الرسائل الفقهيّة

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٥

العدد مذهبا من العامّة في ذلك الزمان (١) ، وكذا في مقام عدم جواز البناء على الظنّ كما عرفت ، بل وفي خصوص كون رؤية قبل الزوال لا تصير منشأ للصوم والفطر من الحين ، كما عرفت.

ومن المرجّحات ، ما ورد في الأخبار المتواترة من أنّ ما وافق. كما أشرت.

ومن المرجّحات ، الأصول الّتي عرفت ، وأدلّة كلّها يقينيّة أو ظنّية مسلّمة ثابتة الحجّية.

ومن المرجّحات ، كونها مشهورة بين الأصحاب (٢) ، بل لعلّه لم يوجد مخالف ، كما عرفت ، مع ما ورد من الأمر بأخذ ما اشتهر بين الأصحاب في غير واحد من الأخبار (٣) ، وهو أيضا من المسلّمات ، سيّما مع ما فيها من التعليل الظاهر.

ومن المرجّحات ، الموافقة للإجماع المنقول (٤).

ومن المرجّحات ، العدالة والأعدليّة ، مضافا إلى الأخبار الواردة في اعتبارهما (٥) وخصوصا (٦) أنّ صحاحهم في غاية الكثرة بالصحّة المتّفق عليها ، ومستند الخصم ليس فيه صحيح ، فضلا عن الأعدليّة ، فضلا عن المقابلة بالعدد.

ومن المرجّحات ، قوّة الدلالة ، بل صراحة بعضها ، وكون ما بقي قريبا من

__________________

(١) لاحظ! الحدائق الناضرة : ١٣ / ٢٧٩.

(٢) في الأصل : ( كونها مشهورا بين الأصحاب ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٤) لاحظ! منتهى المطلب : ٢ / ٥٩٢.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٦) في الأصل : ( وخصومهم ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

١٤١

القطع ، إن لم نقل قطعي ، كما عرفت.

ومن المرجّحات ، ما ورد منهم من الأخذ بمحكمات أخبارهم دون المتشابهات (١).

ومستند الخصم ، فكلّ واحد ممّا ذكر يضعّفه ، ويمنع عن الاحتجاج ، بل عرفت أنّه لا دلالة له أصلا ، لاحتمال أنّهم كانوا يخبرون بالواقع ، كما صرّح بذلك جدّي رحمه‌الله (٢) ، وعرفت الوجه ، أو أنّ المراد الغالب ، وعرفت الوجه أيضا ، أو أنّ المراد المشاركة في الجملة ، وعرفت الوجه.

وممّا ذكر ، ظهر سرّ ما قال جدّي رحمه‌الله مع غير واحد من المحقّقين من عدم الدلالة أصلا على وجوب الصوم والفطر (٣).

هذا كلّه ، مع احتمال كونه واردا على التقيّة ، لو لم نقل أنّه أقرب ، كما عرفت هذا.

هذا ، مع أنّ كثيرا من المرجّحات حجج شرعيّة بأنفسها ، ولا يكاد يوجد مسألة فقهيّة [ في ] هذه المثابة من المتانة ، كما لا يخفى على من له أدنى تأمّل.

فإن قلت : الاحتمال الأخير ـ وهو كون المراد أنّ حكمه حكم الرؤية في الليلة الماضية شرعا ـ له ظهور ، لأنّ الظاهر المشاركة في جميع الأحكام ، أو الأحكام الشائعة.

قلت : من قال بأنّ مثل ذلك مجمل لا يمكنه دعوى الظهور ، ومن قال بما ذكرت فقد عرفت أنّ الأخبار المتواترة وكلام الفقهاء أنّ الرؤية الحقيقيّة (٤) ـ على

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١١٥ الحديث ٣٣٣٥٥.

(٢) روضة المتّقين : ٣ / ٣٤٦.

(٣) لاحظ! منتهى المطلب : ٢ / ٥٩٢ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٨٢ ذيل الحديث ١٣٤٢١.

(٤) في الأصل : ( أنّ الرؤية الحقيقة ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

١٤٢

حسب ما عرفت ـ شرط ، لا الحكميّة ، بل صريح بعضها ذلك ، مثل رواية العبيدي (١) وما ماثلها. وأمّا الروايات المتواترة ، فقد عرفت دلالتها على ذلك أيضا ، وكذا الإجماع وغيره.

على أنّه يحتمل أن يكون شرطا ، فمع الاحتمال لا يمكن الاستدلال ، إذ لعلّ حكم الليلة الماضية بالنسبة إلى الصوم والفطر هو تلك الرؤية ، كما اتّفق عليه الفقهاء من دون ظهور خلاف ، بل ظهور عدم الخلاف ، كما عرفت ، واتّفقت عليه الأدلّة المذكورة الّتي لا يمكن التأمّل فيها.

فما صدر عن قليل من علماء أمثال زماننا ليس إلّا محض الغفلة ، كما ينادي بذلك كلماتهم ، فلا حظ وتأمّل.

