مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

حيث إنّه المتبادر منه في العرف ، ولا يصحّ السلب عنه ، سيما بملاحظة القرائن المعيّنة لإرادته في الأخبار ، سواء قلنا بكونه معنى مجازيا مشهورا مقترنا بالقرينة الشائعة العرفية في مثل المقام ، أو كون هذا التركيب ، أعني : ما في اليد حقيقة عرفية فيه.

ولعلّ الأوّل أوجه ، نظرا إلى حصول الاختلاف في الظهور العرفي باختلاف المقامات وتغاير المتعلق ، فيكون مستندا إلى قرينة المقام ، ففي مثل كون الدار في يده يتبادر ذلك ولا يصحّ السلب ، دون كون الخاتم والدرهم في يده. ولو أمر بوضع الدرهم في يد زيد ، صحّ العتاب بوضعه عنده بترك الامتثال.

وكيف كان ، فالخطب في ذلك بعد ظهور المراد سهل وإنما يتأتّى البحث في صدق هذا المعنى في مواضع :

منها : ما إذا اختلفت آثار الاختصاص فيما بين اثنين ، ككون المتاع في بيته ومفتاحه في يد آخر ، فاشتبه كون المتاع في يد أيّهما؟

والظاهر : أنّه إن علم أنّ صاحب البيت وضعه فيه ، فهو محكوم بكونه في يده ، وإن علم أنّ صاحب المفتاح وضعه ، فهو في يده ، وإن لم يعلم شي‌ء منهما أشكل الأمر ، إلّا إذا علم استيلاء أحدهما عليه.

ومنها : ما إذا لم يشاهد التصرفات المتجدّدة فيه. فالظاهر : عدم اشتراطها في صدق اليد ، كما صرّح به الوالد العلّامة ، فإنّ اليد شي‌ء والتصرّف شي‌ء آخر ، ولذا تراهم يقولون : اليد المنفردة من التصرف هل تصح الشهادة لها بالملك؟ فيجردون اليد عن التصرف ، ويختلفون في صحّة الشهادة بالملك بمجرّدها ، بحيث كانت هي مستند الشاهد.

نعم ، قد يكون تجدّد التصرف وتكرّره دليل ظهور اليد ، فيشترط ـ حينئذ ـ في

٤٦١

صدقها ، كالعبور والاستطراق في الطريق الواقع في دار الغير ، فلا يحكم باليد بمجرّد عبورهم ساعة أو ساعتين ، ونحوه سكنى الدار.

ومنها : الاستيلاء عليه ، بحيث كان تحت اختياره بتصرّف فيه كيف يشاء من البيع والشراء والخراب والعمارة والانتفاع منه ونحو ذلك من وجوه التصرّفات.

فهل يشترط صدق اليد عليه أم لا؟

الظاهر عدم صدقها مع ظهور خلافه ، ولكن لا يشترط العلم به ، ولذا يحكم بملكية ما في يد الرجل وانتقاله الى وارثه بعد موته ، وإن لم يعلم منه هذا الاستيلاء.

ومنها : جزئيته وتابعيته للمتصرف فيه ، وإن لم يظهر منه تصرف أو استيلاء عليه بخصوصه ، كقطعة أرض في داره.

ومن هذا يظهر : أنه لو كان مجرى ماء أحد في دار غيره أو طريق له فيها. لا يخرج عن صدق يد صاحب الدار ، بل يد صاحب الماء ، والعبور فيها لم يثبت عدا المنفعة ، وغاية ما في الحال صدق يد المنفعة عليها ، لا ملكية العين ، فليس لهما التصرفات العينية أو استنفاع منفعة أخرى منهما.

ومنها : ما إذا لم يكن المالك بنفسه مباشرا للتصرف ، بل كان وكيله أو مستعيره أو أمينه أو مستأجره أو المتعدّي عليه بغصب. ففي صدق ذي اليد على ما ملكه باعتراف هؤلاء الوسائط ، في مقابل دعوى الثالث إشكال. والظاهر : قبوله باعترافهم ، بكون أيديهم نيابية ، وحكم يدهم يد المنوب عنه.

المقام الثاني : في بيان الشروط المعتبرة في اقتضاء اليد للاستحقاق.

وهي أمور :

الأوّل : عدم اعتراف ذي اليد بما ينافي ملكيته.

وتفصيل ذلك : أنّ صاحب اليد إمّا يدّعي استحقاقه ، أو يعترف بعدمه ، ويقول : لا أدري كونه لي ، أو لم يظهر منه شي‌ء منها.

٤٦٢

لا إشكال في اقتضائه في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، لتقدّم الإقرار على اليد إجماعا. والظاهر : عدمه ـ أيضا ـ على اعترافه بالجهل ، كما صرّح به والدي ، لعدم دليل صالح على الاقتضاء حينئذ ، لاختصاص تحقق الإجماع بغير الصورة ، وكذا النصوص المتقدّمة ، ومنع صدق الاستيلاء في الموثقة على ذلك ، لظهوره في الاقتدار على التصرف فيه كيف شاء وكيف جاز له ، وهو لا يعلم أنه له. ولا ينافي ذلك عدم اشتراط علمه بكونه لمورّثه أو لمن اشتراه منه ، لعلمه بملكيته الظاهرية لمن انتقل منه إليه ، وكونه محكوما له في ظاهر الشرع كما مرّ.

