مبادئ الوصول الى علم الاصول

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

مبادئ الوصول الى علم الاصول

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: عبد الحسين محمد علي البقال
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٧

ولا شك أن العلوم الطبيعة ، من كيمياء وفيزياء وهندسة ونبات وحيوان ، هي ضروريات لا يمكن الاستغناء عنها.

كما لا نقاش في أن العلوم الانسانية ، من نفس وتربية وصحة ، هي لابديات لا يحق لنا التقليل من شأنها.

لكن الذي نتوخى التنبيه عليه هنا ، هو تحديد العنصر الاهم من بين مهم عناصر حياتها ، عل أن تؤخذ تلك جميعا بنظر إعتبارها.

وما العنصر الاهم من بين تلك جميعا ، إلا النظام الاصلح من جهة (١) والا العلوم الشرعية ذات الصلة ، لغة وفقها واصولا وتفسيرا وغيرها من جهة اخرى.

فإذا النظام في دنيا البشرية هو هدفها ، والحاجة الاساسية لها ، كان ولا يزال. وإن المسلمين كانوا ولا زالوا يرون في الشرعية الاسلامية ، النموذج الواقعي الفريد ، الذي يتوافر على ذلك النوع الاصلح منه.

إذا كان الامر كذلك ، ففي هذا الحالة تكمن الاهمية ، في دراسة مقومات النخبة المؤمنة المحنكة ، التي تتولى مهمة الاشراف على ذلك النظام من فهم ووعي وتنفيذ.

وبالتعبير الحوزوي الدقيق : الركائز الاساسية للشخصية المرجعية ، المفتية والمنفذة ، من ورع واجتهاد وحنكة وأعلمية ...

__________________

١ ـ للتوسع!! يراجع «الانسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية» للحجة السيد محمد باقر الصدر.

٢١

المرجعية في مهامها

هي تلك التي تعيش هموم الامة كل الامة ، متجاوية مع مشكالها ، متبنية لقضاياها ، منافحة عن حقوقها ، عاملة على تحقيق عزتها وكرامتها ، جاهدة في توحيد صفوفها.

هي : التي تستلهم الحنكة والوعي وبعد النظر ومراعاة العواطف ، مستفيدة من التأريخ الحضاري المدروس ، والانفتاح الحذر الموجه ، عدة لمواقفها ، وقاعدة لكل ما يمر بها من أحداث ، محلية ودولية وعالمية ، إسلامية ولا إسلامية ، ثقافية وتربوية ، اقتصادية وسياسية وغيرها ، على المدى القريب أو البعيد ، فتتخذ المواقف المناسبة لها ، بعد التأكيد من شرعيتها وصلاحيتها ، وبعد الاحاطة التامة بمتطلبات تلك المواقف من حيث تهيئة مقدماتها ، وبالتالي كيفية تسيير دفتها ، إلى شاطئ أمنها وأمانها.

هذا هو الخط العريض لتقويم الشخصية وبيان مرتكزاتها ، ولكن ...!!

ولكن!! وبالنسبة للحلي ، ترى ما المناسبة التي كانت سببا في وضعه على خط هذه المرجعية ، فسهلت له اسباب تسلم زعامتها.

المرجعية في بزوعها

تلك نقطة مهمة في البحث : أن يبرز الرجالي مفتاح المرجعية وسر بزوغها ، لدى المرجع الذي يقوم على دراسة حياته ، إن في مجاله الخاص أو العام.

ومعنى ذلك : التعرف على الحادثة أو المناسبة ، التي جعلت من أبي منصور ، شخصية مرجعية ، تظهر وتفرض وجودها في عالم المرجعيات.

٢٢

وبالنسبة لابن المطهر : إنما يتحقق ذلك ، إذا وقفنا على سر تسميته بالعلامة ، حتى عاد هذا اللقب اسما له ، يعززه من بين الاعلام التأريخية المعاصرة أو اللاحقة له ، الامر الذي إذا ذكر ، تبادر الذهن إليه دون سواه.

نعم ، تلك نقطة مهمة ...

ولكن للاسف!! وبحدود اطلاعي ، لم أعثر على مصدر يقودني ، للوقوف على وجه هذه التسمية.

إنما كل الذي وجدته ، هو أنه اشتهر بهذا اللقب ، كما نص على ذلك الافندي في رياضه (١).

