المولى عبد الصاحب محمد النراقي
المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨
كلّ ضرر ليس مما يقابله ضمان المال.
ويدلّ على نفي الجواز أيضا ، الأخبار الناهية عن الإضرار ، كقوله عليهالسلام : « لا يضارّ المؤمن أخاه المؤمن » (١) وقوله في مقام تهديد سمرة : « أنت رجل مضارّ. فاقلعه واضربه على وجهه » هذا إذا لم يعارضه ضرر نفسه ، وإلّا فهو من تعارض الضررين ، ويأتي حكمه.
الرابع : نفي حكم وضعيّ يتضرّر به غيره ، لتساويهما في نفي الضرر عند الشارع ، كمعاملة إضرارية للغير ، كهبة المديون جميع ما يملكه لغيره ، فرارا عن أداء دينه ، فيما إذا لم يتمكّن عنه بطريق آخر ، من استقراض ونحوه كما بيّناه مفصّلا في بعض مباحثنا (٢).
الخامس : ضمان المضارّ بما أضرّ بغيره صرّح به بعضهم ، قائلا : بأنّه يقتضيه قاعدة الضرر ، كما يقتضيه قاعدة الإتلاف. بل الظاهر اتفاقهم على ضمان من أجّج نارا ، أو أرسل ماء في ملكه ، زائدا على قدر الحاجة ، مع ظنّ التعدي ، كما سيأتي فهو في غير التصرف في ملكه أولى.
واختصاص الضمان عندهم بصورة حرمة الفعل غير معلوم ، وعن بعضهم اختصاصه بما إذا كان الفعل محرّما وخصّه آخر بما إذا كان ظلما وربما يدّعى إفادة القاعدة نفي الضمان ، لأنّه ضرر على المضارّ. قال به بعض الفحول.
ومقتضى التحقيق ـ ثبوت الضمان ، لكن لا على إطلاقه ، بل التفصيل : أنّ المضارّ
__________________
(١) ورد ذلك في مكاتبة محمد بن الحسين عن أبي محمد عليهالسلام ؛ وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٢ ، الباب ١٥ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٨٦ ؛ في نقل الوسائل : « لا يضرّ » ، ولكن في الفقيه ( ٢ : ١٥٠ ، الحديث ٦٥٩ ) : « لا يضارّ ».
(٢) راجع المشرق الخامس في المعاملات الإضرارية.
إمّا يعلم أو يغلب على ظنّه ضرر الغير بفعله ، أو يعلم عدمه ، أو لا يعلم شيئا منهما.
فإن علم ، فهو إضرار محرّم عليه ، كما علمت ، سواء كان بالمباشرة أو بتوليد الفعل بالتسبيب ، بإيجاد ما يوجد معه عليه الضرر عادة ، ومضمون عليه ، لو لا يعارضه مباشر أقوى ، لأنّ بقاء الضرر ـ كحصوله ـ أثر فعل المضارّ أيضا ، ويدفعه بذل العوض ، فتجويز الشارع عدم رفعه به حكم ضرريّ على المتضرّر ، ينفيه القاعدة ، كما هو المتفاهم منها عرفا.
وأما إلزام المضارّ برفعه ، وإن كان ضررا عليه أيضا ، إلّا أنّه من أثر فعل نفسه عالما به ، وقد [ لا ] يقتضي القاعدة نفيه ، من قبيل الدية على الجاني ، ولزوم البيع على المغبون العالم ، مضافا إلى صحيحة الكناني ، وما في معناها ، المصرّحة بضمان المضارّ بطريق المسلمين ، الشامل بعمومها بالإضرار الواقع منه بالطريق ، من غير تصرّف له فيه ، المتعدي إلى غير الطريق ، بعدم القائل بالفصل.
وإن لم يحتمل الضرر ، فعدم حرمة الفعل من جهة الضرر ـ حينئذ ـ ظاهر.
فإن كان محرّما من جهة أخرى ، ككونه تصرّفا في ملك الغير ، فلا يبعد الضمان للمتضرّر أيضا ، لوقوع الضرر بعصيانه وتقصيره في مخالفة النهي ، وإن لم يكن جهة النهي علمه بالضرر ، لعدم الفرق بذلك بينهما في نسبة الضرر إلى تقصيره ، وعدم اغتفاره في الحكم الضرريّ.
وإن لم يكن محرّما ، فمقتضى قاعدة نفي الضرر ـ مضافا إلى الأصل ـ عدم ضمانه ، لكونه معذورا في الحكم التكليفيّ بالجهل المقتضي للجواز ، وفي الوضعيّ بعدم التقصير ، فإثبات الضمان عليه حكم ضرريّ منفيّ بالقاعدة ، إلّا إذا خرج بدليل ، كما في تلف النفس ، وتضرّر المتضرّر ، حيث لم يكن بحكم شرعيّ ، ولا بتقصير مضارّ لا يلزم على الشارع رفعه ، كما تكرّر ذكره. ولا يقتضيه عموم : « من
أضرّ بطريق المسلمين » لظهوره في العلم بالضرر.
وإن شكّ في الضرر ، فهو في جواز الفعل كالسابق ، للأصل.
