه ؛ لانّه إمّا يلاقى الكرّ أوّلا ثمّ يزول التغيّر بعد انفصال الكرّ ، أو يكون الملاقاة والزوال في وقت واحد أي : يكونان معين ( كذا ) ، أو يزول التغيّر أوّلا ثمّ يلاقى الكرّ. والحاصل أنّ الملاقاة إمّا يكون قبل الزوال ، أو معه ، أو بعده ، ولا شك أنّه لا يطهر الماء في الوجه الأوّل وإنّما يطهر في أحد الوجهين الآخرين.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المصنّف لما ذكر الملاقاة على الإطلاق من دون تقييد بالبعديّة والمعيّة ، فقال الشارح : إنّ مراده هو أنّه لا بدّ في طهره من الملاقاة بعد الزوال أو

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ١٥٨.

٢٥

معه ، وليس مراده أنّه يطهر بالملاقاة قبله أيضا ، وإن كان إطلاق عبارة المصنّف حيث قال :« أو لاقى كرّا » من غير تقييد بالبعديّة أو المعيّة متناولا للملاقاة الحاصلة قبل التغيّر أيضا الذي هو ليس بمراد. وقد خبط بعض المحشين في فهم كلام الشارح هنا حيث قال : مراد الشارح بقوله : « وإن كان إطلاق عبارة المصنّف » إلى آخره ، أنّ اطلاق العبارة حيث قال :« أو لاقى كرا » معادلا لقوله : « بزواله » يتناول ما هو غير مراده ؛ لأنّه يفهم منه أنّ كلا من الزوال والملاقاة يطهّر على سبيل منع الخلو ، فيدلّ على أنّ مجرّد الملاقاة يكفي في تطهير الماء الغير الجاري سواء زال التغيّر أم لا.

ولا يخفى أنّه جعل قوله : « أو لاقى كرا » معطوفا على قوله : « بزواله » ، وليس كذلك ، بل هو معطوف على قوله : « إن كان الماء جاريا » ، فلا يكون قوله : « أو لاقى كرا » معادلا لقوله :« بزواله » ، بل يكون معادلا لقوله : « إن كان جاريا » ويطهر بزوال التغيّر إن لاقى كرا.

وممّا ينافي ما ذكره هذا المحشّي قول الشارح بعد ذلك : « وهو طهره مع زوال التغيّر وملاقاته الكرّ » حيث أتى بلفظة « واو » الدالّة على الجمع ، دون لفظة « أو » ، وذكر زوال التغيّر أيضا. ولو كان مراده ما ذكره هذا المحشّي لما كان حاجة إلى ذكر قوله : « مع زوال التغيّر » بل يكفي أن يقال : وهو طهره بملاقاته الكرّ كيف اتّفق. ثمّ لفظة « قد » في قوله : « قد يتناول » ليست للتقليل ، بل هي للتحقيق كما في قوله تعالى : ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ). (١)

ويمكن أن يكون للتقليل ، ويكون الإتيان به للإشعار بأنّ وضوح الأمر وظهوره إنّما هو بحيث لا يحتاج إلى ذكر للتقليل ، (٢) بل يفهم المراد بدون التقييد أيضا.

قوله : وهو طهره إلى آخره.

الضمير راجع إلى الموصول أعني : لفظة « ما » في قوله : « ما ليس بمراد » أي : الذي ليس بمراد هو الطهر مع الزوال والملاقاة كيف اتفق ، سواء كان قبل الزوال ، أو معه ، أو بعده ؛ فإنّ المراد هو المقيّد ، والإطلاق يتناول جميع الأفراد ، وليس بمراد.

__________________

(١) البقرة : ١٤٤.

(٢) للتقييد.

٢٦

وقد يتوهّم عدم إمكان إرجاع الضمير إلى الموصول ؛ لأنّ ما بعد الضمير هو مجموع ما يدلّ عليه الإطلاق ، ولا يجوز أن يقال : إنّه يتناوله.

وفيه : أنّه كما يجوز أن يقال للكلّي : إنّه شامل لهذا الفرد ، يجوز أن يقال : إنّه شامل لجميع الأفراد ، فيقال : إنّ الإنسان شامل لزيد ، وإنّه شامل لجميع أفراد الحيوان الناطق

ويمكن إرجاع الضمير إلى الإطلاق أيضا أي : الإطلاق المتناول هو هذا.

ولا يبعد إرجاعه إلى المتناول المفهوم من قوله : « يتناول ».

قوله : وكذا الجاري على القول الآخر.

المراد بالقول الآخر : هو القول المقابل للمشهور ـ على ما ذكرناه ـ وهو أنّه يحتاج في الطهور مع الزوال إلى الامتزاج أي : وكذا المراد على هذا القول أنّه لا بدّ أن يكون الامتزاج بعد الزوال أو معه ولا يكفي الامتزاج قبله.