هذا!! ويبدو لي ، أنه حصل عليه ، عقب مناظرته ـ وما اكثر مناظراته!! ـ الفريدة في مجلس خدابنده ، التي كشفت عن سعة ودقة علمه ، والذي منح له على سبيل الارتجال في بداية الامر ، ثم لازمه بدافع الشهرة في نهاية المطاف.

خلاصة القول

هذه هي المرجعية في خلاصتها ، وما علينا إلى المباشرة في تفاصيلها.

هذه هي الصورة الاكمل من الشخصية ، التي يجدر بنا دراسة علامتنا على ضوئها.

ولكن!! وحيث إن دراسة المترجم له هنا ، تعتبر شيئا ثانويا ، إذا ما قيست بالنسبة لكتابه المحقق.

فعلى هذا!! سنقتصر الحديث في هذه الحالة ـ مرجئين الجوانب الاخرى ومتعلقاتها ـ على الجانب الاجتهادي من الوجهة العلمية لابن المطهر كمؤلف ، والجهة الفكرية له كأصولي ، ...

وهي كما يلي :

__________________

١ ـ رياض العلماء : ق ٢ ص ٩٠.

٢٣

العلامة المؤلف

فكرة عن مؤلفاته

لان كان النقل يكشف عن بعض الصورة ...

وأن المباشرة بالسؤال تتعرض لجوانب مهمة فيها ...

فان النتاج الثقافي بالاخير ، هو خير ما يتعرف به ، على الصورة الكاملة لعلمية المرجع وحدود أعلمية.

على هذا!! فإن المتتبع لكتب العلامة ، يجدها من الكثرة درجة ، الامر الاذي جعله حيالها في مصاف القلة من المؤلفين ، الذين جادت بهم إنسانيتنا في تأريخها الطويل.

بل!! ومن ناحية ثانية : فإنها تتصف بالتنوع ، بإعتبار تعدد العلوم التي تطرقت إلى بيان مضامينها.

هذا!! إذا لم نقل من ناحية ثالثة : إنها على كثرتها وتنوعها ، تمتاز بالدقة العلمية الرصينة ، وتختص بالمنهجة الهيكلية المنظمة ، كما تتسم بالرشاقة الاسلوبية الممتازة ، وتنفرد بتعدد المستويات التدريجية المتعددة.

لذا!! فمن الطبيعي إذا وجدنا صاحب الكني يصرح : «درجاته في العلوم ، ومؤلفاته فيها ، قد ملات الصحف ، وضاق عنها الدفتر ، وكلما أتعب نفسي. فحالي كناقل التمر إلى هجر ...» (١)

__________________

١ ـ الكني والالقاب : ٢ / ٢٤٢.

٢٤

وجودها الفعلي

بعد مراجعة معظم المصادر التي تصدت لعرض مختلف مؤلفاته من جهة ، وملاحظة ما هو موجود منها فعلا من جهة ثانية ، نراها تنقسم إلى :

أولا : كتب لا زالت مخطوطة ، كرسالته في «آداب البحث» ، وموسوعته «استقصاء الاعتبار» وغيرهما.

ثانيا : كتب خرجت إلى حيز الطبع ، وهي كثيرة ، ومنها كتابنا هذا.

ثالثا : كتب مفقودة ، لم يحفظ منها سوى الاسم ، من قبيل كتابه «نهج العرفان في علم الميزان».

رابعا : كتب مشكوكة النسبة ، له ولغيره ، ككتاب «الكشكول فيما جرى على آل الرسول» (١).

مجمل تقويمها

إن المقومين لمؤلفات من نترجم له ، بعض قوم الكم والكيف مرة واحدة ، وبعض ثان تطرق إلى الكيف دون الكم ، وبعض ثالث اتجه في تثمينه إلى الكم دون الكيف.

علما!! بأن المقومين لها كيفا ، سلكوا سبلا ثلاثة : فمنهم من تناول المجموع ، ومنهم من تعرض لكل جانب من مؤلفاته على حدة ، وآخرون ـ وهو منهم ـ اختص تقويمه بكل كتاب بمفرده.

في حين أن المقومين لها كما ، نهجوا طريقين اثنين : ففريق كان

__________________

١ ـ أعيان الشيعة : ٢٤ / ٣٢٧.

