اشارة السبق

أبو الحسن علي بن الحسن الحلبي

اشارة السبق

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسن الحلبي


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تقديم :

جعفر السبحاني

العقيدة والشريعة

أو

الفقه الأكبر والفقه الأصغر

يعتمد الإسلام في دعوته العالمية ، على العقيدة والشريعة من دون تفريق وفصل بينهما.

فبالدعوة إلى الأولى يغذي العقل والفكر ، ويرفع الإنسان إلى سماء الكمال ، ويصونه عن السقوط في مهاوي الشرك والوثنية ، وعبادة غير الله سبحانه ، ويلفت نظره إلى مبدئه ومصيره ، وانه من أين جاء ولما ذا جاء ، وإلى أين يذهب.

وبالدعوة إلى الثانية يعبد طريق الحياة له ويضيى‌ء دروبها الموصلة إلى سعادته الفردية والاجتماعية ، الدنيوية والأخروية.

٣

أن المهم الجدير بالذكر هو أن الإسلام لا يفرق بين التركيز على العقيدة والشريعة ، ويندد بالذين يفكرون في العقيدة دون الشريعة ، ويختصرون الدين في الإيمان المجرد عن العمل ، بل يرى أن ترك العمل قد يؤدي إلى زوال العقيدة ، ويقول سبحانه ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ) ( الروم ـ ١٠ ) وفي نفس الوقت يندد بالذين يهونون من شأن العقيدة ويعكفون على العمل والعبادة من دون تدبر في غاياتها ، ومقاصدها ، والتفكير في الآمر بها ، ويرون العبادة في السجود والركوع فقط ويغفلون عن قوله سبحانه ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ ) ( آل عمران ـ ١٩١ ).

وتأكيدا لهذه الصلة بين العلمين ، قام لفيف من علمائنا القدامى والمتأخرين بالجمع بينهما حتى في التأليف فكان الفقه الأكبر ( العقائد ) إلى جانب الفقه الأصغر ( الأحكام ). نذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر :

١ ـ السيد الشريف المرتضى ( ٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍ ) صاحب الآثار الجليلة. فقد جمع بين العلمين في كتابه المسمى بـ « جمل العلم والعمل ».

وقد تولى شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍ ) شرح القسم الكلامي منه وأسماه : « تمهيد الأصول » وقد طبع ونشر.

كما تولى تلميذه الآخر القاضي ابن البراج ( ٤٠١ ـ ٤٨١ ه‍ ) شرح القسم الفقهي منه وأسماه : « شرح جمل العلم والعمل » وقد طبع أخيرا.

٢ ـ الشيخ أبو الصلاح تقي الدين الحلبي ( ٣٧٤ ـ ٤٤٧ ه‍ ) فقد ألف كتابا

٤

باسم : « تقريب المعارف في العقائد والأحكام » وقد طبع ونشر.

٣ ـ أبو المكارم عز الدين حمزة بن علي بن زهرة الحلبي ( ٥١١ ـ ٥٨٥ ه‍ ) مؤلف : « غنية النزوع » فقد أدرج في كتابه العقائد وأصول الفقه والأحكام.

إلى غير ذلك من تآليف على هذا النمط يطول الكلام بذكرها.

ونذكر من المتأخرين مثالا واحدا وهو كتاب « كشف الغطاء » لمؤلفه المحقق فقيه عصره الشيخ جعفر النجفي المعروف بكاشف الغطاء ( ١١٥٦ ـ ١٢٢٨ ه‍ ) حيث ضم إلى جانب الفقه مباحث هامة كلامية وأصولية لا يستغني عنها الباحث ، وبذلك أثبت أن العمل ثمرة العقيدة ، وقرينها تكوينا وتشريعا.

وممن سلك هذا المسلك مؤلف هذا الكتاب الذي يزفه الطبع إلى القراء الكرام ، وهو علاء الدين أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي المجد الحلبي من أعلام القرن السادس الهجري.

