اشارة السبق

أبو الحسن علي بن الحسن الحلبي

اشارة السبق

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسن الحلبي


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٢

يقضي ويقدر شيئا من القبيح كان العبد بذلك معذورا غير ملوم ، كما لا ملامة عليه في كل ما قضاه وقدره من أفعاله سبحانه وكانت حجة العباد عليه (١) ، لاستحالة خروجهم عن قضائه وقدره ، فلا يبقى له في كل ما احتج به عليهم حجة ، ولا وجه مع ذلك لبعثة نبي ولا إنزال كتاب ولا نصب دلالة ولا أمر ولا نهي.

والوجه في جميع ذلك ظاهر ، وأفعاله سبحانه كلها مقتضية مقدرة (٢) لكونها حكمة وصوابا وصلاحا ، سواء ظهر الوجه فيها مفصلا أو مجملا أو لم يظهر ، فإنه يجب إلحاق ما خفي وجهه منها بما ظهر ذلك فيه ، وحمل الجميع على الأصل المقرر بأدلته ، لاستحالة تنافي مدلول الأدلة.

ومن جملة صفاته الفعلية كونه تعالى متكلما ، لاستحالة أن يكون الكلام ذاتيا أو معنويا ، لأنه لا حكم لذلك ، فلا طريق إليه ، ولو كان كذلك وجب شياع كلامه في كل ما يصح أن يسمى كلاما ، من كذب وغيره ، فلا يوثق مع ذلك بخطابه ، لانسداد طريق العلم القطعي بصدقه وصدق أنبيائه ، فلا معنى لكونه متكلما إلا ما هو معقول من كونه فاعلا.

وقد تبين بذلك حدوث كلامه كحدوث جميع أفعاله. ويزيده بيانا أنه مؤلف من الحروف والكلمات التي لا فائدة فيها إلا باختلافها وترتيبها في تقديم بعضها على بعض ، وباشتماله على البداية والنهاية والتجزئ والانقسام الذي هو من خصائص الحدوث ، لاستحالة جميع ذلك على القديم ، وكل ما يقع من العباد

__________________

(١) في « أ » : وكانت حجة لعباد عليه.

(٢) في « ا » : مقتضية مقدورة.

٢١

من فعلهم باطنا وظاهرا منسوب إليهم لا إليه لوجوب (١) وقوعه بحسب الداعي والإرادة ، وانتفائه بحسب الصارف والكراهة ، فلو لم يكن فعلا ممن وقع منه لم يجب ذلك ، وجاز خلافه ، كما لا يجب في كل ما ليس من فعلهم ذلك ، لظهور الفرق بينهما ، ولأن وجوب استحقاقهم المدح على فعل ، والذم على آخر كاشف عن كونهم فاعلين وإلا لم يكن لهذا الاستحقاق وجه ، كما لا وجه له في كل ما لا تعلق لهم بفعله ، ولأنهم مأمورون ومنهيون ، مرغبون بالمثوبة على امتثال ما أمروا به ، مرهبون بالعقوبة على مخالفتهم ، فلو لا أنهم ممكنون من ذلك ، لم يكن لجميعه وجه ، ولأن نفي كونهم فاعلين يسد طريق العلم بإثبات الفاعل مطلقا ، وثبوت الفعل مع انتفاء الفاعل مما لا يعقل ، لكونه جهالة.

وقد ظهر بذلك أن أفعالهم ليست مخلوقة فيهم ، ويزيده ظهورا أنه يستحيل وقوع الفعل الواحد بفاعلين ، كما يستحيل وقوع مقدور الواحد بقدرتين ، لاستحالة كون الشي‌ء الواحد موجودا معدوما ، واقعا مرتفعا ، في حالة واحدة ، فيتحقق بذلك بطلان الكتب ، وإن كان غير معقول ، لكون العلم بكل واحد من صحته وحقيقته موقوفا بالعلم على الآخر ، مع أنه إن كان نفس الفعل فهو واقع بفاعله ، وإن كان وجهه الذي يقع عليه فهو تابع لاختيار الفالع وقصده ، لاستحالة تجرده عن ذات الفعل وماهيته ، فلا معنى لكونه العبد مكتسبا إلا كونه فاعلا ، وليس في العقلاء ، من يسند الفعل الواحد إلى فاعلين : أحدهما محمود ، وهو الخالق ، والآخر مذموم ، وهو العبد المكتسب ، إلا المجبرة والمجوس.

وإذا ثبت كون العباد فاعلين ثبت كونهم قادرين ، لاستحالة وقوع المقدور

__________________

(١) في « ج » : بوجوب.