مع [ أنّ هذا ] الاحتمال مجرّد احتمال ، بل الظاهر مرجوحيّته بالنسبة إلى الاحتمالين الآخرين ، كما لا يخفى على الفطن.

ثمَّ اعلم أنّ صاحب « الوافي » قال : يجب حمل رواية المدائني على خصوص ما بعد الزوال ، حملا للمطلق على المقيّد (٢).

فيه ، أنّ ذلك موقوف على التقاوم والتكافؤ سندا ، وقد عرفت المرجّحات للمطلق ، والمضعّفات للمقيّد ، إذ لا حدّ لها ولا إحصاء ، بل لا يبقى بعد ذلك تسامح بما ذكره.

وأمّا المتن ، فلا بدّ من التكافؤ أيضا ، بل كون المقيّد أقوى ، حتّى يقدّم على المطلق ، ومعلوم أنّ الأمر هنا بالعكس ، بل وأيّ نسبة بينهما ، لأنّ المطلق موافق للقرآن في موضعين وللفتاوي ، بل الإجماع والأخبار المتواترة ، بل وصريح

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٧٩ الحديث ١٣٤١٣ ، وقد مرّت الإشارة إليه آنفا.

(٢) الوافي : ١١ / ١٤٨ ذيل الحديث ١٠٥٨٤ ، وهو منقول بالمعنى.

١٤٣

بعضها. إلى غير ذلك ممّا ذكرنا. وأمّا المقيّد ، فمع مخالفته للجميع ، غير واضح الدلالة ، ولو سلّم أن يكون فيها دلالة ففي غاية الضعف.

ومع ذلك لو كان المراد من المطلق هو المقيّد ، لكان التقييد ب « نهار » لغوا بحسب الظاهر ، لأنّ المتعارف الرؤية بالنهار لا بالليل ، ومع ذلك كان حكمه من بديهيّات الدين في زمان النقي عليه‌السلام ، فكيف بعده بمئات [ السنين ] والنساء والأطفال كانوا يعرفون أنّ بالرؤية المتعارفة لا يمكن الإفطار من الحين ، بل لا بدّ من الإتمام إلى الليل؟!

فأيّ حاجة إلى التنبيه على مثل هذا البديهي من دون التعرّض لحال قبل الزوال (١) الّذي هو محلّ الإشكال وهو المحتاج إلى التعرّض ، ويظهر من غير واحد من الأخبار أنّه هو الّذي كان محلّ إشكالهم ، وكانوا يتعرّضون له في مقام الجواب والسؤال ، بل البديهة حاكمة بأنّه كان داخلا (٢) في الجواب على أيّ حال!

ويظهر من الكلّ غاية الظهور وجود هذا القول ـ أي كون الرؤية قبل الزوال من الليلة الماضية ـ في ذلك الزمان ، ولذا كثر التعرّض لذكره في الجواب والسؤال.

ومن العجائب ، أنّه استدلّ بصحيحة محمّد بن قيس (٣) ، ورواية إسحاق بن عمّار (٤) على مراده (٥) مخالفا لما فعله الفقهاء من زمن الشيخ إلى الآن في الاستدلال بهما أيضا على مراد الصوم ، وعرفت الوجه ، وأنّ الحقّ معهم.

__________________

(١) في الأصل : ( قبل زوال ).

(٢) في الأصل : ( داخلة ).

(٣) وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٧٨ الحديث ١٣٤١٠ ، وقد مرّت الإشارة إليها آنفا.

(٤) وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٧٨ الحديث ١٣٤١٢ ، وقد مرّت الإشارة إليها آنفا.

(٥) الحدائق الناضرة : ١٣ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

١٤٤

ونزيدك (١) ـ بالنسبة إلى رواية إسحاق ـ أنّ المعصوم عليه‌السلام صرّح في صدر الرواية أنّه إذا غمّ في تسع وعشرين لا يجوز صوم الغد ، ونهى عنه مطلقا ، وجعل جواز الصوم مقصورا ومنحصرا في الرؤية.

ومعلوم أنّ المراد من هذه الرؤية المتعارفة [ بحيث ] لا تشمل رؤية قبل الزوال أيضا ، لما عرفت مشروحا ، ولذكر « وسط النهار » ، ولذكر « فإن شهد. إلى آخره » ، على حسب ما عرفت في صحيحة ابن قيس ، فهذا يدلّ على مرادهم.

