المولى عبد الصاحب محمد النراقي
المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨
[ المشرق الثالث عشر ]
[ في تداخل الأسباب الشرعية ]
مشرق : اختلفوا في أنّ الأصل تداخل الأسباب الشرعية أو عدمه ، بمعنى أنّه إذا جعل الشارع أمرا واحدا مسبّبا لسببين مستقلين أو أكثر ، فهل يكتفي به مرّة عند ورود تلك الأسباب المتكثّرة دفعة أو بالتعاقب ، أم لا؟
حكى الأوّل عن جماعة (١) ، واختاره والدي العلّامة (٢) ، ونسب الثاني إلى غيرهم ، ولعلّه الأكثر (٣).
وربما فصّل بين اتحاد السببين نوعا ، كوقوع كلبين في بئر ، فالأوّل. واختلافهما بوقوع كلب وانسان فيه ، فالثاني.
وليعلم أنّ الكلام في هذا المقام ، غير البحث عن تكرر الأمر بتكرر الشرط ، فإنّ
__________________
(١) منهم : المحقق الخوانساري في المشارق : ٦١.
(٢) مستند الشيعة ١ : ١١٠ ، الفرع العاشر من فروعات الوضوء.
(٣) العلّامة في قواعد الأحكام ١ : ٣ ؛ وتحرير الأحكام ١ : ١٢ ؛ وإرشاد الأذهان ١١ : ٢٢ ؛ ابن فهد في الموجز ( الرسائل العشر ) : ٥٤ ؛ المحقق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٨٧ ؛ الشهيد الثاني في روض الجنان : ١٨ ؛ الفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ١٢.
الكلام ثمة في أمر لفظيّ هو اقتضاء القضية الشرطية استمرار السببية وعدمه ، والحقّ فيه اقتضاؤها الاستمرار ، إذا كانت الأدوات مما يقتضي العموم والدوام ، نحو مهما وأنّى وحيثما وكيفما وأشباهها ، وعدمه إذا كانت من أداة الإهمال نحو إن ولو وإذا وما في معناه من الأسماء المتضمّنة لمعنى الشرط ، نحو من وما وغيرهما.
وأما هنا ، ففيما علم استمرار السببية إن كان واحدا ، وتعدّد السبب إن كان مختلفا.
وكذا الخلاف فيما لم يتخلّل المسبّب بين السببين ، وإلّا فعدم التداخل اتفاقيّ ، كما إذا وقع الكلب في البئر ، فنزح ، ثم وقع فيه ثانيا.
وكذا الظاهر : اختصاص الخلاف بما كان المسبّب فعل المكلّف ، كالكفارات والأغسال والمنزوحات ونحوها لا من قبيل الأوصاف الشرعية ، كالزوجية والملكية والرقّية والطهارة والنجاسة وأمثالها ، فإنّه إذا حصل مثل ذلك بسبب ، يمتنع تأثير السبب اللّاحق فيه ، فإذا تملك بالبيع مثلا ، لا يملك بالصلح ثانيا ، بل يكون اللاحق لاغيا.
فالمسبّب هو الوصف عن عدمه لا عن وجوده ، فإنّ البول ينجّس الطاهر لا المتنجّس ، كما أنّ الغسل يطهر النجس لا الطاهر. فالسببية ـ حينئذ ـ يتبعه شرعا ، ولا هكذا الفعل ، كما سننبّه عليه.
وإذا علمت ذلك ، فقد استدلّ على التداخل بالأصل والبراءة عن الإتيان بفعل المسبّب ثانيا. وفيه : أنّ الأصل قد يقتضي التكرّر ، كما إذا كان وجوب المسبّب لرفع أمر واقع ، كما في المنزوحات ، على القول بكونها لتطهير البئر ، فالدليل أخصّ من المدّعى ، مع أنّ الأصل لا يقاوم الدليل ، والخصم مستظهر به.
واحتجّ الآخرون بوجوه :
الأوّل : أنّ المتبادر من السببية عدم التداخل ، واختصاص كل سبب بمسبّب لخصوص نفسه. وفيه : أنّ التبادر ـ لو سلّم ـ ففيما كان دليل السببية قضية شرطية ، والمقصود في المسألة ما يعمّ ذلك ، فقد يكون الدليل غير اللفظ ، كالإجماع ونحوه ، أو اللفظ ، وهو غير القضية الشرطية ، مع أنّ دعوى اطّراد التبادر في أمثال القضايا الشرطية ممنوع جدا ، بل لا يبعد تبادر التداخل فيما إذا كانت الأسباب مختلفة وتواردت دفعة ، كما إذا قال : إن جاء زيد فصم ، وإن جاء عمرو فصم.
نعم ، دعوى التبادر فيما إذا اتّحد السبب وتكرّر بالتعاقب ـ كما إذا قال : كلّما جاء زيد فأعطه درهما ، أو صم يوما ـ غير بعيدة.
الثاني : أنه لو تداخل السببان ، كإفطار يوم رمضان ، ومخالفة النذر في وجوب الكفارة ، فالسبب الثاني ، إمّا يوجب الكفارة التي أوجبها الأوّل بعينها ، فيلزم إيجاب الواجب ، وهو باطل ، أو لا يوجب سببا ، فهو خروج عن سببيته المعلومة ، أو يوجبان معا كفّارة واحدة ، فهو خلاف مقتضى السببية التامّة المستقلّة لكلّ منهما.