٢٥

تثمينه على أساس من مجموعها في مقام الكثرة ، والفريق الاخر كان تثمينه على أساس من مجموعها في مقام الشمول ، أي استيعابها لاكبر عدد ممكن من العلوم والمعارف التي ألفت فيها.

التقويم الكمكيفى

ففي هذا المقام قال التفريشي : «ويخطر ببالي أن لا أصفه ، إذ لا يسع كتابي هذا ، ذكر علومه وتصانيفه وفضائله ومحامده ، وإن كل ما يوصف به الناس من جميل وفضل فهو فوقه ، له أزيد من سبعين كتابا في الاصول والفروع والطبيعي والالهي وغيرها» (١).

التقويم الكيفي

وفي مقام التقويم الكيفي ، فقد تكلم المعنيون فيه إلى :

أولا : في صدد المجموع

وهنا قال البحراني : «نقل بعض متأخري أصحابنا : أنه ذكر ذلك عند شيخنا المجلسي رحمه‌الله ، فقال ، ونحن بحمد الله لو عدت تصانيفنا على أيامنا لكانت كذلك ، فقال بعض الحاضرين : إن تصانيف مولانا الاخوند مقصورة على النقل ، وتصانيف العلامة مشتملة على التحقيق والبحث

__________________

١ ـ نقد الرجال : ص ٩٩.

٢٦

بالعقل ، فسلم رحمه‌الله ذلك ، حيث كان الامر كذلك» (١).

ثانيا : في صدد النوع

فقد ذكر السيد بحر العلوم : «صنف في كل علم كتبا ، وأتاه الله من كل شيء سببا. أما الفقه : فهو أبو عذره ، وخواض بحره ، وله فيه اثنا عشر كتابا ، هي مرجع العلماء وملجأ الفقهاء.

وأما الاصول والرجال : فإليه فيهما تشد الرحال ، وبه تبلغ الآمال وهو ابن بجدتها ومالك أزمتها.

وله قدس سره في التفسير والحديث وفنون العربية كتب كثيرة ، ذكرها في «الكتابين» ، ولكن لم يكتحل بشيء منهما ناظر العين ...» (٢).

ثالثا : في صدد الفرد

حيث قوم العلامة نفسه كتبه واحدا واحدا بقوله :

«كتاب منتهى المطلب في تحقيق المذهب» : لم يعمل مثله ، ذكرنا فيه جميع مذاهب المسلمين في الفقه. ورجحنا ما نعتقده ، بعد ابطال حجج من خالفنا فيه.

«كتاب مختلف الشيعة في أحكام الشريعة» : ذكرنا فيه خلاف علمائنا خاصة ، وحجة كل شخص ، والترجيح لما نصير إليه.

__________________

١ ـ لؤلؤة البحرين : ص ٢٢٦.

٢ ـ رجال بحر العلوم : ٢ / ٢٥٧ ـ ٢٨٦ «باختصار».

٢٧

ككتاب «إستقصاء الاعتبار في تحقيق معاني الاخبار» : ذكرنا فيه كل حديث وصل إلينا ، وبحثنا في كل حديث منه على صحة السند وإبطاله ، وكون متنه محكما أو متشابها ، وما اشتمل عليه المتن من المباحث الاصولية والادبية ، وما يستنبط من المتن من الاحكام الشرعية وغيرها.

كتاب «نهج الايمان في تفسير القرآن» : ذكرنا فيه ملخص الكشاف والتبيان وغيرهما ...» (١).

التقويم الكمى

وفي مقام التقويم الكمي : فقد تكلم عنها اصحاب التراجم في ناحيتين :

أولا : في مقام الكثرة

فقد أورد الطريحي : «له كثير من التصانيف.

وعن بعض الافاضل : وجد بخطه خمسمائة مجلد من مصنفاته ، غير خط غيره من تصانيفه.

قال الشيخ البهائي : من جملة كتبه قدس سره ، كتاب شرح الاشارات «ولم يذكره في عداد الكتب المذكورة هنا ، يعني في الخلاصة ، قال : هو موجود عندي بخطه» (٢).

__________________

١ ـ رجال العلامة : ص ٤٣ ـ ٤٤ «باختصار».

٢ ـ مجمع البحرين : ٦ / ١٢٣.

