مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

تلفت لزمه العوض.

وإطلاقه يشتمل صورتي العلم والجهل ، كما هو معقد الإجماع وإن رجع الجاهل على من غرّه على القاعدة الآتية. نعم ، يقيد بغير الإذن إجماعا.

تكميل وتفريع :

فرّعوا على عموم على اليد ، ضمان الكلّ في الأيدي المتعاقبة ، سواء علموا جميعا الغصب أم جهلوه ، أو بالتفريق ، لاشتراك الكلّ في تصرّف مال الغير بغير إذن مالكه ، فيدخل في العموم غير أنّ الجاهل غير آثم.

والمالك يتخير في تضمين من شاء منهم بالعين والمنفعة ، أو الجميع بالتقسيط ، ولو بالتفاوت ، وله تقسيط أكثر من واحد وترك الباقي ، وتضمين بعضهم بالعين والآخر بالمنفعة.

ويرجع الجاهل منهم بالغصب إذا رجع عليه المالك على من غرّه وسلّطه على العين أو المنفعة ولم يعلمه بالحال ، وهكذا الآخر ، إلى أن يستقر الضمان على الغاصب العالم ، وإن لم تتلف في يده.

ويرجع المالك في الزيادة على من تلفت عنده قبل وصول العين إلى الآخر.

هذا إذا لم يكن يد الجاهل الذي تلفت عنده يد ضمان ، بل يد أمانة ، كالوديعة والرهن والوكالة ، وإلّا كما في العارية المضمونة ، فلا يرجع على غيره ، ويستقرّ عليه الضمان.

ثمّ استثنى من رجوع الجاهل الأمين إلى العالم ، ما لم يكن الجاهل متلفا ، وإلّا فيستقرّ عليه ، استنادا إلى أنّ مباشرة الإتلاف أقوى من إثبات اليد العادية ، إلّا إذا كان المتلف مغرورا ، كما إذا قدمه ضيافة فأكله ، حيث إنّه أوهمه أنّه لا تبعة عليه ، فلو رجع المالك على الآكل ، رجع هو على الغاصب على الأشهر ، لتغريره الآكل

٤٢١

على كون الأكل مجانا لا يتعقبه الضمان ، وأقامه (١) على إتلاف الطعام على كونه ملكه ، في احضاره عنده. ومثله تغريره في الأمر بذبح الشاة.

وهذه الأحكام اكثرها معقد الإجماع ، بل لم ينقل خلاف فيما عدا الأخير ، وإن تأمّل بعضهم في بعضها. وأثبتوها بوجوه لا يخلو بعضها عن مناقشة.

وتفصيل المقام : أنّ صور تعدّد الأيدي ورجوع المالك على بعضها عند التلف ، على وجوه ثمانية ، لأنّه إما يرجع المالك على الثاني الذي تلفت العين عنده ، أو على الأوّل. وعلى التقديرين : إمّا يكونان عالمين ، أو جاهلين ، أو الثاني عالما والأوّل جاهلا ، أو بالعكس. فظاهرهم الاتفاق على استقرار الضمان على من تلفت عنده ، إلّا إذا كان جاهلا ، فيرجع ـ لو رجع المالك عليه ـ على من غرّه عالما ، إلّا إذا كان هذا الجاهل متلفا للعين من غير تغرير.

وتحقيق الحال في تلك الصورة على ما يقتضيه الأدلّة : أنّ المالك ، إن رجع على الثاني ، وهما عالمان ، لم يرجع الثاني على الأوّل إجماعا ، لاشتراكهما في إثبات اليد والعلم بالغصب ، فلا يغرم ما غرم للمالك ، مع حصول التلف عنده.

وكذا لو كان الأوّل جاهلا وهو عالم بطريق أولى. وكذا مع جهلهما ، لتساويهما في الجهة المقتضية لتخير المالك في الرجوع على ما شاء منهما ، واختصاص الثاني بحصول التلف في يده ، الموجب الانتقال العين إلى البدل في ذمّته قطعا ، وعدم استحقاق المالك إلّا بدلا واحدا استوفاه.

وجواز رجوع الثاني إلى الأوّل ـ حينئذ ـ غير معلوم ، ومقتضى الأصل براءته.

وإن كان الأوّل عالما والثاني الغارم جاهلا ، فإن كان التلف سماويا ويده أمانة ، كالوديعة والوكالة ، دون يد ضمان ، الموجبة للرجوع مطلقا ، كالعارية المضمونة ،

__________________

(١) كذا.

٤٢٢

يرجع فيما غرم على العالم ، لتغريره وسببيته عدوانا لضمانه ، إلّا إذا كان الجاهل متلفا غير مغرور ، فلا يرجع بلا خلاف يعرف.

وإن اغترّ في إتلافه ، كما إذا قدمه ضيافة ، فأكله ، فيرجع أيضا على الغارّ ، على الأشهر الأظهر.

ووجه الفرق بينهما : أنّ إتلافه على الأوّل ، كان على كون العين لنفسه وضرره عليه ، فالمباشر هنا أقوى ، وإن كان جاهلا من اليد العادية ، وعلى الثاني : فإقدامه على الإتلاف لتغرير الغاصب إيّاه على كونه مجانا لا يلحقه به ضرر ، كما في إطعام الضيف المغرور بأنّ أكله غير موجب لضرره ، فالعهدة على العالم الغارّ.

