مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

والمساجد والمنابر.

وكيف كان ، لا يحصل ـ بملاحظة جميع ما ذكر ـ العلم بالاتّفاق على حرمته في مثل المراثي والفضائل وغيرهما ، إلّا إذا بلغ حدّا خرج عن هذا العنوان ، وصدق عليه اللهو المستعمل عند أهل الفسوق والطرب.

ومنه يعلم حال المنقول من الإجماع ، على تسليم حجيته أيضا ، مع أنّ نقله غير معلوم ، وعلى ثبوته فمع ما عرفت من وقوع الإجمال والخلاف في معنى الغناء ، لا يعلم مراد القائل الناقل منه ، بحيث يشمل جميع موارد الكلام. وأما الآية الأولى ، فمع تعارض الأخبار المفسّرة لها بالغناء ، مع ما روي في مجمع البيان (١) ، عن الصادق عليه‌السلام : إنّ لهو الحديث في الآية : الطعن بالحقّ ، والاستهزاء به بقوله تعالى : ( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً ) (٢) يدلّ على كون الفعل بقصد الإضلال والاتخاذ هزوا ، فلا يدلّ على حرمة ما يتّخذ لترقيق القلب ، لتذكر الجنة ، وتهييج الشوق إلى العالم الأعلى ، وتأثير الدعاء والقرآن والمناجاة في القلوب.

ولا ينافيه التفسير بالغناء ـ مطلقا ـ في الأخبار المتقدّمة ، لأنّه إمّا تفسير للمقيّد ، فلا ينافيه التقييد في الحكم أو للمجموع ، فالتقييد إمّا مأخوذ في أصل المعنى ، فيكون مطلق الغناء ما استعمل في مقام اللهو ، كما عسى يلوح من بعض الأقوال أو في المعنى المراد في الآية ، فيكون مأخوذا في الغناء المحرّم ، ويكون التفسير مخصوصا به.

مضافا إلى أنّ لهو الحديث لا يصدق لغة وعرفا على التغنّي بالقرآن والدعاء ومراثي سيّد الشهداء عليه‌السلام وأمثالها ، إذا اتّخذ للتشويق إلى الله سبحانه ، والترغيب

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ١٦٢.

(٢) لقمان (٣١) : ٦.

٢٢١

للخيرات ، والإبكاء ، لأنّ الإضافة إن كانت بمعنى من ، كما قيل ، أي : باطل الحديث ، وما يلهى عن ذكر الله تعالى ، فظاهر أن القرآن ونحوه ليس منه مطلقا ، أو بمعنى في ، أي : اللهو الواقع فيه ، أعني الغناء ، فإطلاق اللهو الذي هو بمعنى الغفلة والتشاغل عن الله سبحانه والآخرة ، على ما يوجب التذكر لهما ، مجاز قطعا. ونحوه ما إذا أريد بلهو الحديث مطلق الأفعال الملهية ، كما في تفسيره فيما رواه القمّي (١) بالغناء وشرب الخمر وجميع الملاهي.

وهذا التجوّز ليس بأدنى من تخصيص الغناء في الأخبار المفسرة ببعض أفراد ، وهو المستعمل في الباطل ، بل الترجيح للثاني ، لشيوع استعماله في زمن المعصومين ، فيما استعمله بنو أميّة وبنو العبّاس وأتباعهم وأذنابهم في مجالس الخمور والفجور ، حتى أنّ المغنّي والمغنّية كانا ظاهر الاختصاص في من اتّخذ شغله وحرفته التغنّي في أمثال تلك المحافل ، من الجواري والغلمان ، ولأنّ مدلول أكثر الأخبار المفسّرة كون الغناء فردا من لهو الحديث ، وأنّه بعض المراد ممّا قال سبحانه ، كروايات القمّي ، ومحمّد ، ومهران ، والحسن بن هارون.

وفي هذا إشعار بأنّ المراد من لهو الحديث معناه اللغوي والعرفيّ الذي فرد منه الغناء المستعمل فيه ، بل في الأخيرة زيادة إيماء به ، لظهوره في أنّ الغناء الذي أريد من لهو الحديث مجلس ، وهو ظاهر في محافل المغنّيات.

ونحوه الأوّل المفسّر بالغناء وشرب الخمر وجميع الملاهي ، الظاهر في كون الأخير من باب عطف العام على الخاصّ ، وكون الأوّلين من أفراده مع ما في رواية الوشّاء من احتمال كونها تفسيرا لمعنى الغناء ، لا بيانا لحكمه ، فلا يتناول ما لا يصدق عليه لهو الحديث عرفا. ولما في رواية أبي بصير ، في كسب المغنّيات ،

__________________

(١) التفسير القمّي ٢ : ١٦١.

٢٢٢

فقال : « التي دخل عليهنّ الرجال حرام والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس وهو قول الله عزوجل ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ) ـ الآية ـ من كونه قرينة مرجّحة للثاني ، فإنّها ظاهرة في أنّ لهو الحديث هو غناء المغنّيات التي يدخل عليهنّ الرجال » (١) لا مطلقا.

ومن هذا يظهر ضعف التمثّل بإطلاق ما في المرويّ في الكافي ، المذكور أخيرا ، على حرمة مطلق الغناء ، لكونه منزلا على ما فيه من التعليل بالآية ، حسب ما عرفته.

مضافا إلى قوة احتمال نفي إطلاقه بظهوره في بيان حكم كون المحرّم من الغناء كبيرة أوعد الله سبحانه عليها النار ، لا في بيان تحريمه. ونحوه الكلام في الرضويّ.

