مبادئ الوصول الى علم الاصول

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

مبادئ الوصول الى علم الاصول

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: عبد الحسين محمد علي البقال
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٧

وأما بالنقل :

فله أقسام :

أحدها :

تخصيص الكتاب بالكتاب!! وهو جائز ، خلافا للظاهرية (١)

لقوله تعالى : «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» [٢ / ٢٢٩] مع قوله : «وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن» [٦٥ / ٥].

الثاني :

تخصيصه بالسنة المتواترة جائز!! خلافا لبعض الشافعية (٢).

لقوله «ع» : «القاتل لا يرث» (٣) ، في تخصيص قوله

__________________

١ ـ وهي : مدرسة فقهية ، أسسها في العراق داود بن علي الاصفهاني (+ ٢٧٠ ه‍) ، وكانت تقوم على رفض الرأي والقياس ، وقصر الاجماع على إجماع الصحابة ، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة تمسكا شديدا ، وهم بذلك يعاكسون كل حركة ترمي إلى تحكيم الرأي ، وتلجأ إلى التأويل ، كحركة الاعتزال.

«المعتزلة : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ بتصرف»

٢ ـ الشافعية : نسبة تمثل رواد مدرسة فقهية ، في فروع الدين ، تعتمد الحديث في إستناط الاحكام ، مؤسسها محمد بن ادريس المعروف بالشافعي ، في أواخر القرن الثاني الهجري ، وبداية القرن الثالث منه.

«المنجد : ص ٢٨٣ ، وغيره من المصادر»

٣ ـ وسائل الحر العاملي : ١٧ / ٣٨٨ ـ ٣٩٠ «بالمضمون» ومسند

١٤١

تعالى : «يوصيكم الله في أولادكم» [٤ / ١٢] (١) وكتخصيص آية الجلد (٢) ، برجم المحصن (٣).

الثالث :

تخصيصه بالاجماع!! وهو جائز.

للاجماع على تخصيص العبد ، من آية الميراث ومن آية الجلد (٤).

__________________

احمد بن حنبل : ص ٤٦ «بالنص» ، ومصادر أخر مذكورة في مفتاح كنوز السنة : ص ٥٢١

١ ـ وهذه الآية تسمى بآية المواريث ، كما في الناسخ والمنسوخ لابن العتائفي : ص ٣٠ بتحقيق عبد الهادي الفضلي.

٢ ـ وهي قوله تعالى في سورة النور ، الآية ٣ : «الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة ...»

٣ ـ كما في قول الصادق عليه‌السلام : «الحر والحرة إذا زنيا جلد كل واحد منهما مأة جلدة ، فأما المحصن والمحصنة فعليهما الرجم» ، كما في التذهيب : ١٠ / ٣.

علما بأن هذا الحكم ورد في كثير من المصادر الاخرى ، من قبيل : اللمعة الدمشقية ٩ / ٨٥ ، والكافي ٧ / ١٧٧. والتبيان ٧ / ٤٠٥ ، ومجمع البيان ٧ / ١٢٤ ، والصافي ٢ / ١٥٢ والخلاف ٢ / ٤٣٨.

٤ ـ أما تخصيص الكتاب بالاجماع ، فيصح أيضا بمثل ما قدمناه من الادلة.

وقد وقع أيضا في مواضع كثيرة : نحو إتفاقهم على أن العبد لا يرث فخص بذلك آية المواريث ، ونحو إجماعهم على أن العبد كالامة في

١٤٢

الرابع :

تخصيصه بفعله عليه‌السلام (١)!! إن كان حكم العام متناولا له ، وثبت أن حكم غيره مثل حكمه.

وإن كان غير متناول له ، كان مخصوصا في حق غيره إن ثبت أن حكم غيره حكمه.

وإلا فلا (٢).

الخامس :

تخصيصه بخبر الواحد جائز (٣)!! لانهما دليلان تعارضا ،

__________________

تنصيف الحد ، فخص به قوله تعالى : «الزانية والزاني ...» وغير ذلك.