وفيه اختيار الأوّل ، ولا استحالة فيه ، فإنّ الأحكام الشرعية المسبّبة عن أسبابها ليست بمثابه المعلومات المترتبة على العلل العقلية التي يمنع تواردها على معلول واحد ، لجواز أن يكون شيء مطلوبا من جهتين متعلّقتين (١) ، كما في نذر الواجب ، أو مبغوضا كذلك ، كحرمة وطء الأجنبية في نهار رمضان ، ونجاسة دم الكلب.
الثالث : أنّ مقتضى كل سبب الإتيان بمسبّبه ، لأجل أنّه سببه ، أي : لقصده ، ولازمه عدم التداخل. وفيه منع اللازم ، لإمكان جمع القصدين في فعل واحد ، وحصول الامتثالين به ، كما في تداخل الأغسال ، وهو جائز اتفاقا.
__________________
(١) كذا.
الرابع : اتفاق الفقهاء بحيث ربما تركوا لسببه الظواهر. وفيه : منع الاتفاق على الكلّية ، وإن عملوا بمقتضى عدم التداخل في موارد كثيرة.
ومنه يظهر ضعف التمسّك باستقراء الشرعيات ، وكون المدار فيها على تعدّد المسبّبات بتعدّد الأسباب ، كما في أسباب الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والديات والحدود وغيرها.
وإذا عرفت ضعف أدلّة الطرفين ، فمقتضى النظر : أنّ مقتضى السببية ترتّب المسبّب على السبب ، فالمسبّب إن كان من الأحكام الطلبية ـ وفي حكمها ما يؤول إليها من الأحكام الوضعية ، من الشرطية والمانعية وغيرهما ـ أمكن حصول هذا المقتضى للسببين بمسبّب واحد ، ويكفى في الترتّب عليهما تعدّد الجهة ، كما في نذر الواجب ، وتداخل الغسلين لإمكان مطلوبية فعل واحد ومبغوضيته من جهتين. وكذا مانعيته أو شرطيته ، فالأصل فيه التداخل ، لإمكان الامتثال لهما بفعل واحد ، وأصالة البراءة عن الزائد ، ولا يوجب التداخل إسقاط المؤثّر عن التأثير ، فكان على خلاف الأصل ، كما توهّمه بعض الأجلّة.
وإن كان من غيرها ، فلم يكن موضوعه من فعل المكلّف ، بل من قبيل الأوصاف الشرعية ، كالملكية والزوجية والرقّية ، واشتغال الذمّة بحقّ الغير ، ونحوها مما يمتنع توارد العلل المتكثرة عليه ، ولا يتعقّل تعدّد السببية والتأثير إلّا بتعدّد الموضوع ، فالأصل فيه عدم التداخل تحقيقا لمعنى السببية المستقلّة لها ، فإن قلنا بالتداخل فيه ، كان هذا إسقاطا للمتأخّر عن التأثير ، وهو محتاج إلى دليل ، لكونه خروجا عما دلّ على سببية كلّ واحد منهما مستقلا.
[ المشرق الرابع عشر ]
[ في بيان قاعدة نفي الضرر ]
مشرق : في بيان قاعدة نفي الضرر (١) ، وهي من الأصول المهمّة الاجتهادية المعمولة بين الفقهاء ، يستدلّون بها على أحكام كثيرة ، طلبية ووضعية ، نفيا وإثباتا ، كحرمة السحر والغشّ والتدليس ، والاحتكار مع حاجة الناس ، وتفريق الأمّ عن الولد ، وثبوت خيارات الغبن والعيب والتدليس والتصرية وتبعّض الصفقة ، وشرعية التقاص ، وأمثال ذلك مما لا تحصى.
وقد كثر الكلام بين كثير من الأعلام ، في اندراج خصوص بعض الأحكام في تلك القاعدة ، وفي تعارض المضارّ ، وتعارض القاعدة مع قاعدة تسلّط الناس على أموالهم.
ونحن نبيّن أوّلا مدرك القاعدة ، ثمّ ما يصحّ الاستدلال عليه بها من الأحكام وما لا يصحّ ، ثمّ تعارض الضررين ، وتعارض قاعدة نفى الضرر لقاعدة الناس مسلطون.
__________________
(١) قد جاء هذه القاعدة في نسخة « م » بعد المشرق الرابع مع اختلاف كثير ، ونحن التزمنا بالنسخة المطبوعة وقابلناها مع نسخة « س ».
فهنا أبحاث ثلاثة :
البحث الأوّل : في مدرك القاعدة ، وبيان معناه المراد. وهو ـ بعد إجماع الأمة عليها في الجملة ، بين الخاصّة والعامّة ـ الأخبار المستفيضة ، بل عن فخر الإسلام (١) دعوى تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار.
منها : ما اشتهر عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في حكاية سمرة بن جندب ، وروى عنه بألفاظ مختلفة في أسانيد متكثرة.
ففي موثقة ابن بكير (٢) ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : « إنّ سمرة بن جندب كان له عذق (٣) في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمرّ به إلى نخلته ، ولا يستأذن ، وكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة ، فلما أبى ، جاء الأنصاري إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فشكى إليه ، فأخبر الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخبر بقول الأنصاري وما شكاه ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا أردت الدخول فاستأذن! » فأبى ، فلما أبى ، ساومه حتى بلغ من الثمن إلى ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لك بها عذق مذلّل في الجنّة » فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للأنصاري : اذهب ، فاقلعها وارم بها ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار ».
وفي رواية ابن مسكان (٤) ـ وهي قريبة من الموثقة ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر على مؤمن ».
وفي رواية الحذاء (٥) ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، مثل ذلك ، إلّا أنّه ليس فيها لفظ الضرر
__________________
(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٨.