وأمّا الآية الثانية : فمع أنه لا يبعد كون الغناء المقصود من قول الزور على التفسير به هو الغناء بالباطل أيضا ، كما يشعر به لفظ الزور الذي هو بمعنى الكذب والباطل ، يعارض المفسّرة لها بالغناء ، مع ما تفسيرها بشهادة الزور المعتضد باشتهاره بين المفسرين ، ومع ما رواه الصدوق في معاني الأخبار (٢) عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن قول الزور ، قال : « منه قول الرجل للّذي يغنّي أحسنت » فإنّه ينافي ما دلّ على اختصاصه بالغناء ، بل فيه إشعار بكون المراد منه معناه اللغوي ، أي : الكذب والباطل الغير الصادقين على مثل القرآن والخطب والدعاء والرثاء.

وأمّا الأخبار : فالروايات المانعة عن بيع المغنّيات وشرائهنّ غير دالة على حرمة مطلق الغناء. ضرورة أن ليس مطلق بيع من يقدر على التغنّي ـ وإن علم وقوع التغنّي منه ـ حراما ، إلّا بتقييد البيع بقصد التغنّي ، استظهارا بإشعار وصف الموضوع بالغلبة ، وهو ليس دلالة وضعية ، بل مجرّد ظهور عرفيّ ، وهو ليس بأكثر من ظهور

__________________

(١) فقه القرآن ٢ : ٢٥ ، باب المكاسب المحظورة.

(٢) معاني الأخبار : ٣٤٩ ، باب المغنّي.

٢٢٣

المغنّي والمغنّية بحكم الغلبة في أزمنة الخطاب ، على ما سمعت في من يعدّ للتغنّي بالباطل من الجواري والغلمان في مجالس اللهو من الأعراس وغيرها ، بل كان تداول فيها دخول الرجال على النساء ، وتعارف فيها التكسب بها ، كما يظهر من الآثار والأخبار ، وخصوص الصحيح : « أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس ، ليست بالتي تدخل عليها الرجل » المشعر بمعهودية دخول الرجال عليهنّ.

فالكلام ظاهر في بيع من ذكر ، بقصد تغنّيه بالباطل في مجالس اللهو.

وأما سائر الأخبار الذامّة للغناء ، فغير الثلاثة الأخيرة بكثرتها ، خالية عما دلّ على الحرمة ، وأمثال ما فيها من الذم يذكر كثيرا ما في المكروهات.

وأمّا الثلاثة : فأمّا رواية يونس ، فوجه الدلالة : إمّا تكذيب الإمام عليه‌السلام نسبة الرخصة في الغناء إليه ، أو جعله الغناء من قسم الباطل ، والأوّل لا يستلزم المنع ، لاحتماله عدم الإذن ، والإجمال في الجواب لمصلحة ، ولو سلّم ، فغايته الدلالة على المنع في الجملة ، فإنّ نقيض الإيجاب الكلّي السالبة الجزئية ، والثاني غير صريح في الحرمة ، لصحّة إطلاق الباطل على مطلق الهزل ، بل اللغو.

وأما مرسلة الفقيه ، فمدلول ذيله وإن كان حرمة المطلق ، إلّا أنّ قوله عليه‌السلام قبله : « والفضائل التي ليست بغناء » الظاهر في كون الوصف سيما باعتبار تعبيره بلفظ الماضي ـ توضيحيا ، خصوصا مع عدم وجه لتخصيص التجويز بالفضائل لولاه ، قرينة على أن المراد بالغناء الذي في مقابله هو الغناء بالباطل ، لا مطلقا.

ومنه يظهر ما في رواية ابن سنان (١) ، فإنّها ظاهرة في أنّ المراد بالغناء المنهيّ عنه في القرآن ، بعض أفراده ، وهو لحون أهل الفسق والكبائر ، المتداولة في الملاهي الغير المذكّرة للآخرة ، بل المخرجة لها عن صدق التلاوة ، ويشعر به آخر الحديث ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٤.

٢٢٤

سيما بملاحظة ما ورد من استحباب الترجيع بالقرآن ، بل يدلّ عليه الأمر بالقراءة بألحان العرب ، فإنّ اللحن كما في اللغة هو التطريب والترجيع والغناء. قال في النهاية الأثيرية : اللحون والألحان جمع اللحن ، وهو التطريب وترجيع الصوت ، وتحسين القراءة والشعر ، والغناء (١).

وقال في الصحاح : ومنه الحديث « اقرءوا القرآن بلحون العرب » ، وقد لحن في القراءة ، إذا طرب وغرّد. وهو ألحن الناس ، إذا كان أحسنهم قراءة وغناء (٢).

وفيه : الغرد بالتحريك ، التطريب في الصوت والغناء (٣).

فالنهي في الرواية عن لحون أهل الفسق ، وذمّ أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانية ، تحذير عن الغناء المتداول بين أهل الطرب والفسق لا مطلقة. فالرواية أشبه بخلاف المدّعى.

فتبيّن من جميع ما ذكرناه ، أنّ القدر الثابت من تلك الأدلّة حرمة الغناء في الجملة ، وأنّه لو سلّم إطلاق بعضها ، فشيوع استعمال الغناء في الأخبار ، فيما يستعمله الفسّاق في أزمنتهم في الملاهي والتغنّي بالباطل في مجالس الفجور ، كما نبّهنا عليه ، وقال في الكفاية (٤) والمفاتيح ويشعر به بعض الصحاح ، حسب ما أشرنا إليه ، وأمثال ذلك مما يمنع التمسّك بإطلاقه.

وإنّها لو لم يكن قرينة لحمل الغناء ، ـ حيث يستعمل مطلقا ـ على المستعمل في الملاهي ، فهي مانعة لا محالة عن جريان أصل الحقيقة في الإطلاق.