ويمكن أن يكون المراد بالقول الآخر هو قول المصنّف : باعتبار دوام النبع. وقول العلّامة باعتبار الكثرة ؛ فإنّه مع عدم دوام النبع أو مع القلّة لا يكون الزوال فقط مطهرا بل يحتاج إلى الملاقاة ، ويكون المعنى : أنّ الجاري كذا أيضا أي : مثل غير الجاري المفهوم تقديره من عطف : « أو لاقى كرا » على قوله : « إن كان جاريا » فيحتاج مع الزوال إلى الملاقاة ، ويكون التشبيه في أصل الاحتياج إلى الملاقاة مع سائر شروطها ، ولكنّه لا يلائمه إطلاق لفظ « الجاري » في قوله : « وكذا الجاري ».

قوله : عنده.

الضمير راجع إلى المصنّف ، والظرف إمّا متعلّق بما قبل قوله : « كالجاري » ، أي ولو تغيّر بعض الماء ، وكان الباقي كرّا طهر بزوال التغيّر أيضا عند المصنّف كالجاري ؛ وإمّا متعلّق بالجاري أى ولو تغيّر بعض الماء وكان الباقي كرّا طهر بزوال التغيّر عندي كالجاري عند المصنّف.

قوله : ويمكن دخوله.

كأنّ الوجه في الإتيان بلفظ « يمكن » مع أنّ الملاقاة بالكرّ حاصلة هنا قطعا ؛ لأنّ الظاهر من الملاقاة سبق الانفصال ، وهنا ليس كذلك.

٢٧

قوله : لصيرورتهما بالملاقاة إلى آخره.

توضيحه : أنّ أخبار الكرّ تدلّ على أنّ الماء الواحد إذا كان كرّا يدفع النجاسة ، ويلزم منه أنّ الماء الواحد إذا كان كرّا يرفع النجاسة أيضا ؛ لأنّ ما يصلح للدفع يصلح للرفع أيضا ، وبملاقاة الماءين الكرّ والنجس يصيران ماء واحدا ـ وإن لم يقع عليه دفعة ـ ويكونان معا كرّا ، فيكون المجموع صالحا لدفع النجاسة.

ولا يخفى أنّه يرد على هذا الدليل منع أنّ ما يصلح للدفع يصلح للرفع أيضا ؛ لعدم دليل عليه.

قوله : ولأنّ الدفعة لا يتحقّق لها معنى إلى آخره.

هذا دليل آخر لكفاية مطلق الملاقاة وعدم اشتراط الدفعة. وحاصله : أنّ الدفعة لا يتحقّق لها معنى يمكن اشتراطها ، اذ يتوقّف اشتراطها على أمرين : أحدهما : إمكان الوقوع دفعة. وثانيهما : وجود دليل على اشتراطها.

والدفعة الحقيقيّة ممّا لا يمكن تحقّقها ووقوعها ؛ لاستحالة وقوع جميع أجزاء الكرّ دفعة حقيقيّة على الماء الآخر ، بل يتأخّر وقوع بعض الأجزاء عن بعض آخر لا محالة والدفعة العرفيّة لا دليل على اشتراطها.

والمراد بالدفعة العرفيّة : وقوع جميع أجزاء الماء الكثير في زمان قصير بحيث تصدق عليه الدفعة عرفا ، وبما ذكرنا من توصيف قوله : « معنى » بقولنا : « يمكن اشتراطها » يندفع ما يرد على ظاهر العبارة من أنّ قوله : « لا يتحقّق لها معنى » يدلّ على أنّه لا يمكن تحقّق الدفعة بشي‌ء من معنييه ، وقوله : « عدم الدليل على العرفيّة » يشعر بإمكان تحقّق معناها العرفي.

نعم يرد عليه : أنّ نفي الدليل على العرفيّة يشعر بوجود الدليل على الحقيقية لو لم يتعذّر مع أنّه لا دليل على اعتبارها أيضا.

ويمكن أن يقال : إنّ عدم اعتبار الحقيقية كان لوجهين :

أحدهما : عدم إمكانها. وثانيهما : عدم الدليل عليها ، بخلاف العرفيّة ؛ فإنّ عدم اعتباره للثاني فقط.

٢٨

فاكتفي في عدم اعتبار الحقيقية بالوجه الأوّل ؛ لعدم الحاجة إلى الثاني ، ولأنّ التمسك بعدم الدليل إنّما يحسن مع الإمكان دون ما إذا امتنع تحقّقه.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ ما يمكن أن يكون دليلا على اعتبار الدفعة هو أنّ تطهر الماء النجس بالكرّ إنّما هو إذا لقى الملاقي كرا طاهرا عند الاتحاد مع النجس ، وذلك إنّما يكون إذا وقع جميع أجزاء الطاهر على النجس في آن واحد ، بخلاف ما إذا وقع تدريجا ؛ فإنّ الجزء الملاقي أوّلا يمتزج مع النجس وينجّس ، فلا يكون الباقي كرا طاهرا ، فيشترط الدفعة.

ولا شك أنّ وقوع جميع أجزاء الماء في آن واحد إنّما يتصوّر في الدفعة الحقيقية ، فالدليل على اعتبارها لو امكنت موجودة بخلاف العرفية.