وإن رجع المالك على الأوّل : فإن كانا جاهلين ، فالظاهر : جواز رجوعه على الثاني الذي تلفت عنده. وقرار الضمان عليه ، وإن كان التلف سماويا ، واليد أمانية.

لا لما قيل من اشتغال ذمّته. بعد تلف العين عنده بالبدل ، بحكم ضمان إثبات اليد. وجواز أخذه المالك من الأوّل باعتبار إثبات يده ، مجرّد خطاب شرعي ، لا ذمّي ، إذ لا دليل على شغل ذمم متعدّدة بمال واحد ، فحينئذ يرجع المالك على الأوّل بما اشتغلت ذمة الثاني ، فيملك بأدائه ما للمالك على الثاني بالمعاوضة القهرية الشرعية ، لإمكان المناقشة فيه بأنّ ما في الذمّة عند التلف بدل العين ، ولا ينافي وحدته اشتغال ذمّتهما به على البدلية. وتخير المالك في استيفائه عمّن شاء منهما ، فإذا أداه أحدهما يسقط عن الآخر. وقرار الضمان على الثاني ، مع تساويهما في الجهل وإثبات اليد المضمون به وحصول التلف لا عن اختيار ، يحتاج إلى الدليل.

بل لاستصحاب الاشتغال في الثاني المعلوم ـ أوّلا ـ ولو في الجملة ، إلى اليقين بالفراغ عنه ، الحاصل بأدائه البدل إلى المالك ، أو إلى من أدّي إليه ، بخلاف الأوّل ، لعدم العلم باشتغاله أوّلا ، واحتمال كون ما أداه إلى المالك من باب الخطاب الشرعي لا الذمّي.

٤٢٣

فإن قلت : اشتغال ذمّة الثاني بالبدل المعلوم أوّلا ، إنّما هو للمالك ، وهو فرع بقاء حقّه ، وقد ارتفع باستيفائه من الأوّل ، فلا يجري الاستصحاب ، لتغير موضوعه.

قلت : من له الحق أوّلا على الثاني مردّد بين كونه المالك خاصة ، أو هو ومن في حكمه ، أعني : الأوّل ، عند أدائه للمالك ، فالشغل المعلوم أوّلا مجمل بين أحد الاحتمالين ، فهو من قبيل ما إذا تردّد صاحب الحق على زيد بين كونه عمروا مطلقا ، أو بكرا مع فقدانه ، فلا يحصل يقين الفراغ له بسقوط حق أحدهما.

فإن قلت : يعارض هذا الاستصحاب ، استصحاب عدم اشتغال ذمّته للأوّل قبل رجوع المالك إليه.

قلت : التعارض بينهما بالمزيلية والسببية ، والمزالية والكاشفية ، فإنّ بقاء الشغل المعلوم مجملا للثاني ، سبب لتعلّق وجوب الأداء عليه على الأوّل ، عند استيفاء المالك منه ، وانتقال الحقّ المشتغل به له ، ولا هكذا عدم شغل الأوّل قبل استيفاء المالك ، فإنّه ليس سببا لزوال الشغل المعلوم الإجمالي ، بل كاشف عنه.

واستصحاب السبب مقدم على استصحاب الكاشف ، كما حققناه في محلّه. ولا يمكن إجراء هذا الاستصحاب في حق الأوّل الذي لم يتلف العين عنده ، لعدم العلم باشتغال ذمّته بالبدل عند تلفها عند الثاني. غاية الأمر كونه مخاطبا بالخطاب الشرعي ، متعبّدا بالأداء إلى المالك عند مطالبته عوض العين ، بإثبات يده عليه ، فلا يمكن استصحاب الشغل المجمل في حقّه ، بخلاف الثاني المعلوم على كل تقدير اشتغال ذمّته بالبدل بعينه أو بالبدلية.

ومن هذا ثبت جواز رجوع الأوّل على الثاني فيما اغترم ، في صورتي : جهل الأوّل وعلم الثاني ، وعلمهما. وأما في صورة علم الأوّل وجهل الثاني : فمقتضى نفي الضرر عنه ، لتغريره العالم في إثبات اليد جواز رجوعه فيما اغترم على الأوّل العالم.

وبه ينتقض استصحاب الاشتغال في الثاني.

٤٢٤

البحث الثاني : في المباشرة والتسبيب ، فيما له مدخل في التلف.

ولنذكر ـ أوّلا ـ أدلّة الضمان ، عموما وخصوصا ، ظهورا وصراحة. ثم نبيّن منها قواعد الضمان ، فيما ذكروه من العلّة والسبب والشرط ، عدا ما يختصّ بموارد خاصّة ، مثل الأمانة عند التعدّي عن الإذن أو التفريط والمقبوض بالعقد الفاسد ، ونحوهما ، مما هو خارج عما نحن بصدده هنا. وتلك الأدلّة كثيرة ، نشير إليها :

منها : الإجماع بل الضرورة في الجملة.