__________________

(١) النهاية لابن الأثير ٤ : ٢٠٢.

(٢) صحاح اللغة ٦ : ٢١٩٣.

(٣) صحاح اللغة ٢ : ٣١٦.

(٤) كفاية الأحكام : ٨٦.

٢٢٥

نعم ، الظاهر ثبوت الحرمة من تراكم الجميع في غير الفضائل ، والقرآن ، والمراثي ، ونحوها ، مما يذكّر الآخرة ، ويرغّب في الخيرات مطلقا ، وإن لم يقترن بمحرّم خارجي ، ولم يكن تكلّما بالأكاذيب والأباطيل. وأما فيها فلا ، سيما مع معارضة أدلّة الحرمة ، مع ما رواه الحميري في قرب الإسناد ـ الذي نفى البعد في الكفاية عن إلحاقه بالصحيح ـ عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه ، قال : سألته عن الغناء ، هل يصلح بالفطر والأضحى والنوح؟ قال : « لا بأس ، ما لم يعص به » (١) وما دلّ على جوازه في بعض المستثنيات ، كما سننبّه عليه.

وأمّا الكلام في حرمة ما استثنى من الغناء ، فتفصيله : أنّ ما وقع الخلاف في استثنائه أمور :

منها : غناء المرأة في زفّ العرائس. والحقّ جوازه للأصل ، والصحيح المتقدّم في حلّية أجر المغنية التي تزفّ العرائس ، والخبرين : أحدهما عن كسب المغنّيات.

فقال : « التي يدخل عليهنّ الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ، ليس به بأس » (٢) والآخرة : « المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها » (٣).

والإيراد عليها بالمعارضة بإطلاق أدلّة الحرمة ، ونفي الملازمة بين الإباحة وثبوت الأجرة ، مدفوع ، بتخصيص الإطلاق بتلك الأخبار المشتملة على الصحيح وغيره ، والملازمة ثابتة بعدم القول بالفرق مع أنّ المنفيّ عنه البأس في الأخيرين ، نفس الكسب ، وهو عين المدّعى.

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٩٤ ، ح ١١٥٨.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٨ ، الحديث ١٠٢٤ ؛ وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٠ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢١٤٤.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٥٧ ، الحديث ١٠٢٣ : وسائل الشيعة : نفس الموضع.

٢٢٦

هل يتعدّى الحكم إلى المغنّي؟ الظاهر لا ، كما هو ظاهر كلمات المجوزين ، لاختصاص أدلّة الاستثناء بالمغنّية. والتمسّك بعموم العلّة في الصحيح مخدوش ، باختصاصها بالمرأة المسؤول عنها وإلّا جاء (١) تفصيل الحلّ والحرمة في الرجل أيضا في عدم دخوله على الرجال (٢) دخولهم (٣) عليه ، وهو كما ترى.

ومنه يظهر اختصاص الحكم بالزفاف أيضا ، كما هو ظاهرهم ، نظرا إلى ظهور العلّة في أفراد المسؤول عنها ، التي هي من تزفّ العرائس ، فمفادها تقسيم من يزفّ إلى من يدخل عليها الرجال ومن لم يدخل ، بل الظاهر الإجماع على الحرمة في غير الأعراس.

ومنها : الحداء ، وهو سوق الإبل بالغناء ، واشتهر استثناؤه ، إلّا أنّي لم أقف على دليل دلّ عليه ، سوى الخبر العامّي (٤) المرسل ، وهو غير صالح للحجّية ، فلا موجب للخروج عن الإطلاق في حرمته ، وفاقا لصريح جماعة.

ومنها : الغناء في مراثي سيد الشهداء ، وغيره من الحجج عليهم‌السلام وأولادهم ، وأصحابهم والحقّ فيه الإباحة ، ما لم يخرج عن حدّ الرثاء ، وصدق المرثية ، وقصد الحزن والبكاء ، والتحزين والإبكاء ، بوقوعه في الملاهي ، والإفراط في الترجيع ، حدّا يخرج عن الإعانة على البكاء ، وصدق الرثاء للأصل وقصور أدلّة الحرمة عن الإطلاق الشامل له ، حسب ما مرّ مع معارضتها للمرويّ في قرب الإسناد (٥) ومرسلة

__________________

(١) كذا في النسخة المطبوعة وفي نسخة « م » : « والأخبار » بدل « وإلّا جاء ».

(٢) النساء ( خ ).

(٣) ودخولهنّ ( خ ).

(٤) عوالي اللآلي ١ : ٢٦١ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٢١٥ ، الباب ٧٨ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ١٥١٥٩.

(٥) قرب الإسناد : ١٢١ ؛ وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٢ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢١٤٨.

٢٢٧

الفقيه (١) ، مضافا إلى كونه إعانة على البرّ ، ورجحانها ثابت بالكتاب والسنة.

والاعتراض عليه أوّلا : بمنع كون الغناء معينا على البكاء ، وإن سلّم إعانة الصوت عليه ، ولو لاشتماله عليه ، لكونه غير الغناء.

وثانيا : لو سلّم فكونه على البكاء على شخص معيّن غير مسلّم ، وإنّما هو لأجل تذكر أحواله ، ولا دخل للغناء فيه.

وثالثا : لو سلّم ، فعموم رجحان الإعانة على البرّ ـ ولو بالحرام ـ غير ثابت.

ورابعا : لو سلّم ، فيعارض أدلّته أدلّة حرمة الغناء ، والترجيح للثانية بالأظهرية والأكثرية ، بل ربما يظهر من بعض أفاضل معاصرنا ، نفي أضل التعارض ، وبقاء دليل الحرمة سالما عما يعارضه ، قائلا بعدم وقوع المعارضة في أمثال تلك العنوانات المختلفة ، ولذا لا يتعارض ما دلّ على استحباب قضاء حاجة المؤمن ، لما دلّ على حرمة الزنا واللواط ، إذا طلبه المزني بها.

