سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

علي موسى الكعبي

سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: ٢٤٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمد لله رب العالمين.. وصلى الله علىٰ سيدنا محمد وآله الطاهرين..

وبعد..

إنّ دراسة سيرة أهل البيت عليهم‌السلام تُعدُّ إحدىٰ اللبنات الأساسية لسلّم البناء العقائدي والفكري والسياسي والاجتماعي الذي ارتضاه الاسلام منهجاً لتقويم العقيدة وتنظيم السلوك والسير باتجاه حركة التكامل الانساني المطلوب علىٰ صعيد الفرد والمجتمع. ذلك أنّ ما خُصّوا به من فضل عظيم وما أحرزوه من مكانة متميزة في تاريخ الإسلام ، يدفعنا نحو استجلاء معالم تلك السيرة ، والتعاطي مع دلالتها المتواصلة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات ، لأنّها تحدد الرؤية الأسلم والصيغة الأكمل لفهم الإسلام وتجسيده بأصوله وأركانه وفروعه وعلىٰ كافة المستويات. والزهراء عليها‌السلام سيدة نساء العالمين ، وبضعة المصطفىٰ الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيدة أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام تمثّل النموذج الأكمل والمثل الأعلىٰ الذي أرادته الرسالة الإلهية للمرأة المسلمة سلوكاً ومنهجاً ، سواء علىٰ صعيد حياتها الشخصية بما تحمله من أسرار العظمة المتجسِّدة في روحانيتها وعفَّتها وعبادتها وزهدها وعلمها ، أو علىٰ صعيد حركتها في واقع الحياة ، وما تشتمل عليه من جهاد مرير ، وصبر مستمدٍّ من قوة الإيمان وشدَّة الإخلاص ، ومواقف صلبة في الحفاظ علىٰ المفهوم الأصيل لقيادة الأمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنّ موقف الزهراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله يشتمل علىٰ دلالاتٍ وأبعادٍ سياسية خطيرة حرية بالبحث والدراسة ، لأنّها تستوعب قسماً مهماً من الأحداث والملابسات السياسية والاجتماعية التي تفاعلت في داخل الساحة الاسلامية في أخطر مراحل المسيرة التاريخية للأمّة ، والتي شكَّلت

٥

المخاض العسير الذي أنجب أخطر المعطيات السياسية والاجتماعية بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ رحمة ربِّه ورضوانه.

كان الدور الذي اضطلعت به الزهراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله يتمثل في الحفاظ علىٰ الصيغة الاسلامية الأصيلة علىٰ مستوىٰ العقيدة والسياسة والتشريع ، ويمثل حجر الزاوية في تأصيل خط الإمامة بكل ما يحمله من مفاهيم وأفكار وأهداف وتوجّهات وخصائص ومميزات ، ويعكس الموقف السليم من التغيرات الطارئة المستجدة في حياة الأمّة علىٰ صعيد العقيدة وفهم الكتاب وإقامة السُنّة.

ومن هنا فإنّ دراسة حياة الزهراء عليها‌السلام تعني دراسة حياة امرأة كل سيرتها للهداية والصلاح والرشاد ، لأنّها سيدة النساء ، العالمة المعصومة المتفانية في سبيل الله ، والقدوة الصالحة لنساء الأمّة ، والمثل الأعلىٰ لكلِّ قيم العزِّ والعظمة والشرف والطهارة ، رغم المعاناة وقسوة ظروف الزمان وشدَّتها ، فلابد إذن من استلهام الدروس واستجلاء العبر من سيرة الزهراء عليها‌السلام لتسهم في إعداد المرأة وتربيتها ومعرفة حقوقها وواجباتها وبناء كيانها ورقيها ، ودفعها باتجاه تربية جيل تتمثل به القيم الأخلاقية ومبادئ العقيدة الحقَّة.