٢٢

لا بقادر ، ولأن لهم بصحة وقوعه مزية على تعذره لولاها لم يكونوا بأحد هما أولى من الآخر ، وهي مستندة إلى القدرة المحدثة ، لاستحالة كونها ذاتية أو فاعلية ، ولأن جواز حصول القدرة وإن لا تحصل ، وثبوت التفاضل بين القادرين في كونهم كذلك مع استمرار (١) ما هم عليه من حال وشرط دلالة على ثبوت القدرة إذ لا وجه لشي‌ء من ذلك إلا باعتبارها وقدرهم متعلقة (٢) بحدوث أفعالهم ، لاتباع تعلقها صحة الحدوث ، وهي متقدمة على الفعل ، فيصح (٣) كونها مؤثرة فيه ومخرجة له من العدم إلى الوجود ، لأن تأخرها يستحيل منه ذلك (٤) فكيف يكون به ، ومقارنتها تنافي الاختيار ، ويقتضي كونها (٥) علة في أثرها ، وهو ظاهر الفساد ، لمنافاته ما دلت عليه الأدلة ، فصح كونها متقدمة ومتعلقة بالضدين لصحة التصرف في الجهات المختلفة مع تضادها ، ولأنها ليست بأحدهما أولى من الآخر ، فلو لم تكن متعلقة بهما للزم اجتماعهما عند حدوث الفعل ، فلا يخفى فساده (٦) ، وإيجابها الصفة وتعلقها بمتعلقها لما هي عليه في نفسها لكونها لا تعلم إلا كذلك ، وهي مختلفة لا متضاد ولا متماثل فيها لتعلق كل جزء منها بجزء من المقدور مع اتحاد الوقت (٧) والجنس والمحل ، ولاستحالة أن يصح بكل جزء منها غير ما يصح بالآخر ، لكونه إيجاد موجود.

__________________

(١) في « ج » : مع استتار.

(٢) في « ا » : إلا باعتبار قدرهم متعلقة.

(٣) في « ج » : ليصح.

(٤) في « ا » : يستحيل معه ذلك.

(٥) في « ج » : كونهما.

(٦) في « أ » : ولا يخفى فساده.

(٧) في « ج » : ومع اتحاد الوقت.

٢٣

فأما مع اختلاف ما ذكرناه فلا انحصار لتعلقها ، وهي متفقة فيه ( وإن اختلف ، لأنه لا وجه لاختلافها فيه ) (١) وشرط مقدورها أن يكون ممكنا في نفسه ، لاستحالة تعلقها بما ليس كذلك.

فعلى هذا يكون تكليف الكافر بالإيمان ممكنا ، لكونه مقدورا له وحسنا ، لكونه إرادة حكيم منزه عن كل قبيح.

وقد يكون واجبا في الحكمة لتكامل شروطه ، ولا تأثير لتعلق العالمية بأنه لا يختاره ، إذ ليست مؤثرة في معلومها ولا مضادة لوقوعه منه ، فكان ممكن الوقوع باعتبار تمكنه واقتداره محالا بسوء اختياره ، ولو أوجب تعلق العالمية كفر الكافر ، لأوجب إيمان المؤمن ، فيقبح التكليف ، ويسقط ما يترتب عليه ، وقد كلف الله سبحانه كل من أكمل له شروطه التي هي الحياة والعقل والاقتدار والتمكين ونصب الأدلة وإزاحة العلة وشهوة القبيح والنفار عن الحسن والألطاف المعلومة له ، لأنه مع إكمالها إذا لم يغن (٢) بالحسن عن القبيح ، بل جعل ما أمر به شاقا ، لكونه مؤلما منفورا عنه وما نهى عنه كذلك ، لكونه ملذا مشتهى ، فلو لا كونه مكلفا كل من أكمل له فعل المشاق وترك الملذ كان عابثا أو مغريا له بالقبيح ويتعالى الله عنهما ولا وجه لكونه باعتبارها غير مكلف ، لأنه على الصفات المعتبرة في ثبوت كونه كذلك ، وحسن هذا التكليف معلوم ، لاستناده إلى مكلف حكيم ، ولتضمنه التعريض إلى استحقاق المنافع العظيمة التي لا تستحق إلا به ، لقبح الابتداء بمثلها ، وذلك هو الغرض به ، والتعريض للشي‌ء في حكم إيصاله ، والمخاطب به

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في « أ ».

(٢) في « أ » : لم يعن.

٢٤

من تكاملت له شروطه المشار إليها ، وهو من جملة المشاهدة المسماة إنسانا ما لا يتم (١) كونه حيا إلا به ، ولا اعتبار بما سوى ذلك ، كما لا اعتبار بالسمن بعد الهزال ، ولا بالزيادة بعد النقصان ، لأن الحياة ، حالة في الجملة. والأفعال صادرة عنها ، والأحكام متعلقة بها ، والإدراك واقع ببعض أعضائه (٢) فلو لا أن التكليف منها (٣) ما بيناه لم يكن لجميع ما ذكرناه وجه ، كما لا وجه له بالنسبة إلى الشعر منها والظفر.

وما به يتعلق التكليف إما إلزام بفعل ، فإيجاب ، أو ما هو أولى ، فندب ، أو ما منع من فعل ، فحظر ، أو ما الامتناع (٤) منه أولى ، فكراهة ومكروه.

وذاك إما عقلي أو سمعي ، من أفعال القلوب أو الجوارح الظاهرة ، داخل تحت الطاقة والاستطاعة ، لكونه مقدورا للمكلف ، بشهادة (٥) العقول بقبح تكليف ما لا يطاق ، سواء كان بفقد (٦) قدرة أو آلة أو شرط من شروطه التي لا يحسن إلا معها ، ولكونه مستحيلا بأن لا يكون مقدورا ، ولا وجه لقبحه إلا لكونه تكليفا بما لا يطاق ، لثبوت حسنه بثبوت الطاقة ، ولانتفائه بانتفائها ، ولا يتعلق بما لا حكم له ولا استحقاق به كالمباح.