مدفوع ، أمّا الأوّل : فلمخالفته الوجدان ، وظهور الفرق في الإبكاء بين الأصوات والألحان. ووجه ما أشرنا إليه من أنّ الغناء في مثل ذلك يثير حزنا ، إذا أضاءت أثره إلى الدماغ ، يدمع العين ، ويحصل البكاء ، وإذا أضاءت الى الروح ، يتموّج ويظهر منه الصياح والاضطراب. فالغناء له مدخل في البكاء ، وهو كاف في صدق الإعانة عليه ، وإن لم يكن سببا تامّا.

ومنه يظهر ما في الثاني : فإن تذكر الشخص الخاصّ ، وإن لم يكن لأجل الغناء ، ولكن كونه تذكرة موجبا للبكاء ، قد يحصل بإعانة الغناء المرقّق للقلب ، المهيّج للحزن على من يرثى عليه.

وأمّا الثالث : فرجحان الإعانة على البرّ أمر معلوم الإجماع والكتاب والسنة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٢ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢١٥٠.

٢٢٨

عموما وخصوصا ، في المقام ، بما ورد في متظافرة الأخبار ، من استحباب البكاء والإبكاء على الحسين عليه‌السلام ، غاية الأمر ، يعارض دليله دليل الحرمة ، حيث وقع معينا ، فيرجع إلى الراجح.

وأمّا الرابع : فقد عرفت منع وجود دليل على عموم الحرمة الشامل لمحلّ البحث ، فضلا عن الأظهرية والأكثرية بالنسبة إلى ما استفاض من استحباب الإعانة على البرّ ، عموما وخصوصا.

وأما ما قاله الفاضل المعاصر ، فهو من الغرائب. والتمثيل بما ذكره غير صحيح.

بيان ذلك : أنّ اختلاف العنوان في الأمر والنهي ، لا يرفع التعارض ، إلّا إذا كان الرجحان توصليا تبعيّا ، من باب المقدمة لواجب أو مندوب ، فهو لا يعارض الحرمة الأصلية ، كما في العبور عن ملك الغير إلى المسجد.

ووجهه : أنّ رجحان المقدّمة من باب التوقف العقلي للمأمور به بحكم العقل ، وهو يكون حيث لم يكن المقدّمة مع إمكان حصول الغرض لغيرها ، لعدم الدليل ـ حينئذ ـ على رجحانها. وأمّا إذا كان الحكمان أصليين فالتعارض حاصل في مورد التخالف ، وإن اختلف العنوان ، لعدم إمكان الجمع بين الامتثالين.

والتعارض بالعموم من وجه ، كلّه من هذا الباب ، سواء كان مورد التعارض فردا لموضع كلّ من الدليلين المتعارضين ، أو لأحدهما ولازما للآخر ، كالأمر بالذهاب إلى المسجد ، والنهي عن التصرف في ملك الغير.

نعم ، إذا كان إطلاق الأمر منساقا لبيان حكم آخر ، تقدّم جانب الحرمة ، كالأمر بالمسافرة ، والنهي عن ركوب الدابّة المغصوبة ، والأمر بالإفطار ، والنهي عن أكل المتنجّس أو مال الغير ، فلا تعارض ـ حينئذ ـ أيضا ـ ، لعدم انصراف إطلاق الأمر إلى محلّ النهي ، فلا يحصل امتثال الأمر بالإتيان بالمنهيّ عنه ، إلّا إذا كان المقصود

٢٢٩

من الأمر مجرّد حصول الأثر ، كالأمر بتطهير الثوب ، وإنقاذ الغريق ، فيسقط الأمر بفعل المحرّم ، لحصول الغرض ، وإن لم يترتّب عليه الثواب.

وكيف كأن ، فمن البيّن : أنّ محلّ البحث ليس من صورتي عدم التعارض ، بل هو من باب تعارض الحكمين الأصليين بالعموم من وجه ، إذ الأمر بالإعانة على البرّ ، هو الأمر بإيجاد ما توقّف عليه ، وهو في الفرض من أفراد الغناء المعين على البكاء أو الإبكاء ، فيحصل التعارض.

نعم ، لا يبعد الفرق بين الأمر بالإبكاء والإعانة ، بكون النظر في الأوّل حصول الأثر ، فلا ينصرف الإطلاق إلى خصوصيات أفراد السبب ، بخلاف الثاني ، لظهوره في كون المقصود منه الأمر بإيجاد أسباب البرّ وشرائطه ، ولا أقلّ من عدم ظهوره في غيره الكافي في صحّة التمسّك بإطلاقه.

وأمّا التنظير بالزنا ، في حصول قضاء حاجة المؤمن ، به فلا مناسبة له بالمقام ، فإنّ أصل الحاجة ـ وهي الزنا ـ محرّمة على المحتاج ، فكيف يحسن قضاؤها؟ بل يحسن من الغير الإعانة على منعها ، بخلاف البكاء.

ومنها : الغناء في قراءة القرآن ، وهو كسابقه دلّ على جوازه ما مرّ ، من الأصل ، وقصور الأدلّة المانعة من شمولها له ، مضافا إلى المعتبرة المستفيضة المتقدّمة. جملة منها المعتضدة بالأصل الآمرة بقراءة القرآن بالصوت الحسن ، الشامل للغناء ، بل هو أظهر أفراده أو بخصوص الترجيع ، كرواية أبي بصير الصحيحة (١) ، عن السرّاد ، المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه ، وفيها : « ورجّع بالقرآن صوتك ، فإنّ الله سبحانه يحبّ الصوت الحسن ، يرجّع به ترجيعا ».