نعم ، لو علم اعتراف صاحب اليد الناقلة منها إليه بعدم علمه أنّه له ، فالظاهر : عدم تملّكه ـ حينئذ ـ بالإرث أو الاشتراء أيضا.

وإن لم يظهر من ذي اليد دعوى الملك أو عدمه ولا جهله به ، فالظاهر : كونه محكوما له عند غيره ، كما إذا كان في يد مورّثه فمات عنه ، لإطلاق موثقة يونس ، وكذا صدر رواية حفص ، باعتبار عموم ترك الاستفصال ، وإن لم يكن له ذلك الظهور ، لاختصاص تعليله بفعل ما يشير باعترافه.

فرع :

الأوّل : يظهر مما بيّناه دقيقة هي : أنّه لو كان في دار أحد طريق مستحدث يعبر فيه الناس مع اعترافهم بعدم تملّكهم الطريق أو عدم علمهم بالاستحقاق الشرعي ظاهرا عدا واحد منهم ، مدّعيا للملكية أو حقّ العبور ، فلا يحكم له بذلك ، لأنه إن ادّعى الاختصاص به ، فليس يده بخصوصه عليه في جملة العابرين ، وإن ادّعى الجهة العامّة للعامّة ، فيتوقف على عدم اعترافهم بالجهل ، كما سمعت.

نعم ، إذا كانت يده منفردة بالغة في تكثّر العبور وتكرره إلى حيث صدق يده بالخصوصية عليه عرفا ، يحكم له شخصا.

٤٦٣

الثاني : أن لا يعارض اليد دليل كاشف عن الواقع ، فيقدم الدليل ، لما علمت في المشرق السابق : أنّ الأصول العملية والاجتهادية ، بل مطلق الأحكام ، بعضها وارد على بعض ، ويقدّم الوارد على المورود ، بل لا تعارض بينهما حقيقة ، وأنّ الورود بأحد الوجهين : إمّا بكون موضوع أحدهما مرتفعا بوجود الآخر ، كإباحة ما لا يعلم حرمته عند ظهور دليل حرمته الواقعية ، أو بجعل الشارع أحدهما سببا رافعا للآخر ، كزوال حلية العصير بالغليان ، ثم زوال حرمته بعده بنقصان الثلثين.

وأشرنا ثمة إلى أنّ البيّنة والإقرار ونحوهما كذلك بالنسبة إلى اليد ، فيرتفع حكمها بوجود الرافع ، كما أنّ اليد واردة على الاستصحاب ، كما ستعلم.

الثالث : أن لا يعارض اليد استصحاب ما يزيل حكم اليد ورافعه.

بيان ذلك : أنّ تعارض اليد والاستصحاب يقع على وجوه :

منها : أن يكون مقتضى الاستصحاب عدم الملكية ، ولكن لم يكن في مقابل ذي اليد مدّع يدّعي خلافه ، كما إذا ادّعى صاحب اليد اشتراءه أو استيجاره من مالكه ولم يكن هناك من يدعيه ، فليس لأحد أن يزاحمه ، ولا يجوز أخذه منه ، وله التصرف فيه كيف يشاء ، لصدق اليد عليه ، وشمول الأخبار له.

ومنها : أن يدّعي الاستيجار أو الانتقال ، وفي مقابله المدّعي ينكره. والظاهر : أنه لا خلاف ـ حينئذ ـ في تقديم قول المدّعي واستصحاب عدم الانتقال وعدم اعتبار اليد ، لأنه يدّعي اليد المقيده بالاستيجار أو الابتياع وهو في دعوى القيد مدّع يطالب بالبيّنة ، والاستصحاب يقتضي عدمه.

فإن قلت : اقتضاء اليد للاستحقاق ليس لقيدها المختلف فيه المطالب بالثبوت ، بل لمجرد نفسها ، أعني : الاستيلاء ، والاستصحاب لا يقاوم اليقين الشرعي الذي هو مقتضى اليد.

٤٦٤

قلت : المقتضي للاستحقاق هو اليد المطلقة لا مطلق اليد ، فإنّ اليد لا يقتضي الاستيجار ، فلا يعارض استصحاب عدمه ، فحيث دلّ الاستصحاب على عدمه صارت اليد يدا غير استيجارية ، وهي تنافي دعوى ذي اليد ، فلا يعتني بيده.

وبوجه آخر أو عبارة أخرى : تقدّم اليد على الاستصحاب إنّما هو باعتبار جعلها الشارع سببا للملكية الظاهرية ، كما تقدّم ، فمقتضاها يقين شرعي مزيل للحالة السابقة ، ويعارضهما بالمزيلية والمزالية ، وفيما نحن فيه ينعكس الأمر ، فإن عدم الاستيجار الذي هو مقتضى الاستصحاب سبب لعدم حصول اليد الاستيجارية ، فإنّ وجود المعلول كما هو مؤخّر بالذات عن وجود العلّة ، كذا عدمه مؤخّر عن عدمه ، فعدم حصول النقل سبب لعدم حصول اليد المملّكة ، ولا هكذا الملكية الاستيجارية ، فإنّها كاشفة عن حصول الاستيجار ، وعلمت كرارا : أنّ الأصل المثبت للسبب مقدّم على المثبت للكاشف.

ومنها : الصورة السابقة ، غير أنّ استناد اليد بالانتقال من المدّعى عليه علم من الخارج ، من غير اعتراف ذي اليد به ، بمعنى أنّه علم أنّه لو ملكه كان بانتقاله منه إليه.