٢٨
ثانيا : في مقام الشمول

ـ ١ ـ

قال المحسن الامين العاملي : «سبق في فقه الشريعة ، وألف فيه المؤلفات المتنوعة ، من مطولات ومتوسطات ومختصرات ، فكانت محط أنظار العلماء ، من عصره إلى اليوم ، تدريسا وشرحا وتعليقا.

فألف من المطولات ثلاثة كتب ، لا يشبه واحد منها الاخر ، وهي المختلف : ذكر فيه أقوال علماء الشيعة وخلافاتهم وحججهم ، والتذكرة : ذكر فيها خلاف علماء غير الشيعة وأقوالهم واحتجاجهم ، ومنتهى المطلب : ذكر فيه جميع مذاهب المسلمين.

وألف من المتوسطات كتابين ، لا يشبه أحدهما الاخر ، وهما : القواعد : فكانت شغل العلماء في تدريسها وشرحها ، من عصره إلى اليوم وشرحت عدة شروح ، والتحرير : جمع أربعين ألف مسألة.

وألف من المختصرات ثلاثة كتب ، لا يشبه أحدها الاخر ، وهي : إرشاد الاذهان ، تداولته الشروح والحواشي أخصر. وإيضاح الاحكام ، أخصر منه ، والتبصرة لتعلم المبتدئين ، أخصر منهما.

ـ ٢ ـ

وفاق في علم اصول الفقه ، وألف فيه أيضا المؤلفات المتنوعة ، من مطولات ومتوسطات ومختصرات ، كانت كلها ككتبه الفقهية ، محط أنظار العلماء في التدريس وغيره.

فألف من المطولات : النهاية ، في مجلدين كبرين.

ومن المتوسطات : التهذيب ، وشرح مختصر ابن الحاجب.

٢٩

ومن المختصرات : مبادئ الوصول إلى علم الاصول.

ـ ٣ ـ

وبرع في الحكمة العقلية ، حتى أنه باحث الحكماء السابقين في مؤلفاته وأورده عليهم ، وحاكم بين شراح الاشارات لابن سينا ، وناقش النصير الطوسي ، وباحث الرئيس ابن سينا وخطأه.

ـ ٤ ـ

وألف في : علم اصول الدين ، وفن المناظرة ، والجدل.

وعلم الكلام : من الطبيعيات ، والالاهيات ، والحكمة العقلية خاصة ومباحثة ابن سينا ، والمنطق.

وغير ذلك من المؤلفات النافعة ، المشتهرة في الاقطار.

وألف في الرد على الخصوم والاحتجاج المؤلفات الكثيرة» (١).

المنهجية في مؤلفاته

المنهجية لدي العلامة عنصر ضروري ، قد توفرت عليه جميع مؤلفاته وهذا ما نلمسه جليا عند مطالعة مختلف كتبه ، ومراجعة جميع فهارس بحوثه ، الامر الذي جعله أزاءها من الرواد الاوائل ، الذين أسهموا في إعطاء هذا الفن حقه من الاهمية.

وهي تتضح في كتابه هذا بالخصوص على الشكل التالي :

أولا : في هيكله العام

وذلك يعني رسم صورة كاملة عن الكتاب في خطوطه العريضة ،

__________________

١ ـ أعيان الشيعة : ٢٤ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ «باختصار».

٣٠

والتي انتظمت كما يلي :

أولا : تقسيم الكتاب برمته إلى إثني عشر فصلا ، كل فصل منه خاص بمالجة جانب معين من عديد جوانبه.

ثانيا : ثم تقسيم الفصل الواحد بدوره إلى مجموعة من البحوث ، تقل وتكثر حسب أهميتها ، كل بحث فيه مختص بدراسة موضوع واحد من مختلف مواضيعه.

ثالثا : وبالتالي تقسيم البحث الواحد هو الآخر ، إلى مجموعة من الفقرات تتسع كثر مسائله ، التي تقصر وتكبر وتتعدد ، بحسب مكانة الفكرة التي يتعرض لشرحها ، ثم مدى المعلومات المتوفرة لديه عنها.

ثانيا في هيكله الخاص

وهذا مختص ببيان القاعدة التي سار عليها المؤلف في بحوثه وهي :

أولا : تحديد الفكرة المبحوث عنها.

ثانيا : عرض أهم الآراء المنقولة فيها مع سرد أهم أدلتها.