ولم يظهر من قوله عليه‌السلام : « وإذا رأيته. إلى آخره » ما يخالف ذلك ، وذلك لأنّه يحتمل احتمالات :

الأوّل : ما هو بالنظر إلى ظاهر لفظ الحديث ، وهو أنّه منع عن الصوم من تقييد وتخصيص ، ولم يظهر أنّ الراوي كان يعلم جوازه بقصد شعبان ، إلّا أنّه ما كان يعلم جوازه بقصد رمضان ، وكان سؤاله عن الثاني خاصّة ، وإلّا فهو كان عارفا بالأوّل البتّة ، إذ لا شكّ في عدم ظهور ذلك من الرواية ، لو لم نقل بظهور العدم ، لأنّ علم الراوي بجواز خصوص شعبان بلا تأمّل وعدم علمه بجواز رمضان بعيد جدّا ، بل ربّما لا يتلائمان ، لأنّ جواز شعبان يستلزم عدم جواز رمضان ، إذ مع جواز رمضان وكونه منه يكون واجبا البتّة ، إذ الوجوب لازم صوم رمضان بالضرورة من الدين ، كما أنّ الاستحباب لازم صوم شعبان ، والواجب لا يجوز تركه ، فكيف يجوز شعبان حينئذ ، سيّما وأن يكون بحيث لا تأمّل للراوي فيه ، ويكون متحيّرا في جواز صوم رمضان؟! فتأمّل جدّا.

__________________

(١) هذه الكلمة غير منقّطة وغير مشخّصة المعالم في الأصل ، فرأينا أنّ الأنسب للمعنى والأقرب لرسمها هو هذا.

١٤٥

مع أنّ الأصل العدم ، وليس ذلك من الضروريّات (١) ، سيّما في ذلك الوقت حتّى نقول أنّ المعصوم عليه‌السلام اكتفى بذلك ، كيف وصوم يوم الشكّ معركة للآراء بين المسلمين ، أنّه هل يجوز أم لا ، وعلى تقدير الجواز هل يجوز بقصد شعبان أو بقصد رمضان أو متردّدا ولا يجوز بعض منه؟!

وما ذكرنا يظهر من الأخبار أيضا ، وأنّهم يستشكلون فيسألون فربّما أجيبوا بمرّ الحقّ ، وربّما أجيبوا بالتقيّة.

وبالجملة ، الأخبار أيضا مضطربة فيما ذكرناه ، ولعلّ عدم تعرّض المعصوم عليه‌السلام للقيد بناء على ذلك ، وأنّه عليه‌السلام ما كان يرى المصلحة في التعرّض. فمع سماع الراوي النهي المطلق ، كيف يتأتّى منه الصيام؟! لأنّه فرع قصد الامتثال. ومع ذلك ، النهي في العبادة يقتضي الفساد ، فكيف يفرض المعصوم عليه‌السلام أنّه صام صوما صحيحا حتّى يقول : أتمّ الصوم؟! وكيف يقول له : لا تصم لكن أتمّه بعد ما اتّفق أنّك رأيت الهلال؟! فقبل الرؤية كيف يتحقّق الصوم؟!

وأيضا ، قوله عليه‌السلام : « فإن شهد فاقض » ظاهر في أنّه ما صام كما اقتضاه نهيه المطلق ، لأنّ القضاء (٢) تدارك ، وكونه صام بقصد رمضان لا يجمع (٣) مع نهيه قطعا ، فكيف يفرض المعصوم عليه‌السلام صومه بعد ما نهاه عن الصوم بقصد رمضان على أيّ تقدير؟! ومع ذلك كيف يصير الفاسد صحيحا بمجرّد الرؤية ، بل يصير تتمّة للصوم الصحيح ، ولا شكّ في فساده؟!

وقوله عليه‌السلام : « أتمّ الصوم » صريح في أنّه صام ، وهذا إتمام الصوم وعدم

__________________

(١) في الأصل : ( ضروريّات ).

(٢) في الأصل : ( لأنّه القضاء ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : ( لا بجميع ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

١٤٦

قطعه ، لا أنّه إنشاؤه وإحداثه (١) من أوّل الأمر ، فبعد قوله عليه‌السلام إن كنت صمت ، قبله لا بدّ منه قطعا ، ولا شكّ في أنّ المراد : إن كنت صمت على نهج الشرع ، لما عرفت ، والصوم على نهج الشرع لا يتصوّر مع النهي المطلق ، والبناء على أنّ الراوي كان يعلم قد علمت فساده ، فينحصر عند الراوي في صوم آخر رمضان.

إلّا أن يقال : الظاهر كونه صوم يوم الشّك ، ففيه أنّه لا يتصوّر إلّا أن يكون إمّا بقصد شعبان ، وهو خلاف ظاهر الحديث على النهج الّذي قرّر ، وإن كان ظاهرا من جهة كونه صوم الثلاثين.

وعلى هذا ، إمّا أن يكون المراد الإتمام ، كما هو بحاله وبحسب ما صام من دون تغيير وتبديل ، كما هو الظاهر من قول : « فأتمّ صومه إلى الليل » ، وهذا هو المطابق لما في آخر الرواية ، وهو قوله : يعني أنّه. إلى آخره ، كما مرّ.

ولعلّه كلام الراوي ، مفهوما من المعصوم عليه‌السلام ، كما قلنا وصرّح بذلك بعض المحقّقين (٢).

ويؤيّده ، ذكر ذلك في « التهذيب » (٣) و « الاستبصار » (٤) جمعا.

