موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-500-7
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٠

١

٢

٣

٤

٥

٦

في بقية المأثور عنه من محاورات

احتجاجية وأجوبة مسائل في شتى

فنون المعرفة ، وكتبه ، ومفردات

حَكَميةّ في آداب الأخلاق

٧
٨

تمهيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله الطيبيّن الطاهرين ، سادات الخلق أجمعين ، ورضي الله عن الصحابة المهتدين ، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد : فهذه إضمامة عبقة ، من عِطر النبوّة منتشقة ، بشذى الإمامة مونقة ، رعى باقَتها حبرُ الأمة عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه ، فضمّنها من بليغ الكَلِم ، وموفور الحِكَم ، ومن المحاورات أعظمها حجة ، وأظهرها محجة ، وليس بغريب منه ذلك ، وهو الذي قد تربّى على يد مَن هو أفصح مَن نطق بالضاد ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومِن بعده تخرّج على يد مَن سنّ الفصاحة لقريش ، وهو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثم هو بعدُ من بني هاشم الذين كانوا على حدّ قول الجاحظ : ( مِلحُ الأرض ، وزينة الدنيا ، وحُلي العالَم ، والسنام الأضخم ، والكاهل

٩

الأعظم ، ولباب كلّ جوهر كريم ، وسرّ كلّ عنصر شريف ، والطينة البيضاء ، والمغرس المبارك ، والنصاب الوثيق ، ومعدن الفهم ، وينبوع العلم ) (١).

ولقد ذكرت جملة منها فيما تقدم في الجزء الرابع ، وهذه هي البقية المنتقاة ، تضم من محاوراته مع فئات من النواصب ، مختلفة المشارب والمذاهب ، من غير الحاكمين ، كإحتجاجاته مع الخوارج ، ومع المجبّرة من أهل الشام والقدرية ، ومَن كان يعلن بسبّ الإمام عليه‌السلام من قريش وغيرهم ، وكم هدى الله به من تائهين مضَللّين ، فآبوا إلى الحق وتابوا من ذنوبهم ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام حين أعطاه الراية في يوم خيبر : ( فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) (٢) ، فهنيئا لك أبا العباس ، كم هديت من الناس.

مضافاً إلى أجوبة مسائل سئل عنها رضي‌الله‌عنه فأجاب عليها ، وهي في شتى فنون المعرفة ، ويتلوها نماذج من كتبه التي دارت بينه وبين الآخرين ، وهي بحق تعتبر وثائق ذات قيمة معرفية في التاريخ ، لم أقف على نحوها كمّاً وكيفاً رُويت عن غيره من سائر الصحابة ، سوى معلمّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وستأتي الإشارة إلى أنّ الإمام عليه‌السلام كان يعتمد عليه ، فربما أمره بتحرير أجوبة بعض الكتب عن لسانه ، كما سيأتي ذكر الشاهد على ذلك.

ثم أتبعتها ـ تلكم الكتب ـ بمفردات كَلِمه وبليغ حِكمه ، بما يغني التراث

____________

١ ـ زهر الآداب ١ / ٥٩.

٢ ـ صحيح البخاري ٤ / ٢٠٧ و ٥ / ٧٧ ، صحيح مسلم ٧ / ١٢٢.

١٠

في محاسن الأخلاق وتهذيب النفوس ، وتصلح أن يتخذ منها نماذج تربوية صالحة في الآداب.