ثالثا : مناقشة تلك الادلة ، مع عليها من ردود مختلفة ، نقضا وإبراما.

رابعا : الكشف عن رأيه إن كان له رأي ، سواء أكان مقابلا أو مطابقا أو منفردا ، عن آراء الآخرين اللذين تعرض لاقوالهم ، وسواء أكانوا من رواد مدرسته ، أو من أقطاب المدارس الاخرى.

هذه!! هي القاعدة العامة لديه ، وقد يتصرف فيها أحيانا ، تقديما أو تأخيرا لبنودها ، بأن يعرض رأيه أولا ، ثم آراء الآخرين ، أو بالعكس أو أن يكون رأيه واضحا جليا ، أو أن يكتفي بغيره بالسكوت عنه.

٣١

العلامة الاصولي

من تاريخه الاصولي

بعد أن كانت دراسة الاصول الفقهية ـ لوجود الامام (ع) ـ شيئا مسكوتا عنه ، إذا ما قيس بالنسبة لمشاغلهم الاخرى ، من فقه وحديث وتفسير وغيرها.

لكنهم بعد ذلك!! أخذوا يعطون هذا الجانب من مهم حياتهم كل ما يليق به ، من حدب وجهد وشوق ، متخذين من الاحتياطي التشريعي قرآنا وسنة ، لاستنباطهم ذريعة ، ومن التلاقح الفكري بين روادهم واولئك الفطاحل من غيرهم ، لقواعدهم عدة ، ...

فكان أن بات الاصول من الفقه ، يتخذ لنفسه طابعا جديا من التخصص في مواضيعه من جهة ، والتوسع في فصوله من جهة ثانية ، والتعمق في بحوثه من جهة ثالثة.

إلا أن هذا التقدم توقف برهة ، وهو لما يزل في بداية اشواطه ، بعد ما خيم على ربوعه الدمار التتري ، فكاد العلم منه أن يلفظ أنفاسه ، حين مني بخسارة فادحة ، بحرق وضياع تراثه.

هنا!! وعلى أعقاب ذلك الزحف المغولي ، برز علامتنا الحلي والنخبة المؤمنة من رفقته ، جنود العلم ورواده ، فواصلوا المسيرة لمرحلة ما بعد الزحف ، حيث عملوا جاهدين ، على إعادة بناء ذلك الوليد الاصولي ، فالصعود به شابا على أسس متينة من البحث والتتبع والاستقصاء.

فكانوا بذلك : الامتداد الطبيعي للخط الامامي في عرض هذا العلم

٣٢

بعد ما فتح أبوابه أبو عبد الله والمرتضى والطوسي وأقرانهم ... (١).

عدته الاصولية

أما الذي مكنه من البروز في هذا الميدان تدريسا وتأليفا فجهات هي :

أولا : تربيته الاسرية ، فقد عرف عنه ، أنه عاش في بيت اجتهادي فأبوه سديد الدين ، وخاله المحقق ، وابن عم والدته الشيخ نجيب الدين ، وغيرهم من فطاحل العلم والمعرفة.

ثانيا : أخذه المعارف الاصولية ، إمامية وغيرها ، من مصادرها الاساسية ، وذلك بقراءته وسماعه ، فترة لا يستهان بها ، على خيرة أساتذتها.

ثالثا : ثقافته الموسوعية في بقية نواحي العلوم الحياتية الاخرى ، حتى أنه ألف كتبا عدة في الكثير من فنونها ، فمكنه من استيعاب كل ما له صلة بموضوعه من بحوثها.

رابعا : احتكاكه المباشر بوسط ، يضم مختلف المدارس الفكرية ، وما لها من أنصار ونفوذ ، إمامية وغيرها ، خاصة في مدينته الحلة ، وفي يومه ذاك.

خامسا : سفراته المتعددة : وبالاخص تلك التي أملت عليه ، أن يكون على علم تام ، بمعارف المذاهب المناظرة له ، خاصة وأنه موفد في مهمة خطيرة ، ذات أهمية مصيرية ، قد يتوقف عليها مستقبله ومستقبل من ينتسب إليهم ، ألا وهي المناظرة والمحاججة في مجلس رئيس دولة ، نقل عنه أنه سئم المذاهب ، وأمام مجموعة لها مكانتها بين فطاحل العلم ، المختلفين في مذاهبهم ، المتفقين على غير ما يدعو إليه.