ويؤيّده ـ أيضا ـ أنّهم في مقام العدول كانوا يظهرون ، وما كانوا يكتفون بالأمر بالإتمام ، كما لا يخفى على المطّلع

مع أنّ الشيخ هو الّذي استدلّ به ، فكيف يقول معناه كذا في مقام استدلاله؟! فتأمّل جدّا.

__________________

(١) في الأصل : ( واحد أنّه ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) لاحظ! مشارق الشموس في شرح الدروس : ٤٦٨.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ١٧٨ ذيل الحديث ٤٩٣.

(٤) الاستبصار : ٢ / ٧٣ ذيل الحديث ٢٢٤.

١٤٧

مع أنّه عليه‌السلام لم يقل : أتمّ صومك ، بل قال : « صومه » ، والضمير ـ الهاء ـ (١) راجع إلى شعبان أو إلى النهار ، والمفروض أنّه محسوب من شعبان ، فيصير المعنى : أتمّ صوم شعبان ، يعني على أنّه شعبان ، إذ إتمام شعبان ليس معناه النقل إلى ضدّ شعبان ، بل انقلاب شعبان إلى ضدّه ، مضافا إلى أنّ النقل خلاف الأصل.

فلعلّ المراد أنّه لا يحتاج إلى عدول (٢) إلى صوم آخر ، وهو كونه من رمضان ، أو رفع اليد عن الصوم السابق وإحداث صوم لا حق.

أو أنّ المراد على سبيل الاستحباب المؤكّد ، إذ كون المراد من وسط النهار خصوص ما قبل الزوال بحيث لا يدخل فيه شي‌ء ممّا بعد الزوال لو مدّ قبله ، فيه ما فيه.

ولعلّ المراد الرجحان ، وإظهار كون وسط النهار حاله واحدا وعلى حدّ سواء.

و [ الثاني ] : يحتمل كون المراد وجوب الإتمام بعدول القصد ، وجعل النيّة من رمضان ، ويكون المراد من وسط النهار خصوص ما قبل الزوال ، كما ذكره في « الوافي » (٣).

ومن العجائب أنّه جعل وسط النهار في صحيحة ابن قيس خصوص ما بعد الزوال (٤) ، مع أنّه عليه‌السلام تعرّض لذكر آخر النهار ، وأنّ من جملة البديهيّات عدم التفاوت فيما بعد على حسب ما مرّ ، وفي المقام جعله خصوص ما قبل.

و [ الثالث ] : يحتمل أن يكون قوله عليه‌السلام : إن كنت صمت صحيحا ـ المقدّر

__________________

(١) في الأصل : ( والضمير لها ).

(٢) في الأصل : ( لا يحتاج إلى وجدول ).

(٣) الوافي : ١١ / ١٢١.

(٤) الوافي : ١١ / ١٢٢.

١٤٨

إشارة إلى صوم يوم الثلاثين من رمضان ، على حسب ما عرفت.

ويؤيّده ، عدم لزوم خلاف الظاهر من جهة وسط النهار وغير ذلك.

ويؤيّده أيضا ، ملاحظة بعض الأخبار الأخر (١).

وكيف كان ، لم يظهر من الذيل ما يخالف الصدر ، لأنّ كلّ ذلك احتمال ، وإن لم نقل : إنّ خير الاحتمالات أوسطها.

وممّا يضعف الاحتمال الأخير ، فهم المشايخ واستدلالهم.

ويضعفه ، بل يمنع من التمسّك به ، جميع ما ذكرناه في الروايات المتضمّنة لكون الهلال الّذي يرى قبل الزوال فهو للّيلة الماضية ، فلا حظ وتأمّل.

وممّا يضعفه ويؤيّد الأوسط ، أنّ الأمر إذا ورد بعد الحظر (٢) لا يفيد سوى رفع المنع ، كما حقّق في محلّه (٣) ، فتأمّل في الدلالة.

مع أنّه على هذا يضرّك مفهوم قوله : « وإذا رأيته. إلى آخره » ، إذ مقتضاه أنّه إذا لم ير وسط النهار ، فيظهر حكمه بطريق أولى ، لأنّ وسط النهار أخفى.

وفيه ، أنّ الراوي لو كان مطّلعا على صحيحة ابن قيس وغيرها ومعتمدا عليها ، فلم يسأل عن صوم يوم الشك؟ ولم أجيب مفصّلا مشروحا؟!

وكيف يكون فهمه ممّا ذكر ومن طريق أولى على حسب ما ذكرت ، مع أنّ وسط النهار في صحيحة ابن قيس جعلته بعد الزوال خاصّة مع ذكر آخر النهار وفي هذه لم يذكر آخر النهار؟!

[ و ] على هذا ، كيف يفهم أنّ المراد من وسط في هذه الرواية خصوص قبل الزوال بدلالة صحيحة ابن قيس ، من أين إلى أين؟

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٧٨ الباب ٨ من أبواب أحكام شهر رمضان.