(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٨ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٨١.
(٣) العذق : النخلة بحملها.
(٤) الفقيه ٣ : ٥٩ ، ح ٢٠٨.
(٥) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٧ ، الرواية ٣٢٢٧٩.
والضرار ، بل فيها : « أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « ما أراك إلّا مضارّا ، اذهب يا فلان ، فاقطعها واضرب بها وجهه ».
وفي أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم بقلع العذق إشكال معروف ، لأنّه خلاف ما يقتضيه القواعد ، ونفي الضرر لا يوجبه ، مع أنه لو أوجبه يتعارض الضرران ، فما وجه الترجيح؟
وذكروا في توجيهه وجوها لا يخلو عن المناقشة. وما أظنه سالما عنها أن يقال : [ دار ] الأنصاري ، وإن كانت طريق عذقه ، وله حق الاستطراق ، إلّا أنّه يحرم على ذي الحقّ تصرفا مضرّا للجار لم يكن في تركه ضرر على نفسه ، كما سننبّه عليه.
ومن الظاهر أنّ في الإعلام بالدخول ، لتوقي أهل الدار عن الأجنبي ، لا ضرر على سمرة ، ويضرّ على أهل الدار ، فلا يجوز له هذا التصرف ، وحيث أبى بعد أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا على هذا الوجه المحرّم ، فقطع عنه ما بعثه على هذا التصرف بقلع العذق وغرسه في موضع آخر ، كما يشعر به بعض الروايات ، دفعا لتضرر الأنصاري. وكيف كان ، فهذا الإشكال لا يخلّ بالاستدلال.
ومنها : ما رواه عن النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ مرسلا ـ في التذكرة (١) والنهاية الأثيرية : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».
ومنها : رواية هارون بن حمزة الغنوي (٢) ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، رجل يسمد بعيرا مريضا يباع ، فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء وأشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى أنّ البعير برئ ، فبلغ ثمنه دنانير. فقال : « لصاحب الدرهمين خمس
__________________
(١) الفقيه ٤ : ٢٤٣ و ٢٧٧ ؛ تذكرة الفقهاء ١ : ٥٢٢ ؛ النهاية لابن الأثير ٣ : ٨١.
(٢) الكافي ٥ : ٢٩٣ ، الحديث ٤ ؛ التهذيب ٧ : ٧٩ ، الحديث ٣٤١ ؛ و ٨٠ ، الحديث ٣٥١ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٢٧٥ ، الباب ٢٢ من أبواب بيع الحيوان ، الرواية ٢٣٦٥٩.
ما بلغ ، فإن قال : أريد الرأس والجلد ، فليس له ذلك هذا الضرار ، قد أعطى حقّه إذا أعطى الخمس ».
ومنها : رواية عقبة بن خالد (١) ، عن الصادق عليهالسلام : « قضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ».
ومنها : روايته الأخرى عنه عليهالسلام (٢) ، فيما قضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال في آخره : « لا ضرر ولا ضرار ».
ومنها : مكاتبة محمد بن الحسين (٣) ، وفيها فوقع عليهالسلام : « يتّقى الله عزوجل ، ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضارّ بأخيه المؤمن ».
ومنها : صحيحة البزنطي (٤) : « من أضرّ بطريق المسلمين شيئا فهو ضامن ».
ومنها : صحيحة الكناني (٥) : « من أضرّ بشيء من طريق المسلمين ، فهو له ضامن ».
__________________
(١) الكافي ٥ : ٢٨٠ ، الحديث ٤ ؛ الفقيه ٣ : ٤٥ ، الحديث ١٥٤ ؛ التهذيب ٧ : ١٦٤ ، الحديث ٧٢٧.
(٢) الكافي ٥ : ٢٦٣ ، الحديث ٦ ؛ وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٥٧.
(٣) الفقيه ٣ : ١٥٠ ، الحديث ٦٥٩ ؛ الكافي ٥ : ٢٩٣ ، الحديث ٥ ؛ التهذيب ٧ : ١٤٦ ، الحديث ٦٤٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٤١ ، الباب ٧ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٥٨.
(٤) التهذيب ٩ : ١٥٨ ، الحديث ٦٥١ ؛ وسائل الشيعة ١٩ : ٢٣٨ ، الباب ٦ من أبواب أحكام الهبات ، الرواية ٢٤٤٩٧.
(٥) الكافي ٧ : ٣٥٠ ، الحديث ٣ ؛ الفقيه ٤ : ١١٥ ، الحديث ٣٩٥ ؛ التهذيب ١٠ : ٢٣١ ، الحديث ٩١١ ، و ٢٣٠ ، الحديث ٩٠٥ ؛ وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٧ من أبواب موجبات الضمان ، الرواية ٣٥٥٤٠.
ثمّ إنّ معنى الضرر معلوم عرفا ، ويوافق المعلوم فيه ما ذكره اللغويون ، كما في الصحاح (١) ، الضرر خلاف النفع. وقد ضرّه وضارّه بمعنى. والاسم : الضرر.
وفي القاموس (٢) : ضرّ به وأضرّه وضارّه مضارة وضرارا.
وفي المصباح (٣) : الضرّ ـ بالفتح ـ مصدر ضرّه يضرّه ، من باب قتل ، إذا فعل به مكروها وأضرّ به ، يتعدّى بنفسه ثلاثيا ورباعيا. والاسم : الضرر. وقد يطلق على نقص في الأعيان. وضارّه مضارة وضرارا بمعنى ضرّه.