والإيراد على الأوّل : بأنّ الغناء هو الترجيع ، وهو وصف عارض للصوت الحسن ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٦ ، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ، الحديث ١٣.

٢٣٠

يوجد بإيجاد مغاير لإيجاد الصوت ، فلا يدلّ الترغيب به على الترغيب به. وعلى الثاني : بمنع كون مطلق الترجيع غناء. وعليهما : بمعارضتهما للأخبار المانعة ، كخصوص رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة ، الناهية عن لحون أهل الفسوق ، الذامّة لترجيع الغناء والرهبانية في القرآن (١).

مدفوع بما في الأوّل ، من أنّ الغناء في كلام جماعة من أصحاب اللغة ، هو الصوت المشتمل على الترجيح. ولو سلّم ، فتحسين الصوت غالبا بالترجيع ، ولا أقلّ من كون المشتمل عليه من أفراده ، فالأمر بالصوت الحسن أمر بالمركّب من العارض والمعروض ، وهو ينافي حرمة العارض ، مع أنّ في بعض الأخبار الأمر بتحسين الصوت ، والترجيع من أفراده.

وبما في الثاني ، من شموله للغناء قطعا ، لو لم يتّحد معه ، وهو كاف في الاستدلال.

وبما في الثالث ، أوّلا : فيما مرّ من ضعف دلالة المعارض في مورد البحث ، بل دلالة الخبر المذكور على الترغيب بنوع منه ، فلعلّ النهي عن نوع آخر مستعمل عند أهل المعصية ، من جهة خروج القراءة به عن صدق التلاوة عرفا ، كما أشرنا إليه.

وثانيا : على تسليم دلالة العمومات المانعة من التعارض مع المجوّزة بالعموم من وجه ، فيرجع إلى الأصل المقتضي للجواز أيضا.

وموافقة الأولى للكتاب ، بضميمة الأخبار المفسّرة ، لو أغمضنا عما فيه من المناقشات السابقة ، معارضة لموافقة الثانية له ـ أيضا ـ في قوله تعالى ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (٢) بضميمة تفسيره في رواية أبي بصير : بأنّه المكث فيه ، وتحسين الصوت به.

ومنها : الغناء في سائر الفضائل ، من الخطب والمناجاة والدعاء وغيرها من الكلمات

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٤ ، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ، الحديث ٣.

(٢) المزّمّل (٧٣) : ٤.

٢٣١

الحقّة ، مما يقصد به الترغيب إلى الله تعالى ، والسوق الى الجنة ، ومذاكرة نعم الله سبحانه وفناء الدنيا وأمثال ذلك. والأوجه فيه الجواز أيضا للأصل السالم عن المعارض المعلوم ، مضافا إلى ظهور مرسلة الفقيه المتقدّمة (١) فيه بالتقريب المذكور.

تتميم : كما يحرم التغني ، يحرم استماعه اجماعا ، له ، وللمستفيضة المانعة عن بيع المغنّيات ، وشرائهن ، المحمول على قصد التغنّي به ، حسب ما مرّ.

وظاهر أنّ المقصود ـ حينئذ ـ استماع الغناء منهنّ ، لا التغنّي لأنفسهنّ ، لحصوله قبل البيع أيضا ، وخصوص رواية الطاطري (٢) المتقدّمة ، بما في آخرها من قوله عليه‌السلام : واستماعهنّ نفاق. وقريبة منها الأخرى ، ومرسلة المدني (٣) ، سئل عن الغناء ، وأنا حاضر. فقال : « لا تدخلوا بيوتا الله سبحانه معرض عن أهلها ، فإنّها ظاهرة في كون النهي باعتبار استماع الغناء ، في بيوت يتغنّى فيها.

ويؤيّده رواية عنبسة : « استماع الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب » (٤) والخبر العامّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من ملأ مسامعه من الغناء ، لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين يوم القيامة » قيل : وما الروحانيون يا رسول الله؟ فقال : « قراءة أهل الجنة » (٥).

ولا يشترط في حرمة استماع الغناء حرمته على المغنّي ، فلا يجوز استماعه من غير المكلّف ، وإن لم يكن عليه إثم ، لصدق الغناء ، فيعمّه دليله.

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٩٤ ، الحديث ١١٥٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٤ ، الباب ١٦ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢١٥٥.

(٣) نفس المصدر ١٧ : ٣٠٦ ، الباب ٩٩ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٦٠٥.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٤ ، باب الغناء ، الحديث ٢٣.

(٥) مجمع البيان ٨ : ٣١٤ ، ذيل الآية ٦ من سورة لقمان.

٢٣٢

[ المشرق العاشر ]

[ في صحة صلح الزوج عن حق رجوعه في العدّة الرجعية ]

مشرق : قد اشتهر بين جمع من أفاضل من عاصرناه ، صحّة صلح الزوج عن حق رجوعه في العدّة الرجعية ، فيصير به الطلاق بائنا. ولم أر في كتب الفقهاء من تعرّض لهذه المسألة بخصوصها ، عدا الفاضل الكامل القمّي (١) ، حيث أفتى بصحّته ، وتبعه غيره ممن جوّز. وأنكره والدي العلّامة وهو في محلّه.