__________________

١ ـ وللتوسع!! يراجع «المعالم الجديدة» للحجة الصدر : ص ٥١ ـ ٧٦ بحث : «الحاجة إلى علم الاصول تأريخية».

٣٣

سادسا : وأخيرا إقبال الدنيا عليه ، حيث منحته مكانة تليق بشأنه ، ومدرسة سيارة ماثلة في خدمته ، وأمهات المصادر لكل ماله صلة بموضوعه تحت متناول يده ، وجمع عظيم من كبار العلماء والكتاب للدرس والتشاور حاضرون بمعيته.

خدماته الاصولية

وتتمثل هذه في :

أولا : العمل على تهيئة مستويات دراسية متعددة ، يراعى فيها العمر الزمني والعقلي للدارسين ، كما في كتبه ـ على سبيل المثال ـ بالتناوب ، مبادئ الوصول فالتهذيب فالنهاية.

ثانيا : العمل على تطبيق فكرة المقارنة بين مختلف الآراء الاصولية في بحوثه ، سواء للمدرسة الواحدة ، أو لمختلف المدارس المتعددة الاخرى ، كما في البحث الثالث والربع من الفصل الثالث ، في الاوامر والنواهي على سبيل المثال.

ثالثا : المثابرة على سبر الآراء على إختلاف مشاربها ، ثم الاجتهاد في تبني ما يعضده الدليل لديه ، إن كما هو ، أو بعد اجراء بعض التعديلات من إنقاص أو إضافة بعض القيود ، كما في تعريف الحقيقة والمجاز مثلا ، أو موافقته لما ذهب إليه أبو حنيفة في البحث الخامس من الفصل الرابع ، في العموم والخصوص ، من أن الاستثناء على خلاف الاصل ، وغير هذا وذاك كثير ، تجده مفصلا بين ثنايا الكتاب.

٣٤

نحن ومبادئ العلامة

وقفة مع المبادئ

والحديث عنها يتحدد بالبيانات التالية :

أولا : مبادئ الوصول

وهو كما سبق ذكره : كتاب مختصر ، على غرار «منهاج الوصول في معرفة علم الاصول» ، لقاضي القضاة ، ناصر الدين البيضاوي ، المتوفى عام ٦٨٥ ه‍ ، والمطبوع أخيرا في القاهرة ، عام ١٣٨٩ ه‍ ـ ١٩٦٩ م.

على أن مبادئ وصول العلامة : «مشتمل على ما لابد منه ، من مسائل اصول الفقه ، ومرتب على فصول ، وكل فصل على مباحث ، ألفه بإلتماس تقي الدين ، إبراهيم بن محمد البصري» (١) ، أحد تلامذة المصنف المرموقين.

ثانيا : طبعات الكتاب

صدرت له طبعة حجرية واحدة ، في طهران عام ١٣١٠ ه‍ ، منظما إلى كتاب آخر : هو «المعارج» ، للمحقق الحلي ، في قطع صغير ، خال من الاخراج والتعليق ، وفيه شيء من السقط بين جمله وكلماته ، بقياس : ١٧ سم ×١١ سم

__________________

١ ـ الذريعة : ١٩ / ٤٤.

٣٥

ومعدل ١٨ سطرا ، عدا الرقم للصفحة الواحدة ، ومجموع ٥٧ صفحة خاصة بالمبادئ ، مصححة من قبل حبيب الله الجيلاني الاشكوري.

ثالثا : نسخة الخطية

توجد له نسخ خطية عديدة ، لعل أقدمها واكثرها أهمية ، هذه النسخة التي اعتمدنا صورتها في مقابلة النص ، المسجلة حاليا في مكتبة أمير المؤمنين (ع) في النجف الاشرف ، برقم ٢٤٣١ / ٩ ، والمأخوذة عن النسخة الام ، الموجودة فعلا في مكتبة السيد أبو المعالي شهاب الدين المرعشي ، ب‍ «قم» من مدن «ايران».

وهذه النسخة مكتوبة بخط تلميذ العلامة احمد الآوي ، عام ٧٠٣ ه‍ ، ومقروءة على العلامة نفسه عام ٧٠٥ ه‍ ، وعلى ولده فخر المحققين من نفس العام.