«العدة : ١ / ١٣٥»

١ ـ لان الدليل قد دل : على أن فعله كقوله ، في وجوب الرجوع إليه في معرفة الاحكام.

فإذا ورد الكتاب بتحريم اشياء ، ثم وجدناه «ع» فاعلا لبعضها ، علمنا بفعله خصوص الكتاب.

ولذلك خص قوله تعالى «الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ماءة جلدة» ، برجمه «ع» ماعزا. وتخصيص قوله «ع» بفعله ، صحيح أيضا بمثل ما قلناه.

«العدة : ١ / ١٣٥»

٢ ـ أي : «وإن لم يثبت لم يكن ذلك الفعل مختصصا البتة.

«غاية البادي : ص ٦٦»

٣ ـ والائمة الاربعة على الجواز كذلك.

وقال ابن أبان : يجوز إن كان قد خص بدليل قطعي ، وإلا فلا.

١٤٣

فقدم الاخص ، جمعا بين الدليلين.

وقد وقع كما في تخصيص : «فاقتلوا (١) المشركين» [٩ / ٦] ، بقوله : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (٢).

والسيد المرتضى منع من ذلك ، لان خبر الواحد ليس بحجة عنده.

السادس :

لا يجوز تخصيصه بالقياس (٣).

لان القياس عندنا باطل على ما يأتي ، فيكف إذا عارض القرآن؟

السابع :

يجوز تخصيص السنة المتواترة بمثلها.

لان العمل بهما وتركهما وترك الخاص ، باطل بالاجماع ، فتعين ما قلناه.

__________________

وقال الكرخي : إن كان قد خص بدليل منفصل.

وقال القاضي : بالوقف. «منتهى الوصول : ص ٩٦ بتصرف»

١ ـ هكذا في القرآن الكريم ، وفي المصورة : ص ٢٥ ، «اقتلوا» عارية عن الفاء ، الظاهر منشأه الاختصار.

٢ ـ المنتفي لابن تيمية : ٢ / ٨٣٦ ، «الطبعة الاولى ١٣٥١ ه‍».

٣ ـ ومن أثبت القياس : فإن فيهم من أجاز تخصيص العموم به على كل حال ، إذا صح القياس بشروطه ، وهو مذهب اكثر الفقهاء ، والشافعي ، والمحكي عن أبي الحسن ، وإليه ذهب أبو هاشم أخيرا.

١٤٤

فائدة

إذا ورد خبران : عام وخاص واقترنا ، كان الخاص مخصصا للعام.

وكذا إن ورد الخاص متأخرا قبل حضور وقت العمل بالعام (١).

وإن كان بعده كان نسخا.

وإن تأخر العام : فعند أبي الحسين (٢) ، يبنى العام على الخاص ، لان الخاص أقوى دلالة. وعند أبي حنيفة (٣) :

__________________

ومنهم : من أبى تخصيص العموم به على كل وجه ، وهو مذهب أبي علي ، وبه قال أبو هاشم أولا ، كما وقد قال به بعض الفقهاء.

ومنهم من قال : يخص بالقياس الجلي ولا يخص بالخفي ، وهو مذهب بعض أصحاب الشافعي.

ومنهم من قال : أنه يخص بذلك ، إذا دخله التخصيص ، وسوغ فيه الاجتهاد ، ولا يجوز تخصيصه إذا كان باقيا على عمومه.

«العدة : ١ / ١٣٩»

١ ـ مثل قوله عليه‌السلام : «في الخيل زكاة» ، «ليس في الذكور من الخيل زكاة».

«هامش المصورة : ص ٢٦»

٢ ـ محمد بن علي الطيب البصري ، أحد أئمة المعتزلة. ولد في البصرة ، وسكن بغداد ، وتوفي بها سنة ٤٣٦ ه‍. من كتبه «المعتمد» في اصول الفقه.

«أعلام الزركلي : ٧ / ١٦١ بتصرف واختصار»

٣ ـ النعمان بن ثابت ، التيمي بالولاء ، الكوفي ، إمام الحنفية ، أحد الائمة الاربعة عند أهل السنة. قيل : أصله من أبناء فارس. ولد سنة ٨٠ ه‍ ونشأ بالكوفة ، وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه ،

١٤٥

العام ناسخ ، لان مع التعارض يعمل بالاخير.