ولا يخفى أنّه يمكن القول باعتبار العرفية ، ووجود الدليل على اعتبارها وهو استصحاب نجاسة الماء النجس ، فإنّه كان نجسا ، فيقتصر في طهارته بما وقع الإجماع على كونه مطهرا وهو الوقوع دفعة.

قوله : وكذا لا تعتبر ممازجته إلى آخره.

أي : وكذا [ نبّه ] بقوله : « لاقى » على أنّه لا يعتبر في طهره به ممازجته له كما اعتبره جماعة منهم المحقّق والشهيد والعلّامة في التذكرة.

ويطهر بمجرّد الملاقاة كما اختاره العلامة في النهاية ، والمحقّق الشيخ علي ووالدي العلّامة ( طاب ثراه ) في اللوامع ، والمعتمد.

قوله : لأنّ ممازجة جميع الأجزاء لا تتّفق إلى آخره.

هذا دليل لعدم اشتراط الممازجة. وتوضيحه : أنّ مرادهم بالممازجة : إمّا ممازجة مجموع أجزاء الطاهر بمجموع أجزاء النجس ، أو بعض أجزائه بمجموع أجزائه ، أو ممازجة جميع أجزاء الطاهر أو بعضه ببعض أجزاء النجس.

والأوّلان ـ أي : ممازجة الطاهر كلأ أو بعضا مع جميع أجزاء النجس ـ محال لا تتّفق ، لأنّها موقوفة على تجزي النجس بأجزاء لا تتجزى ، ولو جاز امتنع حصول العلم به ، فلو اشترطت تلك الممازجة لزم عدم طهارة النجس ، للإجماع على أنّه ليس وراء الممازجة المذكورة شرط آخر لطهر الجميع.

٢٩

والثانيان ـ أي : اعتبار ممازجته لبعض أجزاء النجس دون بعض ـ تحكّم ؛ لأنّ البعض الغير الممازج يطهر حينئذ بالاتصال ، ولا فرق بين أجزاء النجس حتّى يطهر بعضها بالاتصال ، ويتوقّف طهر بعض آخر بالامتزاج ، فالتفرقة قول بلا دليل ، فاللازم حينئذ إمّا القول بعدم طهارته ، أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتصال ، والأوّل باطل قطعا ، فتعيّن الثاني.

ولا يخفى أنّه يرد على هذا الدليل : أنّ للخصم أن يختار أحد الثانيين ، ولا يلزم من ترتّب حكم على الاتّصال المتحقّق في ضمن الامتزاج العرفى ترتّبه عليه بدونه أيضا لجواز مدخليّة ملاقاة أكثر الأجزاء في الحكم.

قوله : والاتّحاد مع الملاقاة حاصل.

هذا دليل آخر لعدم اشتراط الممازجة ، وتوضيحه : ما مرّ من أنّ بالملاقاة يحصل اتّحاد الماءين ، فيكون المجموع ماء واحدا كرا ، وهو صالح لدفع النجاسة ، فيكون صالحا لرفعها أيضا ، فلا يشترط أمر آخر. ويظهر ما فيه ممّا سبق.

وقد استدلّ لعدم اشتراطها بوجوه أخر أيضا.

منها : أنّ الاتّصال يستلزم الامتزاج في الجملة ، لامتناع اتصال الماءين بدون امتزاج ، فيطهر بعض النجس ، وهو لامتزاجه بما يليه يطهره ، وهكذا إلى تمام الأجزاء.

ومنها : أنّه يمتنع اختلاف حكم المتّصلين من أجزاء الكرّ والنجس لامتزاجها لا محالة ، فإما تنجس أجزاء الطاهر أو تطهر أجزاء النجس ، والأوّل باطل ، فتعيّن الثاني ، فينقل الكلام إلى ما يلي الأجزاء المطهرة ، وهكذا.

ومنها : أنّ الأجزاء المتصلة مع الكرّ من النجس بالملاقاة تطهر لطهوريّة الماء ، فيطهر ما يتصل به أيضا إلى التمام.

وفي الكلّ نظر :

أمّا الاوّل : فلمنع استلزام الاتصال للامتزاج في الجملة.

سلمنا ، ولكن لا نسلم أنّ هذا الامتزاج مطهر ، فإنّه مغاير للامتزاج الذي وقع الإجماع على كونه مطهّرا.

٣٠

وأمّا الثاني : فللمعارضة بالزائد على الكرّ المتغيّر بعضه الزائد ، ومنع امتزاج المتّصلين هنا اعتراف بانفكاكه عن الاتصال ، فيحتمل في محل النزاع ، ولمنع عدم جواز اختلاف حكم الممتزجين.

وأمّا الثالث : فلمنع عموم طهوريّة الماء حتّى يشمل لنفسه أيضا.

قوله : ويشمل إطلاق الملاقاة إلى آخره.

السّر في تغيير التعبير حيث قال في بيان الإطلاقين الأوّلين : « إنّه نبّه بقوله : لاقى » وفي بيان هذا الإطلاق : إنّه يشمل إطلاق الملاقاة ، إمّا مجرّد التفنّن في الكلام أو لأنّ المفهوم من الملاقاة عرفا أن لا يكون معها الامتزاج ، فإنّه لا يسمى ملاقاة.