ويعتبر في قيام المكلف به ، معرفته بمكلفه سبحانه على صفاته جملة

__________________

(١) في « ج » : لم يتم.

(٢) في « ج » : أعضائها.

(٣) في « ج » : فلو لا أن المكلف منها.

(٤) في « ج » : وأما منع من فعل فخطر وما الامتناع.

(٥) في « ا » : لشهادة.

(٦) في « ا » : لفقد.

٢٥

وتفصيلا ، وبالتكليف على صفته وبكيفية ترتيبه وإيقاعه ، وإلا لم يفد قيامه به ، ولا بد من فاصل بين التكليف وبين ما يستحق عليه ، لأنه لو اتصل به ممازجا أو معاقبا لزم الإلجاء المنافي له ، وحصول المستحق على الوجه المنافي لما به يستحق محال ، فكان انقطاعه واجبا لذلك ، وهو إما بالفناء (١) أو بغيره مما تتعلق به المصلحة ، وتقتضيه الحكمة ، ولا ضد للجواهر إلا الفناء وبوجوده إلا في محل (٢) ينتفي وجودها جملة ، ووجود ما يتبعها ويختص بها تبعا لانتفائها ، وطريق إثباته السمع ، وهو إجماع الأمة وظواهر الآيات وما هو معلوم من الملة الإسلامية والشريعة النبوية ، فيكون عدم الجواهر به حقيقيا لا مجازيا ، وإعادتها بأعيانها لإيفائها ، والاستيفاء منها مقدور له سبحانه ، ليتميزها (٣) بما لا تعلم إلا عليه ، ولا يصح خروجها عنه ، لاستحالة خروج المعلوم عن كونه معلوما ، ولا تجب إعادة ما زاد من الجملة على ما به يكون المكلف مكلفا ، بل ذلك راجع إلى اختيار الحكيم ولا إعادة من لا مستحق له أو عليه.

وما علم تعالى أنه يقرب المكلف إلى ما كلف فعلا واجتنابا ، أو يكون معه أقرب باختياره هو المسمى باللطف والصلاح ، وهو إما عام أو خاص ، أو ما هو أخص منهما ، إما من فعله تعالى (٤) أو من فعل المكلف لنفسه أو من فعل غيره له إذا كان في المعلوم فعله أو ما يقوم مقامه ، والحكمة تقتضي فعله لوجوبه ، لأنه جار مجرى التمكين والأقدار ، وقبح منعه كقبح منعهما ، ولأن منعه مناقض للغرض

__________________

(١) في « ا » : بالغناء ، وكذا فيما يأتي.

(٢) كذا في « ج » : وفي غيرها : لا في محل.

(٣) في « ج » : لتميزها.

(٤) في « ا » : أو من فعله تعالى.

٢٦

المجري بالتكليف إليه ، والحكم لا يناقض غرضه ، لكونه منافيا لحكمته ، وشروطه تقدمه على ما هو لطف فيه ، وثبوت مناسبته بينهما وخلوة من كل مفسدة ، وهو فيما لا يتعلق بالدين غير واجب ، إذ لا وجه لوجوب الأصلح الدنياوي ، ولا طريق إليه ، لاستحالة كونه تعالى في كل حال غير منفك من الإخلال بالواجب ، وتقتضيه المفسدة ، ولا يجب المنع منها بل الأعلام بها والتمكين من دفعها ، لإزاحة العلة ، واستتمام الغرض بذلك.

ولا وجه في اللطف إذا كان مصلحة في أمر أو لمكلف مفسدة في غيره ولآخر ، كما لا وجه لكل مصلحة لا تتم إلا بمفسدة.

ومعرفة الله تعالى واجبة ، لكونها أصلا لجميع التكاليف المكتسبة ، عقلا وشرعا ، لكون اللطف الذي هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب على الطاعة مشروطا بثبوتها ، ومتوقفا على حصولها ، ولكونها شرطا في شكر نعمه سبحانه تعالى وعبادته ، التي هي كيفية في شكره الذي لا يصح إلا بعد صحتها ، ولا يثبت حقيقته إلا بعد ثبوتها.

وكلما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولا وصلة إليها في دار التكليف إلا بالنظر الحاصل على شروطه ، لاستحالة كونها ضرورية أو حاصلة عن طريق يرجع إلى الضرورة ، لثبوت الخلاف فيها ، وارتفاعه في كل ضروري.

ولسنا في تكليف العلم بالمكلف مضطرا إلى العلم به ، أو سمعه (١) ، لتوقف العلم بصحة السمعيات على تقدمها ، وأن السمع (٢) مؤكد لوجوبها ، فكانت

__________________

(١) في « ج » : أو سمعية.

(٢) في « أ » : وإنما السمع.

٢٧

باعتبار ما ذكرناه نظرية واستدلالية ، وكان النظر واجبا لوجوبها ، وهي على التحقيق أول الواجبات ، فيكون ما هو وصلة إليها وسبب فيها كذلك (١) لأن ما عدا النظر من جميع الواجبات العقلية والسمعية قد يخلو المكلف منها إما وجوبا أو جوازا ، أو لا يخلو من وجوبه عليه ، فكان أول الواجبات وصلة وترتيبا.