وإن جهل التأريخ : توقف أبو حنيفة ، لتردد الخاص بين كون منسوخا وتخصيصا وناسخا (١).

البحث الثامن

في : ما ظن أنه مخصص وليس كذلك

وهو سبعة :

الاول: السبب!! ليس مخصصا خلافا للشافعي ، لوجود المقتضي للعموم ، وهو لفظه ، وخصوص السبب لا يصلح للمنع لانه لو صرح وقال : عليك بالعام ، كان جائزا (٢).

__________________

ثم انقطع للتدريس والافتاء ، وتوفي في بغداد سنة ١٥٠ ه‍.

«أعلام الزركلي : ٩ / ٤ ـ ٥ بتصرف واختصار»

١ ـ قال أبو حنيفة والقاضي وإمام الحرمين : وإن جهل التأريخ ، تساقطا في موضع المقابلة.

لاحتمال تأخر العام ، فيكون ناسخا للخاص ، ولاحتمال تأخر الخاص ، فيكون مخصصا للعام ، فيتوقف في محل الخاص ، ويطلب من دليل آخر.

«أصول الخضري : ص ٢٠٦ بتصرف»

٢ ـ أما الاول : فلان المقتضي للعموم ، إنما هو اللفظ العام ، وهو قائم.

وأما الثاني : فلان المعارض ليس إلا خصوص السبب باتفاق الخصم ، ولا منافاة بين خصوص السبب وعموم الحكم ، وكذلك لو صرح الشارع

١٤٦

ولان الظهار واللعان وغيرهما ، وردت على أسباب خاصة مع عمومها (١).

الثاني : مذهب الراوي!! ليس بمخصص ، خلافا لابن أبان (٢) لاحتمال استناده إلى ما ليس بدليل ، وقد أخطأ في ظنه (٣).

الثالث : لا يجوز تخصيص العموم بذكر بعضه ، لعدم التنافي ، والمفهوم ليس بحجة ، خصوصا مع معارضة العموم (٤)

__________________

بعموم الحكم ، لم يحكم بالمنافاة ، وإذا لم يكن منافيا لم يكن معارضا.

«غاية البادي : ص ٧٣»

١ ـ وعلى ذلك حمل الفقهاء خطاب الله تعالى في آية اللعان ، وإن خرجت على سب هلاك بن امية العجلاني ، إلى كل رام زوجته.

وآية القذف وردت في من تكلم في عائشة ، وحملت على الجميع.

وكذلك آية الظهار ، وردت في مسلم بن صخر ، وحملت على كل مظاهر.

«العدة : ١ / ١٤٦»

٢ ـ هو عيسى بن أبان بن صدقة ، القاضي أبو موسى ، تفقه على محمد بن الحسن. استخلفه القاضي يحيى بن اكثم على قضاء العسكر وقت خروجه مع المأمون إلى قم ، ثم تولى القضاء بالبصرة ، فلم يزل عليه حتى مات ، في المحرم سنة ٢٢١ ه‍.

«الفوائد البهية : ص ١٥١»

٣ ـ مثاله : رواية أبي هريرة «يغسل الاناء من الولوغ سبع مرات» ومذهبه مثلا وجوب الغسل بثلاثة.

«هامش المصورة : ص ٢٧»

٤ ـ كقوله «عليه‌السلام ـ لما مر بشاة ميمونة ـ : «دباغها طهورها» ، وسمع منه قبل ذلك : «أيما إهاب دبغ فقد طهر».

فالبعض!! وهو قوله : «دباغها طهورها» ، لا يخصص العام

١٤٧

الرابع : العادة (١) غير مخصصة ، إلا أن يقع في زمانه عليه‌السلام ويقرهم عليها ، لان فعل العبد ليس بحجة على الشرع (٢).

__________________

وهو قوله : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» على مذهب الشافعي.

لنا : أن المقتضي للعموم باق وهو عموم اللفظ ، والمعارض لا يصلح للمعارضة ، إذ لا منافاة بين الكل والبعض.