وفي تقديم الاستصحاب أو اليد ـ حينئذ ـ إشكال :

من كون اليد ـ حينئذ ـ معلوم التقيّد بسبب ينكره المدّعي ، فعلى ذي اليد إثباته كالصورة السابقة.

ومن أنّ صاحب اليد لا يدّعيه حتى كان مأخوذا بالإثبات ، وعلم الحاكم بسبب دعواه لا يوجب صدق المدّعى عليه ، فاليد يبقى على اقتضائهما الملكية ، فيكون من قبيل صورة تعارض الملكية السابقة واليد الحالية ، وستعرف تقدّم اليد فيها ، ولعله الأقوى.

٤٦٥

فإن قلت : استصحاب عدم النقل ـ بضميمة العلم الخارجي بانحصار سبب المدّعي به فيه ـ يقتضي بطلان اليد وورود الاستصحاب عليها كالسابق.

قلت : إنّما يعارضه ويزيله لو كان هو محل الدعوى ، كما في صورة الإقرار ، وإلّا فلا محلّ لهذا الاستصحاب ـ حينئذ ـ في مقابل قول ذي اليد ، فلا يخرج اليد عن مقتضاه شرعا.

ومنها : أن يتعارض [ اليد ] الحالية الملكية السابقة أو اليد السابقة ، مع احتمال استناد اليد إلى غير نقل المالك الأوّل على تقدير صحّتها.

وقد اختلفوا في تقديم الحالية أو القديمة على قولين ، كلاهما عن الشيخ في المبسوط والخلاف (١).

والأوّل عن الأكثرين : وعن الشرائع : الثاني.

وعن محتمل الفاضل في التحرير : التساوي.

واستدلّ على كلّ منها بوجوه قاصرة لا جدوى للتعرّض لها ، بعد ما تبيّن لك مما تلوناه من مناط الحقّ في المقام ، من أنّ اليد دليل شرعيّ وارد على استصحاب الملكية السابقة ناقض لمقتضاه من قبيل سائر الأسباب الشرعية الطارية ، ولا كذلك العكس ، فإنّ بقاء الملكية السابقة ليس سببا مزيلا لملكية اليد ، بل على تقدير بقاءها كاشفة عن عدم اقتضاءها الملكية اللاحقة.

والظاهر : أنّه ينظر إليه كلام بعض المحققين ، من أنّ احتمال كون اليد الباقية عارية أو غيرها لا يلتفت إليه مع بقاء اليد على حالها ، فإنّ المقصود الأصلي من إعمال اليد هو إبقاء تسلطها على ما فيها (٢) ، أو عدم جواز منعها عن التصرفات .. (٣)

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢٦٩ و ٢٩٩ ؛ الخلاف ٦ : ٣٣٩ ، المسألة ١١ ؛ و ٣٤٥ ، المسألة ١٩.

(٢) في الأصل : « باقيها » مكان « ما فيها ».

(٣) هنا كلمة لا تقرأ.

٤٦٦

بسبب احتمال الغصب أو العارية أو غيرهما ، فيحكم عليها بما يحكم على ملك الملاك ، وليس هذا معنى الحكم بأنه ملك. انتهى.

وبعد الإحاطة بما قدّمناه ، تعلم صحّة الحكم بكونه ملك ذي اليد ، كما هو مقتضى رواية حفص بن غياث المتقدمة الشامل للمورد.

والظاهر : أنّ عدوله عن الحكم بالملك ، إلى الحكم بلوازمه ، باعتبار معارضة حكم الملك لاستصحاب ملك الآخر ، وقد علمت أنّ الاستصحاب لا يعارض اليد.

ومنها : أن يعارض يده الحالية إقراره أمس بأنّ الملك للمدّعي ، أو شهدت البيّنة بإقراره أمس له ، أو أقر بأن هذا له أمس.

قال في الكفاية (١) : وفي كلامهم القطع بأنّ صاحب اليد لو أقرّ بأحد الوجوه المذكورة قضي له به. وفي إطلاق الحكم بذلك إشكال.

وفي القواعد والسرائر (٢) أيضا : فالقضاء للمدّعي ، بإقرار ذي اليد له أمس ، أو أقرّ أمس به ، أو شهدت بإقراره البيّنة.

وفي مجمع الفائدة للمحقق الأردبيلي (٣) قال : في صورة إقراره بالأمس ، أو بالشهادة بإقرار الأمس ، وجعل الأقرب في الأوّل ذلك ، موذنا بوقوع الخلاف فيه.

وقال : إنّه غير واضح الدليل ، إلّا أن يكون إجماعا.

ويظهر وقوع الخلاف من شيخنا الشهيد ، في تمهيد القواعد ، في صورة الإقرار له أمس ، واختار الأخذ بإقراره ، كما لو شهدت البيّنة بأنّه أقرّ أمس.

أقول : للنظر في إطلاق الحكم بتقديم قول المدّعي بإقرار ذي اليد بأحد الوجوه

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٢٧٧.

(٢) السرائر ٢ : ١٦٩.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢٤٥.

٤٦٧

المذكورة مجال واسع. والإشكال فيه ـ كما في الكفاية وظاهر الأردبيلي ، ـ في مورده ، إلّا أن يثبت الإجماع فيه ، لأنّ إقراره بأنه كان له أمس ، أو ثبوت إقراره كذا أمس بالشهادة ، أعمّ من كونه اعترافا بانتقاله إليه من المدّعي ، وهو الصورة الأولى التي يقدّم فيها قول المدّعي ، ومن انتقاله عن غيره إليه.

