مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

لولاه فإنّ لزوم المعاملة الغبنية مع جهل المغبون حكم ضرريّ منفيّ في الإسلام ، ونفيه وارد على حكم لزوم البيع ، حسب ما تقرّر في مقامه وليس له إلزام الغابن بردّ الزائد ، لأنه ضرر عليه مع تمكنه الردّ. وإمكان نقض البيع وهل هو إلّا كإجبار الإنسان على بيع ماله ورفع تسلطه عنه؟

نعم ، مع بذله الأرش اختيارا يشكل الحكم بثبوت الخيار للمغبون ، لانجبار ضرره به ، كما عليه جماعة منهم والدي العلّامة (١).

وما في الإيضاح (٢) وجامع المقاصد (٣) من الاستدلال على عدم سقوط خياره مع الأرش ، بالاستصحاب ، وبأنّ بذل التفاوت لا يخرج المعاملة عن كونها غبنية ، لأنها هبة مستقلّة ، حتى أنّه لو دفعه على وجه الاستحقاق لم يحلّ أخذه ، يضعّف بمنع ثبوت الخيار أوّلا حتّى يستصحب ، لأن الضرر الموجب له يختصّ بصورة امتناع الغابن عن بذل التفاوت ، فالشكّ يرجع إلى المقتضى الثانويّ الممنوع عنه الاستصحاب ، ويمنع كون البذل هبة مستقلة ، كما ليس جزء للعوض ، بل كما قيل يمكن كونه غرامة لما فات على المغبون وتداركا لما فات عنه ، لئلا يحصل الخيار الناشئ منه.

المسألة الثالثة : الظاهر : أنّ الخيار منوط بالغبن واقعا وإن كان قبل ظهوره للمغبون وتوقف سلطنته الفعلية ، وتدارك هذا الحقّ الواقعي على ظهوره.

وما يظهر من بعض العبارات من أنّ ثبوته بعد ظهور الغبن ، يمكن حمله على التسلط الفعلي المشروط بالعلم ، من قبيل العلم بحكم خيار الحيوان ، ويشعر به

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٥.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٤٨٤.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٢٩٥.

٣٤١

تعليلهم المنع من التصرفات الناقلة قبل ظهور الخيار بكونها مفوتة لحق ذي الخيار.

ويظهر الثمرة في صحّة إسقاطه في ضمن العقد.

المسألة الرابعة : يسقط خيار الغبن بأمور :

الأوّل : التصرف ، بلا خلاف فيه في الجملة.

وتفصيله : أنّ التصرف إمّا من الغابن ، فيما وصل إليه ، أو من المغبون.

أمّا تصرف الغابن : فالظاهر بقاء خيار المغبون معه ولو مع تلف العين ، للاستصحاب ، ولنفي الضرر الذي هو مناط الأصل. ولا ينافيه التلف ، لما سيأتي في البحث الآتي.

ودفع الضرر بإجبار الغابن على الأرش ضرر عليه ، كما مرّ ، فلا يصار إليه.

ثمّ تصرفه إمّا بإخراجه عن ملكه ، أو بتغيره العين ، أو بإتلافه ، أو بتلفه بآفة في يده.

فإن كان بإخراجه عن ملكه ، كالوقف والعتق والبيع اللازم ونحوها ، ففي تسلّط المغبون بخياره على إبطال المعاملة المتجدّدة ، كما في الرهن والشفعة ، نظرا إلى تعلّق حقّ الغير بالعين ، فيوجب تزلزله من رأس أو من حين ظهور الخيار ، أو على رجوعه إلى البدل ، وجهان : أجودهما الثاني ، لوقوع العقد الثاني في ملكه.

وتعلّق حقّ الغير بالعين إنما هو مع بقاءها على ملكه عند الفسخ ، ومع عدمه يتعلق حقه بالبدل الذي لا ينافيه الخيار ، كما أشرنا إليه ، ويأتي بيانه.

ولا يتوهم : أن حقّه إعادة العين إلى ملكه ، لأنه لو سلم ذلك ، فهو في الخيارات التعبدية ، لا الغررية ، مع أنه فيها على الإطلاق محل كلام أيضا.

وأما في الخيار الذي منشأه نفي الضرر ، كما في الفرض فلا يقتضيه ، لحصول جبره بالبدل ، فلا يعارض دليل الخيار أدلّة لزوم تلك المعاملات اللاحقة ، مع أن

٣٤٢

لازم الخيار رجوع العين عن ملك الغابن إلى المغبون لا المشتري الثاني.

نعم ، عند بقاء العين ، لا يجبر ضرر المغبون بالبدل ، لأنّه ضرر على الغابن ، إلّا إذا أقدم نفسه عليه ، فيجبر بالأرش لا بالخيار ، كما سمعت.

ومن هنا يظهر احتمال قويّ للرجوع إلى البدل أيضا ، فيما إذا خرج بالعقد الجائز عن ملك الغابن ، وإن أمكن له تحصيل الغبن بفسخ الجائز وردّها إلى المغبون ، نظرا إلى عدم اقتضائه الخيار عند خروجه عن ملكه ، وملكه البدل.