فقد ألف كتابه هذا المسمى بـ « إشارة السبق إلى معرفة الحق » على هذا المنوال ، وقد طبع الكتاب في ضمن « الجوامع الفقهية » عام ١٢٧٦ ه‍ بالطبعة الحجرية ، ويعاد الآن طبعه بصورة محققة مصححة بهية.

٥

ترجمة المؤلف :

إن التأريخ قد بخس المؤلف حقه حيث لم يذكر عنه شيئا جديرا بشخصيته العلمية الممتازة ، ولم يكن المؤلف هو الوحيد الذي أصابه هذا البخس ، فكم له من نظير في تاريخ علمائنا.

هذا هو الفقيه الطائر الصيت عز الدين الحسن بن أبي طالب اليوسفي الآبي مؤلف « كشف الرموز » (١) شرحا على كتاب « النافع » للمحقق ، فلا تجد لذلك الفقيه الكبير الذي يعرف كتابه عن تضلعه في الفقه ، ترجمة ضافية لائقة بشخصيته ، إلا جملا عابرة فلا عتب علينا إذا لم نوفق لأداء حق مؤلفنا ـ صاحب الكتاب الحاضر ـ فلنذكر ما وقفنا عليه من جمل الإطراء وعبارات الثناء عليه :

١ ـ قال المحقق الشيخ أسد الله التستري ( م ١٢٣٤ ه‍ ) صاحب المقابس :

ومنها ابن أبي المجد الشيخ الفقيه المتكلم النبيه علاء الدين أبو الحسن علي ابن أبي الفضل بن الحسن بن أبي المجد الحلبي ـ نور الله مرقده ـ وهو صاحب كتاب « إشارة السبق إلى معرفة الحق » في أصول الدين وفروعه إلى الآمر بالمعروف ، وتاريخ كتابة نسخته الموجودة عندي سنة ثمان وسبعمائة ، ويظهر من الأمارات أنها كانت عند صاحب « كشف اللثام » وأن هذا الكتاب هو الذي يعبر عنه فيه

__________________

(١) فرغ عن تأليف كتابه عام ٦٧٢ ه‍. ولا نعلم من ترجمته غير أنه تلميذ المحقق المتوفى عام ٦٧٦ ه‍.

٦

بالإشارة (١).

٢ ـ وقال الخوانساري : أن « إشارة السبق إلى معرفة الحق » الذي يعبر عنه المتأخرون بالإشارة ، هو مختصر في أصول الدين وفروعه إلى باب الأمر بالمعروف فهو بنص الفاضل الهندي ، وصاحب الرياض وغير هما تصنيف الشيخ علاء الدين أبي الحسن بن أبي الفضل الحسن بن أبي المجد الحلبي ، ثم نقل عبارة صاحب « مقابس الأنوار » التي تقدمت (٢).

٣ ـ وقال الشيخ حبيب الله الكاشاني : منهم علاء الدين وهو علي بن أبي الفضل بن الحسن بن أبي المجد الحلبي ، كان متكلما ومن مصنفاته كتاب « إشارة السبق » (٣).

٤ ـ قال شيخنا الطهراني : علي بن الحسن ابن أبي المجد الحلبي علاء الدين أبو الحسن مؤلف كتاب « إشارة السبق إلى معرفة الحق » المطبوع في مجموعة « الجوامع الفقهية » في ١٢٧٦ ه‍. قال صاحب المقابس : إن تاريخ كتابة النسخة الموجودة عنده ٧٠٨ ه‍ وكنية والده أبو الفضل بن أبي المجد (٤).

٥ ـ وقال في الذريعة : « إشارة السبق إلى معرفة الحق » في أصول الدين وفروعه العبادية من الطهارة إلى آخر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، للشيخ

__________________

(١) مقابس الأنوار : ص ١٢ مؤسسة آل البيت ، قم.

(٢) روضات الجنات : ج ٢ ص ١١٤ ، وأوعزت إليه أيضا في ج ٤ ص ٣٥٦.

(٣) لباب الألقاب في ألقاب الأطياب : ٢١.

