هبة السماء

علي الشيخ

هبة السماء

المؤلف:

علي الشيخ


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-22-6
الصفحات: ٢٣٠

الناس إلى الإسلام بالخفاء ، من خلال اتصاله الشخصي بمن يراه مؤهلا وصالحا للدعوة ومستعدا لقبول النور الإلهي ، وأول من آمن به من النساء زوجته خديجة ، ومن الرجال ابن عمه ووصيه ( علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ) ، واستمرت دعوته السرية ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مدة ثلاث سنوات ، استطاع خلالها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يجذب إليه جماعة من الناس ، قبلوا دعوته وآمنوا بالله الواحد وكفروا باللات والعزى ( صنمي قريش ) ، ولكنهم حاولوا قدر الإمكان أخفاء أيمانهم خوفا من بطش طواغيت قريش.

ولكن سرعان ما وصلت أخبار دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أسماع مشركي قريش ، ولكنهم سخروا منها لأنهم لم يشعروا بخطر يهددهم ، ولا سيما أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يتعرض لأصنامهم بسوء بصورة علنية خلال دعوته السرية ..

وبعد هذه الفترة ، جاء الأمر الإلهي ببدء الدعوة العلنية للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأنزل سبحانه ( واصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) (١). فأعلن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كان يدعو إليه سرا ، وأمره الله سبحانه أولا بعشيرته وأقربائه ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (٢).

__________________

(١) الحجر : ٩٤.

(٢) الشعراء : ٢١٤.

١٦١

فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سادة عبد المطلب وشيوخهم إلى مأدبة ، ولما فرغوا من الطعام تلكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائلا : أن الرائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله إلا هو أني رسول الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون وإنها الجنة أبدا والنار أبدا ، ثم أضاف يا بني عبد المطلب أني والله لا أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، أني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فسكت القوم جميعا. وقام ( علي بن أبي طالب عليه السلام ) وقال أنا يا رسول الله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا .. فقام القوم يضحكون مستهزئين به (١).

وبعدها تسربت أخبار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودعوته في مكة وخارجها ، ولم يعد أمرها خافيا على أهل مكة والقرى المجاورة ، وشرع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنشر تعاليم ربه بين الناس ، يأمرهم بعبادة الله وحده ونبذ الأوثان والأصنام ، ويدعو إلى العدل والمحبة ويؤكد على كرامة الإنسان

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٥٤٢.

١٦٢

وحريته ، وينهاهم عن الظلم والفسق والفواحش ، عندها أحس طواغيت قريش بالتهديد والخطر الذي يواجههم ، فرأوا في دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحديا لدينهم وإساءة لآلهتهم وأصنامهم ، وتهديدا لمصالحهم ، فتشاوروا وأجمعوا على القضاء على دعوته قبل استفحالها فاستخدموا شتى الوسائل من تهديد وترغيب وتعذيب ، فكانوا يعذبون كل من آمن بدعوته عذابا شديدا قد يصل في بعض الأحيان إلى الموت ، ولكن بالرغم من كل هذا ، كان الناس يرون أن تعاليم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أقرب إلى فطرتهم ، فيدخلون في الدين الجديد ويتحملون الأذى والصعاب في سبيل الله.

وحاولت قريش التعرض للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولكن وجود عمه أبي طالب كان يحول دون ذلك ، إذ أنه كان سيد بني هاشم وأمره مطاع بينهم ، وكانت عشيرة بني هاشم وبني عبد المطلب يحسب لها حسابا خاصا في مكة ، ولذلك لم يجرؤوا على التعرض للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة وأنهم يعلمون شدة العلاقة والمحبة بين أبي طالب والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

واستمر انتشار الإسلام وتعاليمه في مكة ، واعتنق هذا الدين أناس من مختلف القبائل ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يستغل فرصة حج القبائل إلى مكة في كل عام ، فيعرض الدين على القبائل المختلفة التي تقصد مكة ، ولرفعة تعاليم الإسلام وجاذبيتها ، ونزول القرآن الكريم ببيانه الإعجازي ، وخلق النبي ( صلى الله عليه

١٦٣

وآله وسلم ) وتعامله وفصاحته ، كانت الناس تندفع إلى قبول هذا الدين الجديد ، فأصبح له أنصار وأتباع في مكة وخارجها.