والوقوع الدفعي أيضا مستلزم للامتزاج ، فلا تكون الممازجة والوقوع دفعة من أفراد الملاقاة ، فلا يشملهما الملاقاة ، فقوله « لاقى » تنبيه على كفايتها ، وعدم اشتراط الممازجة والدفعة ، بخلاف الملاقاة مع المساواة ، أو علوّ المطهر ، أو النجس ؛ فإنّها من أفراد الملاقاة فيشملها إطلاقها ، فلذا عبّر أوّلا بقوله « لاقى » وثانيا بقوله : « يشمل إطلاق الملاقاة ».

وعلى هذا يجب أن يحمل الملاقاة في قول الشارح : « بل تكفي ملاقاته له مطلقا » وقوله « بل يكفي مطلق الملاقاة » على المعنى اللغويّ الصادق على الامتزاج أيضا ؛ لأنّ مراده من المطلق في الموضعين الشامل للدفعة والممتزج ، دون العرفي الذي حمل عليه كلام المصنّف ، وكذا الملاقاة المطوية في قوله الآتي : « لا يرى الاجتزاء بالإطلاق ».

وإنّما ذكر الشارح الدليل لعدم اشتراط الدفعة والامتزاج دون عدم اشتراط المساواة أو علوّ المطهّر ؛ لوقوع الاحتجاج على الأوّلين وعلى القولين المخالفين لهما في كتب القوم.

وأمّا الأخير فلم يذكروا له دليلا ، بل إنّما هو لازم من حكمهم بتقوى كلّ من الأعلى والأسفل بالآخر وعدمه ، فإنّ دليلهم غالبا على طهر النجس بملاقاة الكرّ حصول الوحدة الصالحة للدفع.

ومن لا يقول بتقوى الاعلى بالأسفل لا يقول بصلاحيّة الأسفل للدفع عن الأعلى ، فلا يصلح للرفع أيضا ، فعدم الطهر مع علوّ النجس لازم من القول بعدم تقوي الأعلى

٣١

بالأسفل. والطهر مطلقا لازم من التقوى مطلقا ، فاكتفوا في بيان الدليل على ذلك بظهور استلزام التقوّى أو عدمه للطهر المطلق أو عدمه ، ولم يصرّحوا بدليل له ، فلم يذكره الشارح أيضا.

قوله : ما لو تساوى إلى آخره.

المراد بالموصول : الملاقاة أي : ملاقاة تحصل لو تساوى سطحاهما أو اختلف.

قوله : واعتبار الأخير ظاهر.

المراد بالأخير : علوّ المطهر أو مساواته. ووجه ظهوره عدم تقوى الأعلى بالأسفل عند الشارح وبالأوّلين : الدفعة والممازجة. ووجه عدم اعتبارهما ما ذكره دليلا لعدم اشتراطهما.

قوله : إلّا مع عدم صدق الوحدة عرفا.

أي : اعتبار الدفعة والممازجة ليس بظاهر ، وتكفي الملاقاة إلّا مع القول بعدم صدق الوحدة عرفا بدون الدفعة والممازجة ؛ فإنّه يجب اعتبارهما حينئذ. أو إلّا في صورة لم تصدق الوحدة عرفا كما إذا كانت الملاقاة بانبوبة ممتدّة ضيّقة ، والأوّل أصح ؛ لعدم استلزام الثاني إلّا صدق الوحدة دون الدفعة أو الممازجة.

وقد يجعل قوله هذا استثناء عن قوله : « واعتبار الأخير ظاهر » أي : اعتبار المساواة أو علو المطهر ظاهر إلّا في صورة لا تصدق معها الوحدة عرفا فتشاركهما في عدم الظهور كما إذا كان المطهر في مرتبة من العلو لا تصدق معها وحدته مع المطهّر.

وهو غفلة ؛ لأنّه لا يلزم حينئذ عدم اعتبار المساواة أو العلو ، والكفاية بعلوّ النجس أيضا ، بل اللازم اعتبار المساواة أو العلو مع شي‌ء زائد.

قوله : والكر المعتبر.

أي : المعتبر تحقّقه ، أو بلوغ الماء إليه.

قوله : في الطهارة.

اللام للعهد الذكري. أي : طهارة الماء النجس المتغيّر الزائل بغيره.

٣٢

قوله : على المشهور فيهما.

أي : في كون الرطل عراقيّا ، وفي تقديره بمائة وثلاثين درهما.

ومقابل المشهور في الأوّل قول الصدوق والسيّد أنّه مدني وهو يزيد على العراقي بنصفه فهو مائة وخمس وتسعون درهما. وفي الثاني قول بعض الفقهاء حيث قال : إنّ الرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباعه.

وورد في بعض الروايات : أنّ المدّ مائتان وثمانون درهما ، وإذا ضمت معها الأخبار الدالّة على أنّ أربعة أمداد تسعة أرطال عراقيّة أنّ كلّ رطل مائة وأربعة وعشرون درهما وأربعة اتساعه. ولم أقف على قائل به.