احتج الخصم بأن تخصيص البعض بالذكر ، يدل على نفي ما عداه بدليل الخطاب.

والجواب : المنع من صحة دليل الخطاب ، ومع التسليم فالتمسك بالعموم أولى.

«جمعا بين هامش المصورة : ص ٢٧ ، وغاية البادي : ص ٧٥ ـ ٧٦»

١ ـ كبيع الموزون بالعدد.

«هامش المصورة : ص ٢٧»

٢ ـ الجمهور!! على أن العادة في تناول بعض خاص ، لا يكون مخصصا للعموم ، خلافا لابي حنيفة ، كما لو قال : حرمت الربا في الطعام ، وكانت عادتهم تناول البر.

لنا : أن اللفظ عام لغة وعرفا ، فوجب التمسك به حتى يثبت تخصيصه.

قالوا : كما تخصص الدابة بالعرف بذوات الاربع ، والنقد بالغالب في البلد ، وجب تخصيص ذلك.

قلنا : ذاك لتخصيص الاسم بذلك المسمى عرفا ، بخلاف هذا ، فإن العادة تناولته ، لا في غلبة الاسم عليه ، حتى لو غلب الاسم هنا لكان كذلك ، بل لو غلب الاسم على خلافه ، لخرج المعتاد تناوله.

١٤٨

الخامس : المخاطب لا يخرج عن عموم الخطاب (١) ، كقوله تعالى : «... وهو بكل شيء عليم» [٢٩ / ٦٣].

السادس : الخطاب المتناول للرسول عليه‌السلام والامة ، لا يختص بالامة ، لعموم اللفظ (٢).

__________________

قالوا : لو قال اشتر لي لحما ، والعادة تناولت الضأن لم يفهم سواه.

قلنا : تلك قرينة في المطلق والكلام في العموم.

«منتهى الوصول : ص ٩٧»

١ ـ لا يجوز تخصيص العام بالمخاطب ، لان المقتضي لدخول المخاطب قائم ، وهو اللفظ.

وكونه مخاطبا لا يقتضي خروجه ، كقوله تعالى «وهو بكل شيء عليم».

فيكون عالما بذاته ، ولايكون خارجا من مفاد العموم.

«غاية البادي : ص ٧٧ بتصرف ، جمعا بين المتن والهامش»

٢ ـ قد يرد في نصوص الكتاب خطابات عامة ، مثل : «يا عبادي!!» «يا أيها الناس!!» ، فهل هذه الخطابات تنتظم المأمور بالتبليغ «ص»؟

والجواب : أن الانتظام لغة لا نزاع فيه ، أما الانتظام إرادة فهو رأي الاكثرين.

وقال بعضهم : إنه ليس مرادا بهذه الخطابات ، لان كونه مبلغا للامة ، مانع من ذلك ، وإلا كان مبلغا ومبلغا بخطاب واحد.

وهذا كلام غير وجيه ، لان المبلغ في الحقيقة هو الروح الامين ، بلغ الاحكام العامة ، إلى واسطة بين الله وبين عباده ليسمعهم إياها ، وهو منهم.

١٤٩

السابع : عطف الخاص على العام لا يقتضي التخصيص ، خلافا للحنفية ، لقوله عليه‌السلام : «لا يقتل المؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» (١). لان العطف لا يقتضي الاشتراك من كل الوجوه (٢).

__________________

فلا موجب لخروجه عنهم ، مع إنتظام اللفظ له لغة.

أما ما تحقق خروجه منه ، فلدليل خاص ، ولا فرق في هذه البلاغات بين ما صدر ب‍ «قل» وبين ما لم يصدر بها.

«أصول الفقه للخضري : ص ١٨٥»

١ ـ المنتقى من أخبار المصطفى : ٢ / ٦٧٦.

٢ ـ قالت الحنفية : المراد ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر ، والمراد بالكافر الثاني هو الحربي بالاتفاق ، فوجب أن يكون الكافر الاول أيضا حربيا ، تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه ، فلذلك قالوا : يقتل المسلم بالذمي.