ولعلّ المقصود من المجمع عليه هو الأوّل ، فهو من باب تعارض الملك السابق واليد الحالية ، وقد عرفت تقدم اليد فيه ، فتدبّر.

الرابع : أن لا يعارض اليد الحالية استصحاب نفس اليد ، كما إذا أثبت المدّعي أنّ مبدأ يده كان يد غصب أو عارية أو إعارة ، وادّعى صاحب اليد ملكيته الحالية ، فإنّه لا إشكال ـ حينئذ ـ في تقديم الاستصحاب ، لأنّ يده بالاستصحاب يد غير مملّكة لا يقتضي التقديم ، واستصحاب الموضوع مقدّم على الأصل الحكميّ إجماعا واعتبارا.

الخامس : احتمال كون اليد ناشئة عن جهة مقبولة في ظاهر الشرع ، فلو علم كونها بانتزاع ما في اليد من تصرّف المالك عنفا ، من غير جهة مجوزة شرعية ظاهرا ، بل بمجرد ادّعاء الملكية ولو مع احتمال صدقه الواقعي ـ ومنه ما إذا أخذه في حضورنا عنه عند ادّعاء ملكيته ـ لم يكن معتبرة إجماعا ، ولعدم كون ملك اليد سائغة في ظاهر الشرع ، ووجب الحكم بتخلية يده عنه وردّه إلى ذي اليد الأوّل حتى أثبت حقه وأقام البيّنة.

السادس : ما أفاده في المستند ، أن لا يزاحم اليد يد أخرى ، كما إذا ركب اثنان دابّة رديفين ، وأكلا من إناء واحد دفعة ، وجلسا على بساط كذلك ، فلا أثر لليد ـ حينئذ ـ لأحدهما بالنسبة إلى الآخر لتعلق يد كلّ واحد بالجميع ، حيث إنّ اليد ليست كالملك الذي لا يتزاحم فيه غير الواحد ولذا لو قطع أحدهما يده عنه ، كان يد

٤٦٨

الآخر عليه كما كان ، فالحكم بتنصيف ملكية كل واحد خلاف مقتضى اليد ، وتمامه لكلّ واحد من المحال ، ولواحد ترجيح ممتنع ، فإذن لا حكم ليد أحدهما لنفي الآخر.

نعم ، تؤثر اليدان لنفي دعوى الثالث.

أقول : ويمكن المناقشة بمنع اليد المستقلّة لكلّ واحد منهما ، فإنّه لو اعتبر فيها الاستيلاء هنا ، فالتامّ منه في الكلّ ممنوع ، إذ ليس له البيع والإجارة والعارية ونحوها ، وإن اعتبر فيها الانتفاع ، فهو ينقسم بينهما ، لأنّ المنفعة العائدة منه لكل واحد غير العائدة للآخر ، وحيث إنّ يد الثالث مسلوبة عنه ، فحكم اليد منقسم بينهما لا محالة.

وإطلاق قوله في الموثّقة : « وكلّ من استولى على شي‌ء فهو له » ظاهر في الاختصاص لهما اشتراكا ، لا لأحدهما منفردا ، ولا لثالث ، كما قلنا. فإن كان لأحدهما شاهد ، وإلّا فيقف ويتحالفان.

ولعله إجماعيّ ، وبه اعترف الوالد الماجد في العوائد (١).

السابع : ما عسى أن يجري فيه الكلام من اختصاص الاقتضاء بكون متعلق اليد الأعيان دون المنافع ، كما أفاد والدي القمقام للأصل ، وعدم ثبوت الإجماع ، وظهور الأخبار في الأعيان ، حتى الموثقة ، لمكان الضمير في قوله عليه‌السلام : « من استولى على شي‌ء منه ـ أي : المتاع ـ فهو له » مضافا إلى منع صدق اليد على المنافع ، لأنّ الآتية غير متجدّدة بعد ، والماضية منقضية.

أقول : وللكلام فيه مجال ، والذي يقتضيه نظر العبد ، أنّ اليد على المنفعة والتصرف فيها قسمان :

أحدهما : أن يكون التصرف فيها موقوفا على وقوع اليد على العين عرفا ،

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٧٤٩.

٤٦٩

بحيث صدق عليه كون العين في يده ، ولو لاستيفاء منفعته ، كتصرف المستأجر في العين المستأجرة ، وجريان مائه من ملك الغير والاستطراق فيه ، وحمل السقف على جداره ، وأمثال ذلك.

والثاني : أن لا يتوقف عليه ، كالاستظلال بجداره ، والاستضاءة بسراجه ، والانتفاع بهواء عرصته ونحوها.

أمّا الثاني : فهو كذلك ، ولا اعتبار لليد عليه ، بل لم أتحقّق قائلا به والأخبار غير شاملة له بظهورها في كون متعلق اليد العين ، ولو سلم إطلاق بعضها ، كحديث فدك ، فهو أيضا ، بحكم التبادر ظاهر في العين.

