الرسائل التسع

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

الرسائل التسع

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٩

المسألة الثالثة في وجوب المسح على الرجلين.

وهو متعيّن في الوضوء ، وقد كان في الصحابة من يقول به كابن عباس وأنس ، وفي التابعين مثل عكرمة والشعبي ، وفي الجمهور من خيّر كالحسن البصري وابن جرير الطبري والجبائي (١).

لنا النصّ والأثر والمعقول.

أمّا النصّ فوجوه : الأول قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (٢). وعطف اليدين على الوجه موجب لاشتراكهما في الغسل ، فيكون عطف الرجلين على الرأس كذلك عملا بمقتضى العطف. أو نقول لو كان المراد في الآية الغسل ، لزم إمّا الإضمار أو الإبهام ، وهما على خلاف الأصل. أمّا الملازمة ، فلأنّ العامل في نصب الرجلين إمّا ظاهر وإمّا مقدّر ، والثاني إضمار ، والظاهر إمّا لفظة : اغسلوا أو امسحوا فإذا لم يكن الإعمال لامسحوا ، لزم احتمال إعمال العاملين ، إذ ليس الأبعد أولى من الأقرب ، وهو إبهام. فثبت أنّه يلزم من إرادة الغسل أحد الأمرين ، وكلاهما منفيّ بالأصل.

النصّ الثاني ما روي عن علي [ عليه‌السلام ] وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه أنّه [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] توضّأ ومسح قدميه ونعليه (٣). وفي رواية وفيها

__________________

(١) قال الشيخ في الخلاف : الغرض في الطهارة الصغرى المسح على الرجلين وقال جميع الفقهاء :

الغرض هو الغسل وقال الحسن بن أبي الحسن البصري ومحمد بن جرير وأبو علي الجبائي بالتخيير وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين كابن عباس وعكرمة وانس وأبي العالية والشعبي القول بالمسح. الخلاف ١ ـ ٨٩ ـ ٩١.

(٢) سورة المائدة : ٦.

(٣) قال الشيخ في التهذيب : روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عباس رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه توضّأ ومسح على قدميه ونعليه. التهذيب ١ ـ ٦٣.

٨١

النعل (٤).

الثالث ما رواه زرارة عن الباقر ( عليه‌السلام ) ، إنّه وصف وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ثمّ مسح برأسه وقدميه (٥).

وأمّا الأثر فما روي عن علي ( عليه‌السلام ) إنّه قال : كتاب الله المسح ، ويأبى الناس إلّا الغسل (٦).

ومثله عن ابن عباس : أنّه مسحتان وغسلتان (٧).

والمرويّ عن أهل البيت عليهم‌السلام كثير. فمنه ما رواه أبو غالب ابن هذيل عن أبي جعفر ( عليه‌السلام ) قال : سألته عن المسح على الرجلين فقال :

هو الذي نزل به جبرئيل ( عليه‌السلام ) (٨).

وعن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام قال : يأتي على الرجل الستّون والسبعون ما قبل الله منه صلاة واحدة ، قلت : كيف ذلك؟ قال : لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحه (٩).

وروى الحلبي عنه ( عليه‌السلام ) إنّه قال : امسح على مقدّم رأسك وعلى القدمين (١٠).

__________________

(٤) في السنن للبيهقي ١ ـ ٢٨٦ : والصحيح رواية الجماعة .. رشا ( كذا ) ـ والصحيح رش ـ على الرجل وفيها النعل .. وهي كما لا يخفى تكون موضحة لمعنى الرواية على النقل الأوّل.

(٥) التهذيب ١ ـ ٥٦.

(٦) التهذيب ١ ـ ٦٣.

(٧) التهذيب ١ ـ ٦٣.

(٨) التهذيب ١ ـ ٦٣ وفيه : غالب مكان أبو غالب.

(٩) التهذيب ١ ـ ٦٥ والاستبصار ١ ـ ٦٤ والكافي ١ ـ ٣١.

(١٠) في الكافي ٣ ـ ٣٤ : علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن أبي عمير عن حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد لله عليه‌السلام قال : إن ذكرت وأنت في صلاتك أنّك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك فانصرف وأتمّ الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك ويكفيك من مسح رأسك

٨٢

وعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن المسح على القدمين ، فوضع كفّيه على الأصابع ثمّ مسحهما إلى الكعبين (١١).

وعنه ( عليه‌السلام ) إنّه قال : الوضوء المسح ولا يجب فيه إلّا ذاك (١٢).

وعنه ( عليه‌السلام ) : في كتاب الله في وضوء الفريضة المسح ، والغسل للتنظيف (١٣).

وأمّا المعقول فنقول : فريضة عامّة ، فلو تعيّن فيها الغسل لما خفي عن أعيان الصحابة ، والمخالفة ثابتة كخلاف ابن عبّاس وأنس وعليّ عليه‌السلام ، فالتعيين منتف.

لا يقال : هذه النكتة مقلوبة ، إذ لو تعيّن فيه المسح لما خالف بعض الصحابة.

قلنا : عنه جوابان : أحدهما أنّ المخالف ربما يكون قد اعتقد أنّ الغسل أسبغ وأنّ المسح يدخل فيه ، فاستعمله ندبا واستمرّ فاشتبه المقصود ، وهذا غير بعيد ، ولهذا ذهب جماعة إلى التخيير. أو يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غسل رجليه تطهيرا من نجاسة عينيّة عقيب الوضوء ، فظنّ بعض الصحابة ذلك لرفع الحدث ، وقوي ذلك في ظنّه فاجتزأ به عن السؤال ، واستمرّت حاله فيه. وليس

__________________

أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدم رأسك. ليست فيه جملة :

« وعلى القدمين » والظاهر لزوم ذكرها فلا تغفل.