(٤) طبقات أعلام الشيعة النابس في القرن الخامس : ص ١١٩. وكان اللازم أن يذكره في قسم سادس القرون لا خامسها.

٧

علاء الدين أبي الحسن علي بن أبي الفضل الحسن بن أبي المجد الحلبي. ترجمه سيدنا الحسن صدر الدين في التكملة (١) وذكر صاحب الروضات تصريح الفاضل الهندي ، وصاحب رياض العلماء بنسبة الكتاب إليه ، وذكر أن نسبته إلى الشيخ تقي الدين بن نجم الدين الحلبي كما وقعت عن بعض نشأت من الاشتراك في النسبة إلى حلب ، وقال الشيخ أسد الله في المقابس : إن النسخة الموجودة عندي من هذا الكتاب تاريخ كتابتها سنة ٧٠٨ ، وطبع ضمن مجموعة تسمى « الجوامع الفقهية » سنة ١٢٧٦ ه‍ (٢).

والإمعان في الكتاب يورث الاطمئنان بأنه كان من فقهاء القرن السادس الذين نجموا بعد الشيخ الطوسي وعاصروا الشيخ الطبرسي ( م ٥٤٨ ه‍ ) وعماد الدين محمد بن علي بن حمزة الطوسي المتوفى بعد سنة ٥٦٦ ه‍ ، وقطب الدين الراوندي المتوفى عام ٥٧٣ ه‍ ـ مؤلف « فقه القرآن » ، وقطب الدين محمد بن الحسن الكيدري البيهقي الذي كان حيا إلى سنة ٥٧٦ ه‍ ، مؤلف كتاب « الإصباح » ، ورشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب المتوفى عام ٥٨٨ ه‍. إلى غير ذلك من نوابغ القرن السادس الذي احتفل التأريخ ، وكتب التراجم بأسمائهم وأسماء كتبهم وتآليفهم.

والمؤلف من مدينة حلب الشهباء أكبر مدينة سورية بعد دمشق التي تبعد عن الحدود التركية قرابة خمسين كيلومترا ، وقد فتحها المسلمون سنة ١٦ ه‍ ، وقد أنشأ سيف الدين الحمداني الدولة الحمدانية فيها وجعل عاصمتها حلب ودخلت مدينة حلب آنذاك في عهد جديد وهو عهد أمجادها التي لم تشهد لها مثيلا ،

__________________

(١) وهذا القسم من التكملة بعد مخطوط وأما المطبوع فيرجع إلى علماء جبل عامل.

(٢) الذريعة إلى تصانيف الشيعة : ج ٢ ص ٩٩.

٨

وأصبحت مركزا ثقافيا وشعريا وعسكريا من أعظم المراكز التي عرفها الإسلام ، وقد وفد كبار الشعراء والعلماء على بلاط سيف الدولة فصار ملتقى رجال العلم والفكر الذين وجدوا في العاصمة حاميا لهم.

وينسب إلى حلب من رواة الشيعة الأقدمين آل أبي شعبة ، في أوساط المائة الثانية ، وهذا البيت بيت كبير نبغ فيه محدثون كبار ، منهم الحسن بن علي ( المعروف بابن شعبة ) من علماء القرن الرابع مؤلف « تحف العقول ».

وكان في حلب سادات آل زهرة وكانوا نقباء ، وخرج منهم جملة من العلماء منهم السيد أبو المكارم : صاحب « الغنية » وقبره بسفح جبل « جوشن » إلى اليوم ، وذرية بني زهرة موجودة إلى الآن في قرية الفوعة من قرى حلب (١).

وقد طلع من تلك المدينة في القرنين الرابع والخامس فحول من فقهاء الشيعة نذكر أسماء بعضهم :

١ ـ علي بن الحسن بن شعبة ، من أعلام القرن الرابع ، مؤلف « تحف العقول ».

٢ ـ أبو الصلاح تقي الدين ، مؤلف كتاب « الكافي » ( ٣٧٤ ـ ٤٤٧ ه‍ ).

