الرسائل التسع

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

الرسائل التسع

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٩

طَيِّباً ) (٣٧) والنجس ليس كذلك وإذا لم يجد ماء يتطهّر به ولا ترابا طاهرا لم يصلّ ولو خرج الوقت ، وفي القضاء قولان قال المرتضى والشيخ أبو جعفر رحمهما‌الله : يقضي ذلك (٣٨) ، وقال المفيد في رسالته إلى ولده (٣٩) : لا يقضي وهو أشبه بالمذهب.

أمّا إذا صلّى وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة لا يتمكّن من إزالتها فالأولى الإجزاء بها ، لأنّها صلاة مأمور بها شرعا فتكون مجزية.

المسألة الخامسة عشرة

إذا أودع الإنسان غيره شيئا من المال وأمره أن يسلّمه إلى شخص ، فلما حضر المودع سأله هل نقد فلان معك (٤٠) شيئا أم لا؟ فقال : ما نقد لك شيئا ولا أو دعني شيئا من الأشياء ، فأحضر من قال له سلّم إليه شهودا يشهدون عليه بذلك فقال : لا شكّ أنّ فلانا أودعني ولكن أخذت وأخذت ما كان معي من الوديعة ، فهل يقبل قوله في التلف أو يلزم بها مع الإنكار على كلّ حال؟

الجواب

إذا أنكر الوديعة ثمّ اعترف بها أو شهد عليه شاهدان عدلان فإن ادّعى التلف زمان الإنكار وأقام بذلك بيّنة لم يضمن ، وإن لم يقم بيّنة أو أقام بيّنة بالتلف بعد الإنكار ضمن ، لأنّ الإنكار منع من الوديعة فيكون عدوانا مقتضيا للضمان ، والله أعلم.

قال الشيخ نجم الدين أبو القاسم بن جعفر بن الحسن بن سعيد

__________________

(٣٧) سورة المائدة : ٦ وسورة النساء : ٤٣.

(٣٨) راجع النهاية للشيخ ص ٤٧ والناصريات للسيّد المسألة ٥٥ والمختلف للعلّامة الحلّي ص ٥٣.

(٣٩) ليست هذه الرسالة عندنا. قال في المختلف ص ٥٣ : ونقل شيخنا أبو القاسم جعفر بن سعيد رحمه‌الله عن بعض علمائنا سقوط الصلاة أداء وقضاء وهو قول لا بأس به إلّا أنّه معارض ..

(٤٠) كذا في الأصل ، وفي المصباح المنير : نقدت الرجل الدراهم بمعنى أعطيته.

٢٨١

صاحب هذه الأجوبة رحمه‌الله : وقفت على هذه الأوراق الكريمة الدالّة على فضل موردها وغزارة علمه واهتمامه بتحقيق الحقّ فيها وسألت له زيادة التوفيق وإحسان العاقبة وقد أجبت عن ذلك بما أعتقد وجوب العمل به ، والله الموفق للصواب.

٢٨٢

٦

المسائل الكماليّة

وهي تشتمل على عشر مسائل

تأليف المحقق الحلي ره

٢٨٣
٢٨٤

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد حمد الله الذي صغر كلّ عظيم في جلال عظمته ، وقصر كلّ قديم عن كمال أزليّته ، وخضع كلّ رفيع لقاهر عزّته ، وخشع كلّ منيع لباهر سطوته. والصلاة على أعظم من اختاره لرسالته وأكرم من اصطفاه لنشر دعوته ، سيّدنا محمد ، وعلى خلفائه في أمّته وأمنائه على سنّته ، وخلصائه من عترته وسلّم تسليما.

فإنّا مجيبون إلى ما سأل عنه الشيخ الفاضل الكامل المحقّق المتقن كمال الدين محمّد بن محمّد بن سهل الآبي (١) أمدّه الله بتوفيقه وعصمته ، من المسائل الدالّة على معرفته القاضية بفهمه وإحاطته ، مقتصرون على إرادته ، غير متجاوزين حدّ إشارته ، وهي مسائل عشر.

المسألة الاولى

في الجوهر الفرد والدلالة على ثبوته.

الجواب :

لمّا كان التصديق مسبوقا بالتصوّر تعيّن بيان المراد بالجوهر.

__________________

(١) راجع رسالتنا حول المحقق رحمه‌الله.