وفي النهاية الأثيرية (٤) : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. الضرّ : ضدّ النفع ، ـ إلى أن قال : ـ فمعنى قوله لا ضرر ، أي : لا يضرّ أخاه ، ينقصه شيئا من حقّه. والضرار : فعال من الضرّ ، أي : لا يجازيه على إضراره. والضرر : فعل الواحد ، والضرار : فعل الاثنين. والضرر : ابتداء الفعل ، والضرار : الجزاء عليه. وقيل : الضرر ما تضرّ به صاحبك ، وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع. وقيل : هما بمعنى.
والتكرار للتأكيد. انتهى.
والتباس الفرق بين الضرر والضرار والإضرار ، لا يخلّ بالمقصود في المسألة ، بل المستفاد من مجموع ذلك كون الضرر ما يقابل النفع ، فكما أنّ النفع حصول الفائدة ، فالضرر فوتها ، من نقص في المال ، عينا أو منفعة ، أو في حق انتفاع ، أو في البدن ، من مرض أو بطوئه أو ألم ، أو في العرض ، من هتك حرمة محترمة في نفسه أو عياله أو من ينتسب إليه ، بحيث كان إيذاء عليه واستخفافا له عرفا ، وأشباه ذلك.
__________________
(١) صحاح اللغة ٢ : ٧١٩.
(٢) القاموس المحيط ٢ : ٧٧.
(٣) المصباح المنير ٢ : ٣٦٠.
(٤) النهاية لابن الأثير ٣ : ٨١.
وهل يصدق على عدم حصول منفعة متوقعة ، أو على ضرر يتوقع منه منفعة أو دفع مفسدة؟
أما الأوّل : فالتحقيق أنها إن كانت من توابع الملك عادة ، كثمرة البستان وماء البئر المتجدّد ونحوهما ، فنقصها ضرر قطعا ، ويصدق عليه ، فإنّه فوات أمر موجود ، هو قابلية النفع ، ويعدّ مانعه مضارا ، سواء كان منعه بإثبات اليد على الملك ، أو إحداث حدث فيه مانع عن النفع ، كهدم بئر القنات ، أو سدّ مجراها ، أو منعه عن تعمير ملكه الدائر كإصلاح خرابه الغير المنافي لصدق كونه ذا منفعة عرفا وأما إذا لم يصدق عليه ـ لخرابه ـ كونه ذا منفعة ، كقناة بائرة ، فليس منعه عن تعميره ضررا ، لعدم كونه تفويتا للمنفعة ، كما لا يعدّ منه حبس المالك عن الانتفاع بملكه ، كحبسه عن الزرع وسكنى الدار إضرارا ، فإنّه تفويت لمنفعة المالك لا الملك.
نعم ، لو حبسه من تسقية سنبله حتى فسد ، أو ترك زرع ملكه المعدّ له ، الذي فات به استعداده الفعليّ ، فالظاهر كونه ضررا أو إتلافا ، كمنفعة الملك ، بل لا يبعد صدقه على حبسه عن ترك الزرع ، قصدا لفواته ، بل مطلقا ، إذا كان المالك قادرا وعازما عليه ، وعدم امكان الاستنابة له عند حبسه عنه ، لصدق تفويت نماء ملكه.
وبالجملة : المناط الصدق العرفيّ في تفويت نفع ملكه التابع له عادة.
ومنه يظهر أنّ نقصان القيمة السوقية ، أو ذهاب المشتري لحبسه ، أو تغرير ، أو تدليس ، ليس إضرارا من الحابس ، لعدم نقص في شيء موجود ، ولذا لا يضمنها الغاصب.
وأمّا الثاني : أي ما في مقابله نفع أو رفع ضرّ ، ففي صدق الضرر عليه وجهان ، بل قولان. والذي يشهد به الاعتبار ، أنّ العوض الذي في مقابل الضرر ، إن كان من الآثار القهرية ، كظهور الماء لحفر البئر ، وخروج السنبل لزرع البذر ، أو كان الضرر
مقدمة لتحصيله ، كالمسافرة للتجارة ونحوها ، مما يرتكبه العقلاء في معاشهم ومكاسبهم ، فلا يعدّ تلف المال أو تحمل المشاق فيه من أصله ضررا ، وخارج عن موضوعه عرفا ، وإن لم نقل بخروج العسر عن موضوعه حينئذ وبه يفترق العسر عن الضرر.
وإن كان العوض تداركا وجبرا للضرر الواقع ، فالظاهر عدم خروجه به عن موضوع الضرر ، ولو بعد درك العوض لظهور الفرق بين المنع عن الضرر وجبره ، كيف وإلّا لم يبق مورد لتحريم الإضرار عند تعلّق الضمان ، فلا تغفل.
ثم لا شك في أن قوله عليهالسلام : « لا ضرر ولا ضرار » ليس على معناه الحقيقيّ ، ضرورة وقوع الضرر فوق ما لا يحصى ، فهو مقيّد بما يرجع إلى الدين ، كما يرشد إليه قوله عليهالسلام : « في الإسلام » في بعض الروايات. وتوجيه الخبر ـ حينئذ ـ بأحد احتمالات ، قال بكلّ قائل.
أحدها : إرادة التحريم بحمل النفي على النهي أو نفي الجواز الأقرب إلى الحقيقة. قيل به لكون الخبر في مقام الحكم ، لا الإخبار عن صفة الإسلام.
وثانيها : إرادة نفي الضرر المجرّد عن التدارك الخارج به عن صدق الضرر عرفا ، تنزيلا لإلزام الشارع بتداركه منزلة وقوعه الرافع لصدق الضرر ، فالمعنى لا ضرر ، لم يلزم الشارع تداركه.