٣ ـ حمزة بن علي بن زهرة ( ٥١١ ـ ٥٨٥ ه‍ ) صاحب غنية الزوع.

٤ ـ السيد جمال الدين أبو القاسم عبد الله بن علي بن حمزة ( ٥٣١ ـ ٥٨٠ ) أخو أبي المكارم حمزة بن علي.

إلى غيرهم من الفطاحل الأعلام الذين أنجبتهم تلك التربة الخصبة بالفكر والفضيلة.

__________________

(١) دائرة المعارف الشيعية : ج ٣ ص ١٧ ـ ٣٦.

٩

الماع إلى كتاب إشارة السبق :

الكتاب مجموعة من المعارف والأحكام وقد بسط الكلام في الأول واختصر في الثاني ، فحرر أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وختم الكلام مشعرا بأنه قد فرغ عما قصده ، ويعرب أن الكتاب كان رسالة علمية للمؤلف وقد كتبه بصورة واضحة وإن كانت براهينه في المعارف مشرقة عالية لا يتحملها إلا الأمثل فالأمثل.

وقد بذل الشيخ الفاضل المحقق إبراهيم البهادري المراغي ( حفظه الله ورعاه ) جهودا في تحقيق نص الكتاب وعرضه على النسخ المختلفة وعلق عليه في موارد إما إيضاحا للمطلب ، أو إيعازا إلى المصدر.

وأما النسخ التي تم عمل التطبيق عليها فإليك بيانها :

١ ـ النسخة المطبوعة ضمن « الجوامع الفقهية » عام ١٢٧٦ ه‍ ـ وجعلها الأصل الذي جرت عليها عملية التطبيق يرمز إليها بـ « ج ».

٢ ـ صورة فتوغرافية من نسخة المكتبة الرضوية في مشهد يرمز إليها بـ « أ ».

٣ ـ نسخة ناقصة من أولها وآخرها توجد في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي ضمن مجموعة برقم ١٢٧٢ يرمز إليها بـ « م ».

٤ ـ سلسلة الينابيع الفقهية يرمز إليها بـ « س ».

٥ ـ نسخة خامسة توجد في مكتبة جامعة طهران أشار إليها في فهرس المكتبة ، الجزء الخامس الصفحة ١٧٧٦ برقم ٩٢٠ ولم يتوفق المحقق للاستفادة منها.

١٠

وختاما ، نرجو من الله سبحانه أن يتغمد المؤلف الفقيه برحمته الواسعة ويوفق المحقق للأعمال الصالحة الأخرى.

كما نرجو منه سبحانه أن يوفق المسلمين للعودة إلى إحضان الفقه الإسلامي ، والأخذ بأحكام الشريعة في جميع المجالات ، ونبذ القوانين الوضعية الكافرة المستوردة.

وقد تم تحقيق الكتاب في مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ وقامت بنشره مؤسسة النشر الإسلامي المعروفة بكثرة الإنتاج العلمي والخدمات الفكرية.

حيا الله رجال العلم والفقه ، وأبطال الاجتهاد في أمتنا الإسلامية المجيدة.

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ

جعفر السبحاني

تحريرا في ٨ جمادى الأولى من شهور عام ١٤١٤

١١
١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما عم من نعمه ، وخص من عوارف جوده وكرمه ، وصلاته على سيدنا محمد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤيد بإعجاز وحيه (١) وكلمه ، النافذ أمره في عروب الوجود وعجمه ، وعلى أهل بيته خزان علمه وحكمه ، وحفاظ عهده وذممه.

وبعد ، فقد أشرت إلى تحرير ما يجب اعتقاده عقلا ، والعمل به شرعا ، إشارة تعم باشتمالها (٢) على أركان كل واحد من التكليفين (٣) نفعا ، وتفيد من وعاها وآثرها ضبطا وجمعا.

ومن الله أستمد المعونة على ما يرضيه ، والمثوبة على ما أعبده من الحق وأيد به (٤).