ولقد انتهجت نهج الشريف الرضي قدس‌سره في تبويبه ( نهج البلاغة ) ، حيث قدَم الخُطب ، ثم الرسائل ، ثم منثور الحكم ، ولم لا أقتفي أثره؟ وهو قدس‌سره أحسنَ التبويبَ ، فاختار من كلّ موضوع أعظمه خطراً ، وأبلغه فصاحة ، مستوعباً النفائس من مختاره ، وأنا أعرض من غرس زكيّ لدوحة هاشمية ، بعض ثماره ، قد سقيت بماء المكرمات من الينبوع العذب السلسال في تياره ، فهو تلميذ الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وهو صاحبه البرّ الوفي ، ومستشاره الأمين ، ووزيره الصفيّ. فما نقرؤه من كلامه إنّما هو نبع من ينابيع تلك الحكم الخالدة ، نفعنا الله تعالى منها بإفضاله ، ومتعنا بإمتثال أقواله ، بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله عليهم‌السلام.

١١
١٢

الفصل الخامس

مواقف ابن عباس مع أصحاب الفرق والمذاهب

١٣
١٤

لا يعدم الباحث الشواهد على ما ابتلي به ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، من خصومات عقائدية عنيفة لا تقل في عنفها عن تلك الخصومات السياسية ، فالخوارج ، والمجبّرة ، والقدرية ، وحتى اليهود والنصارى ، كانوا في مسائلهم جازوا عَنَتاً وعُنفاً ما كان يلاقيه من خصومه السياسيين من الحاكمين والتابعين لهم.

وكان أكثر أولئك جَدَلاً هم الخوارج ، وأشدّههم عنفاً وجرأة نافع بن الأزرق الخارجي ـ رأس الأزارقة ـ كما أنّ أهونهم شرّاً هو نجدة بن عامرـ ابن عويمر ـ رأس النجدات ، ولعلّ ما هو أعظم عناءاً وبلاءاً ما كان يلاقيه من مولاه عكرمة البربري ، حتى وصفه بالخبيث ، كما مرّ في ذكره مع تلامذته والرواة عنه ، وسيأتي مزيد إيضاح عنه في آخر البحث ، سوى ما يأتي في الحلقة الرابعة من نماذج أكاذيبه.

أمّا المجبّرة فكانت الفرقة التي احتضنتها السلطة في الشام ، فنفثت سُمومَها من خلال مقالاتها الباطلة ، إذ كان الأموي الماكر ، معاوية الكافر ، يغدق لهم العطاء ، وينعم عليهم بالجزاء ، ويكيد بهم الإسلام ، سواء في الشام أو غيرها مع الذين يفدون إلى الحرمين أيام الحج وغيرها ، كما ستأتي

١٥

الشواهد على ذلك.

وكذلك القدرية الذين كانوا يعلنون خلافهم حتى في المسجد الحرام ، إذ اتخذوه نادياً لإشهار مقالاتهم الفاسدة.

فكان لابن عباس معهم مواقف صارمة في دحض عقائدهم الباطلة.

وكذلك مع مستسلمة أهل الكتاب مثل كعب الأحبار وغيره من الذين أدخلوا معهم رواسب الإسرائيليات التي في نفوسهم إلى أذهان السذّج من الرعاع ، فشوشت أذهان العامّة ، ولا تزال بعض كتب التفسير والحديث تروي الكثير منها.

وأعطف على أولئك وهؤلاء ما كان يُفاجأ به معاوية الحاكم باسم الإسلام من مسائل حُكّام الأروام ، فيعجز عن الجواب ، فيلجأ إلى إمام أهل البيت عليهم‌السلام الذي هو باب مدينة العلم ، ومن بعده إلى ابن عمه عبد الله بن عباس ، كما ستأتي الشواهد على ذلك.