ولبيان جليّة الحال ، لا بدّ من بيان حقيقة الصلح وأقسامه ، وتحقيق المناط لما صحّ فيه الصلح. فنقول : الصلح عقد دلّ على شرعيته إجماع المسلمين ، واستفاضت عليه أخبار المعصومين عليهم‌السلام ، ففي النبويّ ، والمرسل من طريق الخاصّة في الفقيه (٢) ، المنجبرين بالشهرة العظيمة ، رواية وعملا : « الصلح جائز بين المسلمين ، إلّا صلحا أحلّ حراما ، أو حرّم حلالا » ونحوهما الصحيح ، بغير استثناء (٣). وفي معناها غيرها من الصحاح وغيرها.

__________________

(١) جامع الشتات ٣ : ١٥٣.

(٢) الفقيه ٣ : ٥٢.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٤٣ ، الباب ٣ من أبواب الصلح ، الرواية ٢٤٠١١.

٢٣٣

وبيان معنى الاستثناء ، ودفع ما أورد عليه من الإشكال ، ليطلب مما حقّقناه في استثنائه في الشرط ، فلا نعيده.

ثمّ الصلح لا يتوقّف على سبق الدعوى ، ولا توقعه إجماعا منا ، وإن كان في الأصل شرّع لدفع الخصومة ، فاطّرد في غيره ، مثل المشقّة في حكمة القصر ، ونقص القيمة في الردّ بالعيب ، واستبراء الرحم للعدّة ، ونحوها ، فيحكم به في غير مورد الحكمه ، مضافا إلى الإجماع بعموم النصّ.

وما قيل : باختصاص الإطلاقات بما تحقّق فيه التنازع ، ولو متوقعا ، والتعميم بعدم القائل بالفرق غير متجه ، لأنّ معنى الصلح الواقع في إيجاب العقد ، المحمول عليه الإطلاقات ، يوافق المصطلحين ، بما تسالما واصطلحا عليه ، وهو يشمل غير صورة التشاجر والتجاذب أيضا.

وكيف كان ، فهو عقد لازم ، يشترط فيه الصيغة الخاصّة من الإيجاب والقبول اللفظيين بشرائطهما ، كسائر العقود اللازمة ، كما مضى في بعض ما تقدّم ، وإن قلنا بجواز المعاطاة في صلح المعاوضة ، على غير وجه اللزوم.

وإيراد المحقق الأردبيلي (١) في اشتراط الصيغة ، بمخالفته للأصل وظاهر الأخبار ، غير مقبول. ضرورة أن ليس المراد بالصلح فيها مجرّد التسالم على ما اتفقا عليه ، الذي هو معناه اللغويّ ، بل ما يعمّ الإنشاء العقديّ ، ولذا كان من العقود إجماعا ، فهو محمول على المعاملة المعهودة في الشرع ، فلا يصحّ التمسّك في صحّة مطلق ما صدق عليه معناه لغة بالإطلاق ، وإن صحّ ذلك بالنسبة إلى سائر الشرائط ، حسب ما تقرر فيما مضى. مضافا إلى أنّ مدلول الإطلاقات ، مجرّد الصحة ، دون اللزوم.

ثم الصلح عقد مستقلّ لا يتفرّع على غيره من العقود ، وإن أفاد فائدته ، كما هو

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٩ : ٣٣٥.

٢٣٤

المشهور ، بل عن التذكرة (١) والتحرير (٢) : الإجماع عليه ، بل من غير خلاف بيننا ، عدا المحكيّ عن الشيخ (٣) ، وفاقا له للشافعي ، من أنّه بيع ، أو اجارة ، أو هبة غير معوّضة ، أو عارية ، أو إبراء فهو الحجّة.

مضافا إلى أنّ الاستقلال مقتضى أدلّة الصلح بضميمة الأصل ، بل ظهور كثير منها فيه. نعم ، هو عقد واسع يقع في موارد أكثر العقود ، ومع ذلك متّسع باحتماله ما لا يحتمل غيره ، مما يفاد مفاده من وجوه كثيرة.

منها : أنّه يصحّ مع الإقرار والإنكار ، ففي الأوّل ظاهرا وباطنا ، وفي الثاني ظاهرا ، فيحرم على المبطل ما يدفعه إليه المحقّ ، أو بقى من ماله عنده ، ولو مقدار ما دفع إليه من العوض في المصالحة عن العين ، بفساد المعاوضة واقعا.

وإنّما يحكم بالصحّة في ظاهر الشرع ، إلّا على فرض رضى المحقّ بالصلح باطنا اجماعا في الجميع ، مضافا إلى أدلّة الصلح المعتضدة بعموم قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) في الصحّة الظاهرية ، وخصوص صحيح عمر بن يزيد (٤) ورواية علي بن حمزة (٥) في الفساد الواقعي في صورة الإنكار.

وربما يناقش تارة : في صحّته ظاهرا بأنّها غير متصوّرة ، مع القطع بكون أحدهما مبطلا ، فلا يكون الفساد الواقعيّ مشتبها ، فكيف يحكم بصحّته ظاهرا.

وأخرى : في فساده باطنا ، بأنّه إذا توجّهت الدعوى بالتهمة ، يتوجّه اليمين على المنكر ، من غير ردّ ، ولو كانت الدعوى مستندة إلى قرينة ، فصالحه على إسقاطها

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٧٧.

(٢) تحرير الأحكام ١ : ٢٢٩.

(٣) المبسوط ٢ : ٢٨٨ و ٢٨٩.

(٤) وسائل الشيعة ١٣ : ١٦٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام الصلح ، الرواية ٢٤٠١٤.

(٥) نفس المصدر : الرواية ٢٤٠١٦.

٢٣٥

بمال ، أو على قطع المنازعة ، فاليمين حقّ للمدّعي ، يصحّ الصلح لإسقاطه. ومن هذا قوّى صحّته ـ مطلقا ـ في المسالك (١) ، واحتمله في جامع المقاصد (٢).

