الإمامة في القرآن والسنّة

امتثال الجحش

الإمامة في القرآن والسنّة

المؤلف:

امتثال الجحش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) (١).

صحيح أنّ آية التطهير وقعت ضمن الآيات المخاطبة لنساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن لا يعني هذا اختصاصها بهنّ ; وذلك لعدّة أسباب ، نذكر منها :

١ ـ تعتبر آية التطهير إحدى الآيات التي تثبت عصمة أهل البيت ، كما سيأتي لاحقاً ، وعليه يلزم القول بعصمة نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين لم يقلْ أحد بعصمتهن ، بل على العكس ، فلو راجعنا التاريخ لوجدنا أنّ منهنّ من ارتكبت ما ينافي صفة العصمة تماماً.

٢ ـ في الآيات التي تتقدّم على آية التطهير كان الخطاب موجّه لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضمير التأنيث وهو ( نون النسوة ) كما في : ( لستن ، اتقيتن ، تخضعن ... ) ، بينما يتحوّل الخطاب في آية التطهير إلى علامة التذكير وهي ( الميم ) كما في : ( عنكم ، ويطهّركم ) ، فلو كانت الآية تخاطب نساء النبيّ فلا حاجة للتغيير في ضمائر الخطاب من نون النسوة إلى ميم الجمع ، ولكنّ التغيير موجود ، فاختلاف المعنى وبالتالي اختلاف المخاطبين موجود أيضاً.

٣ ـ إنّ نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنفسهنّ يروين اختصاص آية التطهير ، بأهل البيت عليهم‌السلام ، ويصرّحن برفض النبيّ طلبهنّ في الدخول معهم تحت الكساء ، إذ كأنّه يقول : لا تقربي.. إنّك على خير... إلخ فلماذا

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٣٢ ـ ٣٤.

٤١

ننسب لهنّ ما لم يدّعينه لأنفسهن ؟!.

٤ ـ بسبب قلّة من شهد حديث الكساء ، فقد حرص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على انتشار هذا الخبر بين المسلمين ; ليعلموا مكانة أهل البيت عليهم‌السلام وموقعهم من الله ورسوله.

حيث روى أنس بن مالك : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقي لمدّة ستّة أشهر يمرّ بباب فاطمة عليها‌السلام عند خروجه لصلاة الفجر ويقول : « الصلاة يا أهل البيت ( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) » (١).

٥ ـ أمّا بالنسبة للاحتجاج بوحدة السياق الذي أوجب الاعتقاد بنزولها في نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا قيمة له ; وذلك أنّ هناك الكثير من الآيات التي تتضمّن موضوعاً معيّناً ثمّ يدخل عليه ومن دون فاصل موضوع آخر يختلف تماماً عن الموضوع السابق ، ومن ثمّ يُتابَع الموضوع الأوّل بحيث يكون الموضوع المقحم بمثابة جملة اعتراضيّة يختلف مضمونها عمّا قبلها وبعدها.

ومثال ذلك قوله سبحانه : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ

__________________

(١) مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ و ٢٨٥ ، في مسند أنس بن مالك ، سنن الترمذي ٥ : ٣١ ، حديث ٣٢٥٩ ، المستدرك علىٰ الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣ : ١٥٨.

٤٢

وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١).

تتحدّث هذه الآية في صدرها وذيلها عمّا يحرم وما يحلّ أكله ، بينما أُقحمت في وسطها آية ليس لها أيّة علاقة بقضية الأكل حلاله وحرامه ، بل إنّها تتحدّث عن يأس الكفّار من دين الإسلام وإكمال الله لهذا الدين وإتمام النعمة على المسلمين... فلو اقتطعنا هذا المقطع ( اليوم يئس..... ورضيت لكم الإسلام ديناً ) لبقي صدر الآية وذيلها متلائمين تماماً كأن لم يحدث شيء ، وهذا النمط يطلق عليه علماء اللغة العربية اسم ( الجملة الاعتراضية ).

وإنّ الكلام السابق نفسه ينطبق على آية التطهير وما قبلها وما بعدها من الآيات حيث أُقحمت إقحاماً بينها ، مع أنّها تحمل موضوعاً مختلفاً وتعني أشخاصاً غير نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إذاً ، نزلت آية التطهير بحقّ أهل بيت النبيّ وهم : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وليس نساءه.

فقد جاء في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال :... فقلنا : مَن أهل

__________________

(١) المائدة (٥) : ٣.

٤٣

بيته ، نساؤه ؟ قال : لا ، وأيم الله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حُرموا الصدقة بعده (١).

ثانياً : آية الطاعة

وهي قوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٢)

توجّه هذه الآية نداءً للمسلمين بأنّ :

أوّلاً : ( أَطِيعُوا اللهَ ) حيث تبدأ بإصدار أمر الطاعة ـ أوّلاً ـ لله سبحانه والإذعان لأوامره ، إذ إنّه مُوجد هذا الكون ومدبّره ، وأنّ القيادات كلّها منه وإليه ، وهو سبحانه المنظّم والمشرّع لهذا الكون.