وهكذا كانت معاناة ابن عباس من أصحاب الفرق الضالة ، والمقالات الباطلة ، فلنبدأ بقراءة الشواهد على تلك المعاناة :

١٦

مع الخوارج

لقد ظهر أسم الخوارج والمحكّمة من حين التحكيم في واقعة صفين ، فهم الذين قبلوا به واضطروا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى قبوله ، وبالرغم من تحذيره لهم من مغبَة العاقبة ، ولكنهم أصروا عناداً ، وازدادوا عتواً ونفوراً حين لم يرضوا إلاّ بتحكيم أبي موسى الأشعري ، ورفض من أراد الإمام تحكيمه كعبد الله بن عباس أو الأشتر أو الأحنف ، ولكنّهم أكرهوه على قبول الأشعري حَكَماً ، ثم سرعان ما نقضوا ما أبرموا ، ونكصوا عما دبّروا وأعلنوا ، ولكن بعد فوات الأوان ، إذ أن وثيقة الصلح يمتد أمدها إلى ستة أشهر على أن يجتمع الحكمان فيحكمان بما في كتاب الله تعالى ، وهذا ما رفضه الخوارج وهم بعدُ في صفين ، وأعترفوا بخطأهم وطلبوا من الإمام عليه‌السلام أن ينقض عهده ووعده قبل أن يأتي موعد التحكيم وينظر في نتيجته ، فأنخزلوا عنه عند رجوعه إلى الكوفة ، ففارقوه ونزلوا حروراء ، ومنذ ذلك الحين سمّوا بالحرورية ، وبدأت محاولات الإمام عليه‌السلام لإستصلاحهم بإرسال من يعظهم ويحاججهم ، وكان رجل الساعة والساحة هو ابن عمه عبد الله بن عباس ، الذي مرّت في الحلقة الأولى قراءة بعض مواقفه ومشاركته فيها ، ومواقفه معهم ، فهم ومن ذلك الحين صاروا يعرفون ابن عباس جيداً ، رجل علم وسياسة ، ورجل الجدال والنزال ، وكلّما مرّت السنون سراعاً في أيامها ،

١٧

ظهرت لابن عباس حقائقهم ومدى إصرارهم على ضلالاتهم ، كما ظهرت لهم أيضاً حقيقة ابن عباس على واقعها في مبادئها التي لم تعجب الخوارج كثيراً ، بل كانت ضدّ مذهبهم في مقولتهم ( إنّ من لم يكن معهم في فكرتهم فهو فاسق ، وهو غير مؤمن ، فيحلّ قتله وقتل أطفاله واستحياء نسائه ) ، ولولا سيطرة الحاكمين وضجيج المسلمين من جرائمهم وفظائع أعمالهم ، لعاثوا في الأرض فساداً أكثر ممّا عملوا ، حيث أفشوا القتل الذريع خصوصاً في مخالفيهم في العقيدة ، وقويت شوكتهم بمكة في أيام ابن الزبير ، فكانوا يحجون على راية لوحدههم على تعدد فرقهم.

وكان أشدّ فرق الخوارج منابذة لابن عباس هم الأزارقة تبعاً لرئيسهم نافع بن الأزرق ، وله مواقف خصومة وجدل مع ابن عباس ، سنأتي على ذكرها قريباً كما ستأتي جملة مسائله في غريب القرآن في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.

وقد كان أهونهم تسامحاً هم النجدات أتباع نجدة بن عويمر ـ عامر ـ الذي كان يسأل ابن عباس عن بعض الأحكام الشرعية ، ويستخدم تلك الكتابات وسيلة إقناع للأتباع بأنّه لم يمرق من الدين كما مرق غيره من بقية فرق الخوارج ، وستأتي بعض كتبه.

ولنبدأ الآن بما جرى بينه وبين زعماء الخوارج من محاورات بدءاً من أيام التحكيم الأولى في حروراء ومروراً بما نجم من خلاف ، سعُر أواره في حرب النهروان ، ومن بعدُ في يوم النخيلة ، وانتهاءاً بما كان يجري مع الأفراد من رجالهم المبرّزين ، كزمعة بن خارجة ونافع بن الأزرق ـ رأس الأزارقة

١٨

من فرق الخوارج ـ ونجدة بن عامر ـ عويمر ـ رأس النجدات من فرق الخوارج ـ وغيرهم ، ثم نعقّب على هذا باستعادة ما مرّ في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ، من فرية صلعاء ، وكذبة شنعاء ، نقلت ابن عباس من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، فجعلته مع الخوارج في رأيه ، فكفّ عنهم سيفه ، وفارق صفّه ، بل وصار محامياً عنهم (؟).