وإصدارنا هذا تكفَّل بتغطية مفردات تلك السيرة العطرة منذ الولادة في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ الوفاة في بيت الوصي عليه‌السلام بشكل وافٍ وأسلوبٍ علمي واضح موثَّقٍ بالمصادر المعتبرة ، ندعو الله العزيز أن ينفع به الاخوة المؤمنين ، ومنه تعالىٰ نستمد العون والسداد ، وهو الهادي الىٰ سبيل الرشاد.

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم علىٰ الحبيب المصطفىٰ الأمين وآله الهداة الميامين سيّما قرة عين النبي ، وبهجة قلب الوصي ، ثمرة النبوة ، ووعاء الإمامة ، أُمّ الحسنين ، وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام هالة النور والجلال وسليلة العزّ والعظمة والشرف الذي لا تنازع فيه.

وبعد :

فالزهراء... المثل الأعلىٰ الذي قدّمته الرسالة الإلهية للمرأة ، فقد صاغتها يد العناية الربانية أيّة صياغة لتكون قدوةً للحياة الكريمة ، واُسوةً للفضائل والقيم الإنسانية ، فهي نسخة ناطقة بتعاليم الوحي الالهي ، صدّيقة لا تفعل غير الحق ، ولا تتبع سوىٰ الهدىٰ.

فحريٌّ بنا أن ندرس سيرة الزهراء البتول عليها‌السلام ، ونسلط الضوء علىٰ مراحل حياتها ، كي نجعل نصب أعيننا المثل الإسلامية العليا التي تجسدت في الزهراء ، فكراً ونهجاً وسلوكاً.

فزواج الزهراء عليها‌السلام مثلاً بما فيه من تواضع المهر ، وبساطة المراسيم ، وسمو الخلق والمثل ومبادىء الدين علىٰ مظاهر البذخ والترف ، وما يتبعه من حسن التبعّل وطيب المعاشرة مع ابن عمها الوصيّ المرتضى أمير المؤمنين عليه‌السلام وتربيتها سبطي النبي الأكرم وإمامي الرحمة الحسن والحسين عليهما‌السلام ، كلّ ذلك يعكس لنا أبعاد الرسالة الإسلامية السمحة التي رسمها الإسلام للزواج الذي ارتضاه خالق الوجود ، ويرسم لنا صورة عن

٧

حقوق المرأة وواجباتها ومدىٰ فاعليتها في الاسهام ببناء المجتمع وتطويره.

أما مواقف الحوراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعلىٰ الرغم مما تثيره فينا وفي وجدان كلّ مسلم حرّ من أشجان ولوعة ، لما فيها من أحداث تزلزل الجبال وتهدّ الصمّ الصلاب ، فإننا نلمس من خلالها الشجاعة والثبات ورباطة الجأش وقوة النفس التي تحلّت بها ابنة النبوة الزهراء الطاهرة عليها‌السلام في الدفاع عن مبادىء الإسلام ومثله وإثبات العقيدة الحقّة ، حينما لاثت خمارها علىٰ رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخلت علىٰ أُمّةٍ انقلبت علىٰ أعقابها ، ورسولها لمّا يجف تراب رمسه ، فاغتصبت بالأمس مجداً سجّلته السماء لأهل بيت النبوة ، واهتضمت اليوم نحلتها في فدك ، ولم ترعَ وصية أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها : « فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها » وكأنها ما سمعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : « إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضىٰ لرضاها » !

فاتخذت الزهراء عليها‌السلام من الكلمة سيفاً ومن الحجة سناناً ، لتلقي الحجة وتنبه علىٰ الفتنة وتعرّي أساس السلطة ، وتقوّض أركانها بخطابها الذي كان آيةً في البلاغة وغايةً في الفصاحة ، لتقول : « أيُّها الناس ، اعلموا أني فاطمة ، وأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوىٰ أصفيائه ، ظهر فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين... فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ( أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ... ألا وقد قلت ما قلت علىٰ معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها

٨

قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القنا ، وبثّة الصدر ، وتقدمة الحجة.. ».