وقالت الشافعية : لا يقتل ، فيكون ذلك تخصيص العام بعطف الخاص عليه.

والجواب : إنا لا نسلم ذلك الاضمار ، أي إضمار الكافر.

إن قالوا : ليستقيم الكلام ..

قلنا : الكلام مستقيم من دونه ، لجواز أن يكون المراد لا يقتل ذو عهد إذا كان في عهده ، ويقتل لو خرج عن عهده.

لم قلتم إن ذلك غير مراد؟ سلمنا إضماره ، لكن لا نسلم أنه إذا كان المراد من الكافر الثاني الحربي ، يجب أن يكون الاول كذلك.

قوله : لتسوية المعطوف والمعطوف عليه ، قلنا : العطف لا يقتضي

١٥٠

البحث التاسع

في : حمل المطلق على المقيد

إن كان حكم المطلق مخالفا لحكم المقيد ، لم يحمل المطلق عليه (١).

وإن ماثله : فإن اتحد السبب (٢) ، حمل المطلق عليه.

__________________

التسوية من جميع الوجوه ، بل يقتضي التسوية في الحكم فقط ، وذلك حاصل بين هاهنا.

«غاية البادي : ص ٧٨»

١ ـ نحو قول الآمر لمن تجب طاعته : اشتر رقبة واعتق رقبة مؤمنة وفي هذا الوجه لا يحمل المطلق على المقيد إتفاقا.

إلا إذا دعت إلى ذلك ضرورة ، كما لو قال : اعتق رقبة ، ولا تتملك إلا رقبة مؤمنة ، فإن النص الثاني ناه عن تملك غير المؤمنة ، والاول موجب لعتق رقبة ، فيتعين أن يراد بها المؤمنة ، للتمكن من الامتثال.

«أصول الفقه للخضري : ص ٢١٢ بتصرف»

٢ ـ كما لو قال مثلا : ـ في كفارة الظهار ـ : «اعتقوا رقبة» ، ثم قال : «اعتقوا رقبة مسلمة» ، وجب تقييد المطلق بالمسلمة ، لان الآتي بالمطلق ليس بآت بالمقيد ، والآتي بالمقيد آت بالمطلق ، فيكون أولى ، لانه جمع بين الدليلين ، وانما قلنا إن الآتي بالمقيدات بالمطلق ، لان المطلق جزء من المقيد ، والآتي بالكل لا محالة يكون آتيا بالجزء.

«غاية البادي : ٧٩ ـ ٨٠»

١٥١

وإن اختلف ، لم يجب الحمل إلا بدليل منفصل (١).

وقال بعض الشافعية : تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا وهو خطأ (٢) ، لانه لو قال الشارع : أو جبت أي رقبة كانت في الظهار ، لم يناف التقييد بالايمان في القتل (٣).

__________________

١ ـ كما لو قال مثلا في كفارة الظهار : «اعتق رقبة» ، وفي كفارة القتل : «اعتق رقبة مؤمنة» ، فلا يحمل المطلق على المقيد.

٢ ـ قالت الشافعية : كلام الله واحد ، فإذا نص على الايمان في كفارة القتل لزم في الظهار ، وليس بسديد ، فإنه إن أريد المعنى القائم به ، فهو وإن كان واحدا ، إلا أن تعلقاته تختلف باختلاف المتعلقات فلا يلزم من تعلقه بأحد المختلفين ، بالاطلاق أو التقييد أو العموم أو الخصوص أو غير ذلك ، تعلقه بالآخر بذلك ، وإلا لزم أن يكون أمره ونهيه بأحد المختلفات أمرا ونهيا بالجميع ، وهو محال ....

«منتهى الوصول : ص ١٠٠ بتصرف»

٣ ـ فلان الشارع لو قال : في كفارة القتل أوجبت رقبة مؤمنة وفي كفارة الظهار أوجبت رقبة كيف كانت ، لم يكن بينهما تناقض ، وحينئذ تقييد احداهما لم يقتض تقييد الآخر.

احتجوا : بأن القرآن كالكلمة الواحدة ، ولذلك لما قيد الشهادة بالعدالة في موضع ، لم يحتج تقييدها في سائر المواضع.