ويحتمل وجوبه عليه ـ حينئذ ـ باعتبار دلالة شرط الخيار عليه دلالة التزامية عرفية ، فكان من قبيل الشرط الضمنيّ. نعم ، قبل فسخ المغبون [ لا ] يتعين عليه ردّ العين بلا إشكال.

وإن كان تصرّف الغابن بتغيّر العين ، فإن لم يكن له أرش يردّ العين ، ووجهه ظاهر ، وإن تغيّرت بنقيصة أو زيادة أو مزج ، ففي النقيصة يردّ العين بالفسخ ويعوض النقص ؛ لأنّ العين تردّ إلى المالك بالفسخ الموجب للتمليك. والفائت مضمون على الغابن ، لأنّه الجزء الفائت ، كما كان عليه عوض الكلّ عند تلف الكلّ.

وهل من ذلك ما لو آجره قبل فسخ المغبون؟ يظهر من بعض الأفاضل عدمه ، ولزوم الصبر على الفاسخ إلى انقضاء بقية مدة الإجارة ، من غير وجوب بذل عوض المنفعة المستوفاة بالنسبة إلى بقية المدة بعد الفسخ ، مستدلّا عليه بأنّ المنفعة من الزوائد المنفصلة المتخلّلة بين العقد والفسخ ، فهي ملك للمفسوخ عليه ، والمنفعة الدائمة تابعة للملك المطلق ، فإذا تحقق في زمان ملك منفعة العين بأسرها ، انتهى.

ويظهر من المحقق القمّي انفساخ الإجارة بفسخ البائع بخياره المشروط له في البيع ، لأنّ ملك منفعة الملك المتزلزل متزلزل ، ومنعه الأوّل بمنع تزلزل ملك المنفعة.

٣٤٣

وعن العلّامة في القواعد (١) ، فيما إذا وقع التفاسخ لأجل اختلاف المتبايعين : أنه إذا وجد البائع مستأجرة كانت الأجرة للمشتري الموجود ، ووجب عليه للبائع أجرة المثل للمدّة الباقية بعد الفسخ.

وعن شراح الكتاب تقريره.

أقول : يمكن دفع الأوّل بأنّه لو سلّم تبعية ملك المنفعة الدائمة للملك المطلق ، لا يستلزم عدم وجوب بذل عوض المنفعة المتجدّدة بعد الفسخ ، بل غاية ذلك صحّة تمليكها ، كما صحّ تمليك العين ، وكون متعلّق الإجارة بالنسبة إلى منافع بقية المدّة ، من المنافع المتخلّلة بين العقد والفسخ ، التي هي غير مضمونة على الغابن ممنوع جدا ، كيف وخلوّ العين من المنفعة بعد الفسخ من النقص الحكميّ للعين ، فيكون مضمونا على الغابن ، ويقتضيه ما يقتضي ضمان نفس العين من نفي الضرر حسب ما مرّ.

نعم ، بما ذكره يمكن المناقشة على ما أفاده الثاني من بطلان الإجارة للغابن وضمانه للمغبون بأجرة المثل للمدّة الباقية.

وأمّا الزيادة : فإن كانت حكمية محضة ، كقصارة الثوب وتعليم الصنعة ، فقال الفاضل المتقدّم : الظاهر ثبوت الشركة فيه بنسبة تلك الزيادة ، بأن يقوّم معها ولا معها ، ويؤخذ النسبة.

ولا يخفى أنّه ، إن أراد الشركة في العين على حسب النسبة ، يرد عليه : أنّ الزيادة في الفرض ليست جزءا عينيا ، بل هي من أوصاف العين. وإن أراد الشركة في القيمة ، فله وجه.

ويحتمل قويا كون الوصف تابعا للموصوف ، فيملكه المغبون بالفسخ ، من قبيل النماء المتصل.

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٤٣.

٣٤٤

نعم ، إن كان ذلك بعمل الغابن لا يبعد استحقاقه الأجرة ، لنفي الضرر ، كما احتمله والدي العلّامة (١).

وإن كانت عينية فهي للغابن ، وعليه تخلية العين عنها. فإن استلزم تفكيكها عنها ضررا عليه في عين الزيادة ، كالغرس ، ففيه وجوه بل أقوال :

من تسلّط المغبون على القلع بلا أرش ، كما عن المختلف (٢) في الشفعة ، نظرا إلى أن صفة كونه منصوبا المستلزمة لزيادة قيمته عبارة عن كونه في مكان صار ملكا للغير ، فلا حقّ للغارس ، مضافا إلى أنّ الفائت لما حدث في ملك معرض للزوال ، لم يجب تداركه.

ومن عدم تسلطه عليه مطلقا ، كما عن المشهور ، فيما إذا رجع بائع الأرض المغروسة بعد تفليس المشتري استنادا إلى أنّ الغرس المنصوب الذي هو للمشتري مال مغاير للمقلوع عرفا.

ومن تسلّط عليه مع الأرش ، كما عن المسالك (٣) ، لكون الغرس وقع في ملك متزلزل ، ولا دليل على استحقاق الغارس البقاء على الأرض.