وإنما يجب عند حصول الخوف والرجاء ، وقد يحصل خوف المكلف بسبب لا يتعدى عنه ، لتدبره ما هو عليه من أحواله ، وما هو فيه من النعم ظاهرا وباطنا ، وبسبب خارج عنه ، لسماعة اختلاف العقلاء في المذاهب والآراء ، مع فقد هما وفقد ما به يحصل كل واحد منهما ، لا بد من ورد الخاطر عليه ، وأولى ما كان كلاما داخل سمعه متضمنا إخافته من إهمال النظر وحثه على استعماله (٢) وتجويز الضرر يقتضي وجوب الاحتراز منه ، معلوما كان أو مظنونا ، وذلك باعث على النظر ومؤكد لوجوبه ، وهو مولد للعلم مع تكامل شروطه ، لكونه واقعا بحسبه وتابعا له ، يقل بقلته ويكثر بكثرته ، فكان مسببا عنه ومتولدا من جهته ، ومن لم يولد نظره العلم فلتقصير منه ، أما في النظر أو في المنظور فيه أو لأنه نظر في الشبهة لا في الدليل ، والنظر فيها لا يولد شيئا ولا يفضي بصاحبه إلا إلى الجهل أو الشك ، والجهل ليس مسببا ولا متولدا عن النظر ، لكونه نقيض العلم وضده ، لاستحالة الجمع بين النقيضين.

والمنظور فيه لاكتساب المعرفة الواجبة ما خرج عن مقدور كل قادر بقدرة (٣) مما يختص سبحانه بالاقتدار عليه ، ومن الجائز في أصل العقل أن يخلو

__________________

(١) في « أ » : وسبب إليها فيها كذلك.

(٢) في « أ » : وحقه على استعماله.

(٣) في « ج » : مقدرة.

٢٨

العاقل من كل تكليف ، لكن ذلك مشروط بأن يغنيه بالحسن عن القبيح ، ولا يثبت ذلك إلا بأن يكون مشتهيا للحسن (١) ، نافرا عن القبيح لا بالعكس من ذلك ، فبتقديره يكون خلوة من التكليف جائزا ، لكونه غير مناف للحكمة ، ويكون كمال عقله مع ما يضامه من أصول النعم الباطنة والظاهرة نعمة منه سبحانه عليه ، وإحسانا إليه ، والعقل يقتضي حسن الابتداء بذلك لا قبحه.

ومما يتفرع على ركن العدل الكلام في الوعد والوعيد ، وهو ما يستحق بالتكليف فعلا وتركا ، والمستحقات ستة :

المدح والذم والثواب والعقاب والشكر والعوض ، فالمدح يتميز بكونه دالا على الارتفاع ، والذم بكونه دالا على الاتضاع ، والثواب بوقوعه مستحقا على وجه التعظيم ، والعقاب بوقوعه مستحقا على وجه الإهانة ، والشكر بوقوعه اعترافا مقصودا به التعظيم ، والعوض بانقطاعه (٢) وتعريه من تعظيم.

ويعتبر في المدح والذم العلم بما به يستحقان ، والقصد إلى كل واحد منهما ، والوضع العرفي فيهما ، ويثبتان بالقول حقيقة وبالفعل مجازا ، ويشتملان على أسماء ودعاء ، ويستعمل كل واحد منهما بحسب الموجب له مطلقا في موضع ، مقيدا في غيره ، ويعلمان عقلا ، لاقتضاء ضرورته (٣) لهما.

فما به يستحق المدح ، إما فعل الواجب لوجه وجوبه ، أو الندب لوجه ندبيته ، أو اجتناب القبيح لوجه قبحه ، أو إسقاط الحقوق لوجهها (٤) لا يستحق

__________________

(١) في « ا » : مشتبها للحسن.

(٢) في « ج » : والعوض انقطاعه.

(٣) في « ا » : باقتضاء ضرورية.

(٤) في « ا » : لوجههما.

٢٩

على ما سوى ذلك ، وعلى ما به يثبت استحقاقه ثبت استحقاق الثواب بشرط حصول المشقة في الفعل والترك ، أو في سببهما وما به يتوصل إليهما.

وطريق العلم باستحقاقه العقل ، لثبوت إلزام المشاق التي لولا ما في مقابلتها من الاستحقاق لم يحسن إلزامها ، ولا كان له وجه (١) فبوجوهها تعنى اللطف فيها ، وبما يقابلها من الاستحقاق تعين فيها وجه الحكمة ، ولزم احتمالها والصبر عليها.

وبدوامه السمع لحسن تحمل المشاق للمنافع المنقطعة عقلا ، إذ ليس فيه ما يقتضي اشتراط دوامها ، فيكون القطع على دوامه وصفاته سمعا (٢) بإجماع جميع الأمة ، ولا يلزم حمله على المدح ، لاشتراكهما في جهة الاستحقاق ، لأنهما وإن اشتركا في ذلك فقد اختلفا في غيره ، ويثبت (٣) أحد هما في موضع يستحيل ثبوت الآخر فيه.

وما به يستحق الذم (٤) أما فعل القبيح أو الإخلال بالواجب لا يستحق بغير هما ، ومما به يثبت (٥) استحقاقه ثبت استحقاق العقاب بشرط اختيار المكلف ذلك على ما فيه مصلحته.