وأما الضمان ، ففيه وجهان. والأوجه ثبوته ، لعدم اقتضاء الجهل ـ مع فرض الاحتمال ـ معذوريته ، فوجب عليه رفعه ببذل العوض ، بقاعدة الضرر ، كما مرّ ، وأصل عدم الضرر لا ينفي الضمان على تقدير ثبوته في الواقع ، لأنّ المناط في صدق اللفظ المقتضي للضمان هو الواقع ، فيما لا مانع لصدقه ، فإنّ ترخيص الشارع إضرار الغير من غير ضمان مع عدم كونه غافلا حكم ضرريّ على المتضرّر ، وجواز الفعل لا ينافي الضمان ، لتوقف الحرمة على العلم ، دون الضمان.
فإن قلت : تجويز الفعل بمقتضى الأصل ليس مقيّدا بالضمان في الأوّل ، على تقديره ، وتضمينه بعد ظهوره رفع ضرر لا يقتضيه القاعدة ، إذ ليس عدم تضمينه حكما ضرريا ، بل عدم حكم.
قلت : تقييد الجواز بالضمان على تقدير الضرر لا يستدعي العلم بالضرر ولا بالضمان ، بل يكفي الاحتمال في ثبوته واقعا. هذا كلّه إذا لم يتضرّر المضارّ بترك الفعل ، وإلّا فيأتي حكمه.
البحث الثالث : فيما إذا تعارض قاعدة الضرر مثلها ، فتعارض الضرران أو تصرف المالك في ملكه المسلّط عليه ، بقوله عليهالسلام : « الناس مسلّطون على أموالهم » (١).
فهنا مقامان :
المقام الأوّل : في تعارض الضررين ، بأن دار الأمر بين حكمين ضرريين ، بحيث كان الحكم بأحدهما مستلزما للحكم بثبوت الآخر.
فنقول : الضرران إمّا يكونان بالنسبة إلى شخص واحد ، فمع التساوي في مقدار
__________________
(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ ؛ عوالي اللآلي ١ : ٤٥٧ ، الحديث ١٩٨.
الضرر ، وعدم المرجّح ، يحكم بالتخيير ومع الاختلاف في القلّة والكثرة ، فمقتضى القاعدة نفي الأكثر ، لحصول الضرر الأقلّ على التقديرين ، سواء كان داخلا في الأكثر ، كما في الشكّ في مقدار الدية على العاقلة أنّه عشرة دنانير أو خمسة ، أو مباينا له ، كالشكّ في كونه عشرة دنانير أو عشرة دراهم.
فإن قلت : لا مرجّح للأقلّ مع التباين ، مع صدق القاعدة عليهما.
قلت : المنفيّ هو ماهيّة الضرر من حيث هو ضرر ، لا خصوصيات المضارّ ، فالاعتبار في القلّة والكثرة بنفس الماهيّة دون الخصوصيات ، والأقلّ بهذا الاعتبار داخل في الأكثر ، وإن باينه بحسب الخصوصية.
فإن قلت : المنفيّ في الحديث الأفراد ، لكونه عاما أفراديا ، فالعبرة بها دون الماهيّة ، وهي في الفرض متباينة.
قلت : الجنس الصادق على الجزء والكلّ من الأعيان ، كالماء الصادق على حوض ، وعلى كلّ غرفة وقطرة منه ، أو من الأوصاف ، كالمرض والضرر ونحوهما ، يكون فرض أفراده بالاعتبار ، فإنّ كلّ فرد فرد منه يمكن فرض جزئه فردا أيضا ، فكثرة أفراده وقلّتها يرجع إلى كثرة الجنس وقلّته ، فالعبرة فيهما به لا بالخصوصيات الزائدة.
أو يكون الضرران بالنسبة إلى شخصين ، بأن دار الحكم الضرريّ بينهما.
فكلماتهم فيه مختلفة ، بل لا يخلو كثير منها عن اضطراب ، قال في التذكرة (١) : لو غصب دينارا ، فوقع في محبرة الغير بفعل الغاصب أو بغير فعله ، كسرت لردّه ، وعلى الغاصب ضمان المحبرة ، وإن كان كسرها أكثر ضررا من تبقية الواقع فيها ضمنه الغاصب ، ولم يكسر. انتهى.
ووجه التفصيل بأكثرية الضرر وعدمها ، مع فرض الغصب غير ظاهر.
__________________
(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ٣٩١.
وقال في الدروس (١) : لو أدخل دينارا في محبرته ، وكانت قيمتها أكثر ، ولم يمكن كسره ، لم يكسر المحبرة ، وضمن صاحبها الدينار مع عدم تفريط مالكه ، انتهى.
وحمل على كون إدخال الدينار بإذن المالك ، على وجه يكون مضمونا ، إذ لو كان بغير إذنه تعيّن كسر المحبرة ، وإن زادت قيمتها. وإن كان بإذنه على وجه لا يضمن ، لم يتّجه تضمين صاحبها الدينار.