ثمّ لكون كلّ درهم سبعة أعشار المثقال الشرعي ، وكون المثقال الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي ، يكون الرطل العراقي ثمانية وستّون مثقالا صيرفيّا وربع مثقال ولكون المنّ الشاهي المتعارف الآن في بلادنا ألفا ومأتين وثمانين مثقالا صيرفيا يكون الكرّ أربعة وستّين منّا إلّا عشرين مثقالا صيرفيّا.

قوله : ما بلغ مكسره إلى آخره.

ففي ما تساوت ابعاده الثلاثة تكون كلّ بعد منه ثلاثة أشبار ونصف ؛ لأنّ الحاصل من ضرب ثلاثة ونصف في ثلاثة ونصف في ثلاثة ونصف هو هذا المقدار.

ومقابل المشهور هنا هو القول القوي الذي ذكره وهو أنّه ما بلغ مكسره سبعة وعشرين الحاصل من ضرب ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار ، وهو قول القمّيين واختاره العلّامة في المختلف ووالدي العلّامة « طاب ثراه ».

وهاهنا أقوال أخر أيضا :

فقال ابن جنيد : أنّه ما بلغ نحو مائة شبر.

والقطب الراوندي : أنّه ما بلغ أبعاده عشرة ونصفا.

والشلمغاني : أنّه ما لا يتحرّك طرفاه بطرح حجر في وسطه.

واكتفى ابن طاوس بكلّ ما روى.

وفي المعتبر مال إلى ما بلغ مكسره ستّة وثلاثين ، واستوجهه في المدارك.

٣٣

قوله : شبر مستو.

أي : شبر شخص مستوفي الخلقة ، فالإضافة لاميّة.

قوله : وينجس الماء القليل.

الأولى التقييد بالواقف ؛ لأنّ المصنّف لا يشترط في الجاري الكريّة. وكأنّه اكتفى بالظهور ، أو بأنّ القليل في اصطلاح الفقهاء ، وكذا الكرّ يختصّ إطلاقه على الواقف.

قوله : والبئر.

أي : ماءها ، فأطلق البئر واريد الماء من باب تسمية الحالّ باسم المحلّ وعلى هذا يكون في الضمير المرفوع استخدام حيث اريد من المرجع الحقيقة ، ويمكن أن يكون المجاز مجاز الحذف. ثمّ تذكير الضمير مع تأنيث المعنى باعتبار وقوعه بين شيئين أحدهما الآخر.

قوله : وهو مجمع ماء نابع من الارض إلى آخره.

فخرج بقيد « النابع » غيره ، كمجمع ماء المطر ، وقوله : « من الأرض » إمّا متعلّق بالمجمع أي : مجمع من الأرض ، فيكون لخروج مثل الحب ، أو بالنابع ويكون المراد بالأرض حينئذ جوفها ، فيكون لإخراج مجمع الماء النابع من منبع بفوارة ومثلها.

وخرج بقوله : « لا يتعداها » ما يجمع فيه الماء وتجري إلى الأرض ؛ فإنّه ليس ببئر. ودخل بقوله : « غالبا » الآبار التي قد يكثر فيها الماء ويتعدّى منها نادرا ، فإنّها لا تخرج عن كونها آبارا وبقيد الأخير خرج مثل الوهدات التي ينبع منها الماء ولا يتعدّاها غالبا.

ولا يخفى أنّ هذا التعريف لبئر ليس حدّه اللغوى ولا الشرعي ؛ لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة لها ، بل هو معناها باصطلاح المتشرّعة أو العرف العام.

ولا شك أنّ البئر في الاصطلاحين كما يطلق على ما ذكر يطلق على غيره أيضا كالآبار التى ليس فيها ماء أصلا ، والآبار التي يتعدّى منها الماء دائما كآبار القناة وأمثالها ، ولكن ثبت من الشارع أحكام خاصّة لبعض الآبار ، فالمعروف هنا هي الآبار التي هي متعلقات تلك الأحكام من النجاسة بالملاقاة ، ووجوب النزح أو استحبابه.

وهذا التعريف اصطلاح خاصّ للمتشرّعة في هذا المقام ، ومرادهم بالبئر هنا : ما ثبت

٣٤

له الأحكام المخصوصة. وعلى هذا فصحّة التعريف وفساده منوط بكون المعرف متعلّق جميع الأحكام وعدمه ، وحينئذ فيرد على هذا التعريف امور :

منها : أنّه يصدق على مجمع ماء نابع من مكان اخر مجتمع فيه ، مع أنّه ليس هذا البئر المقصود ؛ ولذا زاد بعضهم في التعريف قوله : « منه » بعد « النابع » ، فقال : « مجمع ماء نابع منه ».

ويمكن توجيه التعريف أيضا بحيث لا يصدق على ما ذكر : بأنّ يرجع الضمير المنصوب في قوله : « يتعدّاها » إلى الأرض ، فيكون المعنى : مجمع ماء نابع من الأرض لا يتعدّى ذلك الأرض ، فيلزم منه أن يكون المجمع هو تلك الأرض المنبع.