وبعد الإنتهاء من محاوراته مع الخوارج نعود إلى ذكر بقية محاوراته مع أهل الشام ، وغيرهم من النواصب الذين كانوا يعلنون بسبّ الإمام عليه‌السلام ، كما ربّاهم على ذلك معاوية ( لعنه الله ) حتى هرم على ذلك الكبير منهم وشاب عليه الصغير فيهم. وقد هدى الله تعالى بمحاورات ابن عباس رضي‌الله‌عنه بعض أولئك المغرّر بهم فصاروا من المهتدين ، نتيجة تلك المحاورات العلمية.

أوّلاً : مع الخوارج من البداية إلى النهاية.

قال أبو المظفر الإسفرايني ( ت ٤٧١ هـ ) في كتابه ( التبصير ) في الباب الرابع مقالات الخوارج وبيان فضائحهم :

( وقال ـ عليّ رضي‌الله‌عنه ـ لمّا أراد أن يبتدأ القتال : لا يقتل منّا عشرة ولا ينجو منهم عشرة ...

والتحم القتال حتى لم يبق من جملة الخوارج إلاّ تسعة ، فوقع اثنان منهم إلى سجستان ، واثنان إلى اليمن ، واثنان إلى عُمان ، واثنان إلى الجزيرة ، وواحد إلى ناحية الأنبار ، وخوارج هذه النواحي من أتباع هذه التسعة ، وأمر عليّ رضي‌الله‌عنه أصحابه بطلب ذي الثدية ، فوجدوه قد هرب

١٩

واستخفى في موضع فظفروا به وتفحصوا عنه فوجدوا له ثدياً كثدي النساء ، فقال عليّ رضي‌الله‌عنه عنه صدق الله وصدق رسوله وأمر بقتله فقتل ، وقد كان مرّ على النبيّ ذو الثدية وهو يقسم غنائم بدر فقال له : أعدل يا محمّد ، فقال له عليه‌السلام : خبت وخسرت إذاً من يعدل ، ثم قال : ( إنّه يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) (١).

( هذه قصة المحكّمة الأولى ، وهم يكفرون بتكفيرهم عليّاً وعثمان وتكفيرهم فساق أهل الملّة ، ثم خرج بعدهم جماعة من الخوارج بأرض العراق فكان عليّ رضي‌الله‌عنه يبعث إليهم السرايا ويقاتلهم إلى أن استأثر الله بروحه ونقله إلى جنته ، وبقيت الخوارج على مذهب المحكّمة الأولى إلى أن ظهرت فتنة الأزارقة منهم ، فعند ذلك اختلفوا كما نذكره إن شاء الله تعالى ).

الفرقة الثانية : الأزارقة.

( منهم الأزارقة وهم أتباع رجل منهم يقال له أبو راشد نافع بن الأزرق الحنفي ، ولم يكن للخوارج قوم أكثر منهم عدداً ، وأشد منهم شوكة ، ولهم مقالات فارقوا بها المحكّمة الأولى ، وسائر الخوارج : منها أنّهم يقولون إنّ من خالفهم من هذه الأمّة فهو مشرك ، والمحكّمة كانوا يقولون أنّ مخالفهم كافر ولا يسمونه مشركاً ، وممّا اختصوا به أيضاً أنّهم يسمون من لم يهاجر إلى ديارهم من موافقيهم مشركاً وإن كان موافقاً لهم في مذهبهم ، وكان

____________

١ ـ أخرجه الشيخان وغيرهما بالفاظ متقاربة وعادة المصنف في الغالب رواية الحديث بالمعنى ، راجع جمع الفوائد ٢ / ٢٨٨.

٢٠