وفي موقف الزهراء عليها‌السلام من أحداث السقيفة ومما جرىٰ عليها من الظلم والعدوان ، نستلهم دروساً من العظمة والإباء في التصدي للانحراف والطغيان والدفاع عن مبادىء الحقّ وإقامة السُنّة وإماتة البدعة.

وهكذا عندما نقف علىٰ الجوانب الاُخر من حياة الزهراء عليها‌السلام فإنّما نقف علىٰ أوسع مدىٰ لمثل الإسلام وكل صفات الفضيلة والكمال وقيم الشرف والجلال وسبل الهداية والصلاح والرشاد.

يقول الاستاذ العقاد : في كلِّ دين صورة للانوثة الكاملة المقدسة ، يتخشع بتقديسها المؤمنون ، كأنما هي آية الله فيما خلق من ذكرٍ وأنثىٰ ، فإذا تقدست في المسيحية صورة مريم العذراء ، ففي الإسلام لا جَرَم تتقدّس صورة فاطمة البتول (١).

ولا ريب أنّ الزهراء عليها‌السلام صورة للانوثة الكاملة لبنات حواء ، لأنّها سيدة نساء العالمين بنصّ أبيها الرسول المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما أحوجنا ونحن نعيش في عالمٍ يغرق بالمادة وتتساقط فيه المثل والقيم العليا أن تتعرف نساؤنا المسلمات علىٰ القدوة المثلىٰ والاُسوة الحسنة للنساء في الإسلام ، وأن يقتدين بسيرتها ، ويستلهمن منها دروس الحياة لتربية الأجيال وتوجيهها لما فيه الصلاح والهداية ، مما سينير مستقبل البشرية ، ويسهم في بناء انسانٍ تحيا فيه المثل الاخلاقية والعقيدة الحقّة.

وقد التفت المحدثون والمؤرخون والباحثون ومنذ القدم الىٰ أسرار العظمة في حياة الزهراء عليها‌السلام فأفردوا لها مصنفات خاصّة كابن شاهين والبغوي والحاكم النيسابوري والطبري والمناوي والسيوطي وابن دينار

_______________________

١) أهل البيت عليهم‌السلام / توفيق أبو علم : ١٢٨ مطبعة السعادة ـ مصر.

٩

والجلودي وأبي مخنف وابن عقدة وغيرهم ، ناهيك عن مصنفات المتأخرين التي تجاوزت المئتين وناهيك عن التراجم التي جاءت في كتب السير والتواريخ والحديث.

وحاولنا في هذا البحث الموجز أن نقدّم إلمامةً عن بعض جوانب حياة سيدة النساء ، آملين أن تسهم في الكشف عن أسرار عظمتها والتعرّف علىٰ فضائلها ومكارم أخلاقها.

ومن الله التوفيق

١٠

الفصل الأول

الزهراء عليها‌السلام في حياة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

المبحث الأول : في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إنّ ركائز الفرد الروحية والأخلاقية تستند الىٰ بوادر تربيته وبيئته وبيته الذي نشأ فيه ، وكان منبت الصديقة الزهراء عليها‌السلام في أول بيت حمل لواء الإسلام ونشر راية التوحيد ونادىٰ بمكارم الأخلاق ، وهو البيت الذي وصفه أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته القاصعة : « ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرىٰ نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوة... » (١).

فعميد البيت هو النبي العربي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو القاسم محمد بن عبدالله ابن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي ، الذي وصفه تعالىٰ بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) ونعته قومه وهم في غياهب جاهليتهم بالصادق الأمين ، واختصه الله تعالىٰ بالوحي والكتاب الكريم ، وشرّفه بشرف الرسالة ، وشرح صدره بأنوار المحبة واللطف والكرامة.

هو الحبيب الذي ترجىٰ شفاعته

لكلِّ هول من الأهوال مقتحمِ

دعا إلىٰ الله فالمستمسكون به

مستمسكون بحبلٍ غير منفصمِ

فاق النبيين فـي خَلْــق وفي خُلُق

ولم يدانوه في علمٍ ولا كرمِ

_______________________

١) نهج البلاغة / ضبط صبحي الصالح : ٣٠٠ الخطبة (١٩٢).