ومنها : أنّه يصدق على مجمع الماء النابع المتعدّي عنه بالفعل ، وإن كان على سبيل الندرة ، مع أنّه لا ينجس بالملاقاة ؛ ولذا قد يبدّل قوله : « غالبا » بقولهم : « بالفعل » أي : غير متعدّ بالفعل ، فلو كان متعدّيا بالفعل ولو نادرا لا يكون بئرا.

ومنها : أنّه يصدق على مجمع ماء نابع منه منقطع عن المادّة ؛ ولأجل ذلك قد يزاد قولهم : « مع وجود المادّة ».

ومنها : أنّه يخرج ما لا يكون متعدّيا بالفعل ولو تعدّى غالبا ، مع أنّ أحكام البئر ثابتة له.

وقد يورد على هذا التعريف بلزوم الدور ؛ لأجل قوله : « ولا يخرج عن مسمّاها عرفا » وبالتحقيق الذي ذكرناه يظهر دفعه ، فإنّ المعرّف هو البئر باصطلاح خاصّ للمتشرّعة ، والمأخوذ في التعريف هو المسمّى في العرف العام.

ثمّ لا يخفى أنّ الضمير المنصوب في قوله « يتعدّاها » إمّا راجع إلى البئر ، أو إلى المجمع باعتبار البئر ، أو إلى الأرض كما مر ، والمرفوع في « يخرج » راجع إلى المجمع ، والمجرور في « مسماها » إلى البئر.

قوله : على المشهور فيهما.

أي فى الماء القليل والبئر والمقابل للمشهور في الأوّل قول ابن أبي عقيل وبعض المتأخّرين وهو عدم النجاسة بالملاقاة مطلقا. وقول الشيخ في المبسوط وهو عدم

٣٥

النجاسة بملاقاة ما لا يدركه الطرف من النجاسة مطلقا ، وفي الاستبصار : وهو عدمها بملاقاة ما لا يدركه من الدم خاصّة ، ويشعر به كلام النافع أيضا. وقول السيّد في الناصريّات ، والحلّي وبعض المتأخّرين. وهو الحق عندي ، وهو عدم النجاسة فيما إذا كانت الملاقاة بورود الماء على النجاسة ، والنجاسة فيما إذا كانت بالعكس ، واستوجهه في المدارك ، واستحسنه في الذخيرة.

والمقابل للمشهور في الثاني قول ابن أبي عقيل وابن الغضائري من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين ، وهو عدم التنجس بالملاقاة وكونها في حكم الجاري ، وجعل أحد قولي الشيخ أيضا ، وقول البصروي وهو عدم تنجسها إذا كانت كرّا والتنجّس بدونه ، وقول الجعفى وهو عدم التنجس إذا بلغ ماؤها ذراعين في كلّ من الأبعاد والتنجس بدونه.

قوله : على الوجه السابق.

المراد بالوجه السابق : ما ذكره الشارح بقوله : « ونبّه بقوله لاقى » إلى آخره.

والحاصل أنّه يطهر القليل بملاقاته الكرّ مطلقا سواء وقع عليه دفعة أم لا ، وسواء امتزجا أم لا ، وسواء تساوى سطحاهما أو اختلف مع علوّ الكرّ وعدمه. هذا في ملاقاة الكرّ ، وأمّا التطهير بالملاقاة بالجاري فليس على الوجه السابق ، بل يشترط فيه التساوي أو علوّ الجاري كما يصرّح به بقوله : « وكذا يطهّر الجاري بالملاقاة مساويا له ، أو عاليا عليه ».

قوله : مساويا له ، أو عاليا عليه.

لا يخفى أنّه لا وجه للتفرقة بين الكرّ والجاري في عدم اشتراط المساواة أو العلو في الأوّل ، واشتراط أحدهما في الثاني ، فتأمّل.

قوله : بمقالته فيه.

أي : في الماء الجاري من عدم اشتراط الكرّية فيه.

قوله : وبوقوع الغيث إجماعا.

أي : إجماعا في الطهر بوقوع الغيث في الجملة ، فلا ينافيه الخلاف في اشتراط التقاطر وعدمه ، والامتزاج وعدمه ، وغير ذلك.

٣٦

قوله : بمطهّر غيره مطلقا.

إمّا قيد للبئر ، أي : يطهر البئر مطلقا سواء نجست بنجاسة لا نصّ فيها ، أو بأحد النجاسات المنصوصة بالنزح فيه. أو للمطهّر أي : يطهر بمطلق المطهّر لغيره من الاتّصال بالجاري أو الكرّ أو المطر ، اتّصالا دفعيّا أو تدريجيّا مع الامتزاج أو بدونه ، مع المساواة أو علوّ المطهر أو دنوّه

وحينئذ يكون الإطلاق ردّا على المحقّق في المعتبر حيث قال : إذا جرى إليها الماء المتّصل بالجاري لم يطهر. وعلى العلّامة في المنتهى حيث خصّ الجاري بالذكر ، وعلى المصنّف في الدروس حيث اشتراط الامتزاج.