(١١) التهذيب ١ ـ ٦٤ وفيه : فوضع كفّه على الأصابع ثم مسحها الى الكعبين. وكذا في الكافي ٣ ـ ٣٠.

(١٢) في التهذيب ١ ـ ٦٤ : عن أيّوب بن نوح قال : كتبت الى أبي الحسن عليه‌السلام اسأله عن المسح على القدمين فقال : الوضوء بالمسح ولا يجب فيه إلّا ذاك ومن غسل فلا بأس. قال الشيخ : يعني إذا أراد به التنظيف.

(١٣) التهذيب ١ ـ ٦٤ والاستبصار ١ ـ ٦٤.

٨٣

كذلك المسح ، لأنّه لا يحصل فيه الاحتمال المذكور. الثاني أن نسلّم تساوي الاحتمالين ، ونقول : إذا اشتبه على الصحابة ما فعله النبيّ عليه‌السلام حتّى اختلفوا فيه طائفتين ، فلأن يستمرّ الاشتباه على غيرهم أولى ، فتكون دلالة الآية حينئذ سليمة عن معارضة فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فان قيل : لا نسلّم أنّ خفض الأرجل بالعطف على الرءوس ، ولم لا يجوز أن يكون بالمجاورة وإن كان معطوفا على الأيدي ، كما قيل « جحر ضبّ خرب » وهو صفة الجحر ، وكقوله : « كبير أناس في بجاد مزمل » (١٤) وهو صفة الكبير ، فلا يلزم مساواته لحكم الرأس. سلّمنا أنّه معطوف على الرءوس فلم لا يجوز أن يراد بالمسح الغسل ، لأنّه قد يستعمل في إرادة الغسل الخفيف ، ولهذا يقال : تمسّحت للصلاة ، وكذا قيل في تفسير قوله تعالى ( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) (١٥). سلّمنا أن قراءة الخفض تقتضي المسح لكن قراءة النصب تقتضي الغسل ، فيلزم إمّا التخيير أو العمل بالغسل توفيقا بين القراءة ونقل الكيفيّة. ثمّ نقول : ما المانع أن ننزّل قراءة الخفض على مسح الخفّين وقراءة النصب على غسل الرجلين.

فإن قلت : قراءة النصب تدلّ أيضا على المسح ، لأنّ العطف قد يكون على الموضع كما يكون على اللفظ كقوله : « فلسنا بالجبال ولا الحديدا » (١٦).

__________________

(١٤) من قصيدة لإمرئ القيس وقبله : كانّ بشيرا في عرافين وبله. راجع جامع الشواهد باب العين وفيه : « أبانا » مكان « بشيرا ».

(١٥) قال الشيخ في التبيان ٨ ـ ٥١٣ : قال أبو مسلم محمّد بن بحر في تفسير « فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ » غسل أعرافها وعراقيبها إكراما لها قال : لان المسح يعبّر به عن الغسل من قولهم :

تمسّحت للصلاة والآية في سورة ص : ٣٣. والأعراف جمع العرف وهو الشعر النابت في محدّب رقبة الفرس.

(١٦) هو من أبيات لعقبة بن الحارث الأسدي يخاطب بها معاوية بن أبي سفيان لعنه الله وقبله :

« معاوي اننا بشر فأسجح » راجع جامع الشواهد باب الميم.

٨٤

قلنا : ذلك مجاز فلا يصار إليه. ولو سلّمنا أنّه حقيقة ، لكن كما يحتمل حمله على الموضع ، يحتمل حمله على اللفظ ، فليس حمله على أحدهما أولى من الآخر ، فيعود في حيّز المجمل ، فلا يكون دالّا على موضع النزاع.

فإن قال : عطفه على الموضع أولى ، لأنّ فيه إعمالا لأقرب المذكورين وهو أقيس ، كقوله تعالى ( وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً ) (١٧) ، وكقوله تعالى ( آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) (١٨) ، وكقول الشاعر : قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه (١٩).

قلنا : كما اعمل الثاني اعمل الأوّل ، فلا نسلّم أنّ إعمال الأخير أولى ، وإن اصطلح عليه نحاة البصرة ، لوجوده في شعر الفحول من العرب كقول امرئ القيس : « كفاني ولم أطلب قليل من المال » (٢٠) فاعمل الأوّل.

ثمّ نقول : عطف الرجلين على اليدين أرجح لأنّ اليدين لهما حدّ في الغسل ، فإذا عطف عليهما الرجلان كان عطفا لمحدود على محدود نظرا إلى التماثل أو نقول : لمّا كانت الاحتمالات متساوية كان الترجيح لجانب الغسل ، لأنّ يدخل فيه المسح فيكون الآتي به جامعا بين الاحتمالين.

ثمّ ما ذكرتموه من الحجج معارض بالمنقول والإجماع والمعقول. أمّا المنقول فما روي عن عائشة وأبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ويل للأعقاب من النار (٢١). وقوله عليه‌السلام وقد سئل عن الوضوء فقال : أسبغ

__________________

(١٧) سورة الجنّ : ٧.

(١٨) سورة الكهف : ٩٦.

(١٩) بعده كما في التبيان للشيخ الطوسي : وعزّة ممطول معنى غريمها. ولو أعمل الأعمل الأول لقال فوفاه غريمه.

(٢٠) قبله : ولو أنّما أسعى لأدنى معيشة. راجع جامع الشواهد باب الواو.

(٢١) أورده السيوطي في الجامع الصغير نقلا عن صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي

٨٥

الوضوء وخلّل الأصابع (٢٢). وما روي عنه عليه‌السلام إنّه توضّأ مرّة مرّة وغسل رجليه (٢٣).

وأمّا الإجماع فإنّ أئمة الجمهور الأربعة يفتون بوجوبه.