٢٨٥

فنقول : لا ريب في وجود الجسم ذي الأبعاد الثلاثة. ثمّ هذا لمعلوم حسّا يقبل الانفكاك قطعا ، لكن هل ينتهي تفكيكه إلى حدّ لا تقبل أجزاؤه الانفكاك حتّى يكون ما منه تألّف الجسم أجزاء متناهية كلّ واحد منها غير قابل للانفكاك ، أم يقبل انقسامات لا نهاية لها بالفعل ، أو بالقوّة.

قال المتكلّمون بالأول وسمّوا ما لا يقبل التجزئة جوهرا.

وقال النظّام (٢) بالثاني.

وأكثر الفلاسفة على الثالث. وزعم هؤلاء أنّ كلّ جسم مفروض فهو واحد بالفعل كما هو في الحسّ لا تجزئة فيه بالفعل مع قبوله بالقوّة ما لا نهاية له من التجزئة. وليس عندهم حجم إلّا جسم ، لأنّه لا ينفكّ من المقدار والأبعاد المتقاطعة على قائمتين.

واعلم أنّ إثبات ما ذهب إليه كلّ واحد من الفريقين عسر ، لكنّا نقول قبل الشروع في تحقيق الاختيار :

زعم الفلاسفة أنّ كل حجم مركّب من مادّة وصورة ، وأنّ الصورة بها تصير المادّة محسوسة ، ثمّ الصورة ليست داخلة في حدّ ذات المادّة. فهي تقبل الصورة الجسميّة وإن تعاظمت الصور.

والمتكلّمون يزعمون أنّ كلّ جوهر له قدر من الحجميّة لازمة لجوهريّته عند وجوده لزوما ذاتيّا ، وتلك الحجميّة لا أصغر منها ، وأنّ التعاظم ليس إلّا بانضمام الأجزاء لا لمقدار يقوم بالجسم.

وزعم الفلاسفة أنّ الاتّصال ارتفاع المفاصل بين المتلاقيات بحيث تعود نهاية كلّ واحد بداية للآخر.

__________________

(٢) هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار البصري من أئمّة المعتزلة متكلّم أديب شاعر ، توفي سنة ٢٣١ راجع هدية الأحباب للمحدّث القمي ص ٢٧٣ والاعلام للزركلي ١ ـ ٤٣.

٢٨٦

وقال المتكلّمون باستحالة ذلك ، بل قد يعرض للمتلاقيين تضابط فإن اختلفا بعارض يدركه الحسّ وإلّا أدرك العقل بقاء المفاصل ، وإلّا كان تداخلا لا التحاما (٣).

وإذا عرفت هذا فنقول : الأقرب ما اختاره المتكلّمون من كون الجوهر في صغر المقدار إلى حدّ لا يكون أصغر منه فلا يقبل أصغر من ذلك القدر ، والدليل عليه أنّه لو قبلت المادّة الجوهريّة حجميّة زائدة عن حجمها لم يكن قدر أولى من أعظم ولا حادّ ، ويلزم منه وجود صورة الأرض في مادّة ذرّة منها ، وكذا لو قبلت أصغر لقبلت مادّة الأرض صورة الذرّة حتّى تعود مادّة البحار والجبال والأودية والأشجار مصوّرة بصورة ذرّة من الذّر ، لكنّ العقل يأبى ذلك إباء ظاهرا ، فمرتكبه معاند عقله.

وإذا أوجب لكلّ مادّة صورة هي أصغر الصور لذاتها ، كان ذلك هو الجوهر الفرد ، ولزم أن يكون التعاظم بانضياف الجواهر وتكثّرها ، لا لمقدار يقوم بها. وأنّ الاتّصال ليس إلّا التماسّ على وجه الالتحام لا لمعنى أنّه يصير بينهما جزء مشترك ، بل لمعنى اقتضى الالتحام ، وهو المسمّى بالتأليف.

وقولهم : الجسم واحد بالفعل كما هو في الحسّ مشكل ، فإن عنوا أن الحسّ لا يدرك مفاصله وإن كانت متحقّقة في نفس الأمر فهذا معقول ، وإن كانوا يزعمون أنّه في نفس الأمر واحد فهو يشكل بما لو قام به عرضا متضادّان ، فإنّ محل واحد منهما غير محلّ الآخر ، وأنّه ينقسم عند ذلك بالفعل ، فذلك المحلّ قبل ورود العرض إن لم يكن متحقّقا كان تحقّقه بقيام العرض به ، لكن قيام العرض موقوف على تحقّقه ، وإلّا لكان العرض مقوما محلّه ، وهو محال. وإذا كان متحقّقا قبل قيام العرض به كان منقسما.