ثانياً : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) تضيف الآية أمراً ثانياً لكنّه من سنخ الأوّل ، وهو أمر بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو سفير الله في أرضه ومبلّغ رسالته ، وواسطته مع خلقه ، والذي أمره أمر الله ونهيه نهي الله ، المعصوم من كلّ خطأ وزلل ، حتى قال تعالى فيه : ( وَمَا يَنطِقُ

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ : ١٢٣ ، باب فضائل علي عليه‌السلام.

(٢) النساء (٤) : ٥٩.

٤٤

عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١).

إنّ طاعة الرسول واجبة حيث تكتسب وجوبها من كونه رسولاً لله ، وكون الله أمرَ بطاعته ، إذ قال : ( ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ... ) (٢).

وبهذا تكون طاعته طاعةً لله ، ومخالفته مخالفةً لله ، يقول سبحانه : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) (٣).

ثالثاً : ( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) يأتي الأمر الثالث ، وهو أيضاً من سنخ الأوّل والثاني ، وهو الأمر بطاعة أُولي الأمر الذين جاء ترتيبهم في الآية بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يتعيّن المرجع الحقيقي للمؤمنين بعد رسول الله ، وهم أُولوا الأمر الذين أمر الله بطاعتهم.

وجوب عصمة أُولي الأمر :

هل تعتقد أنّ كلّ من استطاع الاستيلاء على مركز القيادة والإمساك بزمام الأُمور ، بغض النظر عن الوسيلة ، وبغض النظر عن الصفات التي يتمتّع بها ، هل تعتقد أنّه أصبح من أُولي الأمر الذين

__________________

(١) النجم (٥٣) : ٣ ـ ٤.

(٢) الحشر (٥٩) : ٧.

(٣) النساء (٤) : ٨٠.

٤٥

أوجب الله طاعتهم في الآية السابقة ؟

بالتأكيد لا...

على الرغم من تفشّي هذا المفهوم في أواسط المسلمين !

لكنّنا إن قلنا بهذا المفهوم للزم من قولنا هذا حصول التناقض في الآية نفسها.

كيف ؟

ذلك فيما إذا أصدر الحاكم ( أي وليّ الأمر ) أمراً يخالف شريعة الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكثيراً ما يحدث ، فإنّ منشأ التعارض سيكون كما يلي :

أوّلاً : تقول الآية في بدايتها : ( أَطِيعُوا اللهَ ) وهو أمر بوجوب طاعة الله سبحانه.

ثانياً : وتقول في ذيلها : ( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) وهو أمر إلهي بوجوب طاعة أُولي الأمر مطلقاً.

ولكنّ وليّ الأمر أصدر أمراً مخالفاً لأمر الله ، فأيّهما نلتزم ؟

أنلتزم أمر الله ونعصي أُولي الأمر المخالفين لأمر الله ؟ ومع ذلك فلن تتحقّق الطاعة المفروضة من الله ; لأنّه أمرَنا بطاعة أُولي الأمر مطلقاً.

أم نلتزم أمر أُولي الأمر المخالفين لأمر الله ونعصيه ؟ فنكون بذلك قد جوّزنا فعل المعصية برخصة من الله تعالى ; لأنّه أمرنا بطاعة أُولي

٤٦

الأمر ، وهذا ما لا يقبله العقل !

إذاً ، لم يبق أمامنا إلاّ القول بأنّ الله عندما قرن طاعة أُولي الأمر بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عنى أشخاصاً مميّزين ومحدّدين ، يستحيل عليهم أن يأمروا بما يخالف أمر الله بأيّ شكل من الأشكال ; لأنّ أمر الله وأمرهم هو في الحقيقة أمر واحد لا اختلاف ولا تناقض بينهما ، وإلاّ لوقعنا بشبهة التناقض التي تكلّمنا عنها آنفاً.

وبهذا تثبت عصمة أُولي الأمر ووجوب طاعتهم.

من هم أُولوا الأمر ؟

إنّ العصمة هي قوّة باطنيّة تحول دون وقوع المعصوم في المعاصي أو الأخطاء مع الالتفات إلى قدرته على فعلها ، إذ أنّها ليست قوّة جبريّة تمنعه من ارتكاب المعاصي ، بل إنّه يجتنب المعاصي بمحض إرادته ، ذلك أنّ العصمة نابعة من معرفته بالله وإطّلاعه على نتائج ارتكابه لأيّ فعل ، سواء كان صالحاً أو طالحاً ، لذلك فإنّ الشيعة يرون العصمة شرطاً أساسيّاً لولاية أُمور المسلمين.