إن الذي يجب اعتقاده من الأركان الأربعة التي هي : التوحيد والعدل والنبوة والإمامة ، هو ما يعم تكليفه ولا يسمع جهله ، مما جملته كافية أهل الجمل

__________________

(١) كذا في « أ » ولكن في « ج » « وصيه ».

(٢) في « ا » : تعم لها باشتمالها.

(٣) في « أ » : من المتكلفين.

(٤) كذا في « أ » ولكن في « ج » : على ما أعده وأيده به.

١٣

دون النظار وأهل التفاصيل. وذلك مما (١) لا يتم ثبوت كل واحد من هذه الأركان إلا بثبوته وما زاد على ذلك مما يتنوع من المباحث العقلية ، ويتفرع من الدقائق الكلامية لا يلزم أصحاب علم الجملة ، ولا هو من تكليفهم ، بل هو من تكاليف النظار المفصلين ولوازمهم ، وربما أن فيه ما ليس بلازم لهم ، بل هو مما قد تلزموا به ، إما ديانة وتحقيقا ، وإما فضيلة وتدقيقا.

ولما كانت جملة هذا التكليف التي لا بد منها ولا غنى عنها ، يقل (٢) رسمها ، لسهولتها وتفاصيلها التي تكلفها النظار يكثر رقمها ، ويطول شرحها لصعوبتها ، كانت الإشارة إلى ذلك ، بحيث لا تفريط في إيراد ما يفيد علمه ، ويعود نفعه وفهمه ، ولا إفراط فيما يتسع نظمه ، ويكشف حجمه أجود ما عول عليه المستفيد ، وأجرى (٣) ما نحاه واستزاد به المستزيد ، فخير الأمور أوسطها ، وهو ما سلكته في هذه الإشارة.

أما الكلام في ركن التوحيد

فهو في إثبات صانع العالم سبحانه ، وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا ، وذلك يترتب على حدوث العالم.

وبرهانه : لو كان قديما لوجب وجوده فيما لم يزل ، وذلك يحيد صحة (٤) تنقل جواهره الآن ، وهو محال ، ولو لم يكن محدثا لم تكن أجسامه مختصة بالحوادث التي

__________________

(١) في « أ » : وذلك ما.

(٢) في « أ » : « بعد » بدل « يقل ».

(٣) في « ج » : أجدى.

(٤) في « أ » : وذلك يحيل صحة.

١٤

هي ملازمة لها غير منفكة عنها ، واختصاصها على الوجه الذي لا يصح حلوها في وجودها منها حاصل ، وكلما لا يخلو من المحدث ولا يسبقه في وجوده ، فهو محدث.

ولو صح خلو جسم من تعاقب الصفات الموجبة عن الأكوان اللازمة له في وجوده عليه ، لم يكن معقولا فضلا عن أن يكون موجودا ، لأنه قلب لجنسه المقطوع على استحالته ، وإذا لم يعقل (١) خلو الأجسام من الحوادث الملازمة لها في وجودها فلا بد من كونها محدثة مثلها ، وتناهي الحوادث مقطوع عليه بأنه إذا ثبتت لآحادها الأولية فلا بد من ثبوتها لمجموعها ، وإلا فإثباتها حوادث مع نفي تناهيها متناقض ، وثبوت حدوثه دال على إثبات محدثه ، لكونه ترجيحا لوجوده على عدمه ، وترجيح أحد الجائزين على الآخر لا بد له من مرجح.

وعلى كونه فاعلا مختارا لأن الموجب يستحيل تخلف معلوله عنه ، فإن كان قديما أدى إلى التباس الأثر بالمؤثر ، واحتياج كل واحد منهما إلى الآخر في نفس ما احتاج الآخر إليه فيه ، وإن كان محدثا احتاج إلى محدث ، ويلزم على كليهما الدور والتسلسل.

وإذا ثبت كونه تعالى فاعلا مختارا ، وجب كونه قادرا ، لأنه قد صح منه الفعل المتعذر على غيره ، وكل من صح منه ذلك ، لا بد أن يكون قادرا.

وعالما ، لأنه أحكم أفعاله وأتقنها ، أحكاما يتعذر على غيره ، وذلك لا يتأتى إلا من عالم.