وثالثها : إرادة نفي ماهيّة الضرر في دين الإسلام ، بمعنى أنه لم يشرع فيه حكم يوجب الضرر ، فكان الإسلام ضارّا أو مضارّا. وبعبارة أخرى : نفي الحكم الشرعي الذي يوجب الضرر على العباد ، أي : يلزم من العمل به ضررهم ، سواء كان طلبيا أو وضعيا ، كما أنّ حكم الشارع بلزوم البيع مع الغبن ضرر على المغبون ، فهو منفيّ في الشريعة في حقّ الجاهل ، وأمّا العالم به ، فليس منشأ الضرر حكم الشارع.
والأوّل : فيه تجوّز أو تقدير ، لا دليل عليه. مع أنّ النهي لا يناسب قوله : « في الإسلام » المذكور في بعض الروايات ، الذي يصلح لكونه قرينة لتقييد غيره من المطلقات به ، مضافا إلى منافاته ـ سيما على النهي ـ لاستدلال الفقهاء ، بحيث يظهر منهم الاتفاق بنفي الضرر على ما يعمّ إضرار العباد بعضهم على بعض ، كعدم وجوب الحجّ مع خوف الطريق ، ونحوه.
وتوهّم تعميم التحريم بما يشمل صدقه على فعل الله سبحانه غير معقول ، سيما إذا قلنا بكون الخبر في مقام بيان الحكم لا الإخبار ، كما زعمه المتوهّم. وكذا ينافي استدلالهم به على الأحكام الوضعية المجرّدة عن الحكم التحريميّ ، كثبوت الخيار للمغبون. وتوجيه التحريم فيه بحرمة امتناع الغابن عن الردّ بعد فسخ المغبون غير صحيح ، إذ ليس هو للضرر ، بل لكونه من لوازم صحّة الفسخ ، وإلّا كان إقدام الغابن على البيع مع علمه بالتفاوت ، وعدم إعلامه المغبون الجاهل أولى بالتحريم. مع أنه لا قائل به.
وكذا الثاني ، بل هو أبعد من الأوّل ، في اشتماله على التقييد البعيد ، فالمعنى الأخير أظهر المحامل ، كما نصّ به والدي العلّامة (١) وتبعه غيره ، بل لعلّه يوافق الحقيقة. ولا تجوّز فيه أصلا ، لأنّ جعل الإسلام ظرفا للضرر المنفيّ ليس إلّا لعدم كون الإسلام مضرا ، وعدم تشريع حكم ضرريّ فيه ، فهو المتعيّن لما فيه نفي الضرر من الأخبار.
نعم ، قد يستلزم هذا المعنى الحكم التحريميّ وقد يستلزم الحكم بالضمان خاصة ، كما ستسمع. وأما سائر الأخبار ، فظاهر بعضها التحريم كالمكاتبة : « يتّقي الله ، ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضارّ بأخيه المؤمن » وبعضها تدلّ على مجرّد
__________________
(١) عوائد الأيام : ٤٩.
الضمان ، كالصحيحين الأخيرين.
البحث الثاني : في بيان موارد صحّة الاستدلال بقاعدة نفي الضرر ، من الأحكام الشرعية والوضعية ، نفيا وإثباتا.
قد علمت أنّ معنى نفي الضرر نفي الحكم الإضرارى في الإسلام ، وعدم تشريعه ، وصدق هذا المعنى المنفيّ مشروط بأمور ثلاثة :
الأوّل : أن لا يكون الحكم الإضراري مسببا عن فعله الجائز مع علمه بالضرر ، أو عن فعله المحرّم مطلقا ، إذ عليها كان الضرر بتقصيره ، لعلمه به في الأوّل ، وعصيانه في الثاني ، فلا اضطرار عليه من الشرع ابتداء ، لاستناد المعلول إلى الجزء الأخير من العلة ، وهو فعل نفسه ، فضرر المغبون مع علمه بالغبن صادر عن اختياره ، وإن كانت السببية للزوم بحكم الشارع. نعم ، مع الجهل يضعف المباشر ، ويقوّي السبب ، وكذا ضرر الجاني بالقصاص أو الدية ، والغاصب بالعوض ، مع علمها بحرمة الفعل ، عن فعله المقصّر فيه ، لا بإضرار الشارع ، فحكمه حكم الضرر السماوي. والاشتغال الفعلي بحق الغير ، الذي هو المناط في صدق الضرر ، حصل بفعله واختياره ، مع علمه به.
ومنه يظهر خروج أحكام القصاص والديات والحدود والضمانات والكفّارات وأشباهها عن قاعدة نفي الضرر ، بل يمكن إخراج الأحكام الإضرارية الجزائية عن موضوع القاعدة بالشرط الآتي أيضا ، أعني عدم كون الإضرار الحكميّ لرفع ضرر أقوى ، نظرا إلى أنّ الحكم بتلك المضار لرفع مفسدة العصيان ، أو تحقيقها الواقعة من نفسه على نفسه ، ( وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١).
الثاني : أن لا يقصد من الضرر جلب منفعة ، أو رفع مضرّة ، مساوية أو أقوى ،
__________________
(١) العنكبوت (٢٩) : ٤٠.
كما تقدّم والنفع المقصود يعمّ المنفعة الأخروية المتوقعة بمقتضى وعده سبحانه : ( مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ ) (١) منه ، بل النفع الأخرويّ أهمّ من الدنيوية ، وأجلّ وأبقى ، وببذل المال في تحصيله أحقّ وأحرى ، و ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ ) (٢) ، ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (٣) فلا يعد مثله ضررا وإتلافا للمال.