أقول : لا شبهة في أنّ مال الغارس هو الغرس بهيئته المنصوبة ، لأنه ملكه شرعا بتلك الهيئة قبل الفسخ ، فلا وجه لخروج الهيئة الموجبة لزيادة القيمة عن ملكه بعد الفسخ ، وكذا الظاهر أنّ الأرض الفارغة عن الغرس مال صاحب الأرض ، لأنها بتلك الهيئة ملكه سابقا الذي يعود إليه بالفسخ ، ولا تنافي بين الملكين ، لأنّ استحقاق البقاء المنافي لملكية الأرض الفارغة غير الهيئة المنصوبة ، كما في البناء

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٥.

(٢) مختلف الشيعة ٥ : ٩٣.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ٢٠٧.

٣٤٥

المستحدث عدوانا في أرض الغير ، فإن هيئة البناء مال الثاني ، وإن كان صاحب الأرض مسلّطا على تخريبه وإعدامها ، غير أنّه فيما نحن فيه إحداث الهيئة بإذن الشرع ، ويكون كغرس المستأجر في العين المستأجرة المالك لمنفعتها عند انقضاء مدة الإجارة ، فهو من باب تداخل شيئين يكون تخليص أحدهما من الآخر من غير بذل الأرش موجبا للضرر ، فيتعارض الضرران ، فلا بدّ من الحكم ببذل صاحب الغرس أجرة المغرس لصاحب الأرض وإبقائه لهيئة المنصوبة ، أو بذل صاحب الأرض أرش القيمة وقلع الغرس ، إلّا أنّ إلزام الثاني بالأرش ضرر عليه ، لا نفع له في مقابله ، لاستحقاقه الأرض الفارغة كما كانت قبل البيع ، ولا هكذا الأوّل ، لأنّ الأجرة عوض المنفعة التي يستوفيها بإبقاء ملكه ، أعني الهيئة المنصوبة ، لما عرفت أنها لا يستلزم استحقاق البناء ، وعدم التنافي بينهما ، فلازم ذلك تخيير صاحب الأرض في القلع مع تحمل ضرر الأرش ، وأخذ الأجرة وإبقاء الغرس.

والتخيير بين الحكم الضرري وغيره ليس ضررا منفيا ، لأنّه منوط باختياره وإقدامه.

وهل على صاحب الغرس قبول الأرش إن بذله صاحب الأرض؟

الظاهر : نعم ، لحصول جبر ضرره ـ حينئذ ـ بالأرش ، ورجوع منفعة البقاء إلى المالك بالفسخ ، فلا خيرة له في الإبقاء.

وإن كان التغيّر بالامتزاج ، فإن كان بغير الجنس مع الاستهلاك في مال الغابن ، كامتزاج ماء الورد بالسمن ، فالظاهر : أن حكمه حكم التلف ، ومع عدم الاستهلاك ، فلا يبعد كونه كذلك أيضا ، كما قال والدي العلّامة (١) ، لأنّه طبيعة ثانية ، ويحتمل الشركة بنسبته القيمة على إشكال.

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٥.

٣٤٦

وإن كان بالجنس ، فبالمساوي يثبت الشركة ، وبالأردإ يحتملها ويحتمل التسلط على الأرش قيمة أو مثلا ، وبالأجود يثبت الشركة ، وعلى المغبون ما سيأتي في تصرفه بالزيادة.

وإن كان تصرف الغابن بالإتلاف ، أو حصل التلف عنده بآفة ، فالظاهر بقاء الخيار والرجوع إلى القيمة ، وإن كان بإتلافه الأجنبيّ ، فللمغبون الفسخ بعد ظهور الغبن ، سواء أتلفه قبله أو بعده ، وله الرجوع إلى الغابن ، وللغابن الرجوع إلى المتلف ، ويرد ما أخذه المغبون من المتلف ، ويرجع الغابن عليه بقيمة يوم التلف أو يوم الفسخ.

وإن كان المغبون أبرأه من العوض قبل الفسخ ، فلا يبعد كونه مضمونا عليه للغابن ـ أيضا ـ بعده ، لأنّ إبرائه في حكم القبض.

وهل يعتبر في البذل قيمته يوم التلف أو الفسخ.

لعل الأوّل أظهر ، كما عن الأكثر.

وأمّا تصرف المغبون : فإن كان بعد العلم بالغبن والخيار ، فيسقط خياره ، كما صرّح به غير واحد ، لعموم العلّة المستفادة من النصّ في خيار الحيوان ، من كون التصرف رضى فيه (١) ولو بمجرّد الملك ، على ما عرفت وجهه وبيانه ، وبه يرتفع الاستصحاب.

والاستدلال عليه بأنّ دليل هذا الخيار إن كان الإجماع ، فليس هنا ، أو نفي الضرر فلا يجري مع الرضا به ، كما لا يجري مع الإقدام ، مع أنّه يعارضه ضرر الغابن فيما يوجبه ضمان البدل : مخدوش بأن الخلاف لا ينافي انسحاب حكم الإجماع بالاستصحاب ، كما تقرّر في الأصول. ودلالته على الرضا بلزوم العقد يتمّ كما تقدم ،

__________________

(١) لعلّ الصحيح : رضى به.

٣٤٧

فليس كالإقدام على الضرر ، سيما بالنسبة إلى التصرفات الغير المتلفة والمغيرة وغير الموجبة لاختلاف القيمة. وحصول الضرر على الغابن بعد الفسخ يجبر بضمان المغبون المتصرف له بالتفاوت الذي حصل التصرف (١) او العوض عند التلف.