وحيا ، لأنه قد صح كونه قادرا عالما ، لا بل قد وجب (٢) ، وصحته فضلا عن

__________________

(١) في « أ » : لم تعقل.

(٢) أي قد وجب كونه قادرا عالما.

١٥

وجوبه لا يثبت إلا لحي (١).

وموجودا ، لأنه أثر ما لا يعقل (٢) كونه أثر المعدوم ، ولأن له تعلقا بمقدوراته ومعلوماته يرجع إلى ذاته وثبوته مع انتفاء الوجود محال.

وقديما لما ثبت ، من انتهاء الحوادث إليه ومن تأثيره ما يتعذر على كل مؤثر سواه.

وسميعا بصيرا ، بمعنى أنه حي لا آفة به ، لما ثبت من كونه كذلك.

وهذه صفات ذاته الثبوتية التي يستحقها أزلا وأبدا ، لأنها واجبة له لا لموجب (٣) لأنه لو صح إسنادها إلى موجب زائد على ما هو عليه في ذاته ، لكان إما قديما ، فتلزم المماثلة ، وقد ثبت أنه لا مثل له تعالى من حيث إنه لا ثاني له في القدم ، وإما محدثا فيتوقف إحداثه على كونه محدثه أولا ، ويلزم الدور ، فكانت واجبة لما هو عليه في ذاته فيما لم يزل ، واستحال بذلك خروجه عنها فيما لا يزال.

وهو تعالى مدرك للمدركات إذا وجدت ، لاقتضاء كونه حيا لا آفة به ذلك ، وإدراك المعدوم (٤) لا بمعنى كونه معلوما ، بل بمعنى كونه مسموعا مبصرا محال.

وهذه الصفات (٥) المقتضاة عن صفة الذات فيه سبحانه وعن صفة المعنى في غيره ، واجبة له ، لا على الإطلاق بل بشرط منفصل.

ومريد وكاره ، لجواز تقديمه من أفعاله أو تأخيره ما لا خفاء في جواز

__________________

(١) هذا ما أثبتناه وفهمناه من سياق العبارة ، وأما النسخ التي بأيدينا فهنا مختلفة ففي « ج » : لا يثبت إلى الحي ، وفي : « أ » : لا بل قد وجب عن وجوبه لا يثبت لحي.

(٢) في « أ » : « لا يعتقد ».

(٣) في « أ » : لا الموجب.

(٤) في « ج » : وأدرك المعدوم.

(٥) في « ج » : وهذه الصفة.

١٦

العكس فيه ، فلو لا المخصص لم يكن لتقديم ما قدم وتأخير ما أخر وجه ، ولأن العالم بفعله وغرضه به يخصه مع خلوة من السهو والغفلة ، وكونه مخلا بينه وبين الإرادة يجب كونه مريدا.

وهذه حاله سبحانه ، فهو مريد على الحقيقة ، ولأنه أمر بالطاعة ونهى عن المعصية ، فلو لا أنه مريد لما أمر به كاره لما نهى عنه ، لم يتميز الأمر ولا النهي من غير هما ، ولا كان لكونه آمرا وناهيا وجه ، ويستحيل استحقاقهما لذاته وإلا لزم قدم المرادات واجتماع المتضادات للذات ولمعنى قديم ، لأنه لا قديم سواه ، ولمعنى محدث حاله فيه ، لاستحالة كونه محلا للحوادث وفي غيره ، لوجوب رجوع حكمه إليه إن كان حيا واستحالته في الجماد ، فلا بد من وجود هما لا في محل.

وما (١) لا يجوز عليه تعالى مما يجب نفيه عنه ، فمنه ما لفظه ومعناه يفيد السلب ، وهو نفي المائية (٢) المحكية عن ضرار بن عمرو (٣) لأنه لا حكم يدل على ثبوتها ولا طريق إلى صحتها ، والأصح إثبات الكيفية والكمية ، وهو جهالة ، ونفي الجسمية والجوهرية والعرضية ، لما ثبت من قدمه وحدوث ذلك أجمع ، فلو لا استحالة كونه بصفة شي‌ء منها لوجب حدوثه أو قدمها ، لثبوت المشاركة في الحقيقة ، ولأنه فاعل ما فعل من ذلك اختراعا ، فلو كان مثلها تعذر عليه إنشاؤها واختراعها ، كما تعذر على غيره.