وأمّا المعقول فنقول : لو كان الفرض غير الغسل لكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعله دائما ، ولو كان كذلك لما اختصت الشيعة به ، ولكان إمّا متّفقا عليه أو مختلفا فيه اختلافا ظاهرا بين الصحابة ، لاستحالة اتّفاق الصحابة على المعاندة خصوصا فيما لا غرض فيه.

والجواب :

قوله : لا نسلّم أنّ الخفض بالعطف على الرءوس ، ولم لا يكون بالمجاورة وإن كان حقّه النصب عطفا على الأيدي ، كقولهم : جحر ضبّ خرب. قلنا : الإعراب بالمجاورة نادر ، قصره أهل الأدب على موارده ، فلا يقاس عليه. على أنّ فضلاء النحاة أنكروا الإعراب بالمجاورة أصلا ، وتأوّلوا المواضع التي توهّم ذلك فيها بما اقتضى ردّه إلى وجوب من الإعراب مطابقة لأصولهم. ولو سلّمنا إعراب المجاورة وجواز القياس ، لوجوب اشتراط زوال اللبس ، وهنا يحصل الالتباس ، فلا يستعمل المجاورة لفوات شرط استعمالها. ثمّ يجب اشتراط تجرّدها

__________________

وسنن أبي داود وسنن النسائي وغيرها. راجع فيض القدير شرح الجامع الصغير ٦ ـ ٣٦٦.

(٢٢) في نيل الأوطار ١ ـ ١٧٩ : عن لقيط بن صبرة قال : قلت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرني عن الوضوء قال : أسبغ الوضوء وخلّل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلّا أن تكون صائما. رواه الخمسة وصحّحه الترمذي.

(٢٣) قال السيّد المرتضى : فان عارضونا بما يروونه من الأخبار التي يقتضي ظاهرها غسل الرجلين كروايتهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّه توضّأ مرّة مرّة وغسل رجليه وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به .. وراجع السنن الكبرى للبيهقي ١ ـ ٤٧ باب غسل الرجلين.

٨٦

عن العطف كما تجرّد المقيس عليه في الصور المنقولة.

لا يقال : هذا القول باطل لقوله تعالى ( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ ) ـ إلى قوله ـ ( وَحُورٌ عِينٌ ) (٢٤) بالخفض في قراءة حمزة والكسائي ، ولا وجه له إلّا المجاورة ، لأنّ الحور يطفن ولا يطاف بهنّ. ولقول الشاعر : « لم يبق إلّا أسير غير منفلت وموثق » (٢٥) فخفض بالمجاورة مع واو العطف.

قلنا : لا نسلّم خفض حور بالمجاورة ، بل ما المانع أن يكون عطفا على قوله ( فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ ) (٢٦) على تقدير حذف المضاف ، وهو مقارنة حور عين. وأمّا البيت ، فمن الجائز أن يكون موثق معطوفا على موضع أسير ، بأن يقدّر « إلّا » بمعنى « غير » فكأنّه قال : غير أسير. ومع هذا الاحتمال لا يثبت ما ادّعوه.

قوله : لم لا يجوز أن يراد بالمسح الغسل. قلنا : العرف الشرعي فارق بينهما ، ضرورة أنّه تعالى فرّق في الأعضاء فجعل بعضها مغسولا ، وبعضها ممسوحا. على أنّا نجعل حكم الأرجل حكم الرأس في اختصاصه بالمسح ، وأحد لا يوجب غسل الرأس.

ولو قالوا : الغسل يشمل على المسح ، لأنّه مسح وزيادة. قلنا : لا نسلّم أنّ كلّ مشتمل على شي‌ء يسمّى باسم ما هو داخل تحته. فانّ السكنجبين مشتمل على السكّر والخلّ ، ولا يسمّى بأحدهما. فأمّا قوله : تمسّحت للصلاة ، فلأنّ في الطهارة مسحا فكنّى عنها ببعض أفعالها كما يقال : تغسّلت لها ، وكأنّه يريد الاختصار كي لا يطول بذكر المسح والغسل.

__________________

(٢٤) سورة الواقعة : ١٧ ـ ٢٢.

(٢٥) وتمام الشعر : أو موثق في عقال الأسر مكبول. راجع تفسير الشيخ أبي الفتوح الرازي ٤ ـ ١٢٩ وفيه : « منقلب » مكان « منفلت ».

(٢٦) سورة الواقعة : ١٢.

٨٧

وأما الآية (٢٧). قلنا أن نمنع ذلك التفسير ، لأنّ فيها احتمالا لغيره. ولو سلّم لكان مجازا.

قوله : قراءة النصب تقتضي الغسل. قلنا : لا نسلّم ، فإنّ العطف على الموضع مستمرّ في الاستعمال ، معروف بين أهل اللسان.

قوله : ننزّل الخفض على مسح الخفّين. قلنا : المسح في الآية متناول للأرجل ، والخفّ لا يسمّى رجلا حقيقة.

قوله : إذا لم يكن بين عطفه على اللفظ وعطفه على الموضع أولويّة صار الدليل محتملا. قلنا : ما ذكرناه أرجح ، لأنّ قراءة الخفض لا تحتمل إلّا المسح ، وقراءة النصب تحتمل الأمرين ، فيكون المصير إلى ما دلّ عليه الخفض أولى تحصيلا لفائدتي القراءتين ، ولأنّ فيه إعمالا لأقرب المذكورين ، وهو أولى باتّفاق أهل الأدب.

قوله في الاعتراض : قد جاء إعمال الأوّل. قلنا : غير مستحسن ولا مطّرد فإنّك لو قلت : أكرمت زيدا وأهنت عمرا وخالدا ، سبق إلى الأذهان دخول خالد في الإهانة ، وسبق أذهان أهل اللسان إلى الشي‌ء دليل على رجحان فائدته.