ومنها : عمومات نفي الضرر.

ومنها : ما دلّ على رجوع المغرور على من غرّه.

ومنها : الأخبار الواردة في ضمان إتلاف النفس.

ومنها : ما دلّ على تسبيب الإكراه.

ومنها : خصوص النصوص المستفيضة في موارد كثيرة :

كرواية السكوني (١) ، عن الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حضر شيئا في طريق المسلمين ، فأصاب فعطب ، فهو له ضامن ».

وصحيحة الحلبي (٢) عنه عليه‌السلام : سألته عن الشي‌ء يوضع على الطريق ، فتمرّ به الدابّة ، فتنفر بصاحبها ، فتعقره. فقال : « كلّ شي‌ء يضرّ بطريق المسلمين ، فصاحبه ضامن لما يصيبه ».

وخبر أبي الصباح الكناني (٣) عنه عليه‌السلام : « من أضرّ بشي‌ء من طريق المسلمين ، فهو له ضامن ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٤٥ ، الباب ١١ من أبواب موجبات الضمان ، الرواية ٢٥٥٤٧.

(٢) نفس المصدر ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٩ ، الرواية ٣٥٥٤٣.

(٣) نفس المصدر ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٨ ، الرواية ٣٥٥٤٠ ،

٤٢٥

وصحيحة زرارة (١) عنه عليه‌السلام : قلت له : رجل حفر بئرا في ملكه ، فمرّ عليها رجل ، فوقع فيها ، فقال عليه‌السلام : « عليه الضمان ، لأن كلّ من حفر بئرا في غير ملكه كان عليه الضمان ».

وموثقة سماعة (٢) عنه عليه‌السلام ، عن الرجل يحفر البئر في داره ، فقال : « ما كان حفر في داره وملكه ليس عليه الضمان ، وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها ».

إلى غير ذلك من النصوص كالمعتبرة المستفيضة الدالّة على غرامة الشاهد إذا رجع عن شهادته ، بعد ما يغرم بها للأوّل قدر ما أتلفه من مال الرجل (٣).

وعلى أنّه يقتل إذا قتل بشهادته (٤).

وعلى غرامة دية اليد لو شهد عليه بالسرقة ورجع (٥).

وعلى غرامة المهر إذا شهد بطلاق زوجته ، ثم تزوّجت أو يموت زوجها ، ثم جاء زوجها (٦).

إلى غير ذلك ، المفهوم عرفا ، بل إجماعا ، عدم خصوصية ما في تلك النصوص من جزئيات الأمثلة ، في الضمان ، وإن ذكرها على سبيل المثال والقياس والحاجة ، ككونه في الطريق ، أو حفر البئر ، أو رجوع الشاهد ، وغيرها ، بل يتعدّى منها إلى ما هو من سنخها في سببية الإضرار على الوجه الذي اعتبر فيها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٨ من أبواب موجبات الضمان ، الرواية ٣٥٥٣٩.

(٢) نفس المصدر ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٨ ، الرواية ٣٥٥٤١.

(٣) نفس المصدر ٢٧ : ٣٢٧ ، الباب ١١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٣٨٥٤.

(٤) نفس المصدر ٢٧ : ٣٢٨ ، الباب ١٢ ، الرواية ٣٣٨٥٨.

(٥) نفس المصدر ٢٧ : ٣٣٢ ، الباب ١٤ ، الرواية ٣٣٨٦٤.

(٦) نفس المصدر ٢٧ : ٣٣٠ ، الباب ١٣ ، الرواية ٣٣٨٦١.

٤٢٦

ثم المستفاد من تلك الأدلّة والنصوص وغيرها ، مما صرّح فيها بالضمان : حصوله للعين أو المنفعة بأحد الوجوه الثلاثة ، بشرائطها الآتية : إيجاد علّة التلف ، أو إيجاد سببه ، أو إيجاد شرطه.

أمّا الأوّل ـ وهو المعبّر عنه بمباشرة الإتلاف ـ : فإنّ المراد بالعلّة ما هو المؤثر في التلف ، وهو أثره ، فهو قسمان :

أحدهما : إيجاد العلّة بلا واسطة ، كقتل الحيوان بالسيف ، وإهراق اللبن ، وخرق الثوب ، وسكنى الدار ، وركوب الدابّة.

والثاني : إيجاد علّة علّة التلف ، بأن كان فعله علّة مؤثرة له ، كالجرح المولّد للمرض المولّد للموت ، وإيجاد السمّ في الحلق ، والصياح على الطفل ، وسدّ مجرى النفس ، والرمي بالسهم ، وإغراء الكلب العقور ، وأمثال ذلك ، فإنّه يصدق على القسمين المباشرة عرفا ، ولا يصحّ سلب الإهلاك عنه ، باعتبار أنّ مناط الصدق كون التلف أثر فعل المباشر أو أثر أثره ، وعدم مشاركة غير فعله أو أثر فعله في التأثير ، وإن توقف التأثير على شرط ، كحرارة الهواء في الجرح ، وغفلة الطفل في الصياح عليه.