__________________

(٣) التحم الشي‌ء : التصق.

٢٨٧

ولا يلتفت إلى قولهم : هذه هي القسمة الوهميّة ونحن لا نمنعها ، لأنّه يقال : الوهم قد يصدق وقد يكذب ، لكن هنا العقل يجزم بتغاير المحلّين ، ولا نعني بالقسمة إلّا هذا ، فيلزم أن يكون منقسما حسّا وعقلا ، وإن كان متّصلا ، فان الاتّصال لا يمنع القسمة ، كالخطّين الملتقيين على زاوية ، فإنّهما منقسمان فعلا ، وإن كانا متصلين.

ونحتج أيضا على عدم الانقسام بأنّه لو انقسم كلّ حجم بالقوّة انقساما لا نهاية له لزم انقسامه كذلك بالفعل ، لكن التالي باطل.

أمّا الملازمة فلأنّه لو اكتنف الجوهر اثنان ، لكان الأوسط أمّا ملاقيا كلّ واحد منهما بعين ما لاقى الآخر ، أو بغيره ، ويلزم من الأوّل عدم الانقسام ومن الثاني انقسام الأوسط بالفعل ، وكلّ قسمين غيران ، فالوسط مركّب من غيرين. ثمّ هما متلاقيان بالتماسّ لتحقق التغاير بالفعل ، ويلزم منه انقسام كلّ واحد من قسميه وكذا البحث في كلّ قسم فإن لم تقف عند حدّ لزم انقسامات لا نهاية لها بالفعل وإن وقف فهناك الجوهر الفرد.

فإن قيل لا نسلّم انقسام الأوسط ، لأنّ الملاقاة بسطحيه ، ولا يلزم من اختلاف العوارض انقسام المعروض. سلّمنا تغاير موضعي الملاقاة ، لكنّهما متّصلان بنهايتيهما ، والانقسام بالفعل يترتّب على المماسّة لا على الاتّصال ، إذ اتّصال المقادير صيرورة أطرافها واحدة ، وعلى هذا التقدير لا يلزم الانقسام وإن تغاير موضع التماسّ.

الجواب

قوله : الملاقاة بسطحيه ، قلنا : السطحان إن كانا من نفس الملاقي فقد انقسما ، وإن كانا عرضين فقد قام بالأوسط عرضان ، ويلزم الانقسام أيضا

٢٨٨

بالفعل. ولو قال : لا يلزم من اختلاف حالات الشي‌ء ونسبه (٤) انقسامه ، لم يكن واردا وكان تخلّصا بالعبارة التي لا تثمر.

قوله : هما متّصلان ، فلا يتحقّق الانقسام ، قلنا : إن عنيت بالاتّصال التماسّ الالتحامي على وجه يقصر الحسّ عن إدراك المفاصل وإن كان لكل واحد منها نهاية غير نهاية الآخر فهو مسلّم ، وهذا هو التماسّ الذي يتحقّق معه الانقسام. وإن عنيت به شيئا يصير به الجسمان واحدا فذاك غير محصّل.

أمّا أوّلا فلأنّ الانقسام يتحقّق مع الاتصال كما لو قام بالمتّصل عرضان متضادّان وإذا صحّ اجتماع الاتّصال مع الانقسام بالفعل لم يكن رافعا له.

وأمّا ثانيا فلأنّ المتّصلين كانا اثنين ، فلو صارا واحدا لكانا مع ذلك إمّا أن يبقيا على حقيقتهما ، بمعنى أنّ مادّتهما المعيّنة وصورتهما الجسميّة المعيّنة باقيتان فهما اثنان لا واحد ، وإن لم يبقيا فحينئذ يلزم عدم ذينك الجسمين ووجود جسم غيرهما ، لكن هذا يأباه العقل والحسّ ، لأنّا نعلم عند التقاء الماءين أنّ عين كلّ واحد منهما باقية على حالها ، ولم تتجدّد إلّا الملاقاة بينهما. نعم قد يطلق عليهما اسم الواحد بحسب الاجتماع ، كما يقال : إنسان واحد.