وقال بعض أجلّة من عاصرناه (٢) في خصوص المثال المذكور وغيره مما تعارض فيه الضرران : « يمكن أن يقال : بترجيح الأقلّ ضررا ، إذ مقتضى نفي الضرر عن العباد في مقام الامتنان ، عدم الرضا بحكم يكون ضرره أكثر من ضرر الحكم الآخر ، لأنّ العباد كلّهم متساوون في نظر الشارع ، بل بمنزلة عبد واحد. إلى أن قال : ـ لكن مقتضى ذلك ملاحظة الضررين الشخصيين المختلفين ، باعتبار الخصوصيات الموجودة في كلّ منهما ، من حيث المقدار ومن حيث الشخص ، فقد يدور الأمر بين ضرر درهم ودينار ، مع كون ضرر الدرهم أعظم بالنسبة إلى صاحبه من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه. وقد يعكس حال الشخصين في وقت آخر. انتهى.
ولا يخفى ضعفه ، أما أوّلا : فلأنّ هذا لا يتمّ فيما إذا كان الضرر الحكميّ من مجرّد تشريع الشارع ، فدار في أنّ المحكوم عليه به هذا أو ذاك ، كما إذا شكّ في العاقلة الملزمة بالدية شرعا ، هل هو هذا أو ذاك بدرهم (٣) ، فإنّه لا يختلف الحكم حينئذ قطعا باختلاف الأزمان والأحوال المتجدّدة ، بل إذا رجّح أحدهما بدليله لا يتعاكس فيه الضرر ، ولا يختلف باختلافها الحكم الضرريّ.
__________________
(١) الدروس الشرعية ٢ : ١١٠.
(٢) هو الشيخ الأنصاري قدسسره في رسالة لا ضرر ؛ راجع المكاسب ( الطبعة الحجرية ) : ٣٧٤ ؛ وأيضا رسائل فقهية من منشورات المؤتمر المئوي للشيخ الأنصاري : ١٢٥.
(٣) كذا.
وأما ثانيا : فلأنّ مقتضى تساوي العباد في نظر الشارع ، التعديل بينهما ، وينافي تعيّن الضرر الأقلّ ، لأنّ جعل الضرر كلّه على صاحب الأقلّ دون صاحب الأكثر خلاف التسوية ، بل مقتضى العدل تشريكهما في القدر الأقلّ ، ونفي الزائد ، مثلا : إذا وقع ديناره في مجرّة غيره ، فإن كان ضرر الكسر نصف الدينار ، فهذا النصف يقسم بينهما ، ويكسر المجرة ، وإن كان بالعكس يتعاكس. إلّا أن يقال : تجزئة الضرر عليهما إحداث قول ثالث.
ولكن الإنصاف : إنّ عدم القول بالفصل في أمثال ما ليس له عنوان مخصوص في المدارك الشرعية غير معلوم ، بل كلّ من حكم فيه بشيء يدخله تحت قاعدة وأصل شرعي بزعمه ، كيف وليس هو أولى في إخراجه عن مقتضى القواعد ، بدعوى عدم الفصل ، من البناء على اختلاف الحكم الضرري والتعاكس فيه باختلاف الأحوال والأشخاص والخصوصيات المتجددة ، بملاحظة قاعدة نفي الضرر.
وأما ثالثا : فلأنّه لا يتمّ في المثال المتقدّم الذي جعله من أمثلة المقام ، مما يتعارض فيه الضرر الواقع لأحدهما والمتوقع للآخر عند دفعه ، فإنّ تجويز كسر المجرّة ـ مضافا إلى كونه تصرفا في مال الغير ـ ينفى بقاعدة الضرر ، دون دفع ضرر صاحب الدينار ، لعدم وجوبه على الشارع ، كما تقدّم. بل اعترف الفاضل المذكور في مقام آخر بذلك ، حيث قال : لا يجوز لأحد إضرار انسان لدفع الضرر المتوجه إليه.
ثمّ أقول : الذي يقتضيه النظر ، أنّ تعارض الضررين بالنسبة إلى شخصين ، إن كان في الضرر الحكمي الناشئ عن الشرع ، المخصّص لقاعدة الضرر ، كما في الترديد في العاقلة ، فظاهر عدم الترجيح باعتبار قاعدة الضرر ، وإن كان أحدهما أقلّ ، لتباينهما بتباين المتعلّقين.
إلّا ان يقال : مقتضى حديث نفي الضرر نفيه من حيث هو في الإسلام ، من غير ملاحظة خصوص من يتضرّر به ، فإنّ الأقلّ بهذا الاعتبار داخل في الأكثر ، وإن تباين المتعلّقات ، وهو مشكل.
وإن كان باعتبار ضرر خارجي ، دار الحكم بإلزامه بين شخصين ، فهو على وجهين :
أحدهما : أن يكون الضرر المفروض واقعا على إنسان ، وأمكنه دفعه عن نفسه بإضرار غيره.
وثانيهما : أن يكون متوجّها إلى أحدهما لا بعينه ، فدفع عن نفسه ما يوجبه ، فتوجّه إلى الآخر.