فأحس طواغيت قريش أن دينهم وآلهتهم وأصنامهم في خطر كبير ، فجاءوا إلى أبي طالب كفيل الرسول وحاميه وأبلغوا تهديدهم للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بواسطته وقالوا : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وأنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب ألهتنا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.

فجاء أبو طالب وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما قاله زعماء قريش ، فكإن الرد النبوي بأنه لن يترك دعوته لأنها أمر إلهي ، فلما علموا ذلك احتالوا أن يسلكوا طريق الترغيب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فعرضوا عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يكون أكثرهم مالا ، وأن يجعلوه ملكا وسيدا عليهم ويعطوه كل ما يريد شرط أن يتخلى عن دعوته ويرجع إلى ملتهم ، فجاء رد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدوي عبر التاريخ يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ( يساري ) ، على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته (١) ، ليعلن موقفه

١٦٤

الثابت.

مما دفع بالمشركين إلى تصعيد حملات التعذيب للمسلمين ، ونشر الإشاعات والكذب عن شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وشتمه وقذفه.

الهجرة إلى الحبشة

لما رأى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن حملات التعذيب اشتدت على المسلمين ، وليس له القدرة على دفع الأذى عنهم أمرهم بالخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة ، وقال لهم أن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ، وهي الهجرة الأولى للمسلمين.

وكان بالحبشة ملك نصراني يدعى ( النجاشي ) معروف بعدالته ، وبعد ما وصل بعض المسلمين إلى الحبشة ورأوا حسن المعاملة هناك ، بدأت الهجرة الثانية للمسلمين إليها ، وكان عددهم أكبر بكثير من المهاجرين الأوائل للحبشة ، وقد وجد المسلمون بلاد الحبشة كما وصفها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلاد آمنة ، فلم يتعرضوا فيها إلى مضايقة. ولما وصلت أخبارهم إلى المشركين في مكة ، امتلأوا غيظا وأصابهم الذعر خشية نفوذ تعاليم الإسلام بين أهل الحبشة ، لذا أسرعوا في أرسال وفد إلى النجاشي ، مع هدايا كثيرة طالبين منه

__________________

(١) سيد المرسلين : ١ / ٤٠٤.

١٦٥

إعادة الذين هاجروا من مكة ، فلما وصل الوفد قالوا للملك :

أن الذين هاجروا إليك هم سفهاء فارقوا دين قومهم وجاءوا بدين جديد ، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم لتردهم إليهم فدعا الملك المهاجرين وأحضرهم عنده يسألهم عن أمرهم ، وكان متكلمهم ( جعفر بن أبي طالب ) فسأله النجاشي : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟

فأجابه جعفر قائلا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا في ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا بين ديننا ، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

فأثر حديث جعفر بالملك ، فقال له : هل معك مما جاء به عن

١٦٦

الله من شئ؟ فقال جعفر نعم ، فقرأ جعفر مطلع سورة ( مريم ) والتي تبين طهارة وعفة مريم ( عليها السلام ) وقدسيتها وعظمة مقام المسيح ( عليه السلام ) وعلو شأنه ، فلما سمع النجاشي ذلك بكى حتى اخضلت لحيته بالدموع وبكت الأساقفة و قال النجاشي : أن هذا والذي جاء به عيسى ( عليه السلام ) ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى موفدي قريش وقال ، انطلقا فلا والله فلا أسلمهم إليكما ، ورد إليهم هداياهم (١).

وتنقل الكتب التاريخية أنه أسلم بعد ذلك ، ولما رجع الوفد إلى مكة خائبا ، عمد المشركون وطواغيت مكة هذه المرة إلى الحصار الاقتصادي والاجتماعي.

الحصار الاقتصادي والاجتماعي

وبعد كل هذه المحاولات البائسة من قبل طواغيت قريش اجتمعوا وقرروا في هذه المرة على فرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعشيرته لإجبارهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للتخلي عن موقفه ودعوته ، فكتبوا صحيفة و علقوها في جوف الكعبة وتعاقدوا فيها على أن لا ينكحوا من بني هاشم و بني المطلب ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم

__________________

(١) السيرة النبوية ( أحمد بن دخلان ) ١ / ٢١٣ وغيرها.

١٦٧

شيئا ، ولا يبتاعوا منهم (١).