وإن كان تصرفه قبل العلم بالغبن فلا يسقط به خياره ، وإن كان بإتلافه العين ، لما عرفت من عدم استلزام الخيار التدارك بردّ العين ، فعند الفسخ ـ حينئذ ـ يأخذ ماله من الغابن ويردّ على الغابن بدل التالف أو العين مع أرش النقص إن نقصت ، ومع الزيادة فحكمه ما مرّ في حصول الزيادة بتصرّف الغابن.

الثاني : من مسقطات خيار الغبن إسقاطه بعد العقد ، وهو على وجوه ، لأنّه إمّا بعد العلم بالغبن أو قبله ، وعلى التقديرين فإسقاطه إمّا لا بعوض أو بعوض صولح به.

فإن كان بعد العلم لا بعوض ، فلا إشكال في سقوطه مع العلم بمقداره أو إسقاطه بجميع مراتبه كيف ما كان من درجات الغبن ، ومع الجهل بالمقدار والإطلاق ، زعما بكونه عشرة فظهر مائة ، فاحتمل فيه الوجهان : من كونه بغير طيب نفسه ومن كون الخيار أمرا واحدا مسببا عن مطلق التفاوت الغير المتسامح به ، ولا تعدد فيه ، فيسقط بمجرّد الإسقاط.

والأشبه : الأوّل ، فلا يسقط لنفي الضرر الموجب لأصل الخيار ابتداء ، بل يمكن القول بعدم تعلق الإسقاط به واقعا ؛ لأنّ الغبن الذي تعلق به العقد ووقع عليه إنشاء الإسقاط في الإطلاق ـ حينئذ ـ هو العشرة ، باعتقاد كونها الغبن الواقعي المصروف إليه الإطلاق بزعمه ، القابل لكونه محمولا عليه لغة وعرفا. وبعبارة أخرى تعلّق بالغبن الواقعي على كونه عشرة ، فإذا انكشف الخطاء وظهر كونه مائة تبيّن عدم قصده.

__________________

(١) بالتصرف ( خ ).

٣٤٨

وبالجملة : المقصود من اللفظ المطلق وإن كان هو الغبن الواقعي ، لكن بوصف كونه عشرة ، لا على كون الوصف تعليليا ، من قبيل الدواعي التي لا أثر لها في العقد ، بل على جهة كونه قيدا للواقع ، فلا يسقط به باقيه وذلك بخلاف ما إذا صرّح بالمائة أو بما يشمله صريحا ، وإن كان اعتقاده أنه عشرة ، بحيث لولاها لما أسقط ، كقوله : أسقطت الغبن وإن كان مائة ، أو : وإن بلغ أعلى المراتب ، فإن ما استعمل فيه اللفظ ـ حينئذ ـ هو الكثير أو ما يشمله قطعا ، فتعلق به الإنشاء ، وإن كان إقدامه عليه من جهة اعتقاد كونه الأقل ، فإنّه ـ حينئذ ـ من باب الداعي الغير المعتبر في القصد.

وما قيل : إنّ الخيار أمر واحد مسبّب عن مطلق التفاوت الغير المتسامح به ، فيسقط بمجرّد الإسقاط ، فهو كذلك بحسب الحكم الكلّي الشرعي ، وأما في خصوص الموارد ، فهو منوط بالتفاوت المنظور للعاقد.

ثم لو وقع التشاجر وتنازعا ، فادّعى ذو الخيار : أسقطت خياري لعشرة قصدته ، فظهر كونه عشرين مثلا ، فإن كان هذا المقدار داخلا في المقادير المحتملة من الغبن في تلك المعاوضة ، بحسب المتعارف بين الناس ، قدم قول الغابن ، عملا بإطلاق الإسقاط المقتضي للسقوط ، وإن كان زائدا عن الحدّ المتعارف لم ينصرف إليه الإطلاق ، فيقدم قول المغبون.

وإن كان الإسقاط بعد العلم بالغبن بعوض صولح عنه به ، فإن علم مقدار التفاوت ، أو صرّح بعموم المراتب ، فلا إشكال في السقوط ولزوم المصالحة ، وإن لم يعلمه ولم يصرّح بالعموم ، فإن لم يتجاوز عن الحدّ المتعارف في صلح خيار مثل هذا الغبن بهذا العوض ، يلزم الصلح ، كما إذا وقع الصلح عن الخيار بدرهمين ، وظهر التفاوت ثلاثة. وإن كان أزيد من الحدّ المتعارف في مثله ، كما إذا كان التفاوت

٣٤٩

عشرين ووقع الصلح بأربعة ، فالظاهر ثبوت خيار الغبن في تلك المصالحة أيضا ، لعين ما دلّ عليه في خيار أصل المعاملة.

وإن كان إسقاط الغبن عند العقد قبل ظهور الغبن ، فالظاهر جوازه أيضا ، كما صرّح به غير واحد.