أمّا في الأوّل : فالظاهر أنّه لا يجوز له إضرار الغير ، بل عليه تحمل الضرر ، لأنّ تجويزه حكم ضرريّ ، فينفيه القاعدة. وأمّا
ضرر نفسه الواقع عليها ليس من حكم الشرع ، بل حكمه ترك ضرر الغير ، واستلزامه بقاء الضرر ليس بسبب حادث ، ولا هو ضرر متجدّد ، ولا مدخل للشرع فيه. غاية الأمر عدم حكمه بما يدفعه ، وعلمت أنّه ليس بواجب. ومن ذلك ما في المشهور ، من عدم جواز إسناد الحائط المخوف وقوعه على جذع الجار ، خلافا للشيخ. وحمل على ما إذا خاف من وقوعه تلف نفس محترمة ، لوجوب حفظها. غاية الأمر لزوم أجرة المثل ، للاستناد كأخذ الطعام لسد الرمق.
وأما في الثاني : فالظاهر جوازه ، ولا ضمان عليه ، لأن منعه الضرر عن نفسه ليس شيئا محدثا لضرر الآخر ، بل هو مستند إلى علّته الخارجة التي لا دخل له فيها ، وإنّما فعله منع ما يحدث الضرر عن نفسه ، كما إذا سدّ طريق السيل عن داره ، فمال إلى دار جاره.
نعم ، لو أطرقه إليها ، سيما إذا كان طريقه أوّلا إلى دار نفسه ، فهو من التسبيب المحرّم المتقدّم بيانه ، وظهر من ذلك : أنه لا يجب على الإنسان دفع ضرر الغير بإضرار نفسه ، ولعلّه لا خلاف فيه.
المقام الثاني : في تعارض قاعدة الضرر مع قاعدة التسليط ، الثابتة بالحديث النبويّ المشهور المرويّ في كتب الأصحاب ، المعمول به عندهم. وهو قوله : « الناس مسلّطون على أموالهم » كما إذا تصرف المالك في ملكه فاستلزم تضرّر جاره ، فالمشهور جوازه. صرّح به الشيخ في المبسوط (١) ، في باب إحياء الموات في حفر المالك بالوعة أو بئر كنيف يقرب بئر الجار ، وإن أدّى إلى تغيّر ماء البئر.
وفي السرائر (٢) في باب حريم الحقوق ، قائلا : بجواز حفر الإنسان في ملكه بئرا يقرب بئر الغير ، وإن نقص به ماء الغير.
والفاضل في التحرير (٣) والقواعد فيه ، وفي اتخاذ ملكه حماما أو موطنا للقصار والحداد والمدبغ وأمثالها ، قائلا : بأنّ لكلّ أحد أن يتصرف في ملكه على العادة ما شاء ، وإن تضرر صاحبه ، ولا ضمان ، والشهيد في الدروس (٤) نافيا للضمان. واختاره في الرياض (٥) ، بل في الأوّل نفي الخلاف فيه. وفي الكفاية (٦) نسبه إلى الأصحاب ، مؤذنا بدعوى الإجماع ، إلّا أنّه استشكل في الضرر الفاحش.
والظاهر أنّ إطلاق كلامهم ، سيما كلام النافي للخلاف ، محمول على صورة حاجة
__________________
(١) المبسوط ٣ : ٢٧٢.
(٢) السرائر ٢ : ٣٧٤.
(٣) تحرير الأحكام ٢ : ١٣٦.
(٤) الدروس الشرعية ٣ : ٦٠.
(٥) رياض المسائل ٢ : ٣٢٠.
(٦) كفاية الأحكام : ٣٤٠.
المالك ، وتضرّره بترك التصرّف ، ولو بفوات المنفعة المقصودة منه عادة ، فإن منعه منه أيضا ضرر عظيم ، كما ذكره العلّامة (١) وغيره.
ويشعر به تقييد العلّامة والشهيد التصرف بما جرت به العادة ، وتصريح الشهيد (٢) ـ في غير الموضع ـ بالضمان في تأجيج النار زائدا على قدر الحاجة ، مع ظنّ التعدّي ، وإن كان منافيا للتصريح السابق.
وأصرح من ذلك كلام المحقّق الثاني (٣) قائلا : فإذا دعت الحاجة إلى إضرام نار أو إرسال ماء جاز فعله ، وإن غلب على ظنّه التعدّي إلى الإضرار.
وكيف كان ، فهذا أحد الأقوال في المسألة.
والثاني : تقديم قاعدة الضرر مطلقا ، يظهر من المحقّق القمّي (٤) ، وبعض آخر.
والثالث : تقديم الضرر إذا كان فاحشا ، والتسليط في غيره ، مال إليه في الكفاية (٥).
الرابع : منع التصرّف المتضمّن لضرر الغير في ماله ، إذا كان فعله توليديا للتصرّف في مال الغير وإتلافه ، بمعنى أن يسري فعله في ملكه إلى ملك صاحبه ، كإرسال الماء في ملكه ، الموجب لسراية النداوة أو الهدم في حائط الجار ، أو تأجيج النار الموجب لاحتراق متاعه ، لا في مثل رفع جدران داره المانع عن الشمس والقمر في دار الجار. مال إليه بعض مشايخ من عاصرناه.
__________________
(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤١٤.
(٢) الدروس الشرعية ٣ : ١٠٧.
(٣) جامع المقاصد ٧ : ٢٦.
(٤) جامع الشتات ٢ : ٥٦١.
(٥) كفاية الأحكام : ٣٤٠.
الخامس : البناء على التعارض ، والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ، وهو المعروف من جماعة.