والدليل على الضمان في القسمين : الإجماع بقسميه : إذ لا خلاف بين المسلمين ، أن من باشر الإتلاف عمدا أو خطاء ، بشرط صدور الفعل عنه عن قصد ، كما في الأمثلة المذكورة ، ضمن ، وإن لم يكن هناك غصب واستقلال يد مطلقا ويدلّ عليه أيضا ـ مضافا إلى فحوى إطلاق أكثر ما ذكر ـ : قاعدة الضرر المقتضية لنفيه عن المالك شرعا ، المثبت بالإجماع المركّب لضمان المباشر ، دون نفيه عن المباشر ، لصدور الفعل عن نفسه ، ولو مع جهله ، لكونه عند الجهل بالنسبة إليه كالآفة السماوية الغير المنفية ضررها ، سيما إذا استفاد بالإتلاف ، كالأكل والاستعمال ، أو

٤٢٧

قدم عليه على كونه ضررا عليه ، زعما له أنّه من مال نفسه ، أو مأذون فيه من مالكه ، أو عدم مالكيته ، وأمثالها.

وأمّا الثاني : أي : إيجاد سبب التلف ، والمراد به ما يستلزم وجود علّة التلف عقيبه عادة ، لا بعليته ، بل بعلّة أخرى ، فهو أيضا قسمان :

أحدهما : ما لا يدخله مباشرة غيره ، كإلقاء الثوب في النار ، وتلهيب النار قرب متاع الغير ، في الريح العاصف المهيج للإحراق عادة.

ومن ذلك رفع المانع عن العلّة الموجودة أو المتوقعة ، كحبس الحيوان عن الطعام والشراب ، والقائه في المسبعة مع عجزه عن الخلاص ، وفتح باب القفس عن الطير ، وفتح رأس وكاء المائع.

وثانيهما : أن يكون التلف بمداخلة مباشرة الغير ، بحيث كان السبب له أثر في توليد مباشرته ، كإقدام الطعام المسموم عند الضيف الجاهل ، والإكراه على التلف ، وشهادة الزور عند القاضي ، وتغطية رأس البئر في معبر الغير.

ومقتضى أكثر ما تقدم من الأدلّة ، ضمان فاعل السبب في القسمين ، لصحّة إسناد التلف عرفا إلى الفاعل ، مع جهل المباشر ، باعتبار كونه مستندا إلى ما لا ينفك عادة عن فعله في المفروض. وظهور الإجماع ـ كما حكي صريحا ـ على أنّ من أتلف شيئا كان ضامنا.

وبه يثبت القود في النفس عند العمد ، ويعقل العاقلة عند الخطاء ، فإنّ الجهل لا يقدح الضمان في حكم الوضع ، إذا كان التلف مستندا إلى الفاعل.

واختصاص أكثر النصوص السابقة بمثل الطريق وحفر البئر ، قد عرفت كونه منساقا للمثال. ومع ذلك يتمّ بعدم القول بالفرق.

ونفي الضرر لا يقتضي عدم ضمان الجاهل ، بل لضمانه حجّة أخرى ، لما أشرنا

٤٢٨

آنفا ، وفصّلنا سابقا ، من أنّ الضرر المسبب عن فعل الشخص نفسه غير منفيّ عنه في الشرع ، ولازمه بالإجماع المركّب ثبوت الغرامة ، لضرر المالك المنفيّ عنه قطعا.

نعم ، في القسم الثاني ، الذي حصل التلف منه بفعل المباشر الجاهل ، إذا كان فاعل السبب أيضا جاهلا ، كإحضاره الطعام المسموم ـ مع جهله ـ عند الضيف الجاهل ، فالظاهر : عدم ضمان الفاعل ، لعدم حصول التغرير منه ، وعدم مباشرته للإتلاف ، فالضرر يلحق بالمباشر المتلف ، مثل ما تقدم في الأيدي المتعاقبة. مع أنه لو سلّم تساوي نسبتهما إلى عمومات نفي الضرر ، فيخرج المفروض عنها ، لاستلزامه عدمه ، فالمرجع إلى البراءة.

ومن ذلك ما إذا قدم الضيف مال نفسه مع جهلهما ، بل هو أولى بالبراءة. ولو علم المقدّم حينئذ ، دون الضيف ، فلا يبعد الضمان ، لقوة السبب ، إلّا إذا غلب على الظن كونه بحيث يأكله ، ولو مع علمه بأنّه من نفسه ، ففيه تردّد.

وأما الثالث : أي : إيجاد الشرط ، وهو ما لولاه لما حصل التلف ، ولكن لم يكن له تأثير ولا استلزام له ، فالمعروف بينهم كونه متعقّبا للضمان بالمال دون النفس ، إذا كان عاديا في فعله ، كحفر البئر في الطريق المسلوك أو ملك الغير ، ووضع السكّين فيه ، وعدمه ، إذا كان سائغا ، كحفره في ملكه ، أو وضع شي‌ء في الطريق ، مما لا يضرّ غالبا ، فاتفق أحيانا ضرره ، كطرح قشر فاكهة فيه ، فحصل به العثار لأحد ، لما تقدم من الأخبار المقتضي للعموم ، بتقريب كون الخصوصية من باب التمثيل ، كما ذكره غير واحد ، ولعدم القائل بالفصل ، إلّا إذا كان الواقع فيه عالما ، أو دفعه فيه غيره ، لكون المباشر أقوى إجماعا ، ولأصل البراءة وإباحة التصرف ، فلا يتعقبه الضمان.