وطريق العلم به السمع ، لأن العقل وإن أجازه ولم يمتنع منه إلا أنه لا قطع به على ثبوت استحقاقه ، لخلوه من دلالة قطعية على ذلك ، ضرورة واستدلالا ،

__________________

(١) في « أ » : وإلا كان له وجه.

(٢) في « ج » : سعيا. وفي « ا » : سميعا. والظاهر أن ما رقمناه في المتن هو الصحيح.

(٣) في « ج » : وثبت.

(٤) في « أ » : وما به يستحق بالذم.

(٥) في « ج » : وما يثبت.

٣٠

فالمرجع بإثباته قطعا إلى السمع المقطوع على صحته ، وهو الإجماع والنصوص القرآنية ، ولا يلزم عليه الإغراء (١) لأن تجويزه عقلا ، والقطع عليه سمعا زاجر لا إغراء معه.

وإذا كان الأصل الذي (٢) هو ثبوت استحقاقه لا يعلم إلا سمعا ، فالفرع الذي هو دوامه وانقطاعه أولى بذلك.

وقد أجمعت الأمة (٣) على دوام عقاب من مات من العصاة ، كافرا ، ولا إجماع على دوام عقاب من عداهم من عصاة المؤمنين ، فهم على ما كانوا عليه ، من ثبوت استحقاق الثواب الدائم وإن استحقوا معه بعصيانهم العقاب ، لأن انقطاع عقابهم ممكن بتقديمه ، ودوام ثوابهم المجمع عليه مانع من انقطاعه ، لإمكان حصوله معاقبا للاستيفاء منهم ، ولا مانع من ذلك كما لا مانع من استحقاقهم المدح في حالهم فيها مستحقون الذم ، لوجوب مدحهم بإيمانهم وذمهم بفسقهم ، وما تعذر ذلك من فاعل واحد إلا لفقد الآلة لا لفقد (٤) الاستحقاق ، فإنه لو كان له لسانان لمدح بأحدهما وذم بالآخر ، ولو مدح بلسانه وذم بما يكتب بيده وبالعكس من ذلك لصح (٥) ، وكان جامعا بينهما في حال واحدة ، فكما لا تنافي بين ثبوت استحقاقهما إلا على أمر واحد بل على أمرين مختلفين ، فكذلك لا تنافي أيضا بين ثبوت استحقاق ما يتبعهما من ثواب وعقاب ، وكما أجمعت الأمة على دوام

__________________

(١) في « أ » : ولا يلزم الإغراء.

(٢) في « ج » : وإذا كان الأصل فيه الذي.

(٣) في « أ » : وقد اجتمعت الأمة.

(٤) في « أ » : وما تعذر ذلك من فاعل واحد إلا لفقد.

(٥) في « ج » : يصح.

٣١

عقاب الكفار ، أجمعوا أيضا عدا الوعيدية (١) على انقطاع عقاب من وصفنا حالهم.

ولاستحالة الجمع بين دائمي الثواب والعقاب ، وجب كون المنقطع متقدما على الدائم الذي يحصل بدلا منه ومعاقبا له.

الكلام في الإحباط وبطلانه

وقد ثبت بما ذكرناه أن المستحق من الثواب لا ينفيه شي‌ء ولا يسقطه مسقط ، لأن إسقاطه مناف للحكمة (٢) لكونه مستحقا على الله لا على غيره ، فتقدير سقوطه بعد ثبوته مناف لحكمته تعالى.

وإذا صح ذلك بطل التحابط بين الطاعات والمعاصي ، وبين المستحق عليهما. ويبطله أيضا أنه لا تنافي بين ذلك ، لكونه متجانسا ، فإن جنس ما يقع طاعة أو معصية واحد لا تضاد فيه ولا اختلاف بينهما إلا بالوجوه التي يقع عليها وهي تابعة لاختيار الفاعل وقصده ، بل مما يصح تعريها منها. فإن دخول الدار بإذن صاحبها كدخولها بغير إذنه ، وأحد الدخولين (٣) طاعة والآخر معصية ، وجنسهما واحد لا اختلاف فيه إلا بالوجه الواقع عليه ، وكذلك ، جنس ما يقع ثوابا أو عقابا واحد ، لا مضادة فيه ولا انفصال بينهما (٤) إلا بالشهوة لأحد هما والنفار من الآخر ، فإن جنس الألم واللذة واحد. وإدراكهما بطريق واحد ، ولا افتراق بينهما

__________________

(١) هم القائلون بعدم جواز العفو عن الكبائر عقلا كالمعتزلة ومن تبعهم.

(٢) في « ج » : مناف للحكم.

(٣) في « ج » : كدخوله بغير إذنه وأحد المدخولين.

(٤) في « ج » : ولا انفعال بينهما.

٣٢

إلا بالشهوة والنفار ، ولولا ذلك ما التذ أحدنا بما يتألم به غيره وبالعكس من ذلك ، فإن المبرود يلذ له ما يؤلم المحرور من النار وغيرها من الحرارات.