٢) سورة القلم : ٦٨ / ٤.

١١

وكلّهم من رسول الله ملتمس

غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ

فهو الذي تمّ معناه وصورته

ثـم اصطفاه حبيباً بارىء النسمِ

منزّه عن شريك في محاسنه

فجوهر الحسن فيه غير منقسمِ (١)

أما سيدة البيت أُمّ الزهراء عليها‌السلام فهي أُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزىٰ بن قصي جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوسط نساء قريش نسباً ، وأعظمهن شرفاً ، وكانت تدعىٰ في الجاهلية الطاهرة (٢) لشرفها وعفّتها ، وقد نشأت في بيت معروف بالمكانة واليسار والنفوذ والشرف في قريش.

كان جدها أسد بن عبد العزّىٰ واحداً من أعضاء حلف الفضول ومؤسسيه والدعاة إليه ، وهو الحلف الذي بموجبه تعاقدت قبائل من قريش وتعاهدت علىٰ أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا نصروه ، وكانوا علىٰ من ظلمه حتىٰ تردّ مظلمته ، وهو الحلف الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحبُّ أن لي به حمر النعم ، ولو أُدعىٰ به في الإسلام لأجبت » (٣).

وكان ابن عمّها ورقة بن نوفل بن أسد من الأربعة الذي تنسكوا واعتزلوا عبادة الأوثان ، وهجروا قومهم فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم عليه‌السلام (٤).

وقد تزوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام قبل البعثة بنحو خمسة

_______________________

١) الأبيات من قصيدة البردة للبوصيري ، المتوفىٰ سنة ٦٩٦ ، راجع المجموعة النبهانية / النبهاني ٤ : ٥ ، دار المعرفة.

٢) أُسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٤٣٤ ، دار إحياء التراث العربي.

٣) سيرة ابن هشام ١ : ١٤١ ، مطبعة البابي الحلبي ـ مصر.

٤) سيرة ابن هشام ١ : ٢٣٧.

١٢

عشر عاماً ، فلمّا بُعِث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاها إلىٰ الإسلام ، فكانت أول امرأة آمنت بدعوته ، وبذلت كل ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسة ، فكانت أموال خديجة ثالث أثافي دعوة الإسلام بعد تسديد العناية الإلهية لشخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحماية أبي طالب عليه‌السلام عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصرته ومؤازرته.

ثم انها قد اجتباها الله تعالىٰ لكرامة لا توصف نالت بها سعادة الأبد ، وذلك بأن منّ الله تعالىٰ علىٰ الإسلام بأن حفظ في نسلها ذرية الرسول المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي أُمّ آل البيت الكبرىٰ ، الذين كانوا نفحةً من عطر شذاه ، وقبساً من سنا نوره ، إذ انحصرت في ابنتها الزهراء عليها‌السلام نسبة كل منتسب إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعظم بها من مفخرة !

وتوفيت خديجة عليها‌السلام في السنة العاشرة من المبعث الشريف بعد خروج بني هاشم من الشعب (١) ، أي قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين ، وذلك بعد أن عاشت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو ربع قرن كانت فيها أُمّ عياله وربة بيته ومؤازرته علىٰ دعوته ، ولم يتزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امرأة في حياتها قط إكراماً لها وتعظيماً لشأنها بخلاف ما كان منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاتها.

وقد جاء في فضلها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية امرأة فرعون » (٢).

ولم ينس ذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ في أواخر حياته كما في قول عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتىٰ يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام ، فأخذتني الغيرة ، فقلت : هل

_______________________

١) الإصابة / ابن حجر ٤ : ٢٨٣ ، دار إحياء التراث العربي.

٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٨٥ حيدر آباد ـ الهند. وكنز العمال / المتقي الهندي ١٢ : ١٤٤ / ٣٤٤٠٦ ، مؤسسة الرسالة.