وأقول : والتحقيق في المقام ، بعد بيان مقدّمة ، هي : أنّ تعارض الأحكام الشرعية التي لا يجتمع منها اثنان في موضوع ، ولو بعنوانين مختلفين بينهما عموم من وجه ، إنما هو إذا كان تشريعهما في رتبة واحدة ، بحيث كان عموم أحدهما منافيا لعموم الآخر ، كقوله : يجب إكرام العلماء ، ولا يجب إكرام الفساق ، المتعارضين في العالم الفاسق. وأما إذا كان أحدهما واردا على الآخر ، وسببا مزيلا لمقتضاه ، فلا تعارض بينهما حقيقة ، بل يعمل بالمزيل ، نظير تعارض المزيل والمزال في الأصول العملية ، على ما بيّناه مستوفى في محلّه ، وسيجيء مزيد بيان فيه ، كما إذا لاقى اليد المستصحبة النجاسة للماء الطاهر ، فحصل الشكّ في طهارته ، فإنّه يقدم استصحاب نجاسة اليد على استصحاب طهارة الماء [ و ] يحكم بزوال طهارته بسبب التلاقي ، بل هو مقتضى سببية الأسباب الشرعية ، سواء كانت من الأصول الظاهرية ، أو الأحكام الواقعية ، كعروض النجاسة للطعام المزيل لإباحته ، أو وجود مرض أو شبع ـ كذلك ـ وغليان العصير الموجب لحرمته ، وصيرورة المباح واجبا إذا صار مقدمة ، وإباحة الميتة بحصول المخمصة ، وأمثال ذلك.
وقد يتوارد على موضوع واحد أحكام مختلفة متعاقبة ، فلا تعارض بين دليليهما ، لعدم اجتماع الحكمين في وقت واحد.
نعم ، قد يحصل الإشكال في اختلاف المدلولين : أنه من باب التعارض أو السببية ، فإن دلّ على السببية دليل ، أو كان هو المنساق من دليل السبب ، فهو ، وإلّا يلتمس الترجيح لأحدهما ، ثمّ يرجع إلى الأصول.
وإذ علمت ذلك نقول : المنساق من حديث نفي الضرر كونه واردا على قوله
« الناس مسلّطون » وورود الثاني في مقام بيان مجرّد السلطنة المالكية الغير المنافية (١) لعروض سبب مانع لبعض التصرّفات ، مزيل للرخصة اللازمة للسلطنة ، سيما بملاحظة نظائره من الأسباب المحرّمة الطارية على الجواز الأصليّ ، كأمثال ما ذكر ، وبملاحظة استدلالات الفقهاء ، فإنّهم يستدلّون بنفي الضرر على خيار الغبن ، في مقابل عموم : « الناس مسلّطون » الدال على لزوم العقد ، وعدم تسلّط المغبون على إخراج ملك الغابن عن ملكه ، فالضرر يوجب تحريم الفعل الجائز ، كاقتضاء الواجب وجوب مقدّمته المباحة ، والإسراف حرمة ماله المباح.
كيف وإضرار الغير ليس بأهون في نظر الشارع من إضرار الشخص نفسه ، فكما لا يعارض عموم : « الناس مسلّطون » دليل حرمة تضييع مال نفسه ، كذا لا يعارض دليل حرمة تضييع مال الغير.
ثمّ نقول لتفصيل صور المقام : تصرف المالك في ملكه الموجب لضرر الغير ، إمّا لا يوجب تركه ضررا على نفسه ، ولو بفوات منفعة ملكه المقصودة منه عادة ، فإنّه ضرر أيضا ، كما مرّ. أو يوجبه.
فإن لم يوجبه وكان من قبيل اللغو ، فهو على وجهين :
أحدهما : أن يعلم أو يغلب على ظنّه ضرر الغير ، فالمتّجه ـ حينئذ ـ حرمة التصرّف ، وتعلّق الضمان ، كما صرّح به جماعة ، ويظهر من العلّامة (٢) والشهيد (٣) والمحقّق الثاني (٤) ، حيث قيّدوا جواز التصرّف المضرّ بالجار بما جرت به العادة ، أو
__________________
(١) غير منافية ( ظ ).
(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤١٣.
(٣) الدروس الشرعية ٣ : ٦٠.
(٤) جامع المقاصد ٧ : ٢٥.
دعاء الحاجة ، بل هو المستفاد من ظهور اتفاقهم على ضمان من أجّج نارا زائدا على قدر الحاجة مع ظن التعدّي.
والدليل عليه : ما تبين من تقدّم قاعدة الضرر المقتضية للحرمة والضمان ـ حسب ما مرّ ـ على قاعدة التسليط ، وورودها عليها.
فان قلت : مع الضمان لا ضرر ، فلا تحريم.
قلت : بذل العوض ـ فضلا عن مجرّد الحكم بالضمان ـ جبر للضرر الواقع ، فلا يخرج الفعل عن صدوره إضرارا ، فيكون محرما ، كما أشرنا إليه فيما تقدّم ، مضافا إلى أنّ مقاصد الناس غير منضبطة ، فقد يكون عين ما فاته أعود له من عوض المثل. مع أنّه يمكن أن نقول : إطلاق قوله « الناس مسلّطون » ، في مقام بيان حكم جهة المالكية ، فلا ينصرف إلى تعميم الجواز باعتبار سائر الجهات.