والمتداول في كتبهم ، التمثيل بحفر البئر ، لتفصيل الضمان له في غير الملك

٤٢٩

وعدمه في الملك مطابقا لإطلاق بعض ما ذكر من الأخبار.

والظاهر : أنّ مرادهم من نفي الضمان في الملك ، إنّما هو في غير ما علم كونه سببا لتلف النفس المعصومة ، وإلّا فيتّجه الضمان في النفس فضلا عن المال ، ولعله لإيجاده ـ حينئذ ـ ملزوم العلّة الذي تقدم أنّ حكمه الضمان ، كما إذا حفر البئر في معبر داره ، ودخل المأذون ، فوقع فيه ، لكونه أعمى ، أو لكون الموضع مظلما ، أو لتغطية رأس البئر في دهليز داره. وربما نسب الضمان فيه إلى جماعة من المتأخرين ، الظاهر في اتفاق غيرهم على عدمه.

والظاهر : أنّ مراد الناقل ما كان من شأنه حصول التلف واقعا في مظنته لا مع العلم به ، لأنّ إذنه في الدخول حينئذ ، ولو لعموم العابرين ، بل ولو بشاهد الحال ، وعدم اخبارهم بالكيفية ، من باب التغرير القوليّ أو الفعليّ الموجب للضمان ، كما مرّت الإشارة إليه ، الصادق عليه الظلم المحرّم ، بل الظاهر انعقاد الإجماع عليه ، ويكون من قبيل الصياح على الطفل الغافل ، وتقديم الطعام المسموم عند الضيف في ملكه.

وأما ما وقع فيه الخلاف في الضمان ، في تأجيج النار ، أو ارسال الماء في ملكه ، المؤدّي إلى ضرر الجار ، ولو مع العلم بالضرر ، فهو فيما تضرّر المالك بترك التصرف أيضا ، وإلّا فلا خلاف في الضمان مع عدمه وعلمه بالضرر.

وربما يعارض في مثله قاعدة نفي الضرر بقاعدة التسليط على المال ، وحقّقنا فيما تقدم تقدّم الأولى على الثانية ، وكونها واردة عليها بالسببية الطارية.

نعم ، لو تضرّر نفسه ـ أيضا ـ بترك التصرف ، تعارض الضرران ، ومضى تفصيله في محلّه.

والظاهر : إلحاق الظن الغالب المعتبر عادة بالعلم فيما ذكر ، فلو وضع الطعام

٤٣٠

المسموم في مكان مباح ، فيه مظنة أكل الجاهل ، لم يبعد الضمان ، نظرا إلى حصول التغرير عرفا.

وهل يلحق بذلك فعل ما يحتمل فيه ذلك قصدا للتلف؟

فيه وجهان : من كونه فعلا سائغا ، فلا يتعقّبه ضمان. ومن قصده الهلاك ، فيشبه المباشرة بآلة غير قتالة.

وقد تحصّل مما فصّلناه من مفاد الأدلّة : أنّ موجبات الضمان على الضابطة الكلّية ، في غير إثبات اليد الغير المحقة ، ثلاثة :

الأوّل : إيجاد علّة التلف بلا واسطة ، أو بواسطة معلولها ، وهذا يسمّى بقسميه بالمباشرة.

والثاني : إيجاد ما يستلزم علّة التلف عادة من غير علّة مطلقا ، أو بتأثيره في مباشرة غيره المختار في فعله لجهله ، وهذا بقسميه يسمّى بالتسبيب بالمعنى الأخصّ ويسمّى الملزوم بالسبب.

وفي هذين القسمين يصحّ إضافة التلف عرفا إلى المباشر أو ذي السبب ، ولو اتّساعا شائعا في الثاني ، ولذا يوجبان القود عمدا في النفس والغرامة في المال مطلقا ، على ما مضى.

والثالث : إيجاد ما يتوقف تأثير علّة التلف على وجوده من غير تأثير ولا استلزام ، ويسمّى بالشرط. وهو يوجب الضمان المالي ، إذا كان عاديا مطلقا ، نفسا كان التالف أو مالا ، ولا يوجب الضمان مطلقا ، إن لم يكن عاديا.

ثم إنّك ترى كلماتهم غالبا مختلفة في تعريف السبب ، وفي الفرق بينه وبين الشرط ، حتى من مصنّف واحد في كتاب واحد ، كما وقع للعلّامة ، في القواعد (١)

__________________

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٢٢٢.

٤٣١

تفسيره السبب في كتاب الغصب بما يعمّ القسمين الأخيرين ، حيث قال : التسبيب إيجاد ما يوجد التلف عنده لعلّة أخرى ، إذا كان مما يقصد به التلف. ومثّل له بحفر البئر في الطريق ، وفتح رأس الظرف ، والإكراه على التلف.