__________________

(١) في « ج » : ومما.

(٢) ويحتمل أن يكون المقصود « الماهية » والمآل واحد.

(٣) هو صاحب مذهب الضرارية من فرق الجبرية ، كان في بدء أمره تلميذا لواصل بن عطاء المعتزلي ثم خالفه في خلق الأعمال وإنكار عذاب القبر. وذهب إلى أن لله تعالى ماهية لا يعرفها غيره يراها المؤمنون بحاسة سادسة. الفرق بين الفرق ص ٢١٤ تأليف عبد القاهر البغدادي.

١٧

ونفي الرؤية بالأبصار والإدراك بسائر الحواس ، لأنه لو صحت رؤيته آجلا لوجبت عاجلا ، لأن الرؤية إذا صحت وجبت ، وإذا لم تجب استحالت وفي استحالتها الآن وجوب استحالتها هناك ، ولأنه ليس بمقابل ولا حال فيه ولا في حكمه ، فلا يعقل كونه مرئيا ولا محسوسا ، وقد تمدح بنفي الرؤية عنه تمدحا عاما ، فإثباتها نقص لتمدحه ، لا طراد ذلك في كلما تمدح بنفسه ، كالسنة والنوم وغيرهما.

ونفي الاتحاد ، لأنه إن أريد به الحلول ، فهو من خصائص الأعراض ، أو المجاورة ، فهو من لوازم الأجسام ، وكلاهما مستحيل عليه ، وإن أريد به غير هما لم يكن معقولا. ونفي الاختصاص بالجهات والحلول في المحال بمثل ما ذكرناه.

ومنه ما لفظه ثبوتي ومعناه سلبي ، وهو كونه غنيا ، لأنه حي يستحيل عليه (١) الحاجة التي لا وجه لثبوتها إلا اجتلاب المنافع ودفع المضار المترتبين على ثبوت الملاذ والآلام المصححة للشهوة والنفار المختصين بالأجسام. فلما استحال ذلك عليه مع كونه حيا ، استحال كونه محتاجا ، وثبت أنه غني.

وكونه واحدا لا ثاني له في القدم ، لأنه لو كان له ثان ، لجاز وجود أحدهما مع عدم الآخر ، أما في الزمان أو المكان أو المحال ، لثبت لهما ما به تتميز الذاتان من الذات الواحدة ، وتأتي ذلك في القديم غير معقول ، ولأنه لا طريق إلى إثبات الثاني من نفس الفعل ولا من واسطته (٢) ، وإثبات ما لا طريق إلى إثباته جهالة ، ولأن إثباته مكاف لإثبات ما زاد عليه ، وفيه ارتفاع الفرق وإمكانه بين الحق والباطل ، وهو محال ، فإذا انتفى عنه الثاني ـ شريكا كان أو نظيرا ـ ثبتت وحدانيته ، والسمع كاف في الدلالة على ذلك.

__________________

(١) في « ج » : مستحيل عليه.

(٢) في « أ » : من واسط.

١٨

أما الكلام في ركن العدل

فإنه يترتب على أصلين : أحد هما إثبات التحسين والتقبيح العقليين ، لأنه قد ثبت عموم العلم بمحسنات ومقبحات ، ولا يقف العلم بحسنها وقبحها على ما وراء كمال العقل ، ولا يمكن الخروج عنه معه ، فلو لا أنه من جملة علومه ، لم يكن لجميع (١) ذلك وجه ، ولا تأثير لأمر ولا نهي ، في حسن مأمور ولا قبح منهي ، لأنهما لو أثرا لتوقف العلم بحسن ما حسنته العقول ، وقبح ما قبحته على ورود هما فيستحيل الجميع (٢) ، لما فيه من الدور ، وكان لا يقبح منه تعالى تصديق الكذابين ، الذي لو جاز عليه لم يبق طريق إلى العلم بصدق الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ولا بصحة الشرائع ، وما بصحة مدلوله فساد دليله إلا غير خاف الفساد (٣).