والجواب : إن القرآن كالكلمة الواحدة في عدم التناقض فيه ، لا في كل شئ.

وإلا لوجب تقييد جميع العمومات والمطلقات بكل خاص ومقيد.

وأما تقييد الشهادة في سائر الصور فبالاجماع.

«غاية البادي : ص ٨١»

١٥٢

الفصل الخامس

في : المجمل والمبين

وفيه : مباحث

١٥٣

الاول

«في : بعض التعاريف»

البيان : هو الذي دل على المراد ، بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد (١).

والمبين : يطلق على المستغني عن البيان (٢) ، وعلى ما ورد عليه بيانه (٣).

والمجمل : ما أفاد شيئا معينا في نفسه (٤) ، واللفظ

__________________

١ ـ انما قال : الذي دل عليه ، ولم يقل : خطاب دل ، ليشمل القول والفعل.

وقوله : بخطاب لا يستقل ، يتعلق الجار والمجرور بالمراد ، لا ب‍ «دل» وإلا لزم أن يكون البيان غير مستقل في الدلالة ، فيحتاج إلى بيان آخر.

وإنما قيد عدم الاستقلال بقوله : بنفسه ، لانه يعرض له الاستقلال بالبيان.

وقيده : بالدلالة على المعنى ، لانه لو كان عدم الاستقلال لا على هذه الجهة ، لا يسمى بيانا.

«غاية البادي : ص ٨٢»

٢ ـ وهو ما كان مستقلا في الدلالة على المراد في الاصل ، نحو «قل هو الله أحد».

«غاية البادي : ص ٨٢»

٣ ـ وهو : ما لم يكن مستغنيا في الاصل ، لكن طرأ عليه البيان نحو «أقيموا الصلاة».

«غاية البادي : ص ٨٢»

٤ ـ مثل القرء.

«هامش المصورة : ص ٢٨»

١٥٤

لا يعينه (١).

والتأويل : إحتمال يعضده دليل (٢) ، يصير به أغلب على الظن ، من الذي دل الظاهر عليه (٣).

ثم المجمل : قد يكون لفظا ، باعتبار إرادة خلاف الظاهر منه ، كالعام المخصوص (٤).

__________________

١ ـ قوله : واللفظ لا يعينه ، ليخرج ما كان متعينا عند المتكلم ، واللفظ يدل على التعيين ، فإنه ليس بمجمل.

«غاية البادي : ص ٨٣»

٢ ـ قولنا : بدليل يعضده : احترازا عن التأويل من غير دليل ، فإنه ليس تأويلا صحيحا.

وقولنا : بدليل ، يعم القاطع والظني ، فعلى ذلك تبين أن التأويل لا يتطرق إلى النص ، ولا إلى المجمل ، وإنما يتطرق إلى الظاهر لا غير.

«غاية البادي : ٨٥»

٣ ـ فإن قوله تعالى : «يد الله فوق أيديهم» يحتمل أن يكون المراد من اليد القدرة ، ويحتمل أن يكون الجارحة ، والاحتمال الاول مرجوح بالنسبة إلى اللفظ ، وهو مقوي بالدليل العقلي ، بحيث صار راجحا مع ذلك الدليل ، فهذا الاحتمال المرجوح من حيث اللفظ ، الراجح بدليل آخر عقلي أو سمعي ، هو التأويل.

«غاية البادي : ٨٥»

٤ ـ أي : كالعام المخصوص بمجمل ، سواء كان متصلا أو منفصلا.

مثال المتصل قوله تعالى : «وأحل لكم ما وراء ذلكم إن تبتغوا بأموالكم محصنين» ، وقوله تعالى : «أحلت لكم بهميمة الانعام إلا ما يتلى عليكم» ، فإن الله تعالى قد خص العام الاول بصفة الاحصان ، والثاني بما استثني عنه ، وهما مجملان يحتاجان إلى البيان.

١٥٥

أو لا (١) ، كالمتواطئ والمشترك.

وقد يكون فعلا ، باعتبار عدم ما يدل على جهة وقوعه (٢).