ثمّ يلزم على قولهم أن يعدم البحر بشرب العصفور منه ، وأن يحدث بحر بزيادة قطرة على الأوّل ، ولا يلتزم هذا ذو تحصيل.

والرجوع بعد ذلك في دفع هذا الإيراد إلى ما يألفونه من الاصطلاحات اللفظيّة لا يكفي المنصف.

وأمّا استحالة الانقسام إلى غير النهاية بالفعل ، فلأنّه يلزم منه استحالة قطع المسافة اليسيرة بالزمان المتطاول ، لأنّ قطعها عبارة عن محاذاة كلّ جزء منها

__________________

(٤) في الأصل : نسبة. والصحيح ما أثبتناه كما هو الظاهر.

٢٨٩

ومحاذاة ما لا نهاية له بالفعل محال ، والتخلّص بالظفر (٥) قد تبيّن ضعفه.

واستدل المتكلّمون أيضا بأنّ الكرة المحقّقة إذا لاقت خطّا مستقيما فإن لاقته بمنقسم فهو خطّ ، لكنّه محال ، وإلّا أمكن أن يخرج من طرفيه خطّان إلى مركز الكرة ، فيكونان مع ذلك الخطّ مثلثا ، فلو خرج له قطر لكان القطر وترا للحادّتين ، وكان العمودان وترا للقائمتين ، ووتر القائمة أعظم من وتر الحادّة فلا تكون الخطوط الخارجة عن مركزها إلى محيطها متساوية ، فلا تكون الكرة محقّقة ، وقد فرضناها كذلك. وإذا بطل كون الملاقي من الكرة منقسما ثبت أنّه غير منقسم. لا يقال : الكرة لا تتحقّق مع القول بالجوهر الفرد ، لأنّا نمنع ذلك ، ثمّ نقول : الكرة موجود قطعا ، وقد بيّنا أنّه يلزمها عدم الانقسام.

المسألة الثانية

ما الدليل على أنّ الحوادث متناهية؟

الجواب

لو كانت الحوادث مترامية إلى غير النهاية لزم اجتماع النقيضين ، لكنّه محال. أمّا الملازمة فلأنّ كلّ حادث مسبوق بعدم لا أوّل له ، لأنّه لو انقطع عند أوّل لكان مسبوقا بوجود ، فلا يكون حادثا مرّة بل مرارا ، فمجموع العدمات إذا أزليّة مقارنة وجود الواجب لذاته ، فإن لم يوجد من الحوادث شي‌ء مقارنا وجود الواجب كانت منقطعة عند أوّل ، وإن وجد لزم كون المقارن موجودا باعتبار مقارنة الواجب ، معدوما باعتبار حدوثه.

فإن قيل : لا نسلّم جواز وصف العدم بالأزليّة لأنّ ذلك من عوارض الموجود. ثمّ ما الذي يعنى بالمقارنة؟ إن عنيت حالا تكون العدمات مجتمعة فيها فهو ممنوع ، وإن عنيت أنّ العدمات لم تزل مترامية كما أنّ الحوادث لم تزل

__________________

(٥) كذا في الأصل. والظاهر أنّه تصحيف « الطفرة ».

٢٩٠

مترامية ، وأنّه لا حال إلّا ويفرض فيها وجود حوادث سابقة وإعدام الحوادث لاحقة فهذا مسلّم ، ودليلكم لم يتناول إبطال ذلك ، ونحن فلا نعني بقدم الحوادث قدمها بالذات ، ولا أنّها قارّة كالأفلاك بحيث يلزم تحقّقها أو تحقق شي‌ء منها مقارنا للأوّل ، بل نعني بالقدم كون كلّ حادث مسبوقا بالآخر لا إلى بداية.

والجواب

قوله : لا نسلّم جواز وصف الاعدام بالأزليّة والمقارنة.

قلنا : لا نعني بالأزليّة إلّا عدم البداية ، وهي عنده كذلك ، ولا بالمقارنة إلّا مساواة الواجب في عدم البداية وهذا معلوم التحقيق فالمحاجز عنه غير مسموعة.