والظاهر أنّ مراده مما يقصد به التلف ، ما كان من شأنه ومحتملا له (١) عادة ، كما فهمه من تأخّر عنه ، احترازا عما لا يحتمل كذلك ، كوضع حجر صغير ، أو طرح قشر فاكهة في الطريق ، فاتفق العثار به لأحد أحيانا ، فإنّه لا ضمان فيه.

ولعلّه لذا نشأ الخلاف في الصياح على العاقل البالغ في حصول الضمان به وعدمه ، نظرا إلى عدم توقع الإتلاف منه ، بخلاف الطفل أو المريض.

وفي قصاص القواعد (٢) خصّه بالقسم الثاني ، حيث مثله بعد حكمه بثبوت القصاص بإتلاف النفس المعصومة ظلما بالمباشرة ، أو التسبيب بالاختناق بالحبل ، وسدّ الفم عن جريان النفس ، والرمي بالحجارة ، والحبس عن الماء والطعام ، وتقديم الطعام المسموم.

ثم عدّ الأسباب المهلكة ثلاثة الشرط ، والعلّة ، والسبب. فقال : الشرط ما يتوقّف تأثير المؤثر عليه ، ولا مدخل له في العلّة ، كحفر البئر ، ولا قصاص فيه ، بل الدية والعلّة ما أسند إليه الفعل ، كالجراحات المولدة للسراية المولدة للموت. والسبب ما له مدخل في التأثير في الجملة ، كالعلّة ، ويشبه الشرط في عدمه ، وله مراتب ثلاثة : الإكراه بالقتل ، وشهادة الزور في القتل ، وإطعام المسموم.

وتخصيصه هنا مراتب السبب بكل ما يتوسّط بمباشرة الغير لا وجه له.

وكيف كان ، فوجه اختلاف تفسيريه للسبب في كتاب القصاص وغيره ، لعلّه

__________________

(١) محتملاته ( ظ ).

(٢) قواعد الأحكام ٣ : ٥٨٣.

٤٣٢

ملاحظة اتحاده مع الشرط العادي في حكم الضمان في الغصب والديات ، فسمّاهما بعنوان واحد ، بخلاف ضمان النفس في القصاص ، فأفرده بتسمية السبب ، في مقابل الشرط الذي لا يتعقّبه القصاص.

وفي الإيضاح (١) ، عن بعض الفقهاء : السبب فعل ما يحصل الهلاك عنده لعلّة سواه.

وزاد آخرون : ولولاه لما أثرت العلة ، وجعله أولى ، وهو يعمّ ظاهر السبب والشرط.

وفي غاية المراد (٢) ، عن الفقهاء : السبب إيجاد ملزوم العلة قاصدا لتوقع تلك العلّة.

ولا يخفى أن القيد الأخير غير منطبق على شي‌ء من إطلاقاته ، إلّا أن يكون مراده السبب في قصاص النفس ، أو لعدم تخلّف العلم بالملازمة عن توقع العلة ، فيختصّ بالعمد.

وفيه نظر ، ظهر ممّا سبق.

وفي مجمع البرهان (٣) : إنّ السبب إيجاد ملزوم العلة المتلفة ، وهو ظاهر فيما تقدّم في مقابل الشرط.

وفي المسالك (٤) : السبب ما لا يضاف إليه الهلاك ، ولا يكون من شأنه أن يقصد بتحصيله ما يضاف إليه ، ولا يمكن تطبيقه بما مرّ من القسم الثاني.

وأوضح منه ما فسره الشهيد في شرح الإرشاد (٥) : أنّ السبب إيجاد ملزوم العلّة الذي شأنه أن يقصد معه توقع تلك العلة.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٨٠.

(٢) غاية المراد ٤ : ٣٠٧.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٠ : ٤٩٦.

(٤) مسالك الأفهام ١٢ : ١٦٣.

(٥) غاية المراد في شرح الإرشاد ٢ : ٣٩١.

٤٣٣

تتميم : اختلفوا في الضمان في موارد من باب الشروط ذكروا أمثلتها.

ومنشأ الخلاف فيها أمور :

منها : كون الباعث للضرر تصرف المالك في ملكه ، كما في تأجيج النار وإرسال الماء فيه الموجبين لضرر الجار ، وفتح باب داره الموجب لخروج دابة الغير ، وأمثال ذلك ، نظرا إلى تعارض قاعدة الضرر ـ حينئذ ـ لقاعدة التسلط على المال.

ولا يذهب عليك عدم منافاة هذا الخلاف لاتفاقهم على عدم الضمان في حفر البئر في ملكه ، لأنّ السبب القريب لضرر الوقوع في البئر فعل المتضرّر نفسه ، وهنا نفس الشرط ، بل لا يبعد كون الضرر هنا من المباشرة أو السارية ، ولذا لو علم ضرر الجار مع كون التصرف زائدا عن الحاجة حصل الضمان قولا واحدا ، إمّا من جهة كونه من باب مباشرة الإتلاف ، كما ذكر أو كونه من إيجاد السبب المستلزم لعلة التلف ، وأيّهما كان يوجب الضمان بلا خلاف معروف ، كما عرفت.