البحث الثاني

«في : ورود المجمل»

يجوز ورود المجمل في كلام الله تعالى ، وكلام الرسول «ص» لامكانه في الحكمة ، ووقوعه فيهما.

__________________

ومثال المنفصل قوله تعالى : «اقتلوا المشركين» ، وقال الرسول : المراد بعضهم.

وأعلم : أن المصنف أطلق القول في ذلك ، وجعل كل العام المخصوص مجملا ، سواء خص بمجمل أو لا ، وفيه نظر.

«غاية البادي : ص ٨٦»

١ ـ وهو : الاسماء التي علم أن حقائقها غير مرادة ، ويكون له مجازان ، لم يكن أحدهما أولى من الثاني ، وهذا القسم لم يذكره المصننف صريحا بل إيماء».

«غاية البادي : ص ٨٦»

٢ ـ الفعل من حيث هو فعل ، لم يدل على جهة وقوعه ، من الوجوب والندب والاباحة ، ما لم يقترن به ما يدل عليها ، فالفعل إذا تجرد عن القرينة ، يكون مجملا محتاجا إلى أن يبين ، أنه على أي وجه وقع من وجوهه.

«غاية البادي : ص ٨٦ ـ ٨٧»

١٥٦

البحث الثالث

«في : أشياء ليست مجملة وظن أنها كذلك»

فمنها : التحليل والتحريم المضافان إلى الاعيان ، خلافا للكرخي (١) ، لافادتهما المعنى المطلوب من تلك الذات (٢).

ومنها : قوله تعالى : «وامسحوا برؤوسكم» [٥ / ٧] ، خلافا لبعض الحنفية.

لان الباء : إما للتبعيض ، وإما للقدر المشترك بين الجميع والبعض ، ومعهما لا إجمال (٣).

__________________

١ ـ عبيد الله بن الحسين الكرخي ، أبو الحسن : فقيه ، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق. مولده في الكرخ سنة ٢٦٠ ه‍ ، ووفاته ببغداد سنة ٣٤٠ ه‍. له «رسالة في الاصول التي عليها مدار فروع الحنفية ـ ط» و «شرح الجامع الصغير» و «شرح الجامع الكبير».

«أعلام الزركلي : ٤ / ٣٤٧ بتصرف»

٢ ـ ذهب أبو عبد الله البصري وحكاه أبو الحسن الكرخي!! إلى أن قوله : «حرمت عليكم الميتة» ، وما أشبههما من الآيات التي علق التحريم فيها بالاعيان ، مجمل.

وذهب أبو على وأبو هاشم ، إلى أن ذلك مفهوم من ظاهره ، وليس بمجمل.

«العدة : ٢ / ٨»

٣ ـ والذي نقوله في هذه الآية : ان الباء تفيد التبعيض على ما بيناه

١٥٧

ومنها : الفعل المنفي : خلافا لابي عبد الله البصري ، لان الاضمار لابد منه ، وإضمار الصحة أولى ، لانه أقرب مجاز إلى الحقيقة (١).

ومنها : آية السرقة ، ليست مجملة في اليد ولا القطع ، لان اليد الموضوعة للعضو ، من المنكب ، واستعماله في البعض

__________________

فيما مضى ، من أنها إنما تدخل للالصاق إذا كان الفعل لا يتعدى إلى المفعول به بنفسه ، فيحتاج إلى إدخال الباء ليلصق الفعل به.

فأما إذا كان الفعل مما يتعدى بنفسه ، فلا يجوز أن يكون دخولها لذلك.

فإذا ثبت ذلك ، فقوله فامسحوا برؤوسكم ، يتعدى بنفسه ، لانه يحسن أن يقول : امسحوا رؤوسكم ، فيجب أن يكون دخولها لفايدة اخرى وهي التبعيض.

إلا أن ذلك البعض ، لما لم يكن معينا ، كان مخيرا بين أي بعض شاء ، فإن علم بدليل أنه أريد منه موضع معين لا يجوز غيره وقف ذلك على البيان ، وصارت الآية مجملة من هذا الوجه.