فلما فعلت قريش ذلك انحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب ، فأمرهم أبو طالب بالخروج من مكة ودخول وادي بين جبال مكة يعرف ب‍ ( شعب أبي طالب ) وقد أستمر هذا الحصار مدة ثلاث سنين ، وكان شديدا وقاسيا كما ينقل المؤرخون وكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم فيأتون إلى مكة فيشترون ويبيعون رغم مضايقة قريش لهم في هذه الفرصة أيضا ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينتهز هذه الفرصة لنشر دعوته بين القبائل التي تقصد مكة عادة في هذه الفترة.

واستمر الحال كذلك إلى أن أوحى الله سبحانه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن ( الأرضة ) (٢) قد أتلفت صحيفتهم ولم يبق فيها إلا جملة ( باسمك اللهم ) فأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمه أبو طالب بذلك ، فجاء أبا طالب مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى مشركي قريش قال لهم : أن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله سبحانه أوحى إليه أنه بعث على صحيفتكم الدابة فأكلت جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم الله فقط ، فهلم صحيفتكم فإن كان حقا فاتقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه ، وإن كان

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ١ ص ٥٤٩ ، السيرة النبوية ج ١ ص ٢١٣.

(٢) حشرة معروفة تنخر في الأخشاب والأوراق.

١٦٨

باطلا دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه.

فرضوا بذلك وتعاقدوا عليه ثم أنزلوا الصحيفة من الكعبة وإذا ليس فيها حرف إلا جملة ( باسمك اللهم ) كما أخبرهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكن رغم ذلك بم يوفوا بعهدهم وازدادوا تكبرا وتعندا ، ولكن بعض المشركين ندموا على فعلتهم ونقصوا المقاطعة فرجع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعشيرته إلى مكة ثانية (١).

ولكن و بعد فترة من رجوعهم أصاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حادث مؤلم وهو رحيل زوجته الوفية خديجة التي عاضدته طوال فترة دعوته بكل وجودها ، فتألم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كثيرا لهذا المصاب ، ولم ينقضي حزن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى أصيب بنكسة أعظم وهي وفاة كفيله وحاميه والمدافع عنه عمه أبي طالب ، الذي عانى وأهله الكثير وعرض نفسه للموت و الحرمان من أجل نشر الدعوة الإلهية ، فعظمت المصيبة على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما ينقل عنه أنه ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب وذلك لأن قريش شددت بعد ذلك من آذاها للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كثيرا.

__________________

(١) حياة النبي وسيرته ، الشيخ محمد قوام الوشنوي ص ١٦١ ، سيد المرسلين ج ١ ص ٥٠٣.

١٦٩

هجرته (ص)

بعد أن فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمه أبا طالب وزوجته ، واجه ظروفا صعبة للغاية ، وأحدقت به الأخطار وأصبحت تهدد حياته ، فعزم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخروج من مكة لأنه أحس أن تبليغ الدعوة في مكة لم يعد ممكنا ، فاتجه نحو الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام ، فأبوا ذلك ورفضوه ، و لم يكتفوا بالرفض بل قذفوه بالحجارة حتى سالت دماؤه ، فرجع إلى مكة.

ورغم الاضطهاد الذي واجهه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكة ، استمر في نشر الرسالة الإلهية بين القبائل الوافدة إلى مكة في موسم الحج والاتصال بأشرافها ، وكان العرب من أهل يثرب من قبيلة الأوس والخزرج ممن يأتون إلى مكة في كل موسم فيعرض عليهم الإسلام ، فكانوا عندما يعودون إلى يثرب ينقلون أخبار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هناك فانتشرت أخباره في يثرب ، ولكن لم يؤمنوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودعوته.

وفي أحد الأيام التقى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بجماعة من قبيلة الخزرج ودعاهم إلى الإسلام فأمنوا وكانوا ستة أشخاص ، ومما ساعد على أيمان هؤلاء أن اليهود كانوا مجاورين لهم

١٧٠

في يثرب ، وكانوا إذا وقع بينهم نزاع ، توعدهم اليهود بأن نبيا سيبعث ، وقد أطل زمانه سنتبعه ونقتلكم قتل عاد وأرم ، ولما التقوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالوا إنه النبي الذي كان اليهود يتوعدوننا به ، فلا يسبقونكم إليه ، فآمنوا به واتبعوه ، وعادوا إلى يثرب واستطاعوا من نشر هذه الدعوة هناك ، فأعتنق عدد من أهل يثرب الإسلام ، فلما كان العام الثاني جاء من يثرب اثنا عشر رجلا والتقوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالعقبة فبايعوا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآمنوا به.