قوله : العدمات لم تزل مترامية ، وكذلك الحوادث. قلنا : قد بينّا استحالة الجمع بين الأمرين ، وتحقيقه أنّ كلّ موصوف بعدم البداية ولم يكن واجبا فإنّه مستند إلى الواجب ، وذلك الواجب لا بدّ من وجود معلوله معه ، وحينئذ إن وجد مقارنا ذلك المعلول شي‌ء من الحركات كانت تلك بعينها قديمة ، وإن لم يوجد شي‌ء منها ووجد بعد ذلك ، كان ما وجد هو الأوّل فإذا فرض الترامي إلى غير النهاية مع رفع القدم عن كلّ واحد من أشخاصها جمع بين النقيضين.

ولو قال : ليس العدمات كذلك ، لم يسمع لأنّ كلّ ما يفرض له آحاد نفرض له كلّ متناهية كانت آحاده أو لم تكن.

ويمكن أن يقال أيضا : لو أمكن فرض حوادث لا أوّل لها منقضية لأمكن فرض حوادث لا أوّل لها قارّة. أمّا الملازمة فلأنّ الحركات المنقضية قد شملها الوجود ، فلو فرض مع كلّ حادث قارّ لزم وجود ما لا نهاية له من الحوادث ، لكنّه محال ، لاستحالة اشتمال الوجود على ما لا نهاية له. ولا عبرة بعد ذلك بحكاية مذهب القوم والتخلص بعباراتهم.

٢٩١

المسألة الثالثة

ما الدليل على إبطال التسلسل؟.

الجواب

اتّفق الجميع على بطلان التسلسل في العلل والمعلولات ، وإن أجازه الفلاسفة فيما له ترتب عرضي كالحوادث. واستدل الجميع بأنّه لو تسلسلت العلل والمعلولات لزم وجود ما لا نهاية له من العلل بالفعل ، لأنّ العلل التامة يوجد معها المعلول التّام الاستعداد ، فلو كانت بغير نهاية لزم وجود ما لا نهاية له دفعة وهو محال. وبأنّه لو لم تنته الممكنات عند واجب مع كونها بأجمعها ممكنة لزم وجودها لا لمؤثر أو الدور وهما محالان.

المسألة الرابعة

هل يجب على المكلف معرفة العقائد بالدليل أو لا؟ فإن كان الأوّل لزم تعطيل الأمور الدنيوية الضروريّة ، لأنّ تحصيل المعارف لا يحصل في الزمان اليسير ، ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقنع بإظهار كلمة الإسلام ويحكم له بالعدالة ، وإن كان الثاني لزم أن يكون الإنسان جازما بما لا يعلم صحّته ، والعقل يقبح ذلك. ولو أخل بالنظر هل يكون فاسقا أو كافرا؟

الجواب

لمّا كانت العقائد مختلفة وخطر الخطأ فيها عظيما وجب دفع ضرر الخوف باستعمال النظر لتحصيل الوثوق بالسلامة : فالمخلّ بتحقيق ما يبني عليه عقيدته عاص. وإن قدح الشكّ في عقيدة فهو كافر ما لم يدفعه بإنعام (٦) النظر. ويكفي في المعرفة أوائل الأدلّة وقدر يناله كلّ مبتلى بالتكليف في الزمان اليسير ، (٧) ولا

__________________

(٦) أنعم النظر في المسألة : حقق النظر فيها وبالغ. وأمعن النظر في الأمر : بالغ في الاستقصاء.

(٧) في نسخة مكتبة ملك : في الأمد اليسير.

٢٩٢

يلزم على ذلك تعطيل المصالح الدنيويّة ، ولا نسلّم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقنع بمجرد الإقرار ، وإن قنع بذلك في أول وهلة فلقصد التسليك بالأرفق ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : علّموا ويسّروا ولا تعسّروا (٨).

وبالجملة المراد الاستناد في العقائد الدينية إلى ما يثلج به صدر المعتقد من مستندها أمّا التدقيق والمبالغة في دفع الشبهة المستوعبة للأوقات المتطاولة فذلك إلى أئمة العرفان. نعم كلّ من عرض له شكّ في عقيدة من الإيمان (٩) فالواجب عليه الاجتهاد في النظر والتوصّل بغاية الوسع في إزالته ، وإن أهمل مع تمسّكه باعتقاد الحقّ فهو عاص ، وإن أزال الشكّ عقيدته فهو كافر.

المسألة الخامسة

هل إيجاد العالم لغرض أو لا لغرض حكمي ، فإن كان لغرض كان الباري مستكملا بذلك الغرض ، وإن كان لغير غرض فهو عبث فكيف التخلّص؟.