ويدلّ عليه أيضا ، أنّه على تسليم التعارض ، فحديث نفي الضرر ـ أيضا ـ أخصّ مطلقا من عموم الثاني ، لاختصاص مورد حديث سمرة بالضرر الناشئ عن التصرّف في ملكه ، فيخصّص به.
وما قد يتوهّم من أنّ الضرر المنفيّ فيه ليس لتصرف سمرة في ملكه ، بل لتعديه بدخوله من غير إخبار واستيذان ، ولا مدخل له في التصرف في الملك ، ضعيف ، لأنّ دار الأنصاري طريق عذقه ، فهو تصرّف في حقه ، غير أنه تصرّف إضراريّ ، ولو لا ذلك لما تمسّك للمنع بالإضرار ، بل بدخول ملك الغير بغير إذنه.
ويؤيّد ترجيح حديث الضرر ـ بل يدلّ عليه ـ أظهريته دلالة ، فإنّه بالعموم الاستغراقيّ الوضعيّ ، والآخر بالإطلاق الحملي ، فهو من باب تعارض النصّ والظاهر الموجب لحمل الظاهر على ما يوافق النصّ بقرينة النصوصية.
وربما يعلّل تقديم نفي الضرر بظهور الفتاوى ، ودلالة الاستقراء على غلبة الحرام
على الحلال ، وبأنّ قاعدة الضرر سارية مسرى العقليات الغير القابلة للتخصيص.
ويضعف الأوّل بمنع الاتفاق ، مع تصريح جماعة من أعيان الأصحاب بجواز تصرف المالك حيث شاء على ما مرّ ، الظاهر في عموم الحكم ، بل قد يشعر من بعضهم دعوى الإجماع عليه.
والثاني : بمنع غلبة الحرمة عند التعارض إذا لم يكن واردة على الحلّ ، بل يعمل ـ حينئذ ـ بمقتضى الترجيح ، كما إذا قال : يحرم إكرام الناس ، ويجوز إكرام العالم.
والثالث : بمنع كون قاعدة الضرر من قبيل العقليات. وكفاك شاهدا ورود التخصيص عليها في موارد كثيرة إجماعية ، ولا ينبّئك مثل خبير.
وثانيهما : أن لا يعلم ولا يغلب على ظنّه ضرر الغير بتصرّفه في ملكه ، فاتّفق فيه الضرر ، فلا إشكال في جواز التصرف ، كما مر ، للجهل المقتضي لنفي التكليف بالأصل.
وأمّا الضمان ، ففيه تفصيل ما تقدّم ، من أنّه إن لم يحتمل الضرر أوّلا ، فلا ضمان عليه ، لأنّ تضمينه مع جواز الفعل وعدم تقصيره عرفا في إضرار الغير ، حكم ضرريّ منفيّ بالقاعدة ، كما علمت ، مضافا إلى الأصل ، فلا يخرج عنها إلّا بدليل.
وبفرض استيفائه المنفعة بهذا التصرف ، لا يجبر ضرر الضمان ، لأنها نفع ملكه الغير المضمون عليه ، مع أنه قد يكون عوض الضرر أضعاف المنفعة المستوفاة ، كإرسال الماء في ملكه الموجب لانهدام عمارة عالية للجار.
ولا يعارضه ضرر الغير ، لعدم كونه مستندا إلى تقصيره ، ولا واقعا من الشرع ، فليس على الإسلام رفعه ، بل حكمه حكم سائر المضارّ الاتفاقية السماوية.
وإن احتمل الضرر ، فالظاهر ضمانه ، مثل ما تقدّم ، وكون فعله تصرّفا في ملكه لا يتفاوت به الحال ، بعد ما علمت من ورود قاعدة الضرر على عموم « الناس
مسلّطون » ، واقتضاءها الضمان بما أشرنا إليه ، من أنّ ترخيص الشارع في إضرار الغير من غير ضمان ـ مع صدق التقصير العرفيّ باعتبار عدم غفلته وعدم تضرّره بتركه ـ حكم ضرريّ على المتضرّر.
وإن كان تصرّف المالك لدفع ضرر يتوجّه إليه ، ولو هو فوات المنفعة المقصودة منه عرفا ، فالظاهر جوازه ، بل لعلّه لا خلاف فيه ، لأنّ حبسه عن ملكه وإلزامه بتحمّل الضرر لئلا يتضرر الغير حكم ضرريّ ، مضافا إلى عموم « الناس مسلّطون ».
فإن قلت : قد تقدّم في تعارض الضررين ، أنّ مقتضى قاعدة الضرر عدم جواز إضرار الغير لدفع الضرر عن النفس.
قلت : ما ذكر ثمّة كان باعتبار صدق الحكم الإضراريّ على تجويز إضرار الغير وعدم صدقه على بقاء ضرر الآخر ، لعدم حصوله بحكم الشارع ، وعدم وجوب دفعه عليه ، وهذا يتمّ في غير صورة التصرّف في ملكه ، وأمّا فيها ، فمنعه عن التصرّف في حقه لدفع الضرر عن نفسه ، وحبسه عن ماله ضرر عظيم ، وحكم إضراريّ منفيّ بالقاعدة. غاية الأمر تعارض الضررين فيها ، وسقوط قاعدة الضرر من البين ، لاستلزامها التدافع ، فيرجع إلى عموم « الناس مسلّطون » ، مضافا إلى أصل الإباحة.