وأمّا الأوّل : فالظاهر اعتبار اليد عليها ما دام يده على العين ، وظنّي أنّه لا خلاف فيه ، ولذا لو كان في يده عين بعنوان الاستيجار ، فادّعى غيره الإجارة من مالكه ، يقدّم قول الأوّل ، وما هو إلّا ليده عليها ، وإلّا كانا سواء ، ولصدق المدّعي على خارج اليد عن المنفعة ، فإنّ من ادّعى على من استمرّ جريان مائه من ملك الغير في منع جريانه ، يصدق عليه « أنّه لو ترك ترك الدعوى » ، فيطالب البيّنة عملا بمقتضى أخبار الدعاوي ، بل يشمله قوله عليه‌السلام في الموثّقة : « من استولى على شي‌ء منه فهو له » فإنّ الضمير وإن رجع إلى المتاع وهو عين ، إلّا أنّه يعمّ اللام مطلق الاختصاص ، فيشمل ما إذا ادّعى المتاع ، لاختصاص منفعته له باستيجار ونحوه.

٤٧٠

[ المشرق السابع وعشرون ]

[ في وجوب ترتب الحواضر على الفوائت ]

مشرق : اختلفوا في وجوب ترتّب الحواضر على الفوائت ما لم يتضيّق أوقاتها ، وفورية وجوبها.

وظاهر جماعة ، بل صريح بعض المحققين : أنّ كلا من الأمرين مسألة منفردة في الخلاف ، وإن كان قول الأكثر متوافقا فيهما نفيا وإثباتا.

وكيف كان ، ففي المسألة أقوال :

الأوّل : أنّه لا يعتبر في صحّة الحاضرة تأخّرها عن الفائتة مطلقا ، ولا في صحّة غيرها من العبادات ، ولا يجب فعل الفائتة فورا متى ذكرها ، ولا يجب العدول عن الحاضرة إليها في الأثناء ، فيجوز التشاغل بسائر ما ينافيها من العبادات الواجبة والمندوبة الموسعة والمباحات وغيرها.

وهو المحكيّ عن كثير من الأجلّة الأقدمين من مشايخ الشيعة وفقهاء الطائفة ، منهم : من نقل عنهم السيد الأجل رضي الدين على بن طاوس (١) كالشيخ الجليل

__________________

(١) حكاه في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٥٩ ؛ وجواهر الكلام ١٢ : ٣٥.

٤٧١

الفقيه عبيد الله بن عليّ الحلبي (١) في أصله الذي أثنى عليه الصادق عليه‌السلام عند عرضه عليه ، وعدّه الصدوق (٢) من الكتب المشهورة التي عليها المعوّل وإليها [ المرجع ].

والحسين بن سعيد الأهوازي (٣) ـ الذي هو من أصحاب الرضا والجواد والهادي عليهم‌السلام ـ وعن المحقق في المعتبر أنه من جملة الفقهاء المعتبرين الذين اختار النقل عنهم ممن اشتهر فضله وعرف تقدّمه في نقل الأخبار وصحّة الاختبار وجودة الاعتبار.

والشيخ النبيل أبي الفضل محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان الجعفي في كتابه الفاخر (٤) الذي ذكر في أوّله أنّه لا يروى فيه إلّا ما أجمع عليه وصحّ من قول الأئمة عليهم‌السلام.

والشيخ العظيم أبي عبد الله الحسين بن أبي عبد الله الواسطي أستاد الكراجكي قال في كتابه على ما نقل عنه السيد في بعض رسائله : أن سأل سائل وقال : أخبرونا عمن ذكر صلاة وهو في أخرى ، ما الذي يجب عليه؟ قال : يتمّ الذي هو فيها ويقضي ما فاته ، ثمّ ذكر خلاف المخالفين (٥).

ومنهم من حكاه الشهيد ، عنهم كقطب الدين الراوندي ونصير الدين حمزة

__________________

(١) غنية النزوع ١ : ٩٨ ؛ حكاه السيد بن طاوس في رسالته : ٣٤٠ ؛ ومفتاح الكرامة ٣ : ٣٨٦ ؛ وجواهر الكلام ١٣ : ٣٣.

(٢) الفقيه ١ : ٣٥٥ ، ذيل الحديث ١٠٢٩.

(٣) حكاه السيّد بن طاوس في رسالته : ٣٤١ ؛ وكشف الرموز ١ : ٢٠٨.

(٤) الجعفي صاحب الفاخر المعروف في كتب الرجال بأبي الفضل الصابوني ، حكاه السيّد بن طاوس في رسالته : ٣٣٩ ؛ وبحار الأنوار ٨٨ : ٣٢٧ ؛ ومفتاح الكرامة ٣ ٣٨٨ ؛ وجواهر الكلام ١٣ : ٣٤.

(٥) انظر مفتاح الكرامة ٣ : ٣٨٨ ؛ وجواهر الكلام ١٣ : ٣٤ ؛ ورسالة ابن طاوس : ٣٤٣.

٤٧٢

الطوسي وسديد الدين محمود الحمصيّ ويحيى بن سعيد جدّ المحقق ونجيب الدين بن يحيى بن محمد والسيد ضياء الدين بن فاخر والشيخ أبي علي الحسن بن طاهر الصوريّ وعليّ بن عبيد بن بابويه منتجب الدين (١) ، وفي المصابيح عن عماد الدين محمد بن عليّ ، وفي رسالة ابن إدريس (٢) التي عملها في المسألة عن طائفة من العلماء الخراسانيين ، وعن محتمل كلام العمّاني ، واختاره السيد بن طاوس من المتأخرين والعلّامة في جملة من كتبه ووالده وولده وأكثر من عاصره ، نقله في المختلف (٣) والشهيدان في اللمعة والروضة (٤) ، وعن المقداد وتلميذه محمد بن شجاع القطان وأبي العباس أحمد بن فهد (٥) وعليّ بن هلال الجزائري تلميذه والصيمري والمحقق الكركي (٦) وولده والميسي وابن أبي جمهور الأحسائي ، والأردبيلي وصاحب المعالم في الاثنى عشرية وولده الشيخ محمد والشيخ أبي طالب شارح الجعفرية وشيخنا البهائي (٧) ووالده وتلميذه الشيخ جواد الكاظمي والمحدّث الكاشاني ، وابن أخيه الهادي والفاضل السبزواري والسيد ماجد والشيخ سليمان البحرانيين والعلّامة المجلسي ووالده والمدقّق الشيرواني والفاضل الماحوزي والمحقّق البهبهاني والعلّامة الطباطبائي.