قوله : ومع التساوي يكون ما ذكرناه أرجح. قلنا : قد بيّنا عدم التساوي.

قوله : إذا عطف الأرجل على الأيدي كان عطف محدود على محدود ، فيكون أنسب ببلاغة الكلام. قلنا : هذا ليس بمعتبر ، لأنّ الأيدي معطوفة على الوجوه مع عدم التحديد اللفظي.

ثمّ نقول : ولو عطفت الأرجل على الرءوس وأحدهما غير محدود ، كما عطفت الأيدي على الوجوه وأحدهما غير محدود ، كانت المناسبة ثابتة ، بل أتمّ ،

__________________

(٢٧) أي آية : فطفق مسحا بالسوق. قال الشيخ في التبيان ج ٣ ص ٤٥٤ : أكثر المفسّرين على أنّ المراد به فطفق ضربا ذهب إليه الفرّاء وأبو عبيدة وقال آخرون : أراد المسح في الحقيقة وأنّه كان مسح أعرافها وسوقها وانّما حمل على الغسل شاذّ منهم.

٨٨

إذ تحصل فيها مناسبتان.

قوله : الغسل يدخل فيه المسح ، فيكون أولى. قلنا : قد بيّنا أنّ كلّ واحد منهما حقيقة منفردة ، فلا يدخل أحدهما في الآخر.

أمّا الجواب : عن المعارضة فنقول : أمّا خبر عائشة فغايته الإخبار بحصول الويل للأعقاب ، وليس السبب بمعلوم ، فالمراد غير مفهوم. ولو سلّمنا العلم بالسبب المقتضي للتوعّد ، لكنّا لا نعلم ممّا ذا يحصل الأمان لها ، فلعلّ ذلك بغير الغسل. ومن المحتمل أن يريد الأعقاب التي تلاقى بها النجاسات ثمّ لا تغسل.

وأمّا الأمر بإسباغ الوضوء ، فالمراد إكماله وإتمامه ، من قولهم : « درع سابغ » ، فلا دلالة فيه على غسل الأرجل ولا على مسحها ، والإسباغ يتحقّق في مسح الرأس وإن لم يكن غسلا ، فما المانع أن يكون الحال كذلك في الأرجل.

وأمّا كونه عليه‌السلام توضّأ وغسل رجليه فلا نسلّم أنّ الغسل المذكور من جملة الوضوء. وظاهر أنّه ليس من جملته ، لأنّه ذكر غسل الأرجل معطوفا على الوضوء ، فيقتضي إكمال الوضوء. والغسل للتنظيف عندنا جائز ، ولو لم يكن ذلك معلوما كان محتملا ، ومع الاحتمال تسقط الدلالة.

ولو قيل : لم يذكر مسح الرجلين ، فتكون الإشارة بالغسل دالّة على أنّه من الوضوء. قلنا : لا نسلّم لزوم ذلك ، فلعلّ الإخلال بذكر مسح الرجلين هنا كالإخلال بذكر مسح الرأس.

وأمّا الأمر بتخليل الأصابع فضعيف جدّا لأنّه يحتمل إرادة أصابع اليدين. ولو سلّمنا أنّه أراد الرجلين ، فلعلّ التخليل بها مسحا لا غسلا. على أنّه ليس البحث في تخليل الأصابع ، بل في الغسل ، فمن أين يدلّ التخليل عليه.

قوله : لو كان مسح الرجلين متعيّنا لكان مشهورا بين الصحابة ، أو لكان عليه الأكثر ، ولم تختصّ به الشيعة ، قلنا : والأمر كذلك ، فانّ المشهور عن ابن

٨٩

عبّاس وهو أحد علماء الصحابة أنّه قال : لم أجد في كتاب الله إلّا المسح (٢٨). وهذا من صحيح أخبارهم. وكذا نقل عن أنس (٢٩). وعن عليّ عليه‌السلام بنقل الشيعة الذي ملأ الآفاق. وقد روى ذلك حيث وصف وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ذكر ذلك الخطابي في معالم السنن (٣٠).

قوله : فيستحيل اتّفاق الصحابة على المعاندة في ما لا غرض فيه ، قلنا : قد بيّنا أنّ الاتّفاق لم يحصل إذ كثير من الصحابة قالوا بالمسح والباقون منهم من اشتبه عليه ومنهم من اعتمده استظهارا ، ومنهم من يخيّره اجتهادا ، وكلّ هذا وإن لم يتيقّن فهو محتمل ، ومع الاحتمال يزول الاستدلال به.

على أنّه قد كان في الصحابة من يجب اتّباع مذاهبه ، ويخشى الأكثر مجاهرته (٣١) ، فيعمل هو لشبهة وآخرون للمتابعة ، ثمّ يشاهدون ذلك الطبقة الثانية ، فيحسنون الظنّ بالأولى فينتشر حتّى يظنّ إجماعا.

وقوله : الفقهاء الأربعة قائلون به. قلنا : لا حجّة في اتّفاقهم إذا خلا من الدليل.

__________________

(٢٨) قال ابن قدامة في المعني ١ ـ ١٥٠ : حكي عن ابن عباس أنه قال : ما أجد في كتاب الله إلّا غسلتين ومسحتين.

(٢٩) قال الطبري في تفسيره ٦ ـ ٨٢ : عن انس قال : نزل القرآن بالمسح والسنّة الغسل.

(٣٠) معالم السنن شرح لسنن أبي داود ألّفه أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي المتوفى سنة ٣٨٨. راجع كشف الظنون ١٠٠٥.

(٣١) في بعض النسخ : مجاهدته.

٩٠

المسألة الرابعة في غسل الجنابة.