ولا يتوهّم كونه من إسقاط ما لم يجب ، لما أشرنا وسنشير إلى أنّ ظهور الغبن كاشف عن الخيار ، لا محدث له. ولا هو من باب التعليق الممنوع في العقود والإيقاعات ، لأنّ الممنوع ما كان من ألفاظ العقود والإيقاعات وصيغها ، سواء كان على أمر واقع أو متوقع ، ولا مانع منه في غيرها ، كطلاق مشكوك الزوجية ، وإعتاق مشكوك الرقّية ، وبيع مشكوك الملكية ، ما لم يوقع الصيغة فيها بصورة التعليق ، بل لا نسلم المنع أيضا في اللفظي في مثل الإسقاط والإبراء والإذن ، بل الفسخ ونحوها ، مما كان اشتراطها من جهة الإخبار عما في الضمير والإرادة القلبية ، لا من باب الأسباب التعبّدية ، ولذا يصحّ الإبراء بقوله : أبرأت ذمّتك إن كانت مشغولة لي ، ولا يصحّ أن يقال : بعتك إن كان ملكي ، وسرّه ما ستعرف [ من ] أنّه لا يعتبر في أمثال ما ذكر الإنشاء اللفظي ، كما يشترط في الصيغ الشرعية ، بل مطلق ما يكشف عن الإرادة الفعلية القلبية التي هي السبب المؤثر ، غاية الأمر اشتراط مقارنتها بقول أو فعل دال عليها ، وهذا هو التوجيه الصحيح لحصول الفسخ والتمليك معا بلفظ واحد في مثل بيع ذي الخيار ، كما مضى وستعرفه مما يأتي.

ثمّ الكلام في شمول الإسقاط لجميع مراتب الغبن حيث لم يصرّح بها ، مثل ما تقدّم في صورة الإسقاط بعد ظهور الغبن.

وإن كان إسقاط الخيار قبل العلم بالصلح عنه بعوض ، فقد يستشكل فيه بأنّ المصالحة العوضية لا بدّ لها من ثبوت شي‌ء بإزاء المصالح بها وهو غير معلوم.

٣٥٠

ويمكن دفعه بأنّ الغبن المحتمل الموجب للخيار على تقدير كونه مما يبذل في مقابله عرفا ، فالمقابل للعوض هو الحقّ المحتمل ، وهو بهذا الاعتبار حقّ محقق ، فيصحّ الصلح عنه ، بل لو تبيّن بعده عدم الغبن لا يسترد العوض أيضا ، لأنّه حين المصالحة كان مما يبذل عنه ، ولم يكن مراعى ، فتفطن.

نعم ، لو ضمّ شي‌ء إلى المصالح عنه المجهول ، أو ضمّ سائر الخيارات إليه ، كان أولى ، ويكون دخول المجهول ـ حينئذ ـ على تقدير ثبوته ، لا متنجزا باعتبار الوجود.

الثالث من المسقطات : إسقاط حق الخيار بالشرط في ضمن العقد.

والإشكال في كونه مخالفا للسنّة ، والعدول عنه إلى شرط عدم الفسخ ، لئلا يرجع الشرط إلى نفي الحكم الشرعي ، قد تقدّم دفعه في بحث الشروط ، مع أنّ سقوطه بشرط عدم الفسخ مبنيّ ظاهرا على اقتضاء النهي في المعاملة الفساد ، وهو محلّ الكلام فيما لم يكن متعلّق النهي نفس المعاملة ، فتأمل.

وعن الصيمري في غاية المرام (١) : بطلان العقد والشرط وعن المحقق الكركي (٢) التردّد فيه مستظهرا للصحّة.

واستظهر الشهيد في الدروس (٣) بطلان العقد : للزوم الغرر ، وفيه : أنّ الجهل بالقيمة لا يوجب الغرر ، لأن الغرر المنفيّ إنما هو فيما إذا رجع الجهل بنفس المعاوضة في المتعاوضين ، كالبيع (٤) وجودا أو صفة أو حصولا وإلّا كان الجهل بالقيمة مبطلا للبيع

__________________

(١) غاية المرام ٢ : ٣٣.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣٠٢.

(٣) الدروس الشرعية ٣ : ٢٧٥.

(٤) كالمبيع ( ظ ).

٣٥١

من أصله ، مع أنّه لو كان غرريا لم يخرجه الخيار عن موضع الغرر حتى كان اسقاطه موجبا لثبوته ، ولعلّه لذا احتمل ثانيا الصحة.

المسألة الخامسة : اختلفوا في كون هذا الخيار فوريا ، كما عن المشهور ، لعموم أدلّة اللزوم ، فيقتصر على المخرج بالقدر المتيقّن ، أو على التراخي ، للاستصحاب.

ونظر بعض أفاضل من عاصرناه في مستندي القولين : أما في الأوّل : فبأنّ الاقتصار على المتيقّن عند الشكّ إنّما هو إذا كان الشكّ في عدد الأفراد المخرجة. لا في كيفية افراد الخارج ، وما نحن فيه من الثاني ، لأنّ الزمان ليس من أفراد العموم ، بل هو ظرف لحكم الفرد الخارج ، فلا يعلم كونه آنيّا أو مستمرّا فيستصحب ، وليس من تعارض الاستصحاب والعموم.