وإليه ذهب والدي العلّامة وصاحب الجواهر وجماعة من مشايخه. وبالجملة هو

__________________

(١) انظر مفتاح الكرامة ٣ : ٣٨٨ ؛ وجواهر الكلام ١٣ : ٣٤ ؛ ورسالة ابن طاوس : ٣٤٣.

(٢) السرائر ١ : ٢٧٤.

(٣) مختلف الشيعة ٢ : ٤٣٥.

(٤) مفتاح الكرامة ٣ : ٣٨٧ ؛ روض الجنان : ١٨٨ ؛ الروضة البهية ١ : ٧٣٣.

(٥) الرسائل العشر : ١٠٩.

(٦) جامع المقاصد ٢ : ٤٩٣.

(٧) نسبه صاحب مفتاح الكرامة إلى كتاب حبل المتين ٣ : ٣٨٧.

٤٧٣

المشهور بين المتأخرين ، بل عليه أكثرهم ، واستفاض عليه نقل شهرتهم ، بل في الذخيرة (١) : أنه مشهور بين المتقدمين أيضا ، وإن نسب فيه القول بالمضايقة إلى أكثرهم.

وفي مصابيح السيّد الأجلّ الطباطبائي نسبه إلى أكثر الأصحاب على الإطلاق ، بل المستفاد من صاحب الفاخر من قوله في خطبة الكتاب ، أنّه ما روي فيه إلّا ما أجمع عليه وصحّ من قول الأئمة عليهم‌السلام ، كما سمعت أنه إجماعي ، بل عن الفاضلين في المعتبر والمختصر النافع والمختلف ظهور دعوى إجماع المسلمين عليه في الجملة.

الثاني : وجوب الترتيب بمعنى تقديم الفائتة على الحاضرة مطلقا ما لم يتضيّق وقتها. نسب إلى القديمين والشيخين والسيّدين والقاضي والحلّي (٢) والحلبي (٣) وبعض المحدّثين.

وصرّح أكثر هؤلاء بل غير واحد منهم ـ كما قيل ـ بفورية القضاء ، حتّى حكي عنهم المنع من الأكل والشرب والنوم إلّا ما لا بدّ منه والتكسّب والاشتغال بغيرها في غير ضيق وقت الأداء ، بل عن الحلّي وابن زهرة (٤) الإجماع عليه.

وعن بعضهم تلازم الفورية والترتّب.

وعن ابن فهد (٥) التصريح بأنّ الترتّب هو القول بالمضايقة ، وعدمه هو القول

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٨٤.

(٢) الرسائل العشر : ١٠٩.

(٣) غنية النزوع ١ : ٩٨.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الرسائل العشر : ١٠٩.

٤٧٤

بالمواسعة ، ولذا لم يذكروا إلّا مسألة واحدة ، واستدلّوا بما يدلّ على كلّ واحد منهما للآخر. وأنكره بعض المحققين ، وجعلهما مسألتين ، وقال : من حكم بوجوب تقديم الفائتة فإنّما هو من حيث هو مع قطع النظر عن الفورية.

واستشعر من كلام الفاضل في التذكرة (١) حيث قال : إنّ أكثر علمائنا على وجوب الترتيب ، ثمّ قال : وجماعة من علمائنا ضيّقوا الأمر في ذلك وشدّدوا الأمر على المكلّف غاية التشديد. فإنّ نسبة الترتيب إلى الأكثر والتضييق إلى الجماعة مشعرة باختلاف المسألتين.

ونسب والدي العلّامة إلى بعض مشايخه القول بوجوب الترتيب مع اختياره المواسعة.

وربما يستشعر من التفصيل بين الفائتة الواحدة والمتعدّدة وفائتة اليوم وغيرها أنّ الكلام في مسألة الترتيب غير الكلام في التضييق والفورية.

ومن هذا يظهر أنّ شهرة الترتيب ـ لو سلمت ـ لا يوجب شهرة المضايقة ، بل لعلّ شهرة المواسعة لا كلام فيها بين أكثر المصنفين.

ثمّ إنّ أكثر من قال بالترتيب أو الفورية صرّحوا ببطلان الحاضرة المقدمة على الفائتة في السعة ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، كالمرتضى وابن البراج (٢) وأبي الصلاح والشيخ في المبسوط (٣) وابن إدريس. ومنهم من لم يصرّح بذلك ، ولكن لم يظهر منه صحتها ، كالمفيد والقديمين والشيخ في النهاية (٤) والخلاف (٥).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٨١.

(٢) المهذّب ١ : ١٢٦.

(٣) المبسوط ١ : ١٢٥.

(٤) النهاية ونكتها ١ : ٣٦٣.

(٥) الخلاف ١ : ٥٩٧.

٤٧٥

وربما قيل بتلازم بطلانها للقول بالترتيب والفورية.