وإذا كان جنس المستحق واحدا ، وما به يثبت (١) استحقاقه أيضا كذلك لم يعقل دخول التحابط فيه ، لأنه لا معنى له إلا التنافي الذي لا يدخل إلا في المتضادات ولا في المتجانسات (٢) ، على أنه لو صح ـ وهيهات ـ لكان بين الموجودات والمستحق معدوم لم يوجد بعد ، فكيف يدخله الإحباط؟

[ الكلام في بطلان التكفير ] (٣)

ولو جمع جامع بين الطاعة والمعصية على حد واحد ، لم يثبت له على رأي الوعيدية به استحقاق ، وكان بمنزلة من لم يطع ولم يعص ، لا له ولا عليه ، وهو ظاهر الفساد.

وإذا بطل التحابط فالتكفير أيضا باطل ، لأن صغائر الذنوب في استحقاق الذم والعقاب عليها ككبائرها ، وإذن زاد ما يستحق على الكبائر بالنسبة إلى ما يستحق على الصغائر ، ولأن إثبات الصغير مكفر (٤) لا وزر بها مبني على إثبات الكبيرة محبطة لا أجر معها ، فبطلانهما واحد.

ومسقط العقاب على الحقيقة عفو الله أما عند التوبة التي هي تذم التائب

__________________

(١) في « ج » : وما به ثبت.

(٢) في « ج » : « لا في المتجانسات » بدون الواو.

(٣) ما بين المعقوفتين منا.

(٤) هكذا في النسخ التي بأيدينا.

٣٣

على ما مضى منه من القبيح وعلى أن لا يعود إلى مثله مستقبلا مع الخروج من حق ثبت في الذمة إن كان لله تعالى ، فبتلافيه وأدائه إن كان مما يؤدى ، وقضائه إن كان مما يقضى ، وإن كان لبعض العباد فبتأديته وفعل ما يجب في مثله.

وإذا صحت التوبة كانت مقبولة إجماعا ، وسقوط العقاب عندها تفضل من الله لا وجوبا ، لأنه لو وجب على وجه تكون هي المؤثرة في الإسقاط لم يكن له سبحانه بذلك تكرم ولا تمنن ولا اختيار ولا تمدح ، مع أن ذلك كله له بقبولها ، فيكون الوجوب من حيث استحال خلاف الوعد عليه تعالى لا من حيث كونها مؤثرة في إسقاط ما هو حق له.

وأما عند عفوه ابتداء ، والعقل شاهد بحسنه ، لأنه إذا كان العقاب حقا له لا حق فيه لغيره بل لا يسقط بإسقاطه حق الغير جرى حسن إسقاطه مجرى حسن إسقاط الدين ، وكان في الحسن أبلغ منه ، لكونه محضا ، وأكده أنه سبحانه لا ينتفع باستيفاء ولا يستضر بإسقاط ، ولا يناط بذلك شي‌ء من وجوه القبح (١) ، وحسن الإحسان مما تشهد به أوائل العقول ، والسمع دال على ثبوته ، ولا إغراء بذلك لما يقابله (٢).

وأما عند الشفاعة التي هي قبولها ، لا نزاع فيه ، كثبوتها ولا وجه لحقيقتها (٣) إذا كانت في زيادة المنافع للاستغناء عنها ، ولجواز العكس فيها بأن يعود الشفيع مشفوعا فيه ، فتكون حقيقة في إسقاط المضار ، وهو الذي يقتضيه العقل ، ويؤكده

__________________

(١) في « أ » : من وجوه القبيح.

(٢) في « ج » : لا يقابله.

(٣) في « ج » : فحقيقتها.

٣٤

السمع ، ومع فقد جميع ذلك ، وخلو المرجئ له منه ، لا بد من انتهائه إلى الثواب الدائم بعد الاقتصاص منه (١) بالعقاب المنقطع كما بيناه.

والإيمان وإن كان في أصل الوضع عبارة عن التصديق إلا أنه يختص شرعا بتصديق ما يجب اعتقاده من وحدانية الله تعالى وعدله ونبوة أنبيائه وإمامة أوليائه ، وما يترتب على ذلك من تحليل حلاله وتحريم حرامه وبعثه ومعاده.

فالمؤمن هو المصدق المعتقد لذلك بقلبه لا المظهر له بلسانه من دون اعتبار اعتقاده ، فإن كانت موافقة باطنه لظاهرة في الصدق والإخلاص معلومة ، أما بكونه معصوما أو مشارا إليه بذلك ممن في إشارته الحجة ، فمدحه مطلق وإلا فهو مقيد ، وإن كان اعتقاده ذلك مستندا إلى معرفة تفصيلية فهو الغاية والإجزاء ما لا بد منه (٢) من علم الجملة ، وإن كان خاليا من الحجة على كل وجه واقعا على وجه المطابقة لمعتقده (٣) لا ببرهان (٤) قطعي وعلم يقيني ، بل بمجرد القبول والتسليم ، فهو الذي يسمى تقليدا إلا أن صاحبه مقلد لأهل الحق في حقهم ، فله بذلك مزية على مقلدي أهل الباطل في باطلهم ، وهو عند بعض علماء الطائفة مصيب في اعتقاده ، مخطى‌ء في تقليده ، فيرتجى له من العفو ما يجرى لغيره من مستضعفي أهل الحق ، بناء على أنه لا وجه لتكفير أحد من الطائفة على أي حال كان.

والكفر وإن كان في الأصل الجحود المأخوذ من الستر والتغطية ، إلا أنه

__________________

(١) في « ج » : بعد الاختصاص.

(٢) في « أ » : ولا اجزائه ما لا بد منه.