وثانيهما : إثبات اقتداره تعالى على ما له صفة القبيح (٤) ، لأن استناد كونه قادرا إلى ما هو عليه في ذاته ، يقتضي عموم تعلق قادريته بكل مقدور على الوجه الذي لا يتناهى.

ومن جملة المقدورات القبيح ، فيجب كونه قادرا عليه ، ولأن القبيح مقدور لنا ، لصحة وقوعه منا ، وهو آكد حالا منا في كونه قادرا ، فلا وجه لكونه غير قادر عليه ، كما لا وجه لاختصاص قادريته بمقدور دون غيره. وحينئذ يجب كونه متنزها عن فعل القبيح ، لأنه عالم لا يجهل ، وغني لا يحتاج ، فهو عالم بقبحه ، واستغنائه

__________________

(١) في « ا » : بجميع.

(٢) في « ا » : فيستحيل الجمع.

(٣) هكذا في النسخ التي بأيدينا والظاهر أن لفظة « إلا » زائدة.

(٤) في « ا » : صفة القبح. وكذا فيما يأتي.

١٩

عنه ، ومع ثبوت ذلك لا يجوز أن يختار فعله ، لأنه لا يكون إلا لداع ، وهو أما جهل بقبحه ، أو حاجة إليه (١) ، ومع استحالتهما وثبوت داعي الحكمة الذي لا يتقدر له داع سواه (٢) ، لا بد من كونه متعاليا عنه ( ولأن وجه حسن الفعل داع إليه ووجه قبحه صارف عنه ) (٣) ، إذ المخبر فيهما مع علمه بهما لغرض مستوفي كليهما لا يختار إلا الحسن الذي وجه حسنه داع له إلى فعله ، وإن جاز عليه خلافه ، فأولى بذلك من لا يجوز عليه ما ينافي داع الحكمة ولا ما يخالفه.

ولأنه لو جاز منه وقوع القبيح لسمي بأسمائه التي إطلاقها تابع لوقوعه ، فكما استحال أن يسمى بشي‌ء منها (٤) يكون وقوع القبيح منه أولى بالاستحالة وعن إرادته ، لأنها تابعة المراد ، فمتى كان قبيحا كانت هي أيضا قبيحة ، فلما لم يجز عليه فعله لم يجز منه إرادته ، ولأنه لا فاعل لإرادته سبحانه سواه ، فلو جاز أن يريد القبيح ، كان على الحقيقة فاعلا له ، وذلك مناف لحكمته التي يستحيل منافاتها ولأنه ناه عنه ، لكونه كارها له ، فلو أراده كان على الشي‌ء وحده وعن الأمر به لقبحه ولمنافاته لما ثبت من حكمته ، ولاستحالة كونه آمرا بما ثبت كونه عنه ناهيا ، مع اتحاد الوقت والمأمور ، فإنه لا يأمر إلا بما يريد ، كما لا ينهى إلا عما يكره.

وقد ثبت بذلك تنزهه عن كلما يتبع إرادة القبيح من مشيته ومحبته والرضى به ، إذ كل واحد من ذلك إرادة مخصوصة ، وعن قضائه وقدره ، لوجوب الرضى بهما ، والصبر عليهما ، مع قبح الرضى والصبر مما ليس بحسن (٥) ، ولأنه لو جاز أن

__________________

(١) في « ج » : أو حاجته إليه.

(٢) كذا في « ج » ولكن في « أ » : وثبوت داعي الحكمة الذي لا يتعذر له سواه.

(٣) ما بين القوسين موجود في « أ ».

(٤) في « ا » : شيئا منها.

(٥) في « ا » : أو الصبر بما ليس بحسن.

٢٠