نعم ، لو فرض إفادة الكلام العموم الزماني على وجه يكون الزمان يتكثر أفراد العام ، كقوله : أكرم العلماء في كلّ يوم ، بحيث كان إكرام كلّ عالم في كلّ يوم واجبا مستقلا غير إكرام ذلك العالم في اليوم الآخر ، فيقتصر في إخراج عالم على اليوم المعلوم من خروجه ، فيرجع الشكّ في المورد في استمرار حكم واحد وانقطاعه ، فيستصحب. وفي الثاني إلى خروج أحكام مستقلّة متكثّرة ، فعمل بالعموم.

وفيه نظر ، لأن أفراد العموم إن كانت متعيّنة بحسب المعنى اللغويّ والعرفيّ فهو ، ويقتصر في تخصيصه على المتيقّن منها ، كما في إكرام العلماء ، فإنّ أفراد العلماء : زيد وعمرو ، لا زيد في يوم وزيد في يوم آخر ، ولا مدخل للزمان في فردية أفرادها ، أو تكون اعتبارية ، بمعنى صلاحية العام بحسب مدلوله تشخيص الأفراد له بعنوانات ، كما في كلّ ماء طاهر ، فإنّ أفراد الماء قد تعتبر بعنوان المقدار ، كصاع وصاعين وثلاثة أصوع ، وهكذا الماء الكثير والقليل ، وقد تعتبر باعتبار الاجتماع والاتصال في محلّ ، كماء حوض كذا وغدير كذا وهكذا ، وبهذين الاعتبارين يكون

٣٥٢

الأفراد متداخلة. وقد تعتبر باعتبار بعض الصفات العارضة ، كماء البئر والماء الجامد والجاري وماء البحر وهكذا.

والجهات التي يصحّ اعتبار الفردية بها تختلف باختلاف العمومات ، فلفظ العام بحسب مدلوله قد يكون صالحا لاعتبار العموم له بجهات كثيرة ، كما في عموم الخيار ، فقد يعتبر باعتبار السبب وأفراده خيار الغبن وخيار العيب وخيار الشرط ، وهكذا. وقد يعتبر باعتبار الزمان ، فالخيار الفوري فرد منه ، والخيار المستمرّ فرد.

وقد يعتبر باعتبار أشخاص ذوي الخيار ، فخيار البائع فرد وخيار المشتري فرد ، وهكذا.

والمناط في ذلك كلّه ملاحظة دليل العموم في الجهة الصالحة للعموم فيه ، من أنّها واحدة أو أكثر بحسب مدلوله المستعمل فيه اللفظ.

وإذ عرفت ذلك فنقول : دليل عموم اللزوم فيما نحن فيه : إمّا مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) فلا مدخل للزمان في تكثير الأفراد ، بل هي أشخاص العقود ، أو مثل قوله عليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » بعموم مفهومه الدال على اللزوم ، كما يصلح بالنسبة إلى الأسباب من خيار الغبن والرؤية والعيب ونحوها ، وبالنسبة إلى البيع ، كبيع الحيوان والصرف والثمرة وما يفسد ليومه ونحوها ، كذا يصلح عمومه بالنسبة إلى الزمان المشخص للأفراد من الخيار الفوريّ والاستمراريّ ، وإن كان أحد الفردين داخلا في الآخر ، كما في عموم الماء بالنسبة إلى أفراده باعتبار الاتصال والانفصال حسب ما مرّ.

واتحاد السبب كظهور الغبن لا ينافي تعدّد المسبّب باعتبار الجهات المذكورة.

وأما اعتراضه على مستند القول الثاني. أعني : الاستصحاب ، فحاصله : أن

__________________

(١) المائدة (٥) : ١

٣٥٣

الاستصحاب يتبع بقاء الموضوع ، فلا بدّ من تشخيصه أوّلا حتى يستصحب حكمه ، والمتيقّن سابقا فيما نحن فيه ثبوت الخيار لمن يتمكن من تدارك ضرره بالفسخ ، فلا ينسحب في الآن اللاحق ، مع كون الشخص قد يتمكن من التدارك ولا يفعل ، فإنّ هذا موضوع آخر.

وفيه : أنّ هذا مسلم فيما كان الموضوع مشخصا بحدوده وقيوده في دليل الحكم ، فلا ينسحب بالاستصحاب بعد تغيّر بعض قيوده ، لرجوع الشكّ ـ حينئذ ـ إلى المقتضى الثانوي ، كما إذا قال ، الماء المتغيّر نجس ، فإنّه لا يجري استصحاب النجاسة بعد زوال هذا القيد ، مع عموم أدلّة حجيته. وإن علم اشتراط هذا القيد في حدوث الحكم أوّلا ، مع فرض الشكّ في اشتراطه للبقاء ، كما إذا قال : إذا تغيّر الماء فهو نجس ، فزال التغير من قبل نفسه ، فإنّه يصحّ الاستصحاب ـ حينئذ ـ وقد بيّنا ذلك مستوفى في الأصول ، ومورد البحث من الثاني ، إذ للقائل منع كون العجز عن تدارك الضرر شرطا لبقاء الخيار ، وإن كان شرطا لحدوثه.