وبهذا تصدّى والدي قدسسره للتفصّي عن النقض بالتكاليف الكثيرة الضررية الثابتة في الإسلام ، كالجهاد والحجّ والزكاة والخمس والصوم وغيرها ، حيث إنّها في مقابل المثوبات الأخروية ، فلا يكون ضررا (٤).
وأورد عليه بعض أفاضل المعاصرين (٥) بأنّ المراد بالضرر المنفيّ : الضرر الدنيويّ ، لا غير. وأمّا النفع الحاصل في مقابل الضرر الدنيويّ ، فهو إنّما يوجب الأمر بالتضرّر ، لا خروجه عن كونه ضررا ، فالأمر به مختصّ ومخصّص لعموم الضرر ، لا دافع لموضوعه ، فجميع ما أثبت التكاليف الضررية مخصّص لهذه القاعدة ، كيف ولو كان الأمر كذلك ، لغت القاعدة ، لأنّ كلّ حكم شرعيّ ضرريّ لا بدّ أن يترتّب على موافقته الأجر ، فإذا فرض تدارك الضرر وخروجه بذلك من الضرر ، فلا وجه لنفيه في الإسلام. إلى أن قال بعد تخصيصه الضرر بالدنيويّ : ـ وقد رفع الشارع الحكم في موارده امتنانا ، فيكون القاعدة حاكمة على جميع العمومات المثبتة للتكليف. نعم ، لو قام دليل خاص على وجوب خصوص تكليف ضرري ، خصّص به عموم القاعدة.
__________________
(١) آل عمران (٣) : ٧٦.
(٢) البقرة (٢) : ٢٤٥.
(٣) البقرة (٢) : ٢٦١.
(٤) عوائد الأيّام : ٥٥.
(٥) هو الشيخ الأنصاري قدسسره في رسالة لا ضرر ؛ راجع المكاسب ( الطبعة الحجرية ) : ٣٧٣ ؛ وأيضا رسائل فقهية من منشورات المؤتمر المئوي للشيخ الأعظم الأنصاري : ١٢١.
أقول : لا يخفى ما فيه ، أمّا أوّلا : فلأن تخصيص الضرر بالدنيوي ، مع عموم اللفظ وصدقه على الأخرويّ لغة وعرفا ، يستدعي الدليل ، فكما يخرج الضرر المطلق عن موضوعه لداعي النفع الدنيويّ ، فلا يعدّ ضررا بعنوان الإطلاق عرفا ، كذا يخرجه عنه لداعي النفع الأخرويّ ، ولا يعدّ ضررا عرفا ، وإن صدق عليه الضرر الدنيويّ ، كما يصدق على الأوّل الضرر الأخرويّ والمطلق يتبع الغالب في صحّة النفي والإثبات في مثل ذلك.
قوله : لو كان كذلك لغت القاعدة ، فيه : أنّ مورد القاعدة لا ينحصر فيما بإزائه الأجر الأخروي ، كما في المعاملات الضررية والضمانات والغرامات ، بل غير العبادات من الواجبات.
وأمّا ثانيا : فلأنّ التكاليف الشاقّة الدينية التي عليها أساس الإسلام ، على حدّ من الكثرة ، يبعد ـ غاية البعد ـ أن يكون نسبتها إلى قاعدة نفي الضرر المسلمة على التعارض والترجيح والتخصيص ، بل يستلزم خروج أكثر أفراد العامّ ، سيما إذا قلنا بدخول التكاليف الاستحبابية الضررية التي أفضلها أحمزها في عموم النفي. وما أبعد هذا التخصيص ـ على كثرتها ـ عن دعواه ، وورود حديث نفى الضرر حاكما على عمومات التكاليف الضررية الشاقّة من غير حاجة إلى المرجّح.
وأمّا ثالثا : فلكونه خلاف ما جرت عليه طريقة الأصحاب في الاستدلال بتلك القاعدة ، فإنه لم يعهد من أحد أن تمسّك بنفي الضرر على عدم وجوب العبادة في محلّ الخلاف ، كعدم تعلّق الزكاة بالتمر والزبيب ، أو في مقدار النصاب ، أو في طهارة عرق الجنب من الحرام ، وأمثال ذلك. كما أنّك تريهم يستدلّون به على سقوط العبادة ، فيما كان الضرر بغير نفس العبادة أو جزئها الذي في مقابله ـ من حيث كونه واجبا ـ نفع أخرويّ ، كمقدّمة خارجة أو خصوصية زائدة ، في مثل
سقوط الحجّ بخوف الطريق ، والصوم بحدوث المرض ، ووجه الفرق ما ذكرنا.
وإن شئت تفصيل ذلك نقول : ربما يستصعب الأمر في جليل النظر ، بأنا نرى الشارع لم يرض لنا في بعض التكاليف بأدنى مشقّة أو ضرر ، كما في الرخصة في التيمّم بخوف طريق الوصول إلى الماء ، وسقوط الحجّ كذلك ، وإفطار المريض بأدنى مشقة أو طول برء ، والقعود والاضطجاع في الصلاة ، والرخصة في التقية بأدنى ضرر ، ويرضى بالمضارّ الكثيرة الشاقّة في مثل الزكاة والخمس ، والحجّ وصرف المال فيه ، والصوم في الصيف الحارّ ، والجهاد الذي فيه مظنّة تلف النفس ، وكفّ النفس عن المعاصي مع تزاحم دواعيها ، والتولّي عن أديان الآباء ، وإنفاق الأقارب وغير ذلك مما لا يحصى.