وما قيل : يعارضه أصل إباحة المنع ، يدفعه ما مرّ ، من كون الأوّل مزيلا للثاني.
وعن بعضهم : وجوب ملاحظة مراتب ضرر المالك والغير ، فإن أريد به في حكم جواز التصرف وإباحته ، فيخالف كلمات الفقهاء ، ولعلّ اتفاقهم عليه ، إلّا إذا كان ضررا فاحشا يجب تحمل الضرر لدفعه على كلّ أحد ، ما لم ينجرّ إلى الحرج ، كإهلاك النفس المحترمة.
وإن أريد به في الضمان فغير بعيد ، ولعلّه مراد القائل به وعليه يحمل إطلاق قول الشهيد في موضع من الدروس ، بالضمان في تأجيج النار في ملكه على قدر الحاجة ، مع ظنّ التعدّي.
واستظهره الفاضل القمّي ورجّح أقوى الضررين مطلقا ، إلّا أنّ ترجيح جانب الغير في نفي الضرر مطلقا ، إذا كان ضرره أكثر ـ وتحميل الأقلّ كلّه على صاحب الملك ، مع كونه تصرفا في ملكه ـ ترجيح بلا مرجّح.
فما تقدّم من أنّ مقتضى العدل توزيع الأقلّ عليهما ، ونفي الزائد ، وقسمة المتساويين عليهما. فإن لم يثبت الإجماع على خلافه ، كما لعلّه الظاهر في أمثال تلك المسائل الراجعة إلى الأصول والقواعد ، ولا نصّ عليها بخصوصها ، فهو المتبع ، وإلّا فترجيح أقوى الضررين في الضمان لا يخلو عن قوة ، ولا ينبغي ترك الاحتياط ، عصمنا الله سبحانه عن الزلّة في الصراط.
[ المشرق الخامس عشر ]
[ في بيان قاعدة نفي الغرر ]
مشرق : من القواعد المسلّمة بين الفقهاء ، قاعدة نفي الغرر ، يستدلّون بها على فساد البيع الغرريّ ، بل ربما يستدلّ بها على فساد سائر المعاملات الغررية.
ولتحقيق مدرك القاعدة ومعنى الغرر وسائر ما يتعلق بها نذكر أبحاثا :
البحث الأوّل : في دليل القاعدة ومعنى الغرر المنهي عنه.
أمّا الأوّل : فالأصل فيها الخبر المشتهر بين الخاصّة والعامّة ، المرويّ عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنّه نهى عن بيع الغرر (١) ، بل قال بعض الأجلّة (٢) : إنّه المتفق عليه بين
__________________
(١) ومن طريق الخاصّة : وسائل الشيعة ١٢ : ٣٣٠ ، الباب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، الرواية ٢٢٩٦٥ ، و ١٧ : ٣٥٨ ، الباب ١٢ من أبواب عقد البيع ، الرواية ٢٢٧٤٧ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٨٣ ، الباب ٣٣ من أبواب آداب التجارة ، الرواية ١٥٣٦٣ ؛ دعائم الإسلام ٢ : ١٩ ؛ عيون أخبار الرضا ٢ : ٤٥ ، الرواية ١٦٨.
ومن طريق العامّة : ما رواه البيهقي في سننه ٥ : ٣٣٨ ؛ والترمذي في سننه ٣ : ٥٣٢ ؛ ومسلم في صحيحه ٥ : ٣ ؛ وأبو داود في سننه ٣ : ٢٥٤ ، كتاب البيوع ، الرواية ٣٣٧٦ ؛ والدار قطني في سننه ٣ : ١٥ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده ١ : ٣٠٢ ، والدارمي في سننه ٢ : ٢٥١ ؛ والنسائي في سننه ٧ : ٢٦٢ ؛ ومالك في الموطأ ٢ : ٦٦٤ ، الرواية ٧٥ ؛ وابن ماجة في سننه ٢ : ٧٣٩ ، الرواية ٢١٩٤.
(٢) لعلّه صاحب الجواهر في جواهر الكلام ٢٢ : ٣٨٦.
العلماء كافّة ، وأنت تراهم في مقامات غير عديدة يتمسّكون ويعملون به من غير نكير ، بحيث إنّه مقبول عند الكلّ (٣) فلا يقصر عن الخبر الصحيح ، بل في العوائد (٤) : أنّه أقوى منه.
ثمّ النهي ـ لتعلقه بنفس المعاملة الظاهر في المانعية ، في قبال الأمر بما يتعلّق بها الظاهر في الشرطية ـ يوجب الفساد ، على ما قررناه في محلّه ، فهو الدليل عليها.
مضافا إلى الإجماع على نفس القاعدة الظاهر من استدلال أصحابنا ـ بل الفريقين ـ بنفي الغرر على بعض شروط المعاملة كالقدرة على التسليم في البيع ونحوها ، فإنك تراها قاعدة مسلّمة عند الجميع.