١٣

كانت إلّا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها ، فغضب حتىٰ اهتزّ مقدم شعره من الغضب ، ثم قال : « لا والله ما أبدلني خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً دون غيرها من النساء » قالت عائشة : فقلت في نفسي : لا أذكرها بعدها بسبّة أبداً (١).

وفي هذا النص دليل واضح علىٰ أفضليتها عليها‌السلام علىٰ سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونها أحبهن الىٰ قلبه الشريف.

ففي هذا البيت الذي اختاره الله سبحانه مهبطاً للوحي ومقراً للنبوة لتبليغ رسالته والانذار بدعوته ، ولدت ونشأت وترعرت الزهراء عليها‌السلام بين أقدس زوجين في ذلك العالم الذي يلفّه الظلام والضلال ، فكان البيت بما يحتويه من عميده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوجته خديجة الكبرىٰ ، وابن عمه الوصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وابنته الطاهرة الصديقة ( سلام الله عليهم أجمعين ) هالةً من النور وبيرقاً للهداية ، وماهي إلّا سنين قلائل حتىٰ تبدّدت سحب الضلال بنور الإيمان ، وشملت راية التوحيد أمُّ القرىٰ وماحولها.

قال الشاعر :

شبت بحجر رسول الله فاطمة

كما تحـبّ المعالي أن تلاقيها

وفي حمى ربّة العليا خديجة قد

نشت كما الطهر والآداب تشهيها

ونفسها انبثقت من نفس والدها

وأُمّها فهـي تحكيـه ويحكيها (٢)

تاريخ الولادة :

اختلف المحدثون والمؤرخون عند الفريقين في تاريخ ولادة

_______________________

١) الاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٢٨٧ بهامش الاصابة. الاصابة ٤ : ٢٨٣.

٢) الأبيات من القصيدة العلوية للشاعر عبدالمسيح الأنطاكي : ٩٥ ـ مصر.

١٤

الزهراء عليها‌السلام ، والمشهور بين علماء الإمامية أنّه في يوم الجمعة العشرين من شهر جمادى الثانية من السنة الخامسة بعد البعثة النبوية ، وبعد الاسراء بثلاث سنين (١).

وعمدتهم في ذلك ما روي عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام فقد روي بالاسناد عن حبيب السجستاني ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « ولدت فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمس سنين » (٢).

وعن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ولدت فاطمة في جمادىٰ الآخرة يوم العشرين منه ، سنة خمس وأربعين من مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٣).

وروىٰ نصر بن علي الجهضمي ، عن الإمام علي بن موسىٰ الرضا عليه‌السلام ، قال : « ولدت فاطمة بعدما أظهر الله نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمس سنين » (٤).

وقيل أيضاً : كان مولد السيدة الزهراء عليها‌السلام في العشرين من جمادىٰ الآخرة سنة اثنتين من المبعث (٥).

وقال أكثر علماء العامة : إنّها عليها‌السلام ولدت قبل البعثة ، واختلفوا في عدد السنوات ، فقيل : ولدت وقريش تبني البيت الحرام قبل النبوة بخمس سنين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن خمس وثلاثين سنة ، أخرجه سبط ابن الجوزي عن علماء السير (٦) ، والمحبّ الطبري عن الدولابي (٧) ، وابن حجر عن الواقدي

_______________________

١) راجع : الكافي / الكليني ١ : ٤٥٨ ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران. كشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٤٩ ـ تبريز. ودلائل الإمامة / الطبري : ٧٩ ، مؤسسة البعثة ـ قم. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧ ، دار الأضواء.

٢) الكافي ١ : ٤٥٧ / ١٠.

٣) دلائل الإمامة : ٧٩ / ١٨. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩ / ١٦.

٤) تاريخ الأئمة / ابن أبي الثلج : ٦ ـ ضمن مجموعة نفيسة ـ مكتبة السيد المرعشي ـ قم.

٥) المصباح / الكفعمي : ٥١٢ ، دار الكتب العلمية ـ قم.