لا يقال : إنّ من مطهرات ماء الجاري ـ كما مر ـ زوال التغيّر ، مع أنّه لا يقول المصنّف بطهر البئر به ، فلا يطهر بمطهّر غيره مطلقا.

لأنا نقول : إنّ مطهّر الجاري ليس زوال التغيّر حقيقة ، بل طهره لأجل اتّصال القدر المتغيّر بغيره من الجاري ، وإنّما يمنع التغيّر من طهره ، فإذا زال يطهر بسبب الاتصال ، لا بالزوال ، ولكنّه لأجل حصول الطهارة بمحض زواله لأجل ارتفاع المانع ووجود المقتضي نسب التطهير إليه ، فالمطهّر حقيقة هو الاتّصال بالجاري ، والبئر أيضا يطهر به.

ولا يرد أيضا تطهير بعض الأشياء بالشمس والنار وغيرهما ، لأنّ المراد غيره من المياه.

ويمكن أن يكون قوله : « مطلقا » قيدا لقوله : « غيره » أي : ويطهر بمطهّر غيره من الجاري والقليل والكثير. هذا ثمّ إنّ قوله : « غيره » إمّا يكون مضافا إليه لقوله : « بمطهّر » أو يكون وصفا له ؛ ليكون تنبيها على أنّ البئر ليس كالجاري ، فلا يطهر لأجل الاتصال بالمادة.

قوله : وهو من الإبل.

أي : البعير من الإبل بمنزلة الانسان من الناس كما في الصحاح.

والتوضيح : أنّ الناس اسم للجمع ، فلا يطلق على الواحد ، وكذلك الإبل اسم للجمع كما صرّح به في الصحاح ، والبعير والانسان مفردان يطلقان على الواحد مطلقا : ذكرا كان أو أنثى ، صغيرا أو كبيرا. ولفظة « من » في الموضعين للتبعيض.

٣٧

قوله : والمراد من نجاسته المستندة إلى موته.

المستندة صفة لموصوف محذوف ، هو خبر لقوله : « والمراد ». أي المراد من نجاسة البعير الموجبة لنزح الجميع المفهومة من قوله : « ويطهر بنزح جميعه للبعير » نجاسته المستندة إلى موت البعير لا مطلق نجاسته ، ولو بسبب عارض ، فإنّ حكمه حينئذ حكم هذه النجاسة.

قوله : والأولى اعتبار إطلاق إلى آخره.

يعني : أنّ الأولى اعتبار إطلاق اسم الثور في العرف في الحكم بوجوب نزح الجميع مع كونه ذكرا ، فلا يكتفى فيه بمجرّد ما قيل من المعنى اللغوي من الحكم بوجوب نزح الجميع لذكر البقر مطلقا صغيرا كان أو كبيرا ، ولا بمجرّد الإطلاق العرفي حتّى يحكم به للبقر الكبير مطلقا ذكرا كان أم انثى ، فيحكم بوجوب نزح الجميع للذكر من البقر الكبير.

وإنّما قلنا : إنّ المعنى العرفي هو الكبير من البقر مطلقا لتصريحهم بأنّه لا يطلق على الصغير ، واستشهدوا له بقول بعضهم أنّه مأخوذ من إثارة الأرض ، ولقول الشارح : « مع ذلك » ؛ فإنّه لو لا إطلاقه على الانثى عرفا لما كان معنى لقوله : « مع ذلك » كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّه يرد على الشارح أوّلا : أنّه إذا وجد للّفظ حقيقتان : لغويّة وعرفية ، فاختلفوا فيه إذا وجد في كلام الشارع مطلقا ، فمنهم من قدّم اللغويّة وحمله فيه على المعنى اللغوي ، ومنهم من قدّم العرفيّة وحمله على العرفي ، وليس قول آخر ، فعلى الأوّل يجب اعتبار إطلاق الاسم لغة ، وعلى الثاني اعتباره عرفا. وما ذكره الشارح يوجب طرح المعنيين ؛ لعدم شمول الحكم لانثى البقر كما هو مقتضى العرف ، ولا لصغيره كما هو مقتضى اللغة ، فهو خروج عن المعنيين.

والحاصل : أنّه يلزم عدم حمل اللّفظ على شي‌ء من حقائقه ، ولم يقل به أحد.

وثانيا : أنّه لو سلّمنا أنّ ما ذكره إنّما هو مقتضى تقديم الحقيقة العرفيّة ، فلا وجه لجعله أولى ؛ لأنّ من قال بتقديم العرفيّة يحكم بلزومه ، دون أولويّته.

ويمكن دفع الإيراد الأوّل : بجعل المشار إليه لقوله : « ذلك » مجموع قوله : « قيل : هو ذكر البقر » لا اعتبار الذكوريّة فقط ، فيكون المعنى : والأولى اعتبار الإطلاق العرفي مع

٣٨

وجود ذلك القول أي مع أنّه قيل إنّ الثور ذكر البقر الأولى عدم الالتفات إليه واعتبار الإطلاق العرفي إمّا لأجل ما تقدّم من تقديم الحقيقة العرفية ، أو لأجل عدم ثبوت اللغة بمحض قول واحد.