وبدأ الإسلام ينتشر شيئا فشيئا في يثرب ، وفي العام المقبل جاء أناس كثير من أهل يثرب لأداء مناسك الحج وللاستماع إلى دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأمن الكثير منهم وكانت البيعة الثانية ، وبهذا بنيت أول قاعدة للإسلام في يثرب فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المسلمين في مكة بالهجرة إلى يثرب ، ولم يبق في مكة سوى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيه علي بن أبي طالب وبعض المسلمين ، ثم هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو أيضا تاركا مكة إلى يثرب سنة ١٤ من البعثة ، واستقبل في يثرب استقبالا رائعا و بهذا انتهت المعاناة والشدائد الذي واجهها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكة من قبل المشركين.

ولكن المشركين لم يقفوا مكتوفي الأيدي وقد تجرعوا كأس الذلة والهوان ، فاستمروا في محاربتهم للدعوة الإلهية من خلال

١٧١

الدسائس والتآمر على المسلمين ، ووقعت معارك بين المسلمين والمشركين ، كمعركة بدر وأحد وغيرها ، وبين المسلمين واليهود كمعركة خيبر وغيرها. واستطاع المسلمون خلال فترة قصيرة من تقوية شوكتهم ، فأصبحوا قوة لا يستهان بها واستطاع النبي من تأسيس الدولة الإسلامية في يثرب ومنها تم نشر دعوته إلى العالم كله.

فتح مكة

في السنة السادسة للهجرة قصد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة لأداء فريضة الحج مع أنصاره وأتباعه ، فخرج إلى مكة مع ألف وستمائة رجل وهو لا يحمل سلاحا سوى ما يحمله المسافر عادة ، ولما علمت قريش بذلك اتفقت على منع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من دخول مكة ، ولما وصل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى منطقة قريبة من مكة يقال لها ( حديبية ) بعثت قريش من يفاوض النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويعقد معه صلحا سمي ( صلح الحديبية ) واتفقوا على أن لا يدخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة في هذه السنة ويسمحوا بالعام القادم من دخولها ، وإيقاف الحرب بينهم لمدة عشر سنوات وغيرها من البنود فوافق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرجع إلى يثرب مركز حكومته.

وهي هذه الفترة بعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رسائله

١٧٢

إلى الملوك والأمراء في مختلف نقاط العالم يدعوهم إلى التوحيد والإسلام ، فبعث إلى قيصر ملك الروم ، وإلى ملك الفرس ، وإلى ملك الحبشة ، وإلى أمير الغساسنة في الشام وإلى مصر واليمن وغيرهم.

وفي السنة القادمة دخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة حسب الاتفاق مع الفين من المسلمين لأداء مناسك الحج وإظهار العبودية لله سبحانه وحدة لا شريك له وتركت زيارته هذه الأثر الكبير في نفوس بعض المشركين فاعتنقوا الإسلام ، فلما أحس زعماء قريش بهذا الأمر ، طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مغادرة مكة بعد أداء مناسك الحج مباشرة ، فقبل النبي ورجع إلى يثرب بعد أداء مناسك الحج.

وبعد مدة من الزمن نقضت قريش الاتفاق والصلح الذي عقدته مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في صلح الحديبية ، بغارتها على حلفاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين جاءوا واستنجدوا به ، فأمر النبي ( صلى عليه وآله وسلم ) بتجهيز جيش ضخم قوامه عشرة آلاف رجل ليدخل مكة فاتحا ، ولما سمعت قريش بذلك أصابها الرعب ، فجاء زعيم المشركين ( أبو سفيان ) معتذرا ولكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصر على دخول مكة فاتحا فاستسلم المشركون ودخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة فاتحا من دون قتال ...