«العدة : ٢ / ٩»

١ ـ أقول : اختلفوا في قوله «ع» : لا صلاة إلا بطهور ، ولا صيام لمن لم يبيت الصيام ، ولا صلاة الا بفاتحة الكتاب ، ونحو ذلك.

فقال القاضي أبو بكر وأبو عبد الله البصري : أن ذلك مجمل ، لان حرف النفي دخل على هذه الحقايق مع تحققها ، فلابد من إضمار حكم من الاحكام ، كالصحة والكمال ، إذ في إضمار كل أحكامها مخالفة الدليل اكثر ، فيجب الامتناع عنه ، والبعض ليس اولى من البعض ، فثبت الاجمال.

١٥٨

على سبيل المجاز ، وأما القطع فهو الابانة (١).

__________________

ومنع ذلك الباقون : وهو الحق!!

وبيانه يتوقف على مقدمة : وهي أن اللفظ إذا ورد من الشارع ، وجب حمله على الحقيقة الشرعية ، فإن لم يكن فعلى حقيقته العرفية ، فإن لم يكن فعلى حقيقته اللغوية.

فإن كثرت الحقايق ، يحمل على حقيقة ضمت إليها قرينة من القرائن ، وإن لم يكن قرينة ثبت الاجمال.

وكذلك : إذا تعذر حمله على الحقيقة ، ويكون له مجازات ، يحمل على أقرب مجاز إلى تلك الحقيقة.

فإن تساوت المجازات ، ثبت الاجمال.

إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول : وجب حمل هذه الالفاظ على حقايقها الشرعية.

ولو سلم تعذر ذلك : يحمل على نفي الفائدة ، إذ هو المعهود من عرف اللغة ، كما يقال : لا علم إلا ما نفع ، ولا كلام إلا ما أفاد.

ولو سلم أيضا نفي ذلك : يحمل على أقرب مجاز إلى الحقيقة ، وهي نفي الصحة لان نفي الصحة أشبه شيء بنفي الحقيقة ، وعلى هذه التقادير لا إجمال.

«غاية البادي : ص ٩٠ ـ ٩١»

١ ـ أقول : اختلفوا في قوله تعالى : «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما».

فقال بعضهم : إنها مجملة من جهة اليد والقطع.

أما اليد : فلانها تطلق إلى المنكب وإلى المرفق وإلى الكوع ، وليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر ، فتكون مجملة.

وأما في القطع : فلان القطع يطلق على البينونة وعلى السف ،

١٥٩

ومنها قوله عليه‌السلام : «رفع عن امتي الخطأ والنسيان» (١) لان المراد منه رفع المؤاخذة (٢).

__________________

كما يقال برئ القلم فقطع يده.

وقال آخرون : إنها ليست مجملة.

أما اليد : فإنها وإن اطلقت على ما ذكروه ، لكنها حقيقة إلى المنكب ، مجار فيما دونه ، ولذلك يصح أن يقال لما دون المنكب بعض اليد ، فيكون ظاهرا في جملة اليد ، فلا يكون مجملا.

وأما القطع : فهو حقيقة للابانة ، والسف إبانة لكن إبانة ذلك الجزء المخصوص ، وقولهم فلان قطع اليد في الشق ، مجاز في اليد ، إطلاق الكل على الجزء ، والقطع مستعمل في حقيقته ، هكذا قيل.

«غاية البادي : ص ٩٢»

١ ـ الجامع الصغير : ٢ / ٢٤ ، وكشف الخفاء : ١ / ٤٣٣.

٢ ـ قال بعضهم : إن قوله عليه‌السلام : «رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، مجمل ، لان الخطأ ليس بمرفوع عنهم قطعا ، فوجب أن يكون المرفوع حكما من الاحكام.

والجواب : أن المراد رفع المؤاخذة ، لان السيد إذا قال لعبده ، رفعت عنك الخطأ ، ينصرف عرفا إلى رفع المؤاخذة.

فكذلك إذا قال الرسول «ع» ينصرف إلى رفع المؤاخذة في الاحكام الشرعية ، بحسب العرف.

«غاية البادي : ص ٩٣»

١٦٠