والبناء على التعارض والتخصيص في الثاني دون الأوّل ـ كما زعمه الفاضل المعاصر ـ مع ما فيه مما مرّ ـ لا يحسم مادة الإشكال ، ولا يظهر منه سرّ فرقهم بين القسمين ، مع أن الضرر الخارج بالتخصيص أفحش وأكثر من الثاني.
وربما تكلّف بعض الأجلّة في حلّه ، بأنّ المراد بنفي العسر والضرر ، نفي ما هو زائد على ما هو لازم طبائع التكليفات ، بالنسبة إلى طاقة أوساط الناس المبرّئين عن المرض ، والعذر الذي هو معيار مطلقات التكليف. ولا يخفى ما فيه من النظر ـ أيضا ـ من وجوه.
والذي يختلج ببالي في وجه الفرق ، هو دقيقة لطيفة يرجع إلى ما ذكرناه ، من اختلاف جهات الوجوب في قسمي التكاليف الضررية ، فإنّ الضرر إن كان نفس العبادة الموضوعة التي يستحق بها الأجر الأخرويّ ، فهو خارج عن موضوع الضرر المنفيّ ، وإن كان غيرها ، كالمقدمات الخارجة والمقارنات واللواحق الغير الموضوعة ، فداخل في عموم النفي.
وتوضيح ذلك : أنّ الواجب قسمان : ما لا يشترط فيه نية القربة ولا المباشرة ، بل المقصود منه التوصّل إلى غيره ، كردّ الوديعة ، وإنقاذ الغريق ، ومقدمات الواجب النقلية ، ونحوها. وما يشترط فيه القربة ، وهو العبادة.
أمّا الأوّل : فلا يخرج عن صدق الضرر عرفا. فينفيه القاعدة إذا كان متضمّنا للضرر ، إذ ليس له بما هو واجب عوض مقدّر وأجر مقرّر ، إذ الثواب فيه في مقابل القربة ، وهي غير واجبة على الفرض ، ووجوبه لأمر غير الثواب الأخرويّ ، وإلّا لم يحصل الغرض بأيّ وجه حصل ، مع أنّه يحصل به ، فليس تشريعه بما هو واجب معوّضا بأجر أخرويّ ، فيكون حكما ضرريا ينفيه القاعدة ، مثلا : مقدّمة الواجب ، من حيث كونها واجبة ليس في مقابلها نفع أخرويّ ، بل وجوبها للتوصّل إلى ذيها ، ولذا يحصل بدون القربة. وكذا ردّ الوديعة وإنقاذ الغريق ، حيث إنّ المقصود من وجوبها وصول الوديعة إلى المالك ونجاة الغريق ، فلا يعصى بفعلهما على غير جهة القربة ، وإن لم يكن له أجر أخرويّ. فهما بما هما واجبان ، ليس في مقابلهما نفع أخرويّ.
فإن قلت : تركه حرام يوجب العذاب ، ودفع العذاب ـ أيضا ـ منفعة يقابل الضرر ، كجلب النفع ، فيخرج الموضوع عن صدق الضرر.
قلت : حرمة الترك فرع وجوب الفعل ، وحيث إنّه منفيّ ، لكونه حكما ضرريا ليس في مقابله ثواب ، كما عرفت ـ فلا عذاب على تركه.
والحاصل : أنّ الواجبات التي لا يشترط فيها القربة يسقط وجوبها إذا تضمّنت الضرر ، كمقدمة الواجب ونحوها ، ولازمه سقوط وجوب ذي المقدمة أيضا ، إذا انحصرت مقدّميته في الضرريه ، لاستلزام جواز تركها جواز تركه ، وإلّا لما استلزم وجوبه وجوبها.
نعم ، لو أتى بها المكلّف إقداما على ضرر نفسه ، ولو محرما ، تعلق الوجوب بذي المقدمة ، لعدم توقفه ـ حينئذ ـ عليها.
فإن قلت : المقدّمة وسيلة إلى ذيها ، وهي إلى النفع الأخروي ، فهي موصلة إليه ، ولو بالواسطة. قلت : المقدمة موصلة إلى التمكن من ذيها ، لا إلى نفس فعله ، والثواب للفعل لا للتمكن عنه ، ومجرد التمكن ليس نفعا مانعا عن صدق الضرر ، وتحمل العقلاء مثله في معاشراتهم ، كضرر المسافرة للتمكن من التجارة ، إنّما يخرج به من موضوع الضرر إذا قصد بها التجارة وفعلها ، وما نحن فيه ليس كذلك ، لعدم اشتراط قصد الواجب من المقدّمة ، ولا فعلية الواجب بعد الوصول اليه في وجوبها ، فليس لها ثواب مقرّر إلّا بنيّة القربة ، وهي بهذا الوجه ليست بواجبة ، بل حكمها حكم سائر المستحبات الضررية التي لا تقتضي نفيها قاعدة الضرر ، كما سنشير إليه.
وأمّا الثاني : أي : العبادة الواجبة الضررية ، المشروطة بالقربة ، فلاستتباع فعله الثواب يخرج عن موضوع الضرر ، وإن تضمّن الضرر الدنيويّ ، والله سبحانه رضي به لعباده ، لما في مقابله من المثوبات ، فلا يكون وجوبه حكما ضرريا كما عرفت ، بل لله المنّة عليهم ، بما أعدّ لهم مما تقرّ به أعينهم من النعيم الباقي.