١٧٣

وكان النصر الإلهي العظيم ... فها هو يتيم عبد المطلب الذي قاسى وعانى من طواغيت قريش الذين شتموه واستضعفوه وعذبوه واستهزؤا به ، يدخل مكة قائدا لجيش يرعب القلوب فاتحا منتصرا ناشرا لدعوته رغم أنف المشركين ومحطم أصنامهم وأحلامهم ، ليظهر الله سبحانه دينه ، فانتشرت أنوار التوحيد في ربوع مكة وأسلم أغلب أهلها ، وعاد المهاجرون إلى وطنهم وأهلهم منتصرين ...

واستمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في نشر دعوته حتى لبى نداء ربه في السنة الحادية عشرة للهجرة. وعمره الشريف ثلاث وستون سنة ، وبذلك تنتهي الحياة الأرضية لنبي آخر الزمان محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي أرسل بالدين الكامل والخالد إلى أبد الدهور وحتى تقوم الساعة.

١٧٤

دلائل نبوته (ص)

إن للتعرف على صدق مدعي النبوة بصورة عامة طرقا ، منها تنصيص النبي السابق به ، أو أظهر المعاجز وخوارق العادة لإثبات ارتباطه بالسماء والغيب ، ولأجل إثبات نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سنشير باختصار إلى هذين الطريقين :

أولا : البشارة به في العهد الجديد

إن القرآن الكريم كتاب الوحي السماوي يشير في بعض آياته إلى مسألة مهمة وهي أن اليهود والنصارى كانوا يعرفون أن هناك نبي في آخر الزمان ، ومعرفتهم به من خلال الأوصاف والعلامات الموجودة في كتبهم ( العهدين ) لا تقبل الشك ، فالقرآن يشير إلى هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله تعالى ( الذين يتبعون الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) (١) وأيضا قوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) (٢).

__________________

(١) سورة الأعراف : آية ١٥٧.

(٢) سورة البقرة : آية ١٤٦.

١٧٥

فالقرآن الكريم احتج على أهل الكتاب بأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد بشر به في التوراة والانجيل وإن كان هذا الادعاء غير صحيح ، لاحتج أهل الكتاب بذلك على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولأنكروا البشارة به في كتبهم ، ولكنهم على العكس من ذلك لاذوا بالصمت واختلاق التهم وإخفاء الحق وتفسير الكتاب وفق أهوائهم ، لإبعاد أتباعهم عن قبول الحق والإيمان بالنبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والباحث في التاريخ يجد أن البعض من علماء أهل الكتاب ولا سيما من النصارى بعد ما أدركوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو سمعوا بدعوته ورسالته آمنوا به واعتنقوا الإسلام ، لمعرفتهم بأنه النبي المنتظر في آخر الزمان ، وقصة بحيرا الراهب وسلمان الفارسي وغيرهم الكثير تؤيد هذا المدعى. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا أمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) (١).

وكما أشرنا فإنّ الكتاب المقدّس عند اليهود والنصارى يتألّف من عهدين : العهد القديم والعهد الجديد ، وقد أُلّفت العشرات من الكتب لإثبات البشارة بالنبي الخاتم (ص) في العهد القديم والجديد

__________________

(١) سورة المائدة : ٨٣ ـ ٨٤.

١٧٦

منها :

١ ـ كتاب « محمد في الكتاب المقدّس » للبروفسور عبد الأحد داود ، القس الذي اعتنق الإسلام.

٢ ـ كتاب « محمد في التوراة والإنجيل والقرآن » للكتاب إبراهيم خليل أحمد.

٣ ـ كتاب « البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل » للدكتور أحمد حجازي السقا.

٤ ـ كتاب « بذل المجهود في إفحام اليهود » للعالم اليهودي شموئيل بن يهوذا بن أيوب ، الذي اعتنق الإسلام وسمّى نفسه « السموئيل بن يحيى ».

وغيرها من الكتب الكثيرة ، وأنا سأكتفي هنا ينقل بعض الإشارات بالنبي في العهد الجديد إذ يؤكد القرآن الكريم بأن يسوع المسيح ( عليه السلام ) قد بشر بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باسمه الصريح كما في قوله تعالى ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) (١) ويمكن إثبات هذه الحقيقة حتى في الأناجيل ( العهد الجديد ) المتداولة بين أيدينا الآن ،

__________________

(١) سورة الصف : آية ٦.