٦) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٠٦ ، مكتبة نينوى. واتحاف السائل / المناوي : ٢٣ ، مكتبة

١٥

والمدائني (١).

وعن محمد بن إسحاق ، كان مولدها حين بنت قريش الكعبة قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبع سنين وستة أشهر (٢).

وروى الحاكم وابن عبدالبرّ عن عبدالله بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : ولدت فاطمة عليها‌السلام سنة إحدىٰ وأربعين من مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي بعد المبعث بسنة (٣).

هذا هو معظم ماقيل في تاريخ ولادتها عليها‌السلام ومنه يتضح أنه مورد اختلاف بين علماء الإسلام ، ونحن نرجّح ما روي عن أبناء الزهراء عليها‌السلام الأئمة المعصومين عليهم‌السلام لأنّهم أعرف بتاريخ أُمّهم ، والمروي عنهم كما تقدم أنها ولدت لخمس سنين بعد البعثة ، وقولهم مقدم علىٰ أقوال غيرهم.

ويؤيده عدّة قرائن :

منها : ما أخرجه المحبّ الطبري عن الملّاء في سيرته قال : إنّ خديجة لمّا أرادت أن تضع فاطمة عليها‌السلام بعثت الىٰ نساء قريش ليأتينها ، فيلين منها ما يلي النساء ممّن تلد ، فلم يفعلن وقلن : لانأتيك وقد صرت زوجة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) ، وإنّما قاطعن خديجة عليها‌السلام بعد ظهور الرسالة ونزول الوحي.

ومنها : ما أخرجه سبط ابن الجوزي عن أحمد في (الفضائل ) عن عبدالله

_______________________

القرآن ـ القاهرة.

١) ذخائر العقبىٰ / المحب الطبري : ٥٣ ، دار المعرفة ـ بيروت.

٢) الإصابة ٤ : ٣٧٧.

٣) الثغور الباسمة / السيوطي : ١٥٨ ، مركز الدراسات والبحوث العلمية ـ بيروت.

٤) مستدرك الحاكم ٣ : ١٦١. والاستيعاب ٤ : ٣٧٤.

٥) ذخائر العقبىٰ : ٤٤. ونحوه في أمالي الصدوق : ٦٩٠ / ٩٤٧ ، تحقيق مؤسسة البعثة ـ قم.

١٦

ابن بريدة ، قال : خطب أبو بكر فاطمة عليها‌السلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّها صغيرة ، وإنّي انتظر بها القضاء » (١) ، ورواه الحاكم والنسائي (٢) ، ولا يصح الاعتذار بصغر سنها لو كانت ولادتها قبل المبعث بخمس سنين ؛ لأنّ أبا بكر تعرّض لخطبتها عليها‌السلام بعد الهجرة ، وعمرها علىٰ هذا الحساب ثماني عشرة سنة أو أكثر.

ويدلُّ علىٰ أن ولادتها عليها‌السلام كانت بعد البعثة الأحاديث الكثيرة التي تنصُّ علىٰ أن تسميتها كانت بأمر الله تعالىٰ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ذلك ما رواه ابن عباس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « وإنّما سمّاها فاطمة ، لأنّ الله عزَّ وجلّ فطمها ومحبيها عن النار » (٣).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : لما ولدت فاطمة عليها‌السلام أوحىٰ الله تعالىٰ إلىٰ ملك فأنطق به لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمّاها فاطمة (٤).

وهذا التاريخ يناسب ما روي عن عائشة وسعد بن مالك وابن عباس وغيرهم ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لما أُسري بي إلىٰ السماء أدخلت الجنة ، فوقعت علىٰ شجرةٍ من أشجار الجنة ، لم أرَ في الجنة أحسن منها ، ولا أبيض ورقا ً ، ولا أطيب ثمراً ، فتناولت ثمرة من ثمراتها فأكلتها ، فصارت نطفة ، فإذا أنا اشتقت إلىٰ ريح الجنة شممت ريح فاطمة » (٥) ، وفي لفظ آخر : « فهي

_______________________

١) تذكرة الخواص : ٣٠٦.