الجواب

إيجاد العالم لغرض حكمي ، وهو كون الإيجاد حسنا والباري يفعل الحسن لحسنه ، وهو الباعث على فعله لأنّه لو خلا الفعل من حكمة باعثة لكان عبثا ،

__________________

(٨) في صحيح البخاري ٥ ـ ٢٠٤ : عن أبي بردة قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمين قال : وبعث كلّ واحد منهما على مخلاف ، قال : واليمن مخلافان.

ثم قال : يسّرا ولا تعسرا وبشّرا ولا تنفّرا .. وفي صحيح مسلم ٦ ـ ١٠١ : ادعوا الناس وبشّرا ولا تنفّرا ويسّرا ولا تعسرا.

أقول : في بعض الروايات كما في الجامع الصغير للسيوطي : يسّروا ولا تعسّروا بصيغة الجمع ، وقال بعضهم : إنما قال : يسّروا بالجمع مع أنّ المخاطب اثنان لأنّ الاثنين جمع في الحقيقة إذ الجمع شي‌ء إلى شي‌ء

(٩) كذا.

٢٩٣

وكان فاعله ناقصا. ولا يلزم من فعل الحسن لحسنه من حيث هو حسن ، لا لإحراز نفع ، ولا لاستدفاع ضرر ، أن يكون فاعله ناقصا ، لأنّ النقص يستعمل إمّا لناقص في ذاته أو صفاته أو شرفه أو منزلته ، وكلّ ذلك مرتفع في حقّه. ولا يفعل الحسن لحسنه إلّا كامل في ذاته وصفته باعث حكمته على فعل ما يطابقها لا لاستفادة كمال لم يكن.

لا يقال : هذا الفعل إن أفاد كمالا كان الفاعل ناقصا من دونه ، وإن لم يفد كمالا كان وجوده كعدمه. لأنّا نقول : لا نسلّم أنّه لو لم يفد كمالا كان وجوده كعدمه. وهذا لأنّ الفعل قد يطلب به الاستكمال ، وقد يبعث عليه الكمال ، فالأوّل يفيد كمالا ، والثاني يدلّ على الكمال ، وفعل الله سبحانه من القبيل الثاني. وبالجملة فمقدمة الكمال والنقص خطابيّة يتعلّق بها الضعيف من الأشاعرة والمتفلسفة (١٠) ، ويدلّ على كون هذه المقدّمة خطابيّة ، لا بل شعريّة ، زوال استنكارها عند إبدال لفظها بما يرادفه ، فإنّك لو قلت : الباري يفعل الفعل لحسنه لا ليستفيد به نفعا ولا يدفع به ضررا لم ينكره العقل.

ثمّ ولو نزلنا عن ذلك لم نسلّم أنّ الذات يوصف بالنقص ، وهذا لأنّ الحسن حسن لذاته ، وهو سبحانه عالم بحسنه فإذا خلا من المفاسد فعله ، وإلّا تركه ، فهو كامل في الحالين ، لأنّ الفعل أو الترك لازم لعلمه (١١) ، ولا يقال : بالنظر إلى ذاته لا يكون كاملا وبالنظر إلى ذلك اللازم يكون كاملا ، لأنّا نقول وما الدليل على استحالة ذلك ، فإنّ للباري صفات وإضافات باعتبارها يفعل الكمال ، لكن لمّا لم يكن مستفادا من غير ذاته ، ولا متأخرا عن ذاته لم يزل كاملا ، ولم يجز وصفه بالنقص لمّا لم يكن تلك العوارض متلقاة عن الغير.

__________________

(١٠) تفلسف : تظاهر بالحذق وادّعاه.

(١١) في نسخة ملك : تابع لعلمه.

٢٩٤

المسألة السادسة في القبلة

قال : ما ذكر من التياسر في الاستقبال في كتاب الشرائع (١٢) الخبر به ضعيف فكيف صار إليه؟ وما معنى التياسر؟ وهل هو على الاستحباب أو على الوجوب؟

الجواب

لا ريب أنّ الأخبار الدالّة على ما ذكره ضعيفة لكنّ الشيخ الطوسي رحمه‌الله ذهب إليه في كتبه واستدلّ عليه في مسائل الخلاف (١٣) بإجماع الفرقة وأخبارهم ولعلّ اعتماده على الأخبار مع ضعفها للإجماع عنده عليها أو على مضمونها ، وصرنا نحن في الكتاب المشار إليه إلى ما اختاره الشيخ رحمه‌الله لمكان دعواه الإجماع.