١٧٧

وبالخصوص من إنجيل يوحنا ، وإليك عزيزي القارئ بعض النصوص من إنجيل يوحنا بهذا الخصوص :

يقول ( إذا كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد ) ( يو : ١٤ : ١٥ ـ ١٦ ). وأيضا ( يو : ١٤ : ٢٦ ) وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم وأيضا ( يو : ١٥ : ٢٦ ) ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء وأيضا يو : ١٦ : ٧ ـ ٨ لكني أقول لكم الحق ، إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي ولكني إن ذهبت أرسله إليكم ومت ء ٢ ى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة وأيضا ( يو : ١٦ : ١٣ ) وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتيه ...

وهذه النصوص كلها تشير بالحقيقة إلى الاسم الصريح للنبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد أستدل على ذلك مؤلف كتاب « أنيس الأعلام في نصرة الإسلام » (١) وأثبت أن النصوص

__________________

(١) مؤلف هذا الكتاب هو أحد القسيسين ، وينقل في مقدمة الكتاب أنه ولد في أرومية في ايران واشتغل بطلب العلوم الدينية وكان في فرقة البروتستانت ، وقام بتأليف هذا الكتاب بعد إسلامه ولقب بفخر

١٧٨

الآنفة الذكر من إنجيل يوحنا كلها تشير إلى النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولكن علماء الكتاب المقدس ومفسريه هم الذين حرفوا معنى هذه الكلمة ، ونذكر هنا استدلاله باختصار ، فيقول :

وجه الاستدلال يتوقف على بيان نكتة ، وهي أن المسيح ( عليه السلام ) كان يتكلم بالعبرية ( وكانت اللغة السائدة في فلسطين مع اللغة الأرامية ) وكان يعظ تلاميذه بها ، لأنه ولد وشب بين ظهرانيهم هذا من جانب ، ومن جانب آخر أن المؤرخين أجمعوا على أن الأناجيل الثلاثة ( لوقا ، مرقس ، يوحنا ) كتبت من أول يومها باللغة اليونانية ، وأما إنجيل متي فكان عبريا من أول إنشائه ( وثم ترجم إلى اليونانية ولا وجود للنسخة العبرية الآن ).

وعلى هذا فالمسيح ( عليه السلام ) بشر بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باللغة العبرية ، وإنما نقله إلى اليونانية كاتب الإنجيل الرابع ( يوحنا ) وكان عليه التحفظ على لفظ المسيح ( عليه السلام ) ، لأن القاعدة الصحيحة تقتضي عدم تغيير الإعلام والاتيان بنصها الأصلي ، لا ترجمة معناها. ولكن يوحنا لم يراع هذا الأصل ، وترجمة إلى اليونانية فضاع لفظه الأصلي الذي تلكم به المسيح ( عليه السلام ) ، وفي غب ذلك حصل الاختلاف في المراد منه ، وأما اللفظ

__________________

الإسلام واسمه محمد صادق وهذا الكتاب في ستة أجزاء وطبع في ايران باللغة الفارسية.

١٧٩

اليوناني الذي وضعه الكاتب يوحنا مكان اللفظ العبري فهو مردد بين كونه ( پاراقليطوس ، pericletos ) الذي هو بمعنى المعزي والمسلي والمعين ، أو ( پريقليطوس pericletos ) الذي هو بمعنى المحمود ، الذي يرادف أحمد.

ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة والتلفظ والسماع ، حصل التردد في المبشر به ، ومفسرو ومترجمو إنجيل يوحنا ، يصرون على الأول ولأجل ذلك ترجموه إلى العربية ب‍ ( المعزي ) وإلى اللغات الأخرى بما يعادله ويرادفه ، وادعوا أن المراد منه هو روح القدس ، وأنه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح ( عليه السلام ) ( يوم العنصرة ) (١) ...

ولكن القرائن الكثيرة كلها تأبى هذا التفسير لهذه الكلمة ب‍ ( المعزي ) بل كون معناها المحمود ، أحمد أقرب إلى الظاهر وإليك بعض القرائن على ذلك ، كما ينقلها الأستاذ العلامة السبحاني :

١ ـ إنه وصف المبشر به بلفظ ( آخر ) وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ، وهذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده ، وانحصاره في واحد ، بخلاف الأنبياء فإنهم يجيئون واحدا بعد الآخر.

٢ ـ إنه ينعت ذلك المبشر به بقوله ليمكث معكم إلى الأبد

__________________

(١) الإلهيات ج ٣ ص ٤٤٩.

١٨٠