ويمكن دفع الإيرادين معا : بحمل المعيّة في قوله : « مع ذلك » بالمعيّة في مجرّد الاعتبار بمعنى : أولويّة اعتبار كلّ منهما ، لا اعتبار المعنيين مجتمعين ، فيكون المعنى : والأولى اعتبار الإطلاق العرفي أيضا ، مع اعتبار الإطلاق اللغوي ، فيحكم بوجوب النزح لذكر البقر مطلقا صغيرا كان او كبيرا كما هو مقتضى المعنى اللغوي ، وبوجوبه لكبير البقر مطلقا ذكرا كان أم انثى ، كما هو مقتضى المعنى العرفي ، ويكون الأولويّة حينئذ لأجل حصول الاحتياط المستحب شرعا.

قوله : قليله وكثيره.

ردّ لما نقل عن الصدوق في المقنع أنّه فرّق بين قليله وكثيره ، فحكم بوجوب عشرين دلوا بوقوع قطرة منه. ويفهم من ظاهر المعتبر الميل إليه أيضا.

ومن هذا يظهر وجه إفراد المصنّف الخمر عن المسكر مع كونه مسكرا أيضا ، فانّ مراده من المسكر وإن كان جنسه ولو مع كثرة فيصدق على القليل أيضا من المسكرات ، إلّا أنّ اللفظ ظاهر فيما يسكر بالفعل ، فتوهّم منه خروج القليل من الخمر ، لعدم كونه مسكرا.

ويمكن أن يكون إفراده اهتماما بشأن الخمر في هذا المقام من حيث ... فيه ، وكيف كان فعطف المسكر على الخمر من باب عطف العام على الخاص.

قوله : المائع بالأصالة.

التقييد بـ « المائع » لخروج مثل الحشيشة ؛ فإنّه ليس بنجس ، فلا نزح فيه ، وبقوله :

« بالأصالة » لخروج الحشيشة المدافة والخمر الجامد. (١)

قوله : ودم الحدث.

الإضافة إمّا بيانيّة بناء على أنّ الحدث له إطلاقان : أحدهما : ما مرّ وهو الأثر المتقدم ، وثانيهما : ما يوجب حصول الأثر كما يقال للريح : إنّه حدث ، وكذا البول ، وإمّا يكون بمعنى

__________________

(١) ودخول الخمر الجامد. ظ

٣٩

« اللام » أي الإضافة المفهمة للاختصاص كما يقال : دم الحيض. وحينئذ يكون المراد بالحدث : هو الأثر السابق ذكره. والمراد بالدماء الثلاثة : الحيض ، والاستحاضة ، والنفاس.

وقوله : « على المشهور » متعلّق بقوله : « بنزح » أي : بنزح الجميع لدم الحدث على المشهور. ويكون إشارة إلى خلاف المفيد حيث أطلق القول بأنّ للدم الكثير عشرة ، والقليل خمس ، ولم يفرق. وكذا السيّد المرتضى وابنا بابويه وإن خالفوه في المقدّر ومال إليه المحقّق أيضا. ويمكن أن يكون المشهور للإشارة إلى أنّ هذا القول لا دليل عليه من غير التفات إلى الخلاف.

قوله : وهو بعيد.

أي : إلحاق المصنّف العصير بالخمر بعيد ، لعدم الدليل عليه.

لا يقال : غاية ما يلزم من عدم الدليل هو كونه ممّا لا نصّ فيه على تقدير القول بالنجاسة ، ولا بعد في إلحاق ما لا نصّ فيه بالخمر في وجوب نزح الجميع ، فإنّه ممّا قال به جماعة كثيرة ، واستدلّوا عليه بأدلّة متينة ، ولا بعد في القول بنجاسة العصير أيضا ؛ فإنّه ممّا قد ينسب إلى المشهور.

لأنّا نقول : ليس الاستبعاد الذي ذكره فيما يلزم من الالحاق من الحكم بوجوب نزح الجميع ، بل الاستبعاد في نفس الإلحاق ، فإنّ الحكم بوجوب نزح الجميع في العصير تارة يكون لأجل كونه ممّا لا نصّ فيه ، وهذا لا بعد فيه ، واخرى لأجل حكم الشارع بنزح الجميع في الخمر وكونه ملحقا به ، وهذا هو البعيد عن الطريقة الإماميّة ؛ لكونه قياسا منهيّا عنه.

وحكم المصنّف في الذكرى للسبب الثاني حيث قال : « والأولى دخول العصير بعد الاشتداد في حكم الخمر لشبهه به إن قلنا بنجاسته » انتهى. فالبعد إنّما هو في مجرّد الإلحاق وإجراء الحكم لأجل المشابهة ، لا لأجل الحكم بوجوب نزح الجميع.

قوله : والمشهور فيه ذلك.

أي المشهور في المني وجوب نزح الجميع. والمراد بالمختصرين : الدروس والبيان ؛ لكونهما مختصرين بالنسبة إلى الذكرى ، واقتصر المصنّف فيهما على مجرّد الفتوى من غير ذكر دليل.

٤٠