وأمّا التياسر فظاهر كلام الشيخ في كتبه الإيجاب ، لكن الأولى مع القول بأنّ الاستقبال إلى الحرم أن يقال على الاستحباب.

وأمّا وجه الحكمة فما رواه المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام حين سأله عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السبب فيه ، فقال : إنّ الحجر الأسود لمّا نزل من الجنّة وضع في موضعه وجعلت أنصاب الحرم حيث يلحقه النور ، وهو عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة لقلّة (١٤).

__________________

(١٢) قال في الشرائع : ويستحب لهم ـ أي أهل العراق ـ التياسر إلى يسار المصلّي منهم قليلا.

١ ـ ٦٦ وراجع رسالة القبلة له في هذه المجموعة.

(١٣) الخلاف ١ ـ ٢٩٧. فيه : دليلنا إجماع الفرقة وروى المفضل بن عمر ..

(١٤) من لا يحضره الفقيه ١ ـ ١٧٨ والتهذيب ٢ ـ ١٤٢ وعلل الشرائع ٢ ـ ٧ وفيه : لعلّه أنصاب الحرم.

٢٩٥

وهذه الرواية ضعيفة السند لأنّ المفضّل بن عمر مطعون فيه ، ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال (١٥) وغيره فإذا المعوّل على أنّ الاستقبال إلى جهة الكعبة.

المسألة السابعة

ما تقول في القراءة هل متابعة الإعراب فيها واجب أم لا ، والنطق فيها بالتشديد في مواضعه هل هو لازم أو لا؟

الجواب

لما وجبت القراءة وجبت كيفيّتها ومتابعة التنزيل فيها ، فالإخلال بالإعراب كالإخلال بالحروف. ويلزم من وجوب تتبّع الإعراب والحروف النطق بالتشديد في مواضعه ، لأنّه قائم مقام حرف آخر ، فالإخلال به إخلال بحرف من نفس المقرو. وكذلك النطق بالحروف من مخارجها ، لأنّ نقل مخارجها مستفيض عن علماء العربيّة ، والقرآن عربيّ. وإذا تعيّن الوجوب لزم بالإخلال عمدا وجهلا مع التمكّن من التعلّم الإعادة ، لأنّه لم يأت بالقدر المتعلّق بالذمّة ، فيبقى الشغل ، وقضاؤه بانفراده لا يصحّ ، فوجوب إعادة الصلاة من رأس (١٦).

المسألة الثامنة

هل يحل لهاشميّ أخذ الزكاة من غيرهم وإن حلّ ففي أيّ حال يحلّ.؟

الجواب

لا يحلّ لهاشميّ أخذ الزكاة الواجبة من غير هاشميّ إلّا مع الضرورة.

وفي تلك الضرورة خلاف. قال بعض الأصحاب : هي عدم التمكّن من الاكتفاء

__________________

(١٥) رجال النجاشي ص ٤١٦.

(١٦) قال بعض الفقهاء : لا يلزم إخراج الحرف من تلك المخارج بل المدار صدق التلفّظ بذلك الحرف وآن خرج من غير المخرج الذي عيّنوه.

٢٩٦

بالأخماس (١٧). وقال آخرون : ما يحفظ به الرمق (١٨) ، وهو الأولى.

ودلّك على ذلك رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : لو كان عدل ما احتاج هاشميّ ولا مطّلبي إلى صدقة ، إنّ الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم. ثمّ قال : إنّ الرجل إذا لم يجد شيئا حلّت له الميتة ، ولا يحلّ لأحد منهم الصدقة ، إلّا أن لا يجد شيئا ويكون ممّن تحل له الميتة (١٩).

ويقوي هذا أنّ الزكاة مال لغيرهم ، فلا يتناول منها إلّا كما يتناول من مال الغير عند الضرورة.

ويدلّ على تحريمها مطلقا ما روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الصدقة أوساخ أيدي الناس وأنّ الله حرم عليّ منها ومن غيرها ما حرمه ، وإنّ الصدقة لا تحلّ لبني عبد المطلب (٢٠).