(٣) في « أ » : وإن كان خاليا من الحجة على كل وجه المطابقة لمعتقده.

(٤) في « ج » : لا برهان.

٣٥

اختص شرعا بجحود ما وجب التصديق به ، أو جحود ما لا يتم الإيمان إلا به ، فالجاحد لذلك هو الكافر الذي يجب إطلاق دمه ، وتجري عليه أحكام أهل الكفر والفسق ، وإن كان في الوضع الخروج ، إلا أنه اختص شرعا بالخروج من طاعة إلى معصية ، فالخارج بذلك مع صحة اعتقاده هو المؤمن الفاسق الذي قد بينا أحكامه ، لأنه لا منافاة بين ثبوت الإيمان ووقوع الفسق ، لصحة الجمع بين الطاعة والمعصية والحسنة والسيئة في وقت واحد من فاعل واحد ، كمن تصدق بيمينه وسرق بشماله ، أو سبح بلسانه ورأى محظورا بطرفه قصدا ، وقد أومأنا إلى ذلك متقدما.

وجميع ما أشرنا إليه من أحكام الإيمان والكفر معلومة مقطوع عليها بالسمع خاصة ، وهو إجماع الطائفة المحقة ، لخلو العقل من طريق يقطع به على كل واحد منهما.

[ الكلام في سؤال القبر ]

وسؤال القبر وما يتبعه ـ من نعيم أو عذاب ـ والبعث والنشور والموافقة والحساب والميزان والصراط وتطاير الكتب وشهادة الأعضاء والانتهاء بحسب الاستحقاق إلى جنة يختص نعيمها بالملاذ والمسار ، وإلى نار يختص عذابها بالإيلام والمضار وما يتبع ذلك ويترتب عليه ، حق يجب اعتقاده والقطع عليه ، لأنه مما لا يتم الإيمان إلا به وطريق العلم به إجماع الأمة والنصوص القرآنية والنبوية (١) ولا اعتداد بمخالفة من خالف في شي‌ء منه ، لسبق الإجماع وتقدمه على خلافه.

__________________

(١) في « ج » : والنبوة.

٣٦

والشكر يستحق على النعم المقصود بها جهات النفع ، فإن كان كمال المنعم بها معلوما وبلغت أعلى المبالغ ، كنعم الله ونعم أنبيائه وأوليائه ، كان شكرها مطلقا ، وإلا فهو مقيد ، وطريق العلم باستحقاقه ضرورة العقل ، لأنه من جملة علومه.

والعوض يستحق على الآلام لا على غيرها ، ويعلم وجوبه بوجوب الانتصاف الذي لا يتم إلا به ، وثبوت الآلام معلوم (١) بوجدانه وإدراكه ، والفرق بين حصوله وارتفاعه ، ولا يكاد يشتبه الأمر فيه على عاقل ، فإن كان من فعل الله تعالى فأما مبتدئ لا عن سبب ، والوجه فيه لطف بعض المكلفين ، أما المفعول به إن كان مكلفا أو غيره وبذلك ثبت الغرض به وانتفى العبث عنه ، ولا بد فيه من عوض زائد موف (٢) عليه ينغمر (٣) بالنسبة إليه في جانبه ، ويحسن لأجله تحمله ، وبذلك ثبت العدل به وانتفى الظلم عنه.

أو مسبب فأما في الدنيا ، وهو ما حصل عن تعريض المعرضين ، وحسنه معلوم بجريان العادة به ، وإن خرقها فيه لا لوجه ممتنع ، والعرض فيه على المعرض ، لأنه فاعل المسبب (٤) وأما في الآخرة فلا وجه له إلا الاستحقاق ، وهو المقتضي حسنه ، وإن كان من فعل غيره سبحانه ، فإما حسن وهو ما كان لاجتناب نفع حسن لا يجتلب إلا به ، أو دفع ضرر عظيم لا يندفع إلا به ، أو لمدافعة متعد (٥) غير مقصود إيلامه ، أو لإتباع أمر مشروع وإذن متبوع ، أو لإقامة

__________________

(١) في « ج » : وثبوت الألم معلوم.

(٢) في « ج » : « موقوف » بدل « موف ».

(٣) في « ا » : يتغمر.

(٤) في « ا » : فاعل السبب.

(٥) في « ج » : أو لمدافعة معتد.

٣٧

حق وأداء مستحق ، فكل هذه الوجوه يحسن فيها الألم.

وإما قبيح وهو ما عداها مما لم يكن على وجه منها ، وهو الظلم الذي لا بد فيه من الانتصاف ، وعوضه على فاعله (١) جزء بجزء ، لاستحقاقه بمقدار المستحق عليه ، وكلما يصح حدوثه يصح التوقيت به ، لاستحالته بما لا يصح فيه ذلك.

ولا أجل للإنسان إلا واحد ، وهو الوقت الذي يحدث فيه عليه الحادث من موت أو قتل ، فكما أن أجل الموت وقت حصوله ، فكذلك أجل الوقت ، وبقاء المقتول لولا قتله وموته كلاهما بالنسبة إلى قادرية الله تعالى وحسن اختياره جائز ، ولا دلالة على القطع على أحدهما ، لاستحالة تعجيزه سبحانه ، والتعجيز عليه (٢) بقطع ما لا وجه للقطع به ، فيكون الوقف في ذلك مع تجويز (٣) كل واحد منهما كافيا في اعتقاد الحق الذي لا بد منه ، وما يصح انتفاع المنتفع به على وجه لا منع فيه عليه هو المسمى رزقا ، وبذلك خرج الحرام عن كونه كذلك ، ويعين أنه لا رزق إلا الحلال المطلق الذي به المدح ، ولاجتلابه توجه الأمر.