ونحوه وجوب العدول في الأثناء عند التذكّر ، وعن المرتضى والشيخ والقاضي والحلبيين والحلّي التصريح به ، بل عن الأخير الإجماع عليه ، وجعله الفاضل في المختلف (١) لازم القول بالمضايقة.

الثالث : التفصيل بالترتيب في الفائتة الواحدة وعدمه في المتعددة ، اختاره المحقق في كتبه الثلاثة وصاحب الكفاية وقوّاه الشهيد في غاية المراد (٢).

الرابع : الفرق بين فائتة اليوم وغيره وهو للفاضل في المختلف خاصة دون سائر كتبه ، ولم ينقل عن غيره أيضا ، عدا ما يحكى عن بعض شارحي الإرشاد.

الخامس : وجوب الترتيب في الفائتة الواحدة في يوم الذكر دون غيرها ، نقل عن ابن أبي جمهور.

السادس : الفرق بين الفائتة نسيانا وعمدا ، فيتضيّق للأولى دون الثانية ، وهو المحكيّ عن ظاهر ابن حمزة في الوسيلة (٣).

السابع : التفصيل بين المعيّن عدده من الفائت فالتضييق ، ومجهوله فعدمه. نقل عن الديلمي (٤). وربما نقل عنه القول الثاني. وربما استظهر منه رجوعه إلى الغالب.

ويحكى عنهم تفصيلات أخر لا عناية لذكرها.

والحقّ هو الأوّل ، لوجوه :

الأوّل : أصل البراءة.

__________________

(١) مختلف الشيعة ٢ : ٤٣٧.

(٢) غاية المراد ١ : ٢٠٣.

(٣) الوسيلة : ٨٤.

(٤) المراسم : ٨٧.

٤٧٦

وهو تارة باعتبار البراءة عن وجوب التعجيل وحرمة التأخر ، لأنّه تكليف زائد على وجوب نفس الفعل ، فيصحّ نفيه بالأصل.

فإن قلت : الوجوب الموسع يضادّ المضيق ، وهو ـ أيضا ـ تكليف صحّ نفيه بالأصل ، فيعارض الأوّل.

قلت : ليس غرضنا إثبات الوجوب الموسّع بالأصل حتى يعارض فيه الأصلان ، بل المقصود نفي وجوب التعجيل وعدم حرمة التأخير ، ولا معارض له في نفسه من حيث هو فعل مجهول الحكم ، إلّا أنّه يفيد منضمّا إلى ما هو المعلوم إجمالا من الوجوب المردد بينهما فائدة الموسّع ، من قبيل نفي حرمة الترك التي هي فصل الوجوب فيما علم الرجحان والطلب مرددا بين الوجوب والاستحباب ، فإنّه وإن لم يثبت منه الاستحباب ، لعدم كونه مقتضى الأصل ، فإنّ مقتضاه ليس إلّا مجرد جواز الترك لا الاستحباب المأخوذ في ماهيّته جوازه قيدا للرجحان ، إلّا أنّ جميع هاتين القضيتين واعتبار تركيبهما يفيد فائدة الاستحباب.

ومن ذلك ما إذا علم انتقال عين من أحد إلى آخر ، مردّدا بين كونه بالبيع أو الإجارة ، فإنّ نسبة الأصل إلى نفيهما على السواء فيتعارضان ، فيرجع إلى ما يقتضيه الأصل في لوازمهما ، وهو بقاء الملكيّة الموافق لعدم البيع دون الإجارة لانتقال المنفعة على التقديرين.

وأخرى باعتبار البراءة عن الواجبات المتعدّدة اللازمة للقول بالمضايقة ، فإنّ القائل بالتضييق لا ينكر الوجوب في الآن الثاني عند العصيان بتركه في الأوّل ، وهكذا ثالثا ورابعا وظاهر أنّ الوجوب الثاني الذي لم يحصل المخالفة فيه بعد غير الأوّل الذي حصل فيه المخالفة والعصيان.

وأمّا على المواسعة ، فالواجب واحد ، وهو نفس الفعل.

٤٧٧

والقول بأنّ الواجب في الموسع هو الأوّل أيضا ، والتأخير من جهة إذن الشارع في البدل سخيف جدّا ، كما حقّق في محلّه ، فالمجعول بحكم الشرع ليس إلّا أمرا واحدا محدودا بزمان معيّن موسع يتّجه عليه.

ولا يتوهّم أنّ ترجيح الموسع به مبنيّ على ترجيح ما يخالف الأصل الأقلّ على ما يخالف الأكثر ، وإن لم يكن الأقلّ داخلا في الأكثر ، وهو خلاف التحقيق على ما حرّرناه في الأصول.

لاندفاعه بما سبق من عدم كون المقصود إثبات الموسّع بالأصل عند الترديد بينه وبين ما يتضيّق فورا ففورا ، بل إثبات جواز التأخير وإن أفاد ضمّه إلى المعلوم الإجمالي فائدة الموسع كما عرفت.

وثالثة باعتبار البراءة عن وجوب تأخّر الحاضرة واشتراطها بالترتيب على الفائتة ، لأنّ الحقّ ترجيح أصل البراءة على أصل الاشتغال في شروط العبادة وأجزاءها ، لكونه مزيلا على ما بيّنّاه في محلّه ، وهذا الأصل حجة على من يقول ببطلان الحاضرة من أصحاب المضايقة عند البدأة بها.