(٢) في الأصل : ( بعد الحصر ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

(٣) لاحظ! الوافية في أصول الفقه : ٧٤.

١٤٩

وما ذكرت من الفهم بطريق أولى لأنّه أخفى ، ففيه أنّ الراوي إن لم يكن مطّلعا على الأخبار المفصّلة ، فقد عرفت أنّه لا يفهم تفاوتا أصلا ، سيّما قبل الزوال بدقيقة بالنسبة إلى بعده بدقيقة ، وإن كان مطّلعا ، فمع ما عرفت من المفسدة يفهم عدم التفاوت ـ أيضا ـ أصلا ، كما لا يخفى.

مع أنّه على ما ذكرت كان المناسب أن يذكر حال ما لو أفطر قبل الرؤية وسط النهار.

ومن العجائب ، أنّه جعله مدلولا للرواية (١) كما هو ظاهر كلامه ، وفيه ما فيه.

تمّت الرسالة.

__________________

(١) في الأصل : ( مدلولا الرواية ).

١٥٠

رسالة

الإفادة الإجماليّة

١٥١
١٥٢

بسم الله الرحمن الرحيم

لعلّك قد قرع سمعك في تضاعيف المباحث الفقهيّة ما حكموا به من كراهة بعض العبادات ، وما يشكّك عليه من أنّ العبادة لا بدّ أن تكون راجحة ، فكيف تجامع الكراهة؟!

فلا [ بأس ] علينا أن نرسل عنان القلم لتحقيق الأمر فيه ، كي لا نخرج فيه عن الصواب ، كما اتّفق من كثير من الأصحاب.

فنقول :

إنّه لم يرد في الشرع من العبادات ما تعلّق الكراهة بذاتها من حيث هي ، حتّى ينافي رجحانها ، بل كلّ ما ورد الحكم فيه بالكراهة على عبادة فإنّما هو باعتبار الوصف ، كالصلاة في الحمّام (١) مثلا ، والصوم في السفر (٢) مثلا. إلى غير ذلك.

وحينئذ لا إشكال ، إذ ذات تلك العبادة من حيث هي يرجّح وجودها على عدمها ، لكن الكراهة إنّما هي في إيقاعها على هذا النحو الخاص.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٥ / ١٧٧ الحديثان ٦٢٦٥ و ٦٢٦٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٠٢ الباب ١٢ من أبواب من يصحّ منه الصوم.

١٥٣

فإن قلت : خصوص الفرد المكروه [ من ] العبادة وجوده راجح على عدمه أم لا؟!

قلت : قد يكون راجحا وقد لا يكون ، ولا محذور في شي‌ء منهما.

مثلا : في الصلاة في الحمّام ، يجوز أن يكون الثواب الّذي بإزاء مطلق الصلاة يزيد على الكراهة الّتي حصلت بسبب الوصف ، وحينئذ يكون وجود الصلاة المخصوصة راجحا على عدمها ، إلّا أنّه لمّا لم يكن في غير الحمّام تلك الكراهة أيضا وقع النهي التنزيهي عنها.

وأمّا الصوم في الأيّام المكروهة أو في السفر مثلا ، فالظاهر أنّه ليس براجح ، بل يجوز أن يكون مرجوحا ، إذ الواجب إنّما هو رجحان أصل العبادة ، لا خصوص الفرد ، وحينئذ يجوز أن يكون أصل الصوم له فضيلة ، لكن كونه في هذا اليوم كان مرجوحا ، لقبح يقابل تلك الفضيلة أو يساويها ، فتساقطا أو يرجّح عليها ، على وجه لا ينتهض سببا للعقاب ، فتدبّر.

فإن قلت : إذا لم يكن خصوص تلك العبادة راجحة ، فكيف يمكن نيّة التقرّب بها إلى الله تعالى ، لأنّها ممّا لا يعقل بدون رجحانها؟! وإذا لم يكن فعلها بتلك النيّة فلا تكون عبادة ، إذ لا بدّ فيها من تلك النيّة ، بل تكون من قبيل سائر الأشياء المكروهة ، ويكون التقرّب بها محرّما.

قلت : كون نيّة التقرّب لا يستلزم إلّا كون مطلق تلك العبادة راجحا ، وإن كان كونها في هذا الوقت موجبا لمرجوحيّتها ، مثل الصلاة في المكان المغصوب ، فإنّه لو لم تكن باطلة بدليل من خارج لكان الظاهر كونها صحيحة ، ولكان يكفي في نيّتها راجحيّة أصل الصلاة ، وإن كان وقوعها في ذلك المكان موجبا لعقاب ربّما كان أزيد من ثواب أصل الصلاة.

١٥٤

وحينئذ فلو صام أحد يوم عاشوراء مثلا ، طالبا لثواب الصوم متقرّبا إلى الله سبحانه ، فلعلّ له ذلك ، ولكن يقارنه ما يبطل له ذلك الثواب ويبقى بعد [ ه ] كراهة.