والسعر وإن كان عبارة عن تقدير البدل ، فقد يختلف بالغلاء تارة ، وبالرخص أخرى ، فإن كان من قبل الله سبحانه فهما من قبيل اللطف ، وعوض آلام الغلاء عليه خاصة ، وإن كانا من قبل العباد اما بالإكراه أو بفعل أسبابهما (٤) فعوض ما فيه العوض على من هو بسببه.

__________________

(١) هكذا في « ج » : وفي غيرها : وعرضه على فاعله.

(٢) في « أ » : والعجز عليه.

(٣) في « ج » : مع تجوز.

(٤) في « ج » : اما بالإكراه لا بفعل أسبابهما.

٣٨

أما الكلام في ركن النبوة

فإن بعثة الأنبياء ممكنة ، لكونها مقدورة وحسنة ، لاستنادها إلى حكيم منزه عن كل قبيح ، لأنه لما بعثهم وصدقهم بإظهار المعجزات مع استحالة تصديقه الكذابين ، وإظهاره المعجزات لغير التصديق ، ثبت القطع على حسنها ، وربما كانت واجبة من حيث وجب الإعلام بالمصالح والمفاسد التي لا يمكن العلم بها والاطلاع على ما وجب منها فعلا وتركا إلا ببعثتهم ، فيكون الوجه فيها ظاهرا ، وهو إرشاد المكلفين إلى ما لا سبيل لهم إلى الاسترشاد إليه إلا بهم.

واللطف في الواجب واجب ، كما أنه في الندب ندب ، وعصمة الأنبياء مطلقة بالنسبة إلى جميع الأوقات ، وجميع ما منه العصمة واجبة ، لأنه لو جاز عليهم شي‌ء من القبائح قدح في أدائهم وتبليغهم المقطوع على صدقهم فيه بظهور المعجز عليهم ، فكان لا يبقى لأحد طريق إلى العلم بصدقهم الذي لولا القطع عليه تعذر الوثوق بهم ، والقبول منهم ، وذلك مناف للغرض في بعثتهم الذي منافاته تنافي الحكمة ، وتناقضها ، فكما وجب تنزيههم عن الكذب في الأداء والتبليغ ليصح الرجوع إليهم والاقتداء بهم ، فكذلك وجب تنزيههم عن كل قبيح لا تسكن مع تجويزه النفوس إليهم ، لنفورها عنهم.

ولا يثبت ذلك التنزيه التام الذي لا يبقى للتنفر معه (١) وجه إلا بعصمتهم على الإطلاق ، وهو ما أردناه.

وبالعلم المعجز الظاهر على يديهم أو نص صادق يثبت القطع على

__________________

(١) في « ا » : للتنفير معه.

٣٩

صدقهم. وشرط المعجز في دلالته على التصديق أن يكون متعذرا في جنسه أو صفته المخصوصة ، لكونه من فعل الله تعالى ، أو جار مجرى فعله (١) ، لأن الدعوى عليه ، فما تصديها إلا إليه خارقا للعادة الجارية بين المبعوث إليهم ، لأن المعتاد لا إبانة به ولا دلالة فيه مطابقا لدعوى المدعى على وجه التصديق له ، لأن المتراخي لا قطع به على ذلك ، لتجويز (٢) دخول الحيلة فيه.

فإذا حصل على هذه الشروط دل على صدق من ظهر على يديه ، واختص به ، وسمي لذلك معجزا ، لأنه إذا وجب في حكمته سبحانه تصديق المدعى عليه ، من حيث كان صادقا عليه في دعواه ، وكان غاية تصديقه منه بالقول أن يقول : هذا صادق فيما ادعاه علي ، فكذلك إذا فعل له ما ذكرناه مما يقوم (٣) في تصديق ادعائه مقام قوله إنه صادق فيه ، ولا فرق في ذلك بين القول والفعل القائم في إقامة الحجة به مقامه ، كما لا فرق بين أن تكون الدعوى نبوة أو إمامة أو غير هما من مراتب الصلاح ، إذ وجه الحكمة في وجوب تصديق الجميع إذا تعلقت المصلحة به واحد ، فتجويزه في موضع والمنع منه في آخر لا وجه له.

ومشاهدة المعجز لمن يشاهده يقتضي علمه به ، وإلا فالخبر (٤) المتواتر فيه إذ ذاك يفيد العلم ، القطع به مع فقد مشاهدته ، ولا يتميز الخبر بكونه متواترا (٥) مفيدا ما ذكرناه ، إلا بأن يكون على شروطه التي هي كون مخبره في الأصل مشاهدا

__________________

(١) في « ا » : أو جاريا مجرى فعله.

(٢) في « ا » : لتجوز.

(٣) في « ج » : مما يقدم.

(٤) في « أ » : وإلا فالمخبر.

(٥) في « ج » : لكونه متواترا.

٤٠