الثاني : الاستصحاب ، فإنّ مقتضاه جواز الحاضرة المعلوم قبل تذكر الحاضرة بعده وعدم وجوب العدول عليه إذا كان الذكر في الأثناء ، ويتمّ بعدم القول بالفصل.

الثالث : العمومات (١) الدالّة بإطلاقها على جواز فعل الحاضرة في سعة وقتها وإن كانت عليه فائتة ، كقوله سبحانه ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (٢).

والإيراد عليه بأنّه لو تمّ لدلّ على تقديم الحاضرة ولا قائل به ، مدفوع بكون الأمر للوجوب التخييري قطعا ، إذ لا معنى للوجوب العيني إلى غسق الليل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٥٦ ، الباب ٢ من أبواب قضاء الصلاة ، الرواية ١٠٥٧٤.

(٢) الإسراء (١٧) : ٧٨.

٤٧٨

ونحوه قوله في صحيحة سعد (١) : إذا دخل الوقت عليك فصلّهما.

والإيراد بدلالته على وجوب المبادرة بالحاضرة حين دخول الوقت ، وهو خلاف الإجماع ، وكذا إطلاقه على حمله على الرجحان ، لأنّ القائلين بالمواسعة لا يقولون برجحان تقديم الحاضرة على من عليه فائتة ، فلا بدّ من تخصيصها بغير من عليه الفائتة.

مردود أيضا ، بمنع الدلالة على المبادرة ، إلّا على القول بإفادة الأمر الفور ، وهو ممنوع ، وعلى تسليمه فالإجماع قرينة على عدم إرادة الوجوب ولا الندب لو سلم الإجماع على عدمه أيضا ، ويكون محمولا على الوجوب التخييري ، مع أنّ الإجماع على عدم رجحان الحاضرة أوّل الوقت ممنوع ، بل لعلّه غير بعيد ، كما نصّ عليه بعض المحققين.

واستحباب تقديم الفائتة من باب الاحتياط والخروج عن شبهة الخلاف لا تنافي الرجحان الذاتي للحاضرة الذي ينظر إليه الأخبار ، مع أنه لو سلم تساويهما في التقديم ـ بل ورجحان الفائتة ـ فلا ينافي رجحان أوّل الوقت وفضيلته من حيث هو للحاضرة دون الفائتة ، ضرورة أنّ ليس لخصوص أول وقت الحاضرة فضيلة مخصوصة لفعل الفائتة فيه ، فهو من قبيل ما ورد من الأعمال والأدعية المخصوصة في أزمنة خاصة ، كما في الشهور المباركة ، ويزاحمها أعمال راجحة أخرى مطلقا ، أو بأسباب اتفق توافقها لها في الزمان ، فحينئذ إن ثبت دليل على أرجحية إحدى الجهتين فهو ، وإلّا حكم بالتخيير ، ولكلّ فضله المخصوص به.

وإطلاق ما دلّ على فضيلة أوّل الوقت للحاضرة ومطلوبية المبادرة إليها في أوائل أوقاتها.

وتوهّم عدم الرجحان مع وجوب الفائتة ، مدفوع بما علمت.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٩ ، الباب ٢ من أبواب المواقيت ، الرواية ٤٦٧٤.

٤٧٩

وإطلاق ما ورد من استحباب الرواتب وقضاءها وغيرها من الصلوات الكثيرة والأعمال المخصوصة (١) ، سيما ما ورد في أزمنة خاصة (٢) ، وما ورد عموما وخصوصا في قضاء الرواتب وخصوص صلاة الليل مصرّحا فيه بأيّ وقت شاء (٣).

وما ورد في جواز قضاء صلاة النهار متى شاء ، كصحيحة ابن أبي يعفور وصحيحة ابن أبي العلاء (٤) وغيرهما.

وقد يستدلّ أيضا بإطلاق النصوص الموقّتة للحواضر ، كقوله عليه‌السلام (٥) : « إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر » الدال على صحّتها في أوائل أوقاتها ولو مع اشتغال الذمّة بالفائتة.

وإطلاق ما دلّ على وجوب قضاء الحاضرة إذا مضى من الوقت مقدار ما يسع الفعل (٦) ، إذ على المضايقة لا يتحقّق ذلك لمن عليه فوائت ، إلّا بمضيّ زمان يسع الجميع وإدراك ضيق الوقت وترك الأداء ، لأنّ صحّة الحاضرة مشروطة بفعل الفائتة ، فلا بدّ من مضيّ زمان يسع الشرط [ و ] المشروط في تحقق القضاء.

وفي الاستدلال بهما إشكال :

أمّا الأوّل : فلأنّ شرطية الوقت لا تنافي شرطية غيره وإن توقف على صرف بعض الوقت في تحصيله كالطهور واللباس ونحوهما ، أو ترتّبه على فعل موقت آخر كالظهر والعصر في الوقت المشترك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٦٤ ، الباب ٤ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٦٠٥.

(٢) نفس المصدر ٨ : ٢٦٣ ، الباب ٣ ، الرواية ١٠٦٠٠.

(٣) نفس المصدر ٨ : ٢٧٤ ، الباب ١٠ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٦٤٢.

(٤) نفس المصدر ٤ : ٢٤٣ ، الباب ٣٩ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥٠٤١ و ٥٠٤٢.

(٥) نفس المصدر ٤ : ١٣٠ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، الرواية ٤٧١٣.

(٦) نفس المصدر ٢ : ٢٥٩ ، الباب ٤٨ من أبواب الحيض ، الرواية ٢٣٦٠.

٤٨٠