وروي إسماعيل بن الفضل الهاشميّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام سألته عن الصدقة التي حرّمت علي بني هاشم ما هي؟ فقال : هي الزكاة. قلت : فيحلّ صدقة بعضهم على بعض؟ قال : نعم (٢١) وهذه الأدلّة تدلّ على التحريم المطلق.

المسألة التاسعة

هل تبرأ ذمّة الميّت بما يؤدّى عنه من الصلاة والحقوق أم لا؟ ولو مات هل يخرج من أصل التركة أم لا؟.

__________________

(١٧) قال في الشرائع ١ ـ ١٦٣ : ولو لم يتمكن الهاشمي من كفايته من الخمس جاز له أن يأخذ من الزكاة ولو من غير هاشمي ، وقيل : لا يتجاوز قدر الضرورة.

(١٨) أي لا يجوز التجاوز عن قدر الضرورة. راجع المختلف ص ١٨٥.

(١٩) التهذيب ٤ ـ ٥٩ والاستبصار ٢ ـ ٣٦.

(٢٠) التهذيب ٤ ـ ٥٨ والاستبصار ٢ ـ ٣٥ والكافي ٤ ـ ٥٨.

(٢١) التهذيب ٤ ـ ٥٨ والاستبصار ٢ ـ ٣٥ والكافي ٤ ـ ٥٩.

٢٩٧

الجواب

نعم تبرأ ذمّة الميّت بما يؤدّى عنه من الحقوق الماليّة والعباديّة صلاة كانت العبادة أو غيرها ، لكن لا يخرج من أصل التركة إلّا الدين الماليّ واجرة الحجّ الواجب ، وأمّا الصلاة فلا يجب إخراجها من أصل التركة ، بل لو أوصى بها الميّت أخرجت من ثلثه. ولو تبرّع بالقضاء عنه متبرّع قريبا أو بعيدا أو استؤجر عنه صحّ وبرئت ذمّته بالصلاة عنه.

ويدلّ على ذلك ما رواه الطوسي رحمه‌الله في كتاب التهذيب عن رجاله عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قلت : يصلّى عن الميت؟ قال : نعم حتّى أنّه يكون في ضيق فيوسّع الله عليه ، ويقال له : خفّف عنك لصلاة أخيك عنك (٢٢).

وقال عليه‌السلام : من عمل من المسلمين عن الميّت عملا صالحا أضعف له أجره ونفع الله به الميّت. ذكر ذلك ابن بابويه (٢٣).

المسألة العاشرة

هل يشترط في عقد النكاح التلفّظ بالعربيّة بأحد الألفاظ الثلاثة أم يكفي ترجمتها بأيّ لغة اتّفق؟.

الجواب

التلفّظ بأحد الألفاظ الثلاثة شرط في صحّة العقد. والألفاظ : زوّجتك وأنكحتك ومتّعتك ، ولا يصحّ الكناية عنها ولا الترجمة بغير العربيّة إلّا مع التعذّر

__________________

(٢٢) روى هذا الحديث السيد ابن طاوس في كتابه غياث سلطان الورى عن الشيخ بإسناده عن محمد بن عمر بن يزيد راجع الوسائل ٥ ـ ٣٦٦ ولا يوجد في التهذيب نعم رواه عن عمر بن يزيد في جامع أحاديث الشيعة ٦ ـ ٣٥ والفقيه ١ ـ ١٨٣ طبع مكتبة الصدوق و ١ ـ ١١٧ طبع النجف.

(٢٣) جامع أحاديث الشيعة ٦ ـ ٣٦ والفقيه ١ ـ ١٨٥ طبع مكتبة الصدوق و ١ ـ ١١٧ طبع النجف.

٢٩٨

لأنّ النكاح عصمة مستفادة بالشرع فتقف صحتها على ما دلّ الشرع على الانعقاد به ، وقد عبّر الله سبحانه عن العقد بهذه العبارات الثلاث (٢٤) فيقتصر عليها. أمّا مع العجز عن النطق بها فيجوز العدول إلى ما يدلّ على معناها وينعقد النكاح ولو كان إشارة كما في حقّ الأخرس.

والله العاصم من الزلل ، الهادي إلى أحمد السبل ، والحمد لله وحده وصلاته على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

__________________

(٢٤) راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ( نكح وزوج ومتع. )

٢٩٩
٣٠٠