وأما مع عدم العلم بضرر الجار ، أو تضرّر المالك بترك التصرف ، فقد اختلفوا فيهما ، باعتبار تعارض القاعدتين ، وقد تقدّم منا مرارا تقدّم قاعدة الضرر ، وكونها واردة على قاعدة التسليط ، ونشير إلى وجهه هنا أيضا ، وهو ظهور حديث : « الناس مسلّطون » في كونه منساقا في مقام بيان السلطنة المالكية بالأصالة ، لا تشريع الآثار المترتبة على الملك ، من اللوازم الشرعية ، وعدم احتماله للعوارض اللاحقه المانعة والأسباب الطارية الناسخة لآثاره ، وقاعدة الضرر في بيان السبب العارض المزيل لبعض الآثار والتصرفات الأصلية ، نظير التخمة الموجبة لحرمة أكل مال نفسه ، وتنجّس طعامه المزيل لحلّيته ، مضافا إلى أنّ : « الناس مسلّطون » في بيان الإباحة الشرعية وهي لا تنافي الضمان في الحكم الوضعي.

٤٣٤

نعم ، لو علم ضرر الجار ، مع العلم أو غلبة الظنّ بضرر نفسه في ترك التصرف ، تعارض الضرران ، وقد تقدم في بيان القاعدة تفصيل حكمهما حينئذ.

ومنها : تعارض السبب للمباشرة ، فاختلفوا في بعض الموارد فيما هو الأقوى منها ، كفكّ القيد عن العبد الآبق ، فإنه لا خلاف ظاهرا في الضمان في حلّ القيد عن العبد المجنون ، لأنه في حكم حلّه عن فرس فشرد ، وفتح قفس عن طائر فطار ، ولضعف المباشر لعدم التمييز. وفي المبسوط (١) وظاهر التذكرة : الإجماع عليه.

وأما العبد العاقل إذا فكّ وأبق ، فالمعروف بينهم عدم الضمان ، لقوة المباشر بالعقل والاختيار ، واستناد التلف إلى فعل العبد باختيار نفسه. ولا يخفى أنّ المال الفائت عن المالك هنا هو العبد نفسه واختياره الفرار مسبّب عن حلّ قيده ، فيكون مضمونا على فاعله المولد لإرادته ، كإحضار الطعام المسموم عند الجاهل.

نعم الظاهر : اختصاص ذلك بما إذا كان العبد مما يتوقع منه ذلك ، ولو احتمالا يعتني به ، كالعبد الآبق ، كما أفتى بالضمان ـ حينئذ ـ بعض مشايخ والدي بعد نقله عن غيره أيضا ، نافيا لشمول الإجماع المحكيّ عنهم له.

وأمّا إذا لم يتوقّع منه ذلك ، واتفق اباقه أحيانا بعد الفك ، فهو من الشرط الذي لا يوجب الضمان ، ولو عصى ، لعدم إذن المالك ، كما مر. ولعل هذا القسم منظور القوم في نفي الضمان.

ومنها : كونه مما استشكل في كونه مما يتوقع منه الضرر ، فيوجب الضمان أم لا؟

كما إذا فتح رأس ظرف لا يضيع ما فيه بفتحه متى كان في محلّه ، فاتّفق سقوطه بهبوب ريح أو هبوط طائر ، فضاع ما فيه ، فاختلف في ضمان الفاتح ، ولعل الأجود عدمه ، كما اختاره الفاضل ، لعدم كونه ممّا يتوقع منه ويقصد به التلف ، إلّا إذا كان

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٨٩.

٤٣٥

في مظنة هبوب الريح ونحوه ، فيضمن.

ومن ذلك : ما إذا حصل الضرر بمنع المالك عن ضبط ماله ، كمنعه عن حفظ دابّته المرسلة ، والقعود على بساطه ، وحفظ ماشيته ، فتلفت. ففي ضمانه قولان :

المحكيّ عن الأكثر عدمه.

وفي المسالك (١) والكفاية (٢) وغيرهما : الضمان ، إذا كان المنع سببا للتلف.

والحقّ هو التفصيل المتقدم ، فإنّ المنع إن كان مما يتوقّع منه السببية بملاحظة المكان والوقت يضمن ، وإلّا فلا ، فإذا منعه عن التوقف في داره في ليلة مثلا ، فاتّفق لقيامه وقوع النار على بساطه واحتراقه لا يضمن ، لأنّه من الشروط النادرة التي لا يستند الضرر والإضرار إلى منعه عرفا.

ومنه : ترك المالك حفظ حيوانه عمّا يجنيه ، كما إذا أكلت بهيمته حشيش آخر.

ففي التذكرة (٣) : إن كان صاحبها معها ضمن الحشيش مطلقا ، وإن لم يكن معها ضمن إن كان ليلا ولم يضمن إن كان نهارا ، لأنّ على الصاحب حفظها في الليل ، فإذا لم يحفظ يضمن ما يجنيه ، وعلى صاحب الزرع حفظه نهارا. انتهى.