الذي عليه فتوى الأصحاب ، أنّ الطهارة وجبت لكونها شرط في غيرها ، فوجوبها موقوف على وجوب ذلك المشروط وضوءا كانت الطهارة أو غسلا. ومن متأخّري الأصحاب من أوجب غسل الجنابة خاصّة وإن لم يكن وصلة إلى غيره ، حتّى أوقعه بنيّة الوجوب أيّ وقت كان. وربما سقط هذا البحث على ما نختاره من الأجزاء بنيّة القربة في الطهارة.

وينبغي هنا أن يستدلّ لما عليه متقدّموا الأصحاب ، وهو أنّ الطهارات بأجمعها لا تجب إلّا وصلة إلى ما هي شرط فيه ، وقبل وجوب المشروط تكون مندوبة.

ويدلّ على ذلك النصّ والمعقول.

أمّا النصّ فقوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (١). ووجه الاستدلال بالآية ، أنّ الأمر بالغسل مشروط بإرادة القيام إلى الصلاة ، فينعدم عند عدمه. أمّا أنّه مشروط فلوجوه : الأول : النقل عن أئمّة التفسير (٢). الثاني : أنّ الجملة الثانية الشرطيّة معطوفة على الجملة الأولى بالواو المقتضية للتشريك. الثالث : لو لم يكن وجوب الغسل من الجنابة مشروطا بإرادة القيام إلى الصلاة ، لم يكن التيمّم كذلك ، لأنّ وجوب اشتراط ذلك مفهوم من العطف ، فيكون في الغسل كذلك. أو نقول : إرادة الصلاة شرط في وجوب ما تضمّنته الجملة الأولى والأخيرة ، فتكون شرطا في ما تضمّنته الوسطى وإلّا لزم مع تساوي الجمل اختلافها في الحكم. أو نقول : إذا قال : إذا جلس الأمير وأردت الدخول عليه

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

(٢) راجع التبيان ٣ ـ ٤٥٧ وجامع البيان للطبري ٦ ـ ٨٧.

٩١

فتأهب له وضع سلاحك ، يفهم منه اشتراط إرادة الدخول في الموضعين ، وليس ذلك مجازا فهو حقيقة ، فيكون في موضع النزاع كذلك دفعا للاشتراك.

وأما المعقول فنقول : لازم وجوب الغسل على تقدير عدم وجوب ما هو وصلة إليه منتف فينتفي الملزوم. وإنّما قلنا إنّ اللازم منتف ، لأن من لوازم الوجوب إمّا استحقاق الذمّ بالترك منضمّا إلى العقاب أو منفردا ، لأنّه لو لا حصول أحد الأمرين انتفى الوجوب. أمّا أوّلا فلأنّا لا نعني بالواجب إلّا ما يكون تركه ملزوما لأحد الأمرين. وامّا ثانيا فلأنّ بتقدير انتفائهما عن الترك يكون الترك جائزا ، ولا يتحقّق الوجوب مع جواز الترك دائما ، وإنّما قلنا انّ كلّ واحد من الأمرين منتف على تقدير عدم وجوب المشروط ، أمّا أوّلا فبالإجماع ، وأمّا ثانيا فلأنّ أحد الأمرين لا يحصل إلّا مع التضيّق ، ولا تضيّق على تقدير عدم وجوب ما هو مشروط بالطهارة.

ويؤيّد توقّف الوجوب على وجوب المشروط رواية عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في المرأة فيجامعها الرجل فتحيض وهي في المغتسل هل تغتسل أم لا؟ قال : قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل (٣).

فان قيل : لا نسلّم أنّ وجوب الغسل مشروط بإرادة القيام إلى الصلاة.

قوله : الوضوء مشروط بذلك فيجب اشتراطه في الغسل. قلنا : هذا موضع المنع فما الدليل عليه؟.

قوله : بالنقل عن أئمّة التفسير. قلنا : ليس الكلّ قال ذاك ، وقول البعض ليس حجّة.

قوله : الجملة الشرطية معطوفة على الأولى بالواو المقتضية للتشريك في الحكم. قلنا : لا نسلّم أنّ الواو مقتضية كذلك ، فإنّ الذي ثبت أنّ الواو تقتضي الجمع المطلق الذي يصدق مع الشركة في الحكم ومع عدمه. ويدلّ على ذلك أنّك

__________________

(٣) الكافي ٣ ـ ٨٣ التهذيب ١ ـ ٣٩٥ و ٣٧٠.

٩٢

تقول : قام زيد ولم يقم عمرو ، فتعطف بالواو ولا شركة في الحكم ، بل كأنّه قال : اجتمع لزيد أن قام ولعمرو أنّه لم يقم مع أنّها حقيقة ، فلا يكون حقيقة في الشركة في الحكم دفعا للاشتراك. ثمّ نقول : متى تكون الواو مقتضية للاشتراك إذا عطفت مفردا على مفرد أو جملة على جملة؟ الأوّل مسلّم ، والثاني ممنوع وهاهنا هي عاطفة جملة على جملة.

قوله في الوجه الثاني : لو لم يكن وجوب الغسل من الجنابة مشروط بإرادة الصلاة لم يكن التيمّم كذلك. قلنا : لا نسلّم.

قوله : لأنّ اشتراط ذلك فهم من العطف ، وهو حاصل في الأمر بالغسل. قلنا : لا نسلّم أنّ ذلك معروف من العطف ، بل الذي ندّعيه أنّ العطف غير دالّ على ذلك ، فاشتراطه في التيمّم حينئذ مستفاد من غير العطف.