نعم ، لو صام معتقدا ترتّب الثواب عليه بخصوصه وطالبا له فيكون حراما ، بل ربّما كان تشريعا وكفرا.

وبالجملة ، فقد تخلّص لك بما قرّرنا أنّه يجوز في العقل أن يكون لبعض العبادات فرد تقارنه خصوصيّة تعارض ثواب تلك العبادة في ضمنه مرجوحا ، لكن لا إلى حدّ ينتهض سببا للعقاب ، ولا مجال لإنكار هذا كما لا يخفى.

وإذا جاز ذلك ، فليس في الشرع إلّا الإخبار عن مثل ذلك والتعيين ، ولا محذور فيه ، فلا إشكال من هذه الجهة ، وكذا لا إشكال من حيث إطلاق العبادة عليه ، فإنّه لا أقلّ من جوازه ، باعتبار أنّ الكلّي ـ الّذي هو فرد منه ـ عبادة شرعيّة.

وإن كنت تضايق فيه ، وتعتبر في لفظ العبادة أن يكون كلّ شي‌ء أطلقت عليه راجحا وجوده بخصوصه على عدمه ، فلا مشاحّة في الاصطلاح ، ولا جدوى في النزاع في اللفظ.

وإن أردت أنّ إثبات مثل ذلك الفرد لمّا لم يكن راجحا وجوده بخصوصه على عدمه يجب أن يكون التعبّد به محرّما ، فلا يتيسّر لك ذلك بعد ما جوّزت أن يكون أمره في نفس الأمر هو ما ذكرنا من أنّه يقارنه خصوصيّة تعارض ثواب تلك العبادة إذا أتى بها في ضمنه بحيث يجعلها مرجوحة لا إلى حدّ يوجب العقاب ، إذ بعد تسليم ذلك ـ ولا محيد عنه ـ كيف يبقى لحال كونه محرّما ، فتأمل جدّا!

١٥٥

هذا ، وبعد ما أيقنت ذلك ، ظهر لك اندفاع ما يستشكل من أنّه إذا كانت العبادة المكروهة صحيحة راجحة وجودها على عدمها ، فلم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام يتركونها وينهون عنها بالنهي التنزيهي ، على ما نقل عنهم عليهم‌السلام؟ ولم فات عنهم تلك الفضيلة وذلك الثواب؟ إذ قد عرفت أنّه فيما كان له بدل ـ كالصلاة في الحمّام ـ لا إشكال أصلا ، وفيما لا بدل له ـ كالصوم في الأيّام المكروهة ـ يجوز أن يكون خصوصه مرجوحا وإن كان أصل الصوم راجحا ، فيكون القبح المتحقّق في تلك الخصوصيّة المقارنة له أزيد من ثواب أصل الفعل ، بحيث تبقى مع تعارضها وسقوط الثاني كراهة بعد فعله.

فلذلك تركوه ونهوا عن فعله بالنهي التنزيهي ، فتأمّل.

وظهر أيضا أنّ ما ادّعاه الفاضل المحقّق الشيخ علي رحمه‌الله من أنّ الكراهة في العبادات ليست إلّا بمعنى قلّة الثواب (١) ، إذ العبادة لا تكون إلّا راجحة أو محرّمة ، فإذا كانت العبادة صحيحة مكروهة ، فليست الكراهة فيها إلّا بمعنى قلّة الثواب ، ممّا لا حاجة إلى ارتكابه ، إذا الكراهة بالمعنى المصطلح ممّا يعقل هاهنا ، فلا حاجة إلى العدول عنه بلا دليل.

على أنّه يرد عليه أنّ قلّة الثواب لو كانت هي الكراهة لزم أن يكون كثير من العبادات مكروهة ممّا لم يقل بكراهته أحد ، مثلا : الصلاة في البيت أقلّ ثوابا بالنسبة إلى الصلاة في مسجد السوق ، وفي مسجد السوق بالنسبة إلى مسجد المحلّة ، وفي مسجد المحلّة بالنسبة إلى المسجد الجامع ، وفي المسجد الجامع بالنسبة إلى مسجد الكوفة والأقصى ، وفيهما بالنسبة إلى مسجد المدينة ، وفيه بالنسبة إلى المسجد الحرام. إلى غير ذلك من العبادات المكروهة بمرتبة لا ينتهي إليها ثواب

__________________

(١) جامع المقاصد : ٢ / ٣٧ ، ولا حظ أيضا : مشارق الشموس : ٣٧٢.

١٥٦

شي‌ء من العبادات الغير المكروهة ، وهو بعيد.

وأيضا ، لو كانت الكراهة فيها بمعنى قلّة الثواب ، فلم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام يتركونها أبدا ، وينهون الناس عنها (١)؟ إذ قلّة الثواب لا تقتضي ذلك ، سيما فيما لا بدل له ، إذ فيه تفويت ثواب بلا عوض ، وهو ظاهر!