والصواب : إناطة الضمان بصدق الإضرار عرفا ، كما سمعت ، وهو منوط بصدق التقصير في الحفظ فيما تعارف فيه ، المختلف باختلاف الأحوال والأزمان والبلدان والدوابّ. نعم ، يتأتّى الكلام في وجوب الحفظ المتعارف على المالك ، وعدم التقصير فيه ، ولعله إجماعي.

ومنها : كون الفائت القيمة السوقية ، كما إذا حبس إنسانا عن شراء ، فنقصت قيمته.

__________________

(١) مسالك الأفهام ١٢ : ١٧٢.

(٢) كفاية الأحكام : ٢٥٦.

(٣) تذكرة الفقهاء ٢ : ٨٥ ، كتاب الضمان.

٤٣٦

والأشهر : عدم الضمان ، لأن الفائت ليس بمال ، بل اكتسابه.

وقيل : يضمن. وقوّاه الشهيد ، في بعض فتاويه ، ولا يخلو عن وجه ، إذا كان حصول النقص متوقفا في العادة على الحبس ، لإمكان المناقشة في ما اشتهر.

أوّلا : بكون الاكتساب ـ أيضا ـ في المفروض منفعة فائتة ، متعلقة بالمال عرفا ، والحبس سبب لفواته ، فيوجب الضمان دفعا للضرر.

وثانيا : أنّ زيادة القيمة من أوصاف العين ، وإن لم تكن عينية ، وهي مرغوبيته في العرف والعادة ، والمضمون عليه الفائت أعمّ من العين والوصف ، وينبغي ملاحظة الاحتياط فيه. والله العالم.

٤٣٧
٤٣٨

[ المشرق الخامس وعشرون ]

[ في الوكالة ]

مشرق : في نبذ من مسائل مهمّة متعلّقة بالوكالة.

مسألة : ظاهر الأصحاب : كون الوكالة من العقود ، ولذا أدرجوها في أبوابها ، فتفتقر إنشاؤها إلى ايجاب لفظي بأيّ لفظ دلّ على القصد ، وإن لم يكن من الصيغ المعتبرة ، وقبول ، ولو كان فعليا دلّ على الرضا ، لكونها عقدا جائزا ، لا مجرد الرضا النفساني ، كما عن الشافعية (١) ، لافتقار العقد إلى إنشاء ما دلّ عليه من فعل أو لفظ ، إلّا أن صريح المحقّق (٢) وغيره : كفاية الإشارة المفهمة في الإيجاب أيضا ، بل في الرياض (٣) عدم وجدانه الخلاف ، فيرجع إلى المعاطاة.

وعن بعضهم دعوى الإجماع على صحّتها ، فيكون مرادهم من عقد الوكالة ما هو بالمعنى الأعمّ الشامل للمعاطاة.

وتكون الوكالة قسمين : عقدية لفظية ، ومعاطاتية.

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ٣ : ١٦٨.

(٢) شرائع الإسلام ٢ : ١٥١ ، كتاب الوكالة.

(٣) رياض المسائل ١٠ : ٥٤.

٤٣٩

بل قيل : بكونها معاطاة ، حيث كان القبول فعلا ، المتّفق على صحّته ، وإن كان الإيجاب لفظيا ، لو لا الإجماع على كونها عقدا حينئذ.

فروع :

الأوّل : إذا قال : بع فرسي ، أو طلّق زوجتي ، فلا شكّ أنه ليس من المعاطاة : فهل يكتفي بالأمر في الإيجاب اللفظي؟ الظاهر : نعم ، بل لا إشكال فيه على ما تقدّم من الاكتفاء بكلّ لفظ دلّ عليه.

واستدلالهم على مشروعية الوكالة بالعمومات المتضمنة للأمر ظاهر في اتّفاقهم عليه. ونفى عنه الإشكال المحقق القمّي.

وفي الرياض (١) عدم ظهور الخلاف فيه ، فما يظهر من المحكيّ عن التذكرة ، وصريح بعض الأجلّة : من منع كونه إيجاب الوكالة ، بل هو إذن يترتّب عليه ما يترتّب على الوكالة ، من صحة البيع ونحوه ، وإن لم يكن وكيلا ، ليس في محلّه. وينافي اطلاقهم في الاكتفاء في إيجاب الوكالة بكل لفظ دلّ عليه.

الثاني : يتحقّق قبول الوكالة بنفس الفعل الموكّل فيه ، ولا يلزم كونه أجنبيا ، كما هو ظاهر الأصحاب. والاستشكال فيه باستلزام الدور ، موجها للصحّة ـ حينئذ ـ بما نقل عن الشافعية (٢) : من كفاية الرضا القلبي في القبول.

وأنت بعد ما أحطت بما أجبناه عن إشكال لزوم الدور في حصول الفسخ الفعلي ، بنقل ما فيه الخيار ، كما هو المشهور ، من أنّ الفسخ هو الإرادة القلبية ، بشرط مقارنتها للنقل إلى الغير ، يرتفع عنك المحذور ، فإنّ القبول هنا ـ أيضا ـ هو إرادة الفعل ، بشرط مقارنته للفعل ، فلا يكون مجرّد الرضا القلبي قبولا ، ولا نفس الفعل

__________________

(١) رياض المسائل ١٠ : ٥٤.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ٣ : ١٨٣.

٤٤٠