قوله : إرادة القيام إلى الصلاة مشروطة في الجملة التي تضمّنت الوضوء ، وفي الجملة التي تضمّنت التيمّم فيكون في الغسل كذلك ، وإلّا لزم اختلاف الأحكام مع التساوي في العطف. قلنا : نحن نلتزم ذلك ، فما الدليل على بطلانه؟ وهذا لأنّا قد بيّنا في الأصول أنّ تعلّق الشرط بالجمل المعطوفة ليس بمجرّد العطف ، بل رجوعه موقوف على الدلالة ، فيتعلّق منهما بما دلّ الدليل عليه. والمثال الذي ذكره في جلوس الأمير نمنع الدعوى فيه كما نمنعه في صورة النزاع. ثمّ نقول : سلّمنا أنّ مع إرادة الصلاة يجب الاغتسال ، لكن ليس ذلك موضع النزاع فإنّا نوجبه للصلاة من حيث هو شرط فيها ونوجبه مع عدمها من حيث أمر به. لا يقال : لو وجبت لا باعتبار غيره لم يكن لتعلّقه على إرادة الصلاة فائدة. لأنّا نقول : لم لا يكفي في الفائدة كون الغسل شرطا في صحة الصلاة لا كون وجوبه موقوفا على وجوب الصلاة دائما ويكون ذلك كالإسلام الذي لا تصحّ الصلاة من دونه وان كان واجبا لا لها. ثمّ لا يلزم من كون الشي‌ء ، مشروطا بشي‌ء أن لا يكون ذلك الشرط واجبا من دون ذلك الشي‌ء ، لأنّ اللازم توقّف المشروط على

٩٣

الشرط ولا ينعكس.

قوله في الوجه المعقول : من لوازم الوجوب استحقاق أحد الأمرين بالترك. قلنا : لا نسلّم ، بل لم لا يكفي في الوجوب حصول وجه الوجوب وان فرض سقوط الأمرين ، أمّا العقاب فلأنّه حقّ لله تعالى فجاز إسقاطه ، وأمّا الذمّ فلأنّه تابع للقبيح ، فلو وقف العلم بالقبح عليه لزم الدور.

قوله : لا نعني بالواجب إلّا ما يكون تركه ملزوما لأحد الأمرين أو لهما. قلنا : لا تنفعك العناية مع إمكان تحقّق الوجوب من دون الأمرين.

قوله : لو انتفيا عن الترك كان سائغا ، فإذا لم يكن لجواز تركه حدّ لم يتحقّق الوجوب.

قلنا : ما المانع أن لا يكون الترك سائغا لا بمعنى استحقاق الذمّ ، بل بمعنى وجوب الإتيان بالفعل تحصيلا للوجه المقتضي للوجوب. سلّمنا ذلك ، لكن لا نسلّم انتفاء الأمرين.

قوله : استحقاقهما أو أحدهما مع عدم المشروط منفيّ بالإجماع. قلنا : نمنع هذه الدعوى ونطالب بالدليل عليها. فان قال : كان النبيّ عليه‌السلام يؤخّر الغسل حتّى تجب الفريضة ، وكذا إجماع المسلمين على أنّه لا يذمّ تارك الغسل ما لم يحصل ما يجب لأجله. قلنا : هذا يدلّ على أنّه ليس بمضيّق ، ولا يدلّ على أنّه ليس بموسّع ، فما المانع من جواز تأخيره وإن كان واجبا كالكفّارات والنذور المطلقة.

ثمّ ما ذكرتموه منقوض بالواجبات الموسّعة ، فإنّ الفعل واجب ، ولا يستحق بتركه الذمّ منضمّا ولا منفردا. ثم نقول لا نسلّم أنّه لا يجوز تأخيره مطلقا ، فما المانع من تأخيره حتّى يغلب على الظنّ التلف ، فيتضيّق إذا بقي مقدار فعله تغليبا وإن لم يجب ما هو مشروط بالطهارة.

ثمّ ما ذكرتموه من الحج معارض بقوله عليه‌السلام : إذا التقى الختانان

٩٤

وجب الغسل (٤). وبقوله عليه‌السلام : إذا جلس بين شعبها وجب الغسل (٥). وبقول الصادق عليه‌السلام : إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم (٦). وبما روي عن موسى عليه‌السلام : إذا وضع الختان على الختان فقد وجب الغسل (٧).

والجواب :

قوله : لا نسلّم أنّ وجوب الغسل مشروط بإرادة الصلاة. قلنا : قد بيّنا ذلك بوجهين : أحدهما النقل عن فضلاء المفسّرين ، فإنهم قالوا : المراد : إن كنتم جنبا وأردتم القيام إلى الصلاة. والثاني أنّه معطوف بالواو المقتضية للتشريك.

قوله على الوجه الأوّل : ليس الكلّ قال ذاك ، وليس قول البعض حجّة. قلنا : البعض قال ، ولم نعرف مخالفا فيجب العمل بقول فضلاء الفنّ السالم عن المخالف.

قوله على الوجه الثاني : لا نسلّم أنّ الواو مقتضية للتشريك في الحكم ، إذ الثابت اقتضاها الجمع المطلق الذي يصدق مع التشريك في الحكم وعدمه. قلنا : الدليل على ذلك النقل والاستعمال. أمّا النقل فنصّ أهل العربيّة أنّ العطف اشتراك اللفظ في حكم اللفظ حتّى قال بعضهم : هو اتّباع اللفظ غيره حكما. لا يقال : لعلّ المراد المشاركة في الإعراب. لأنّا نقول : قد أزال هذا الاحتمال جماعة. قال ابن درستويه (٨) : الحروف الثلاثة تجمع اللفظ والمعنى. وكذا قال طاهر

__________________

(٤) الكافي ٣ ـ ٤٦ ، التهذيب ١ ـ ١١٨.

(٥) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا جلس بين شعبها الأربع ثمّ جهدها وجب الغسل. التاج الجامع للأصول ١ ـ ١٠٩ نقلا عن صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما.