وقال الفاضل الكامل المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله في كتاب الصوم من « آيات الأحكام » في أثناء بحث الصوم في السفر :

.. ويجعل بعضهم ـ بل أكثرهم ـ الصوم الغير الواجب في السفر مكروها ، وبيّن ذلك بعضهم بأنّه أقلّ ثوابا ، إذ لا تكون العبادات إلّا راجحة أو حراما ، فلو كانت جائزة مكروهة لكان بالمعنى الّذي مرّ. وذلك غير واضح ، إذ العبادة كما يجوز كونها حراما (٢) يجوز كونها مكروهة بالمعنى المحقّق (٣) أيضا ، إلّا أن يقال باعتبار النيّة ، فيحرم لأنّه تشريع ، فتأمل. فالظاهر في الصوم سفرا إمّا التحريم مطلقا إلّا ما ثبت استثناؤه ، أو الكراهة بمعناها المتعارف في الأصول ، بمعنى أنّه لو لم يصم لكان أحسن من الصوم ـ أي عدمه خير من وجوده ـ ولا يعاقب عليه ، ولا مانع في العقل أن يقول (٤) الشارع ذلك للمكلّف ، وقد ثبت في الأخبار كثيرا النهي عنه سفرا ، ولم يثبت ما يدلّ على الرجحان بخصوصه إلّا ما روي في خبرين ضعيفين جدّا من فعل أحد الأئمة عليهم‌السلام في صوم شعبان سفرا (٥) ، وليس بصريح

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٨٦ الباب ٢٠ و ٣٩٥ الباب ٢٤ من أبواب لباس المصلّي ، و ٥ / ١٤٤ الأبواب ١٦ ـ ٢١ و ٢٣ ـ ٢٥ من أبواب مكان المصلّي ، و ١٠ / ٥٢٥ الأبواب ٧ ـ ١٠ من أبواب الصوم المحرّم والمكروه.

(٢) كذا ، وفي المصدر : ( محرّمة ).

(٣) كذا ، وفي المصدر : ( الحقيقي ).

(٤) في الأصل : ( أن يكون ) ، وما في المتن أثبتناه من المصدر.

(٥) الكافي : ٤ / ١٣٠ الحديثان ١ و ٥ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٣٦ الحديثان ٦٩٢ و ٦٩٣ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٠٣ الحديثان ١٣٢٢١ و ١٣٢٢٢.

١٥٧

أيضا في المندوب ، لاحتمال النذر ، ويحتمل اختصاصه به عليه‌السلام [ أيضا ] ، ويبعد الجمع بحمل الأكثر الأصحّ لأجل واحد أو اثنين ضعيفين غير صريحين على الكراهة بالمعنى المذكور ، إذ يبعد أن يمنع الإمام بقوله : « لا تصم » (١) ، أو : « ليس من البرّ » (٢) عن صوم مثل يوم الغدير وأوّل رجب وسائر الأيّام المتبرّكة من يريد صومه ويسأله عن فعله ، أولا بمعنى أنّ الثواب أقلّ من ثواب الصيام (٣) في الحضر ، أو بمعنى أنّ الثواب في الإفطار سفرا أكثر من الصوم فيه ، إذ ليس الفطر عبادة في السفر ـ على ما هو المشهور في غير الواجب مثل شهر رمضان ـ ويبعد أن يكون الإنسان مثابا في السفر بالإفطار بثواب أكثر من الثواب الّذي يحصل له بالصوم فيه. وأيضا ، لا معنى لصومه عليه‌السلام في السفر مع مرجوحيّته من الإفطار ، على ما دلّ عليه الخبران اللذان هما وجه حمل الأخبار الدالّة على نهي الصوم في السفر ندبا على الكراهة ، [ ف ] تأمّل ، الله يعلم. انتهى (٤).

وأنت خبير بأنّ الظاهر أنّ مراده أنّه يجوز القول بكراهة العبادة بالمعنى المتعارف ولا محذور فيه.

وقوله : إلّا أن يقال ، كأنّه إشارة إلى ما ذكرناه من ورود الإشكال باعتبار

__________________

كما تدلّ عليه صحيحة سليمان الجعفري : تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٩٨ الحديث ٩٠١ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٠٣ الحديث ١٣٢٢٠.

ولزيادة الاطّلاع راجع : الحدائق الناضرة : ١٣ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، مستند العروة الوثقى : ١ / ٤٤٠ ـ ٤٤١ ، مستمسك العروة الوثقى : ٨ / ٤١٠ ـ ٤١١.

(١) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٣٣ الحديث ٦٨٣ و ٢٣٥ الحديث ٦٩٠ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ١٩٩ الحديث ١٣٢١٢ و ٢٠٢ الحديث ١٣٢١٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٩٢ الحديث ٤١١ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٧ الحديث ٦٣٢ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ١٧٧ الحديثان ١٣١٥٠ و ١٣١٥١.

(٣) كذا ، وفي المصدر : ( من ثواب الصائم ).

(٤) زبدة البيان : ١ / ٢١١ ـ ٢١٢.