ويندفع الأوّل : بأنّ شرعية الصلح ، أوجبت صحّته الظاهرية ، عند عدم تعيّن المبطل. والثاني : بأنّ حقّ الدعوى وحقّ اليمين ، من الحقوق الظاهرية ، فلا ينافي وقوع الصلح على إسقاطه الفساد باطنا ، ولذا لو انكشف الحال بعد الصلح بإقرار ونحوه ، يحكم بفساد الصلح ظاهرا أيضا. ولا يتوهّم ذلك في الصلح ، في صورة الإقرار ، إذا انكشف أحد العوضين مستحقا ، كما في البيع ونحوه في المفروض ، لتسليم الفساد الواقعي فيه أيضا.

نعم ، في صورة التعمّد بالدعوى الكاذبة ، كما هي الغالب في الصلح الإنكاري ، لا يحلّ التصرّف للمدّعي عند نفسه ، فيما بينه وبين الله أيضا ، وإن جرى على الصحّة في ظاهر الحال ، بخلاف صورة خروج العوض مستحقّا ، مع جهل المتعاقدين.

ولعلّ هذا هو مقصودهم في المقام من الباطن في مقابل الظاهر دون الواقع.

ومنها : أنّه يصحّ الصلح عن عين بعين أو بمنفعة أو عن منفعة كذلك ، وعن الحقوق ، كحقّ الحيازة ، وحقّ التحجير ، وحقّ الشفعة ، بحقّ مثله أو بعين أو منفعة.

كلّ ذلك بالإجماع والعمومات ، لصدق عقد الصلح على ما يفيد إنشاء ما توافقا عليه من الأمور المذكورة.

ومنها : أنّه يصحّ مع العوض ، فيكون عقد معاوضة ، وبدونه ، كما عرفت من قول الشيخ : من صحّة قيامه مقام الهبة والعارية ، لصدق معنى الصلح على المجرّد عن العوض ، حسب ما ذكر ، فيشمله العمومات.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ : ٢٦٢.

(٢) جامع المقاصد ٥ : ٤٣٧.

٢٣٦

قال بعض الأجلّة : والظاهر أن المسألة إجماعية ، ويشعر بالإجماع ما في التذكرة ، حيث قال : لو قال : صالحني بنصف دينك عليّ ، أو بنصف دارك هذا ، فيقول : صالحتك بذلك ، صحّ عندنا ، وهو قول أكثر الشافعية ، ثم قال : وإنّما يقتضي لفظ الصلح المعاوضة ، إذا كان هناك عوض ، وأمّا مع عدمه فلا. وإنّما معنى الصلح الرضا والاتفاق ، وقد يصلح من غير عوض. انتهى.

ولا ينافيه الاتفاق على بطلان الصلح المعوّض ، إذا بان أحد العوضين مستحقا الظاهر في كون العوض من أركان الصلح ، ولذا لا يفسد النكاح بفساد المهر ، نظرا إلى عدم كونه ركنا له ، إذ غايته كون العوض ركنا للصلح الواقع بقصد المعاوضة ، ولا يقتضي ذلك كونه ركنا لمطلق الصلح. وأما النكاح ، فليس المهر ركنا له مطلقا ، ولذا يصحّ بدون ذكره ، ويرجع إلى مهر المثل.

ومن هذا صلح الدين على بعضه أو العين كذلك ، ويسمّى صلح الحطيطة ، بأن يقال : صالحتك نصف ديني على أن تعطيني نصفه ، أو صالحتك داري على نصفها.

ومنها : أنّه يصحّ الصلح مع جهالة العوضين ، بلا خلاف فيه في الجملة ، بل عن المسالك (١) وغيره : الإجماع عليه لإطلاق الأدلّة ، وخصوص الصحيح ، في رجلين كان لكلّ واحد طعام عند صاحبه ، لا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ، ولي ما عندي. فقال : « لا بأس بذلك إذا تراضيا ، وطابت به أنفسهما » (٢) وفي معناه غيره.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ : ٢٦٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٥٨ ، الحديث ٢ ؛ الفقيه ٣ : ٢١ ، الحديث ٥٣ ؛ التهذيب ٦ : ٢٠٦ ، الحديث ٤٠٧ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٤٤٥ ، الباب ٥ من أبواب أحكام الصلح ، الرواية ٢٤٠١٣ ؛ وفي المصادر : « به » محذوف.

٢٣٧

واحتمال كون المراد منه الإبراء ، كما قد يناقش به عليه ، مدفوع ، بظهوره في المعاوضة الظاهرة في الصلح ، كما فهمه الأصحاب.

ومقتضى إطلاق العبائر ، كعموم الأخبار : عدم الفرق بين الجهل بالقدر والجنس والعين والدين ، بل عن التذكرة (١) : نسبة عدم اشتراط العلم بشي‌ء منهما في الصلح إلى علمائنا أجمع ، بل صرّح فيها حاكيا عليه إجماع الإمامية عدم الفرق في تعذّر العلم مطلقا ، أو في الحال لعدم مكيال أو ميزان أو نحوهما من أسباب المعرفة وعدمه.

ولا إشكال ، بل قيل : لا خلاف في الأوّل ، كما اقتضاه النصوص.

وكذا لا إشكال ظاهرا في الثاني ، لما ذكر ، كما عن الشهيدين (٢) والفاضل المقداد (٣) ، حيث تمسّكا بتعذّر العلم في الحال ، مع قضاء الضرورة والحاجة بوقوعه ، والضرر بتأخيره.