رابعا : شروحه المتوفرة

طبعا!! المتوفرة في عالم المخطوطات ، حيث أن أيا منها لم يوفق بعد للظهور إلى دنيا الطبع.

وهي مذكورة مع وصف موجز لكل واحد منها ، في موسوعة الذريعة ج‍ ١٤ ، ص ٥٢ ـ ٥٤.

أما الذي اعتمدنا عليه منها هنا ، لدى التعليق على هذا الكتاب ، فهو :

أولا : غاية البادي

إن هذا الكتاب المسمى ب‍ «غاية البادي في شرح المبادئ» ، من

٣٦

أهم الشروح المعروفة لمبادئ العلامة ، والذي ألفه تلميذه ركن الدين الجرجاني ، خدمة لمعاصرة الجليل السيد عميد الدين ابن اخت العلامة.

وهو الشرح الذي اعتمد عليه ، ورجع إليه في المهم من بحوثه الشيخ الانصاري في رسائله.

توجد له نسخ خطية متعددة ، منها تلك التي اعتمدنا عليها ، والتي هي موجودة فعلا في مكتبة السيد الحكيم العامة.

وهي منسوخة بقلم زين العابدين القشقائي ، عام ٨٣٤ ه‍ ، في ١٧٩ ورقة ، حسب ترقيم المكتبة لها ، بقياس ١٠ سم ×١٧ سم تقريبا ، ومعدل ١٧ سطرا للصفحة الواحدة ، والمسجلة لديها برقم ١٠٩٤.

على أن هذا المصنف ، كثيرا ما أشتبه بمصنف آخر ، أطلق عليه «نهاية البادي في شرح المبادي» ، وعرف بأنه من مصنفات السيد عميد الدين ابن اخت العلامة.

أما الاشتباه في بدايته ، فقد وقع فيما يبدو ، للحجة الراحل المغفور له ، الشيخ «أغا بزرك الطهراني» في ذريعته ، كما في ج‍ ١٤ ص ٥٢.

ثم استمر بعد ذلك ، لمن نقل عنه ، كما في سجلي ـ قبل التصحيح ـ مكتبة الحكيم العامة ومكتبة الحسينية الشوشترية.

ولكن لدى التحقيق : بمقابلة ما يسمى بنهاية البادي ، الموصوفة «بقال دام ظله وأقول» ، لما يسمى بغاية البادى ، خاصة تلك المحفوظة في مكتبة السيد الحكيم ومكتبة الحسينية الشوشترية ، ثبت أن مدونات التسميتين كلمات متفقة واحدة.

كما وأن مراجعة المصادر ، التي ترجمت للسيد عميد الدين ، لم نجد فيها أي ذكر لمثل هذا المصنف ـ سواء في إسمه الصحيح أو المشتبه به ـ يحمل مثل هذا الاسم من بين مصنفاته.

٣٧

كذلك!! فإن مراجعة أمهات الفهارس ، للكتب الخطية والمطبوعة تؤكد عدم وجود مثل هذا الكتاب ، بمثل هذا الاسم ، كشرح للمبادئ سواء للجرجاني أو عميد الدين ، عدا ما ذكر في الذريعة ، وما نقل عنه.

وأخيرا!! فالذي يبدو ، أن الشرح واحد ، وأن التعدد في عنوانه إشتباه ، وأن منشأه في القراءة ، بفعل عدم وضوح الخط أولا ، فعدم التثبت منه ثانيا.

ذلك لان النسخة الموجودة في مكتبة الحسينة الشوشترية ، المكتبة التي اطلع عليها الحجة الطهراني في حياته ونقل عنها كثيرا ، نسخة سقيمة الخط.

الامر الذي جعله ـ والجواد يكبو ـ يشتبه في قراءة الجملة «وسميته بغاية البادي» ، الواردة في مقدمة الكتاب ، فيقرأها «وسميته بنهاية البادي» ، حيث أن حرف الغين حسب ما رأيته ، يوحي بقراءته هاء وسطية.

ثانيا : هوامش المسلماوي

كما وقد اعتمدنا في التعليق أيضا ، هوامش نسخة خطية اخرى ، محفوظة في مكتبة الحسينة الشوشترية ، الكائنة في قضاء النجف الاشرف من محافظة كربلاء.