نعم ، إذا اقترنه أمر يتضرر به ، من وصف أو حال خارج عن ماهيّة العبادة الواجبة وأوصافها اللازمة ، كمرض أو مشقّة شديدة ، عرضية أو نفسية ، صحّ الاستدلال بقاعدة الضرر على سقوط أصل الواجب المقترن بتلك الحالة ، التي ليس في مقابلها ثواب مقرّر ، لأنّ وجوب العبادة بعين ما تقدّم في المقدّمة التوصّلية الضررية ، وترتّب الثواب على تحمل هذا الضرر ، زائدا على ثواب أصل العبادة ، إنما هو على تقدير قصد القربة به ، وهو غير واجب ، وإنما الواجب قصدها في نفس العبادة بما
هي واجبة خاصة ، فالصوم الواجب ـ مثلا ـ له من حيث كونه واجبا ثواب مقرّر ليس لحالة المرض مدخل فيه ، فإذا اقترنه المرض ، فالضرر الزائد الحاصل لأجل المرض من الصوم ليس له أجر مقرّر مقتض لوجوب تحمّله وإلّا لاشترط [ في ] تحمّله قصد القربة أيضا زائدا على القربة المشترطة في ماهيّة نفس الصوم ، مع قطع النظر عن الخصوصيات العارضة اللاحقة ، فصحّ نفي وجوب تحمل هذا الضرر المسبّب عن المرض بالقاعدة ، وبانتفائه ينتفي وجوب نفس الصوم. وهكذا الحال في الخوف للتقيّة ونحوها ، فتدبّر جيدا ، واجعلها ضابطة كلّية تقتضيها القاعدة ويوافقها عمل الفقهاء في مثل استدلالهم بنفي وجوب إخراج الزكاة عن المؤون ، دون نفي وجوب أصلها في الأجناس الخلافية ونحوه ، إلّا إذا دلّ دليل خاصّ في مورد على خلافه في كلّ من القسمين ، كما في وجوب شراء ماء الوضوء بأضعاف قيمته ، مع ما فيه من الضرر ، مع أنه لا يجب تحصيله مع خوف ضرر أقلّ في طريق الوصول إليه ، لصدق وجدان الماء في الأوّل ، فيخرجه النصّ عن القاعدة ، دون الثاني.
الثالث من شرائط صدق الحكم الإضراري : كونه بإضرار الشارع ، أو بتجويزه ضرر بعض العباد على بعض من غير جابر له. وأمّا الضرر الحاصل من غير الوجهين ، فليس عدم رفعه حكما ضرريا يقتضي القاعدة نفيه بإثبات حكم رافع له.
ولا يتوهّم أنّ تجويزه للمكلّفين عدم رفعه حكم ضرري ، لأنّ منشأ الضرر ـ حينئذ ـ ليس من جانب الشارع ، وبقاؤه ليس ضررا متجدّدا مستندا إلى الإسلام.
غاية الأمر عدم إفادته النفع له.
واذ علمت ما يصدق به الحكم الضرريّ ، نقول : كلّيات الأحكام الوجودية والعدمية التي تقتضيها قاعدة نفي الضرر ، وصحّ الاستدلال بها عليها ، خمسة
الأوّل : عدم حكم إلزاميّ يتضرّر بامتثاله المكلّف ، من غير أجر أخرويّ مقرّر له ، من وجوب ما في فعله [ ضرر ] ، أو حرمة ما في تركه ضرر ، ولا عوض ، لأنّ الضرر ـ حينئذ ـ وإن كان مستندا إلى فعله الاختياريّ ، إلّا أنّ إلزام الشارع بجعله محصورا بين ضرريّ المخالفة والامتثال ، يوجب استناد الضرر إلى الشرع.
ومن خصّ الضرر بالدنيويّ ، يلزمه عدم نفيه بقاعدة الضرر ، وهو لا يقول به ، لأنّه بفعل المكلّف نفسه ، لا من حكم الإسلام ، إلّا بتعميم الضرر بما يشمل العقوبة الأخروية ، فيجعل العذاب الأخروي ضررا ، ولا يجعل الثواب الأخروي نفعا جابرا ، وهو تحكّم ومجازفة صرفة.
وهل يشمل القاعدة نفي الطلب التنزيهيّ الضرريّ؟
فيه وجهان : من عموم النفي ، واستناد الضرر ـ حينئذ ـ إلى اختيار المكلّف ، من غير إلزام الشارع ، فلا يقع به محصورا بين ضررين ولعل الثاني أوجه.
وهل يعمّ الحكم الضرريّ المنفيّ ما صار المكلّف نفسه سببا له ، كما إذا أحدث بنفسه مرضا مضرّا لصومه ، أو عدوا في طريق حجّه؟
الظاهر : نعم ، لأنّ إيجاده السبب لا يوجب الضرر ، بل فعل الواجب بعده ، واضطراره بجعل الشارع.
الثاني : نفي حكم وضعيّ يتضرّر به ، كلزوم بيع المغبون الجاهل ونحوه.
الثالث : نفي جواز ما يتضرر به الغير ، سواء قصد به إضراره أم لا ، لأنّه حكم ضرريّ ينفيه القاعدة.
وربما يتوهّم أنّ تضمين الشارع يمنع عن صدق الضرر. وهو خطاء ، لأنّ الضمان جابر للضرر الواقع ، لا كاشف عن عدم وقوعه ، مع أنّ الجابر بذل العوض ، لا الحكم بالضمان ، فلا يكون مجرّد الحكم رافعا لكون التجويز حكما ضرريا. وأيضا