وقد صرّح بخصوص الإجماع عليه بعضهم (٥) ، بل عن كلام الشهيد في شرح الإرشاد ، الإشعار بكونه من الضروريات.
وأمّا الثاني : ففي كلمات كثير من أهل اللغة والفقهاء ، تفسيره بعبارات متقاربة ومعان متوافقة.
ففي الصحاح : « الغرّة : الغفلة ، والغارّ : الغافل ». وقال : اغترّ بالشيء ، أي : خدع به. والغرر : الخطر. ونهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع الغرر ، وهو مثل بيع السمك في
__________________
(٣) فإنّ ابن إدريس الحلّي مع أنّه لم يعمل بالخبر الواحد ، قد قبل هذا الحديث وردّ روايات معتبرة أخرى لمخالفتها مع مضمون الحديث ؛ راجع السرائر ٢ : ٣٢٥.
(٤) عوائد الأيّام : ٨٥.
(٥) لعلّه ابن زهرة في كتاب غنية النزوع ١ : ٢١١.
الماء ، والطير في الهواء.
وفي القاموس (١) : غرّه غرّا وغرورا وغرّة بالكسر فهو مغرور وغرير ، خدعه وأطمعه في الباطل ، إلى أن قال : غرّر بنفسه تغريرا وتغرّة ، أي : عرّضها للهلكة.
والاسم : الغرر ، محركه.
وعن النهاية (٢) : بعد تفسير الغرّة ـ بالكسر ـ بالغفلة : أنّه نهي عن بيع الغرر ، وهو ما كان له ظاهر يغرّ المشتري وباطن مجهول. وقال الأزهريّ : بيع الغرر ما كان على غير عهدة ، ولا ثقة ، ويدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كلّ مجهول ، وقد تكرّر في الحديث.
وحكي ـ أيضا ـ عن المصباح والمغرب والأساس والمجمل والمجمع : تفسير الغرر بالخطر (٣) ، ويمثّله الأكثر ببيع السمك في الماء ، والطير في الهواء.
وفي التذكرة (٤) : أنّ أهل اللغة فسّروا بيع الغرر بهذين ، ومراده من التفسير ـ كما قيل ـ التوضيح بالمثال.
وفيها أيضا الاستدلال على اشتراط القدرة على التسليم في البيع ، وعدم صحة بيع الطير في الهواء ، للنهي عن الغرر.
وفي موضع آخر : يجب العلم بالقدرة ثمنا كان أو مثمنا ، للغرر.
وفي آخر : نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع الغرر ، كبيع عسيب الفحل وبيع ما ليس
__________________
(١) القاموس المحيط ٢ : ١٠٠.
(٢) النهاية ٣ : ٣٥٥.
(٣) المصباح المنير : ٤٤٥ ، مادّة « الغرّة » ؛ المغرب : ٣٣٨ ؛ أساس البلاغة : ٣٢٢ ، مادّة « غرر » ؛ مجمل اللغة ( لابن فارس ) : ٥٣٢ ، مادّة « غرّ » ؛ مجمع البحرين ٣ : ٤٢٣ ، مادّة « غرر » ، والحاكي هو صاحب الجواهر في الجواهر ٢٢ : ٣٨٦.
(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٨٥.
عنده وبيع الحمل في بطن أمّه ، لأنه غرر ، لعدم العلم بسلامته وصفته.
وفيها أيضا : ومن الغرر جهالة الثمن ، وتقدّم عليه الصدوق ، في معاني الأخبار : نهى صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع حبل الحبلة ومعناه ولد ذلك الجنين الذي في بطن الناقة ، وذلك غرر.
والسيد في الانتصار ، مصرّحا فيه بصحة بيع العبد الآبق مع غيره ، لخروجه عن الغرر ، وجعله مما انفردت به الإمامية ، خلافا لباقي الفقهاء ، حيث ذهبوا إلى أنه لا يجوز بيع الآبق على كلّ حال ، تعويلا على أنّه بيع غرر.
وابن ادريس في السرائر (١) ، قال بعد ذكر حلب بعض اللبن وبيعه مع ما في الضروع أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض : والأقوى عندي المنع من ذلك كلّه ، لأنّه غرر وبيع مجهول ، والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن بيع الغرر (٢).
وقال الشهيد في قواعده (٣) : يشترط كون المبيع معلوم العين والقدر والصفة ، فلو قال : بعتك عبدا من عبدين ، بطل ، لأنّه غرر.
وعنه في شرح الإرشاد : التصريح بما يعترف بذلك في مواضع منه ، وفي بعضها : الغرر احتمال مجتنب عنه في العرف ، بحيث لو ترك وبّخ عليه.
وقال المحقّق الثاني في شرح القواعد (٤) في بيان صحّة بيع الصاع من الصبرة المجهول الصيعان : وذلك لأنّ البيع أمر كلّي والأجزاء متساوية فلا غرر ، بخلاف ما لو باع النصف ، فإنّه مع الجهالة لا يعلم قدره ، فيلزم الغرر.
__________________
(١) السرائر ٢ : ٣٢٢.
(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٤٤٨ ، الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٩٦٥.
(٣) القواعد والفوائد ١ : ٢٩٤.
(٤) جامع المقاصد ٤ : ١٠٥.