٢) مستدرك الحاكم ٢ : ١٦٧. وسنن النسائي ٦ : ٦٢ ، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

٣) ذخائر العقبىٰ : ٢٦.

٤) علل الشرائع / الشيخ الصدوق : ١٧٩ / ٤ ، مكتبة الداوري ـ قم. والكافي ١ : ٤٦٠ / ٦.

٥) الدر المنثور / السيوطي ٥ : ٢١٨ ، دار الفكر ـ بيروت. والمعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤٠٠ / ١٠٠٠ ، دار إحياء التراث العربي. ونحوه في مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٦. وذخائر العقبىٰ : ٣٦. وعلل الشرائع ١ : ١٨٣. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٣ و ٦٨ ، مكتبة المفيد ـ قم.

١٧

حوراء إنسية ، كلّما اشتقت إلىٰ الجنة قبلتها » (١).

ومناسبة هذا الحديث للتاريخ المذكور عن أهل البيت عليهم‌السلام في ولادتها ، تأتي لكون الاسراء وقع بعد البعثة بنحو ثلاث سنين بلا خلاف ، فهذا الحديث حاكم علىٰ بطلان الأقوال المصرحة بالولادة قبل البعثة.

قد يقال : إنّ عمر خديجة عليها‌السلام حين الزواج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعون سنة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن خمس وعشرين سنة ، ونزل عليه الوحي في سنّ الأربعين ، فإذا ولدت الزهراء عليها‌السلام بعد مضي خمس سنين من نزول الوحي ، يكون عمر أُمّها عند الحمل بها ستين سنة ، وذلك أمر مستبعد للعادة.

وفيه : أنّ المنقول عن ابن عباس وابن حمّاد ، أنّ عمر خديجة عليها‌السلام حين تزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ثماني وعشرين سنة (٢).

وقد أيّد هذا بعض المؤرخين وعلماء الأنساب (٣).

ولهذا قال ابن العماد الحنبلي : « رجّح كثيرون أنّها عند الزواج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت ابنة ثماني وعشرين سنة » (٤).

ولا يخفىٰ بأنّ القول بصحة الرأي الأخير يسقط أصل الإشكال ، إذ سيكون عمر خديجة عليها‌السلام حين البعثة المشرّفة ثلاث وأربعين سنة ، وحين

_______________________

وفرائد السمطين / الجويني ٢ : ٦١ / ٣٨٦ ، مؤسسة المحمودي. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ٢٠٢ ، دار الكتاب العربي ـ بيروت. والمناقب / ابن المغازلي : ٣٥٧ ـ ٣٥٩ / ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران. ومسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام / السيوطي : ٥١ ، حيدر آباد ـ الهند.

١) تاريخ بغداد / الخطيب ٥ : ٨٧ ، دار الكتب العلمية.

٢) كشف الغمة / الاربلي ٢ : ٥١٠ و ٥١٣.

٣) أنساب الأشراف / البلاذري ١ : ١٠٨ ، دار الفكر ـ بيروت. والمحبر / ابن حبيب : ٧٩ ، دار الآفاق الجديدة ـ بيروت.

٤) شذرات الذهب / ابن العماد الحنبلي ١ : ١٤ في حوادث سنة ١١ ه‌ ، دار احياء التراث العربي ـ بيروت.

١٨

ولادة سيدة نساء العالمين عليها‌السلام ثماني وأربعين سنة ، وحمل القرشية في هذه السن من المتعارف عليه ولا نقاش فيه ، وله مصاديق جمّة قديماً وحديثاً.

وعلىٰ القول بأنّ عمر خديجة عليها‌السلام عند الحمل بها ستون سنةً ، فإنّ حمل المرأة في مثل هذه السنّ ، وإن كان متعذّراً في غالب النساء ، إلّا أنّ إمكان أن ترىٰ القرشية والنبطية دم الحيض في هذه السنّ غير مستبعد ، بل هو من المشهور في فقه الفريقين (١).