وهي موقوفة من قبل نعمة الله الطبيب ، ومكتوبة عام ١٠٢٦ ه‍ ، بقلم «ابراهيم بن عبد الله المسلماوي الخنجراوي في البلدة المعمورة ، المسماة بالحلة».

كذلك!! فهي بقياس ٢١ سم ×١٥ سم ، ومجموع ٨٢ صفحة ، ومعدل ـ ١٠ إلى ١٥ سطرا ، لكل صفحة واحدة من صفحاته ، حسب عدنا لها ، حيث أن النسخة أصلا غير مرقمة.

٣٨

هذا مع العلم بأنا رمزنا لها عند الاخذ منها ب‍ «هوامش المسلماوي» وأنها مسجلة لدى المكتبة برقم ٦١٠ / ١١٥.

الخطة في العمل

إن القاعدة التي التزمنا بها ، في جهدنا المبذول على هذا الكتاب بالذات ، بعد الفراغ من كتابه ترجمة ملخصة عن مؤلفه ، ...

قد تمثلت ملخصا : بإجراء مسح عام له ، وذلك في متابعة نصوصه حتى نهايتها ، إن تعليقا أو إخراجا ، فهرسة أو تحقيقا ، كل منها في مجال إختصاصه ، وبالحدود المناسبة له ، كما هو موضح في الخطوات التالية :

الخطوة الاولى : في التحقيق

التحقيق فيما نفهم : السير بالنص من أوله وحتى آخره ، وذلك بمقابلته على النسخ أو النسخة الخطية المعتبرة ، للتأكد من سلامة بنائه ، مع بيان أوجه الاختلاف بينها إن وجدت ، والاشارة إلى ذلك كله في الهامش ، سواء أكان تحريفا أو سقطا ، زيادة أو نقصا.

وحيث أن نسخة السيد المرعشي المشار إليها فيما سبق ، تملك من المرجحات الشيء الكثير ، التي لم نعثر عليها ـ وبحدود اطلاعنا ـ في سواها.

من جهة : قدمها أولا ، ووضوح كتابتها ثانيا ، وتعدد بلاغتها ثالثا ، ووجود خطي المؤلف وولده في أولها وآخرها رابعا ، وقراءتها عليهما من قبل التلميذ الآوي العارف باصولها خامسا.

لكل هذه الاهمية فيها ، فقد اعتمدنا مقابلة كتابنا هذه عليها ، والحديث عنها بالتفصيل كما يلي :

٣٩

الاول : مصدر الاقتناء

أما مصدر اقتناء النسخة الاصل : فهي مكتبة السيد أبو المعالي شهاب الدين المرعشي العامة في «قم» ، من مدن «إيران».

وأما مصدر اقتناء النسخة المصورة : فهي مكتبة أميرا المؤمنين العامة في «قضاء النجف الاشرف» ، من «محافظة كربلاء المقدسة» ، في القطر العراقي.

وأما تأريخ الاقتناء ورقمه : فهو ٢٨٣٢ ، في ٢٠ شوال ، عام ١٣٨٦ ه‍ كما مدون على ختم المكتبة ، الموجود على أول صفحة من المصورة ، وفي أماكن اخرى منها.

وأما رقم المصورة لدى المكتبة : فهو ٢٤٣١ / ٩ ، كما ذكرناه عند الحديث عن مبادته.

الثاني : قياسات الكتاب

أما في مساحته الكلية : فطوله ٢١ سم ، وعرضه ١٦ سم. وأما في مساحته المكتوبة : فطوله ١٨ سم ، وعرضه ١٠ سم ، كما في صفحة ١٥ منه ، على أن الصفحات الباقية ، تقاربها في الطولين.

وأما عدد صفحاته : فهي تسع وخمسون صفحة ، وأن عدد الاسطر هي ١٧ سطرا مع الرقم ، كما في صفحة ١٠ ، وأن عدد الكلمات في السطر ١٢ ، التي هي ٩ كلمات ، وهي «الاشتراك ، على ، خلاف ، الاصل ، فوجب ، جعله ، حقيقة ، في ، القدر».

هذا مع العلم : أن الرقمين ٩ و ١٠ متتاليا في ترتيبهما ، لكنهما مكرران في نصهما ، كلمات وجملا وغيرهما.

٤٠