نعم ، يمكن المناقشة في الاستصحاب لو كان مستند الحكم بالخيار في الأوّل مجرّد أدلّة الضرر ، إذ مدلولها نفي الضرر الواقع بحكم الشارع ، فالدليل مقيد بالضرر الشرعيّ لا الاختياريّ ، فحيث لم يتدارك المغبون ضرره بالفسخ مع تمكّنه عنه ، كان بقاؤه باختياره ، فالشكّ في بقائه كان في المقتضى الثانوي. ولعلّه إلى هذا ينظر ما في الرياض (١) من أنّ المستند في هذا الخيار : إن كان الإجماع المنقول ، اتّجه التمسّك بالاستصحاب ، وإن كان نفي الضرر ، وجب الاقتصار علي الزمان الأوّل ، إذ به يندفع الضرر. انتهى. فتأمّل.

وكيف كان ، فالاستصحاب ـ ولو سلّم جريانه ـ لا يعارض عموم دليل اللزوم

__________________

(١) رياض المسائل ٥ : ٤٢٥.

٣٥٤

الذي قد تبيّن تقريبه وتحريره ، فيقتصر في التخصيص على مورد اليقين. فإذا المعتمد كون الخيار فوريا.

والاستدلال عليه بأصالة فساد الفسخ وبقاء الملك كما قاله الفاضل المتقدّم ، صحّ لو لم يصحّ الاستصحاب كما زعمه ، حسب ما مرّ ، وأمّا على صحّته فلا يبقى استصحاب الفساد لزواله باستصحاب السبب أعني : الخيار.

تتميمان :

الأوّل : هل الفور محمولة على الفورية الحقيقية ، اقتصارا على المتيقّن ، أو العرفية ، دفعا للحرج الحاصل على الاقتصار على الحقيقية ، أو ما هو أوسع من العرفي ، كما يستفاد من التذكرة في خيار العيب ، حيث وسّعه فيما لو اطّلع عليه حين دخل وقت صلاة أو أكل أو قضاء حاجة ، فاشتغل بها إلى أن يفرغ عنها إجماعا ، أو اطّلع على العيب ليلا ، فله التأخير إلى أن يصبح ، وإن لم يكن له عذر؟

إشكال : إذ الإناطة بالأولين كلّية مخدوشة بإمكان عدم الحرج والضرر في بعض الموارد ، وبالثالث بعدم دليل عليه ، فان تمّ الإجماع الذي ذكره في التذكرة فهو ، وإلّا فمقتضى الاعتبار : الاقتصار على الأوّل إلّا لحرج أو ضرر أو عذر آخر.

ومنه : إعلام الخصم بوقوع الاختلاف وقضاء المصلحة تقديم المحاكمة على الفسخ أو لاحتمال بذله الأرش المتقدّم على الخيار على المختار ومنه التروي والاختيار من غير تفكر وتدبر منه ينافي التخيير ، بل يؤدّي إلى ضرره.

الثاني : لا شكّ أنّ الجاهل بالخيار معذور في ترك المبادرة ، فله الخيار متى علم ، لنفي الضرر : وترك الفحص عن الحكم ليس منافيا للمعذورية ، كما ليس منافيا لها في الجهل بالغبن.

وهل الجاهل بالفورية معذور في تركه المبادرة أيضا. الظاهر : نعم ، كما عن بعضهم.

٣٥٥

والاستشكال بعدم جريان نفي الضرر هنا لتمكّنه من الفسخ وتدارك الضرر : مدفوع ، بأنّ الاغترام بعدم العلم بالفورية من الأعذار ، وأيّ عذر أقوى من الجهل.

ولو ادّعى الجهل بالخيار ، فالظاهر : القبول ، إلّا أن يكون مما لا يخفى عليه هذا الحكم الشرعيّ إلّا لعارض. ولو ادّعى النسيان ففيه إشكال.

المسألة السادسة : يثبت خيار الغبن في غير البيع من المعاوضات أيضا ، كما عن فخر الإسلام (١) والتنقيح (٢) وإيضاح النافع وجامع المقاصد (٣) في الإجارة ، لعموم المدرك ، أعني : نفي الضرر ، وإن اختصّ الإجماع المحكيّ بالبيع.

وعن المهذّب (٤) عدم جريانه في الصلح.

وعن غاية المرام (٥) : التفصيل بين الصلح الواقع على وجه المعاوضة ، فيجري فيه ، وبين الواقع على إسقاط الدعوى أو على ما في الذمّة ، ثم ظهر الغبن فيهما.

وعن بعضهم : التفصيل بين عقد وقع على وجه المسامحة وعدم الالتفات إلى النقص والزيادة ، بيعا كان أو صلحا أو غيرهما ، ولعلّه لكون المعاملة ـ حينئذ ـ مبنية على عدم المغابنة والمكايسة.

والذي يقتضيه الاعتبار : أنّ صور الفرض أربع ، إذ المعاملة : إمّا وقعت على وجه المعاوضة ، أو على إسقاط الدعوى في مقام التشاجر.

وعلى الأوّل : فإمّا على محض المالية ، أو على التغابن والمحاباة ، أو على

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٨.

(٢) التنقيح الرائع ٢ : ٤٧.

(٣) جامع المقاصد ٧ : ٨٦.

(٤) المهذب البارع ٢ : ٥٣.