١٥٨

النيّة ، لأنّه لا يمكن نيّة التقرّب فيحرم فعلها بهذا النيّة ، فيكون تشريعا ، إذ فعل ما لم يطلبه الشارع ، بل طلب عدمه بقصد أنّه مطلوب الشارع وهو موجب التقرّب إليه تشريع ، فلا يمكن تحقّق عبادة مكروهة. وكأنّ قوله : فتأمّل ، إشارة إلى إمكان دفعه : أمّا فيما له بدل فظاهر ، وأمّا فيما لا بدل له فبما قدرنا.

هذا ، ثمَّ إنّه إشارة إلى أنّ كراهتها بالمعنى المتعارف في الصوم في السفر وأمثاله إنّما هو بمعنى أنّ فعله ـ أي فعل خصوصه ـ مرجوح ليس فيه فضيلة ، بل عدمه خير من وجوده وإن كان لمطلقه رجحان ، لا بمعنى أنّ للفعل المخصوص أيضا ثواب إلّا أنّ ثواب تركه أكثر منه.

وتمسّك في ذلك بأنّه ليس الفطر عبادة في السفر في غير الواجب ـ كما هو المشهور ـ ويبعد أن يكون الإنسان مثابا بالإفطار في السفر بثواب أكثر من ثواب الصوم فيه هذا :

فإن قلت : إنّه رحمه‌الله يجوّز القول بحرمة الصوم في السفر ، بل يقوّيه ، وحينئذ يكون للفطر فيه ثواب كثير ، على ما هو المشهور ، وكيف يقول بمثل هذا الثواب فيه ويستبعد القول بتحقّق الثواب فيه في الجملة؟!

قلت : يحتمل أن يكون بناء كلامه على عدم تسليم وجوب ترتّب الثواب على ترك كلّ محرّم ومكروه ، وقد أشرنا إلى وجه ذلك فيما علّقناه على « شرح المختصر » ، وفيه بعد ، وإلّا ظهر أنّ مراده أنّ القول بأنّ الفطر في السفر في نفسه ـ مع قطع النظر عن كونه ترك الصوم ـ عبادة ويكون الصوم عبادة أخرى لكن يكون ثواب الفطر أكثر من ثوابه ، بعيد.

وأمّا القول بأنّ فيه ثوابا باعتبار كونه ترك الصوم الحرام ، فلا بعد فيه ، وكذا لو قيل : لكراهة الصوم في السفر ، وقيل : ترتّب ثواب في الجملة على الفطر

١٥٩

باعتبار تركه ، لكن للصوم ثواب ، كأنّه لا بعد فيه أيضا عنده.

وكذا ما نقله عن المشهور من أنّ الفطر ليس عبادة في غير الواجب ، فلعلّه بناء على أنّهم لم يقولوا بحرمة الصوم المندوب في السفر ، فمن قال بها فلعلّ له أن يجعله عبادة فيه ، فتأمّل.

لكن لا يخفى أنّهم وإن لم يقولوا بحرمته لكنّهم يقولون بكراهته ، فينبغي أيضا أن يجعلوا الفطر عبادة مندوبة ، كما هو الظاهر من طريقتهم ، حيث يجعلون ترك كلّ محرّم واجبا وترك كلّ مكروه مندوبا.

والظاهر أنّ من قال بأنّ الفطر في شهر رمضان ليس عبادة أراد أنّ مجرّد الفطر إذا لم يكن قاصدا للصوم وكان فطره باعتبار حرمة الصوم في السفر أو كراهته ، حتّى أنّه لو لم يكن كذلك بل كان مندوبا أيضا لأفطره ليس عبادة ، وأمّا إذا كان فطره بذلك الاعتبار ولولاه لصام ، فلعلّه يجعله عبادة ، وهذا بخلاف شهر رمضان ، لأنّه لا بدّ أن يكون الفطر فيه سفرا ، باعتبار حرمة الصوم فيه ، ولولاها لكان صائما فيه ، لوجوبه.

والحاصل ، أنّه لمّا تعيّن الصوم فيه شرعا لغير المسافر ، فإفطار المسافر ليس إلّا لحرمة الصوم بالنسبة إليه ، فيكون عبادة ، وأمّا في غيره فلا ، إذ لعلّ إفطاره لعدم إرادته الصوم ، فافهم.

وعلى هذا ، فلو فرض أنّ أحدا أفطر فيه سفرا لا لأجل وجوبه ـ حتّى أنّه لو لم يكن واجبا عليه بل حراما أيضا لأفطره ـ فلعلّه ليس عبادة بالنسبة إليه ، بل لو لم يكن كذلك أيضا ولكن لو لم ينو الإفطار لوجوبه ، بل ذهل عن حكم الإفطار والصوم جميعا ، فكأنّه ليس عبادة بالنسبة إليه أيضا ، فتأمّل.

فإن قلت : على ما قرّرت يمكن أن يوجّه القول بكون ثواب الصوم في

١٦٠