نعم ، هو أقصىٰ مدة ليأس القرشية والنبطية عندهم ، وقد أكدته بعض الروايات المعتبرة المسندة إلىٰ أهل البيت عليهم‌السلام (٢).

وأمّ المؤمنين خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام قرشية بالاتفاق ، وبهذا تكون من مصاديق فتاوىٰ الفقهاء وروايات أهل البيت عليهم‌السلام.

من الولادة حتىٰ الهجرة :

حينما قربت ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسيدة أُمّ المؤمنين خديجة : « يا خديجة ، هذا جبرئيل يبشرني أنّها أُنثىٰ ، وأنّها النسمة الطاهرة الميمونة ، وأنّ الله سيجعل نسلي منها ، وسيجعل من نسلها أئمة في الاُمّة ، ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه ، ووضعت خديجة فاطمة عليها‌السلام طاهرة مطهرّة ... » (٣).

وخديجة الكبرىٰ عليها‌السلام لم تسترضع لفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فقد ألقمتها ثديها فدرّ عليها وشربت (٤) ، وهو صريح خبرٍ عن ابن عباس أيضاً (٥).

_______________________

١) تذكرة الفقهاء / العلامة الحلي ١ : ٢٥٢. والمغني / ابن قدامة ١ : ٤٠٦. والشرح الكبير ١ : ٣٥٢.

٢) الكافي / الكليني ٣ : ١٠٧ / ٢ و ٣ و ٤. وتهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي ٧ : ٤٦٩ / ١٨٨١.

٣) أمالي الصدوق : ٦٩١ / ٩٤٧. والعدد القوية / رضي الدين الحلي : ٢٢٣ / ١٥. وبحار الأنوار ١٦ : ٨٠ ، و ٤٣ : ٢.

٤) دلائل الإمامة : ٧٨ / ١٧.

٥) البداية والنهاية / ابن كثير ٥ : ٢٦٧ ، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

١٩

ولاريب أن أفضل غذاء للطفل هو حليب الاُمّ ، وقد أثبتت التجارب العلمية أثره في بناء الطفل الجسدي والنفسي ، وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال : « ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه » (٦) وتوالت علىٰ الزهراء عليها‌السلام بعد نشأتها المشاهد القاسية التي كانت أليمة الوقع علىٰ نفسها الطاهرة وقلبها العطوف منذ نعومة أظفارها ، فقد فتحت عينها عليها‌السلام علىٰ المحن التي قاساها أبوها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبيل الدعوة ، وما رافقها من التعذيب والتنكيل بالمستضعفين من أتباعه ، وهجرتهم إلىٰ الحبشة ، وحصار بني هاشم في شعب أبي طالب نحو ثلاث سنين قضتها الزهراء عليها‌السلام مع أمّها وأبيها ( صلوات الله عليهم ) بحرمان وفاقة وانقطاع عن الناس.

ولم تهنأ الزهراء عليها‌السلام بالعيش الرغيد مع أُمّها وأبيها ( صلوات الله عليها ) بعد خروجهم من مخمصة الشعب إلّا نحو عام واحد ، حيث فجعت بوفاة أُمّها الرؤوم التي كانت تمنحها الدفء والحنان ، وتضفي عليها الحبّ والأمان ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « فجعلت تلوذ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدور حوله وتسأله : يا أبتاه اين أُمّي ؟ فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجيبها ، فجعلت تدور وتسأله : يا أبتاه أين أُمّي ؟ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدري ما يقول ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : إنّ ربك يأمرك أن تقرأ علىٰ فاطمة السلام وتقول لها : إنّ أُمّك في بيت من قصب ، كعابه من ذهب ، وعمده ياقوت أحمر ، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : إنّ الله هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه السلام » (٧).

_______________________

٦) الكافي ٦ : ٤٠ / ١.

٧) الخرائج والجرائح / القطب الراوندي ٢ : ٥٢٩ / ٤ ، مؤسسة الإمام المهدي عليه‌السلام ـ قم ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥.

٢٠