(٥) غاية المرام ٢ : ٢٢١.

٣٥٦

المسامحة ، وإن لم يعلمه المغبون ، حيث علم من الخارج أنّ بناء المغبون عليه ، وإن فرض علمه بالغبن ، لحاجة عظيمة منه.

ففي الأوّل : يثبت الخيار. وفي الثانية : لا يثبت ، وإن كان الغبن زائدا عن المعلوم ، لأنه في حكم الإسقاط ، إلّا إذا كان فاحشا زائدا عن المتعارف في مثله في مقام المحاباة ، كما مضى في حكم الإسقاط.

وكذا في الثالثة على إشكال : من كونه إقداما على الضرر ، لبنائه عليه ولو على فرض علمه ، إلّا إذا كان زائدا عن المتعارف في مثل مصلحته المقصودة ، ومن عدم القول بالفصل عند الجهل بالغبن.

وفي الرابعة : لا خيار مع عدم ظهور الغبن ، ومعه فيه وجهان : من عدم كونه معاوضة مالية ، بل هو إسقاط على عوض ، فلا تزلزل لظهور الغبن ، ومن كونه ضررا منفيا. ولا يبعد التفصيل بين ما فيه الغبن زائدا على المتعارف في الإسقاط عند الجهل في مقام التشاجر ، فيجري فيه الخيار ، وبين ما لا يزيد عليه ، فلا خيار. والله العالم.

٣٥٧
٣٥٨

[ المشرق العشرون ]

[ في الأحكام الملحقة بالخيارات ]

مشرق : في جملة من الأحكام الملحقة بالخيارات. وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الفسخ كما يحصل باللفظ يحصل بالفعل أيضا ، بلا خلاف ظاهرا ، سواء كان عمليا ، كتقبيل الجارية ، أو قوليا كالبيع. ويشترط كون الفعل دالّا على إرادة الفسخ عرفا أو شرعا ، وإلّا فلا عبرة به.

وفي التذكرة (١) : لو قبّل الجارية بشهوة أو باشر فيما دون الفرج أو لمس بشهوة ، فالوجه عندنا أنّه يكون فسخا ، لأنّ الإسلام يصون صاحبه عن القبيح ، فلو لم يختر الإمساك لكان مقدما على المعصية. ثم نقل عن بعض الشافعية احتمال العدم. ويظهر من تعليله بالصون : اشتراط إرادة الفسخ ، بل يشعر قوله : عندنا ، بالإجماع عليه.

وقريب منه : التعليل المحكي عن جامع المقاصد (٢). ولا بدّ من تقييده في الدلالة على العلم والعمد لإمكان وقوعه نسيانا عن البيع أو اشتباها بغيرها ، فلا يلازم الصون عن القبيح إرادة الفسخ.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٣٨.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣٠٤.

٣٥٩

إلّا أن يقال : أمثال تلك التصرفات ظاهرة بنوعها في العمد والعلم بالغلبة العادية ، فبضميمة حمل فعل المسلم على الصحة يدلّ على إرادة الفسخ ، وإن كانت بأشخاصها محلّ الشك في موارد ، لعروض ما يصرفها عن الظهور فيها.

وبالجملة : المعيار في الظهور هو النوعي دون الشخصي ، فإنّ حكم الفعل في ذلك كاللفظ ، فكما أنّ الظهور المعتبر في الألفاظ عرفا وشرعا هو الظهور الشأني ، ما لم يصرفها عنه قرينة صارفة إلى ظهور شخصي ، كما في حمل الألفاظ على الحقائق ما لم يظهر القرينة الصارفة ، فكذا الظهور المعتبر في الأفعال بالنسبة إلى مدلولاتها العرفية فيما يتعلّق به من الأحكام الشرعية ، لأن الشرع يتّبع العرف وما جرت عليه عادة الناس في مقام التفهيم والتفاهم ، ولا شكّ أنّ العرف في إظهار مقاصدهم وإعلام ضمائرهم يقفون على ما يقتضيه الدوال بأنفسها ، قولا كانت أو فعلا ، ولا يخرجون عنه إلّا بدليل صارف.

وكيف كان ، فيشترط في الفعل الفاسخ دلالته على الرضا بالانفساخ ، ولا هكذا التصرف المسقط للخيار ، بل يكتفي فيه بالدلالة على الرضا بالملك دون لزومه ، كما يظهر من إطلاق الفتاوى والنصوص ، على ما بيّنا سرّه وتوجيهه في خيار الحيوان.

فما عن جماعة كالشيخ (١) وابني زهرة (٢) وإدريس (٣) والعلّامة (٤) وغيرهم أنّ التصرف : إن وقع فيما انتقل عنه كان فسخا ، وإن وقع فيما انتقل إليه كان إجازة ، الظاهر بحكم المقابلة [ في ] أنّ كلّ تصرف يحصل به الإجازة يحصل به الفسخ ليس

__________________

(١) المبسوط ٢ : ٨٣ و ٨٤.

(٢) الينابيع الفقهية ١٣ : ٢١٤.

(٣) الينابيع الفقهية ١٤ : ٢٩٥.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٣ ؛ الينابيع الفقهية ١٤ : ٥٣٥.

٣٦٠