(٦) الكافي ٣ ـ ٤٦ ، التهذيب ١ ـ ١١٨ ، الإستبصار ١ ـ ١٠٨.

(٧) الكافي ٣ ـ ٤٦ وفيه « وقع » موضع « وضع » التهذيب ١ ـ ١١٩.

(٨) هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد بن درستويه بن مرزبان الفارسي المتوفّى سنة ٣٤٧ ، والحروف الثلاثة : الواو والفاء وثم ظاهرا.

٩٥

في « شرح الجمل » (٩) حكاية عن أهل الفنّ.

قوله : لو كانت الواو تقتضي الاشتراك في الحكم لكان قوله : قام زيد ولم يقم عمرو مجازا ، لأنّه هنا ليست مشتركة في المعنى. قلنا : ما المانع أن تكون مقتضية للتشريك في اللفظ والمعنى ما لم يمنع مانع ، ولا يلزم أن يكون مجازا ، بل تكون موضوعة للجمع الممكن ، فحيث يمكن في اللفظ والمعنى يجب ، وحيث لا يمكن يقتصر على الممكن منهما.

قوله : متى يدلّ على الجمع في الحكم إذا عطفت مفردا أو جملة؟ قلنا : فيهما ما لم يقم المانع ، فإنّك إذا قلت : إن قدم زيد فاضرب عمرا وأهن خالدا ، اقتضت الواو اشتراط القدوم في الصورتين ، لأنّ هذا هو الذي سبق إلى الأذهان عند تجرّد اللفظ ، ولا كذلك إذا قلت : إن قدم زيد فأعطه درهما وإن قدم عمرو فأعطه دينارا ، فإنّه لا يمكن الاشتراك في المعطى ولا في القدوم ، فاقتصرنا على الجمع المطلق هنا.

قوله : لا نسلّم أنّ اشتراط إرادة الصلاة في التيمّم من العطف. قلنا : العلم بالاشتراط ثابت ، ولا يعلم إلّا بالعطف ، فلو كان مستفادا من غيره لكان العلم به موقوفا على ذلك السبب. لا يقال : لم لا يكون ذلك علم من الإجماع. لأنّا نقول : قد يعلم ذلك من لا يعلم صحّة الإجماع ، فضلا عن تحقّقه في هذه الصورة ، ولئن منع فالحكم معلوم.

قوله : سلّمنا أنّ مع إرادة القيام إلى الصلاة يجب الاغتسال ، لكن ليس ذلك موضع النزاع ، فإنّه يجب الاغتسال للصلاة من حيث لا يتمّ إلّا به ، فما المانع أن يجب لا لهما (١٠) من حيث أمر به. قلنا : الجواب من وجهين : الأوّل : أنّ الوجوب

__________________

(٩) الجمل في النحو للشيخ أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي المتوفّى سنة ٣٣٩ وله شروح منها شرح طاهر بن أحمد المعروف بابن بابشاذ النحوي المتوفّى ٤٥٤.

(١٠) لها. خ. ل.

٩٦

المعلوم في الآية وقع جوابا لإذا ، وهي تدلّ على معنى الشرط ، فيكون الوجوب معلّقا على أداة الشرط. والحكم المعلّق على الشرط عدم عند عدمه. الثاني : أنّه إذا وجب في الآية للصلاة ، فبتقدير عدم وجوب الصلاة ينتفي وجوبه عملا بالنافي السالم عن المعارض.

قوله : لا يلزم من كون الشي‌ء شرطا لواجب أن لا يكون واجبا من دون ذلك الشرط ، لأنّ اللازم توقّف المشروط على الشرط ، لا العكس. قلنا : هذا حقّ لكنّا لم نستدلّ على عدم الوجوب قبل الصلاة بكونه شرطا ، بل بكون الأمر به مشروطا بإرادة القيام إلى الصلاة فينعدم (١١) الوجوب بتقدير عدم الشرط.

قوله في الوجه المعقول : لم لا يكفي في الوجوب حصول وجه الوجوب وإن سقط استحقاق الذمّ منضمّا أو منفردا. قلنا : لا ريب أنّ الوجوب يحصل مع وجه الوجوب ، لكن مع حصوله يلزم مع الإخلال به الذمّ.

قوله : لا نسلّم أنّ مع سقوطهما يكون الإخلال سائغا. قلنا : لا نعني بالسائغ إلّا ما لا يلزم به ذمّ.

قوله : لا نسلّم أن ذلك من لوازم ترك الواجب. قلنا : قد بيّناه ، ويؤيّده النقل عن فضلاء أئمّة الاصطلاح الكلاميّ والفقهي. ثمّ لا يتحقّق الفرق بين الواجب والمندوب إلّا بذلك. ثمّ الاستعمال دالّ عليه ، فانّ ذلك حاصل في جملة موارد استعمال لفظ الواجب.

قوله : العقاب حقّ لله فجاز إسقاطه. قلنا : الإسقاط لا يدلّ على عدم الاستحقاق ، بل لا يسقط إلّا ما كان ثابتا.

قوله : لزوم الذّم بالترك إنّما يثبت بعد العلم بالوجوب ، فلا يكون عدمه دالّا على عدم العلم بالوجوب ، وإلا لدار. قلنا : لم يستدلّ على الوجوب بالذّم

__________________

(١١) فيعدم. خ ل.

٩٧

على الترك ، بل الذي ادّعيناه أنّ ترك الواجب يستلزم الذّم ، ويلزم من العلم بانتفاء اللازم انتفاء الملزوم.

قوله : لا نسلّم انتفاء الأمرين عن الترك. قلنا : قد بيّنا أنّ ذلك معلوم بالإجماع.