وأمّا الثالث : فقد استشكل فيه في الرياض (٤) ، من عموم الأدلّة المعتضدة بإطلاق كثير من العبائر ، ومن حصول الغرر ، مع إمكان التحرّز عنه ، ولذا قيّد الصحة في المسالك (٥) والتنقيح (٦) ، بما إذا تعذّر تحصيل العلم بالحقّ والمعرفة الكلّية ، ثمّ قدم الثاني ، ترجيحا لعموم النهي عن الغرر على أدلّة الصلح ، باعتضاده للاعتبار ، ورجحانه عند الأصحاب في كثير من المعاملات ، كالبيع والإجارة ونحوهما. ومع الإغماض عنه ، فالرجوع إلى أصل الفساد.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٧٨.

(٢) مسالك الأفهام ٤ : ٢٦٣.

(٣) التنقيح الرائع ٢ : ١٩٩.

(٤) رياض المسائل ٥ : ٤٢٥.

(٥) مسالك الأفهام ٤ : ٢٦٣.

(٦) التنقيح الرائع ٢ : ١٩٩.

٢٣٨

وأنت خبير بأن لا عموم للنهي عن الغرر ، بحيث يشمل المورد ، بل هو مختصّ بالبيع ، ونحوه الإجارة الملحقة به ، لظاهر الإجماع. مع أنّ الصحيح المتقدّم ونحوه ، يختصّ بصورة الجهل والغرر ، فيخصّص به عموم النهي لو كان. ومساس الحاجة الشامل له الصحيح بإطلاقه ، لا يمنع عن صدق الغرر.

ثم على تسليم التعارض ، فالترجيح لأدلة الصلح ، لاعتضادها بالإجماع المحكيّ في التذكرة (١) وإطلاق الأكثر.

ثم إنّ الجهل المغتفر في الصلح ، إنّما هو إذا لم يرجع إلى الواقع ، وأمّا معه وإن خلى عن الغرر ، كصلح أحد العبدين المتشابهين المتحدين في القيمة ، فهو يمنع الصحة ، لمنافاته الإنشاء التنجيزي الذي هو شرط العقود مطلقا حسب ما تقدّم في الشرط.

ومنها : أنّه يصحّ الصلح عن الحقّ إسقاطا ، كصلح حقّ الدعوى للمدّعى عليه ، وحقوق الخيار لمن عليه الخيار ، ونقلا كصلح حق التحجير ، إلّا أنّه يجب الاقتصار فيما يصحّ الصلح عنه مما يطلق عليه الحق بهما دون غيرهما.

بيان ذلك : أنّ ما يطلق عليه الحقّ على أقسام :

منها : الحقّ المالي بلا واسطة ، كحق الملك لعين أو منفعة أو دين ، أو بواسطة ، كحقّ الخيار وحقّ الشفعة وحقّ التحجير وحقّ الدعوى وأمثالها ، فإنّ متعلّق الحقّ فيها ليس نفس المال ابتداء ، بل هو التسلط على ما يوجب حصوله.

ومنها : حقّ الانتفاع لغير المال بلا واسطة ، كحقّ الزوجية وملك البضع وحقّ الجلوس للسابق في المسجد ونحوها ، أو بواسطة ، كحقّ الرجوع في الطلاق الذي هو التسلط على ما يوجب الانتفاع.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٣ : ١٧٨.

٢٣٩

وقد يطلق الحقّ على غير ذلك ـ أيضا ـ مما يؤول إلى هذا المعنى ، كحق المؤمن وحق الجار ، من التعظيم والإحسان والإجابة والإعانة.

وحيث إنّ مورد الصلح ـ كما أشرنا إليه ـ يختصّ بما يصلح للإسقاط أو النقل باختيار العبد ، بل لا معنى للصلح في غيره ، والقدر الثابت من الإجماع وغيره ، إنّ القابل لهما ما كان من الأوّلين ، أي الحقوق المالية دون غيرهما ، بل صرّح جمع من الفقهاء في وجه صحة صلح حق الشفعة بأنه من الحقوق المالية ، فيصحّ الصلح عنه وظاهر كلامهم هذا عدم صحّته في الحقوق الغير المالية. ودليل الصلح مع ما فيه من الاستثناء بقوله : « إلّا ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا » غير معلوم الشمول ولا مظنونه لأمثال ذلك التي متعلّق الصلح فيها حقيقة الحكم الشرعي ، بل الثابت من مدلوله ، صحّته فيما ثبت من الشرع صلاحيته للنقل والإسقاط ، بأن كان للمكلّف الخيرة فيهما ، لا من قبيل الأحكام الستّة الوضعية والولايات القهرية الشرعية ، فيصطلحا على عدمها. ولذا لا يصحّ صلح الوصيّ عن وصايته ، والوليّ عن ولايته ، بل لا يجوز صلح المؤمن أو الجار عن حقوقهما الثابتة لهما في الشرع ، من الإحسان والتكريم والمواساة وحسن المعاشرة.

وبالجملة : كلما يطلق عليه لفظ الحقّ ، أو أمكن التعبير عنه به ، كحقّ الصلاة في المسجد والجلوس في الأرض المباحة وأمثال ذلك من وجوه الانتفاعات ، لا يلازم صحّة الصلح عنه ، بل يجب أن يكون متعلّقة ممّا يثبت من الشرع قابليته للنقل أو الإسقاط. وعموم « كلّ صلح جائز » ، لا يدلّ على صلاحية مورد الشك لهما ، كما لا يدلّ عموم ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) على قابلية العين للتملك والتمليك ، مما يشكّ فيه ذلك. ولو أبيت عن ذلك ، فالاستثناء المتعقّب له دلّ على عدم صلاحية ما يثبت له حكم شرعيّ ـ ولو بعموم أو إطلاق لفظيّ ـ لتغييره بنقل أو إسقاط بالصلح ، فاللازم

٢٤٠