قوله : نمنع هذا فانّ المجمع عليه عدم الذّم على الترك المعجّل ، لا على الترك دائما. قلنا : قد ثبت جواز الترك غير موقّت إلّا في وقت الصلاة ، وإيقاعه هناك دلّ على عدم الذمّ دائما ، لأنّه حيث أوقعه هناك لم يوقعه إلّا وصلة إلى الصلاة ، والوجوب الأوّل ليس لأنّه وصلة إلى الصلاة ، فيكون ذلك الوجوب الأوّل غير واقع أصلا.

ثمّ نقول : تركه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبيّن مدّة الترك ، ولم يحافظ عليه إلّا للصلاة أو ما دلّ الدليل على اشتراطه به ، فكان تركه سائغا إلّا عند وجوب ما يكون الغسل وصلة إليه.

قوله : هذا منقوض بالواجب الموسّع ، فإنّه لا يذمّ تاركه وهو موصوف بالوجوب في الحال. قلنا : الواجب الموسّع تتساوى الأوقات في وجوبه ، ويتحقّق الذمّ بإخلائها من فعله ، وليس كذلك ما نحن فيه ، فإنّه لم يثبت له ما يحصل الذمّ بالإخلال به بتقدير عدم وجوب ما هو وصلة إليه.

قوله : لم لا يجوز أن يكون كالكفّارات التي لا وقت لها مع تحقّق وجوبها في كلّ وقت. قلنا : وجوب الكفّارات منبسط على الأوقات حتّى يغلب على الظنّ التلف. علم ذلك باتّفاق الفقهاء وفتاواهم ، لأنّه لو لا ذلك لسقط الوجوب المستسلف لها ، ولا كذلك الغسل ، لأنّ وجوبه قد ينزّل على فعله في وقت الصلاة لها اقتصارا لتنزيل الأمر على المرّة الواحدة ، إذ لو وجب قبل وجوب ما هو وصلة إليه وبعد وجوب الصلاة لكان الأمر مقتضيا للتكرار.

فإن قيل : لم لا يجزي فعله للصلاة عن الوجوب الأصلي الذي ندّعيه؟.

٩٨

لأنّا نقول (١٢) : وجوبه للصلاة تكليف غير التكليف الأوّل ، فلو كان واجبا لغير الصلاة ، لزم وجوبه مرّتين ، إذ الوجه في وجوبه في وقت الصلاة كونه وصلة إلى فعلها ، فيكون ذلك هو المقتضي لوجوبه ، فلا يتحقّق ذلك الوجوب قبله ، لانتفاء الوجه المقتضي للوجوب ، فلو وجب قبل ذلك لوجب لا للصلاة ، بل لاشتماله على مصلحة أخرى اقتضت وجوبه قبل ذلك ، ولو كان كذلك لما جاز الاقتصار على فعله للصلاة حسب ، لأنّه كان يلزم الإخلال بتلك المصلحة وهو مناف لعناية الشرع.

وأمّا المعارضات بالأحاديث ، فالجواب : أن نقول : إطلاق الوجوب يقتضي التعجيل ، فإذا دلّ الدليل على عدم إرادته ، بقي الوجوب المطلق الذي يصدق بالدوام والاشتراط ، فإذا علم وجوبه في موضع من المواضع كفى ذلك في العمل بمقتضى الأمر ، واقتصر على تنزيله عليه ، وقد علم أنّ وجوب الغسل ليس معجّلا وعلم وجوبه إذا كان وصلة إلى واجب لا يصحّ إلّا به فيكفي ذلك في تنزيل الوجوب عليه.

لا يقال : تنزيل الوجوب على فعله بشرط إرادة الصلاة يقتضي أن لا يكون واجبا قبل ذلك. قلنا (١٣) : صحيح ، ولكن إطلاق الوجوب أعمّ من الوجوب في الحال ، إذ الوجوب قد يطلق مع كلّ واحد منهما ، لأنّا قد نقسّم الوجوب إلى المطلق والمشروط ، ومورد التقسيم مشترك بين قسمية ، فالواجب المشروط وإن لم يكن واجبا في الحال فإنّه يطلق عليه الوجوب نظرا إلى وجود سببه ، كما يقال : غسل الحيض واجب عند الانقطاع ، وكذا قوله عليه‌السلام : إذا نامت العين والسمع وجب الوضوء (١٤) ، وليس الوضوء واجبا ولا غسل الحائض باتّفاق الكلّ

__________________

(١٢) كذا.

(١٣) كذا.

(١٤) لم أجده بهذا اللفظ راجع الوسائل باب ان النوم الغالب على السمع ينقض الوضوء.

٩٩

إلّا مع وجوب ما هو وصلة إليه. لا يقال : إطلاق الوجوب يقتضي تحقّقه في الحال ، فإطلاقه على المشروط قبل حصول شرطه مجاز. قلنا (١٥) : هو وإن كان مجازا لغة ، لكنّه مستعمل شرعا استعمالا عامّا ، لأنّ التصانيف مملوءة أنّ الطهارة من البول واجبة ، وكذا من الغائط والريح ، وكذا غسل الثياب من النجاسة واجبة وغسل الأواني ، فيطلق عليها (١٦) الوجوب إمّا بحسب إرادة الاستعمال أو بحسب إرادة الدخول في الصلاة ، فصار ذلك حقيقة عرفيّة ، فإخراج غسل الجنابة من ذلك كلّه تحكّم بارد.

فإن : قيل ذلك مجاز. قلنا : الأصل عدم التجوّز. فإن قال : والأصل عدم الاشتراك. قلنا : فتجعل حقيقة في القدر المشترك ، وهو الوجوب المطلق الذي يصدق مع الحاليّ والاستقباليّ ، دفعا للاشتراك والمجاز.

__________________

(١٥) كذا.

(١٦) عليه خ ل.

١٠٠