وهذا الشرط ـ العصمة ـ لم يتوفّر إلاّ في أهل البيت عليهم‌السلام حيث عرفوا الله واطّلعوا على واقعية الأُمور وحقائقها وسيظهروا على أنفسهم بشكل كامل ، وبلغوا مرتبة العصمة.

إذاً ، فأولو الأمر الذين ثبت وجوب عصمتهم وطاعتهم هم أهل البيت عليهم‌السلام الذي ثبتت عصمتهم.

٤٧

ثالثاً : آية الولاية

وهي قوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١).

لقد اتفق علماء اللغة على أنّ ( إنّما ) تفيد الحصر ، بل هي من أقوى أدوات الحصر.

وعليه فإنّ ولاية المسلمين انحصرت في الثلاثة المتسلسلين في الآية حسب الأولويّة ، وهم : الله جلّ وعلا ، ثمّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

أمّا بالنسبة لولاية ( الله ) فهو خالقنا وبارئنا ومصوّرنا في الأرحام ، وهو مدبّر أُمورنا ، ومرشدنا ، فكيف لا يكون أولى بأنفسنا منّا ؟!

وأمّا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو هادينا وقائدنا ، وهو أيضاً أولى منّا بأنفسنا ، وذلك لقوله عزّ من قائل : ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢).

ولكن يبقى الكلام حول الأولياء الذين جاء ترتيبهم بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقترنت ولايتهم بولاية الله ورسوله ، وعرّفتهم الآية ـ آية الولاية ـ بإيتائهم الزكاة وهم في حالة الركوع ، حيث قال سبحانه : ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ).

فمن هؤلاء ؟

__________________

(١) المائدة (٥) : ٥٥.

(٢) الأحزاب (٣٣) : ٦.

٤٨

ماذا قال العلماء والمفسّرون ؟

١ ـ روى الفخر الرازي في تفسيره : رُوي عن عطاء ، عن ابن عباس : أنّها ـ آية الولاية ـ نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، روي أنّ عبد الله بن سلام قال : لمّا نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله أنا رأيت عليّاً تصدّق بخاتمه على محتاج وهو راكع ، فنحن نتولاّه (١).

٢ ـ وجاء في الكشّاف للزمخشري قال : ... وإنّما نزلت في علي كرّم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأن كان مرجاً ( أي غير مستعص ) في خنصره ، فلم يتكلّف لخلعه كثير عمل تفسد به الصلاة... (٢).

٣ ـ قال السيوطي في الدر المنثور : أخرج الخطيب في المتفق عن ابن عباس ، قال : تصدّق علي بخاتمه وهو راكع ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أعطاك هذا الخاتم ؟ » فقال : « ذاك الراكع ».

فأنزل الله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) » (٣).

هذا ، وقد ذكر العلاّمة الأميني في موسوعته ( الغدير ) أسماء ستّة وستّين عالماً من علماء أهل السنّة قالوا بنزول هذه الآية في الإمام علي عليه‌السلام ، ولكن بطرق وألفاظ متعدّدة ، فراجع (٤).

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ١٢ : ٢٦.

(٢) الكشّاف ١ : ٦٨٢.

(٣) الدر المنثور ٢ : ٢٩٣.

(٤) الغدير ٣ : ١٥٦.

٤٩

تساؤل :

ثمّة تساؤل قد يقع في ذهن القارئ الكريم ، وهو :

طالما نزلت هذه الآية في الإمام علي عليه‌السلام فلماذا جاءت بصيغة الجمع ، بينما المخاطَب هو فرد واحد ؟

يجيبنا العلاّمة الزمخشري علىٰ هذا التساؤل فيقول :

فإنّ قلت : كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي الله عنه واللفظ جماعة ؟

قلت : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلٌ واحدٌ ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه... (١).

ونقول أيضاً :

إنّ أهل اللغة يعدّون مخاطبة الفرد بصيغة الجمع لغرض التفخيم والتعظيم.

فقد ذكر الطبرسي في تفسيره : إنّ النكتة من إطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين عليه‌السلام تفخيمه وتعظيمه ، ذلك أنّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم ، وقال : وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه (٢).

كما أنّه قد نزل الكثير من الآيات الكريمة بصيغة الجمع على

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٦٨٢.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٣٦٤.

٥٠

لسان الله سبحانه ، مع أنّنا جميعاً نؤمن ونقرّ أنّه واحد لا شريك له.

ومثال ذلك قوله سبحانه : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١).

وقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) (٢).

وقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (٣).

فمَن نزّل الذكر ؟ ومَن الذي حفظه ؟ ومَن الذي أنزل من السماء ماء ؟ و .. و .. سوى الله وحده.

الخلاصة :

بعد أن ثبت نزول آية الولاية في الإمام علي عليه‌السلام ، وأنّه وليّ المؤمنين بعد رسول الله ، بقي أن نقول : إنّه لا يخفى على القارئ الكريم أن معنى ( الولاية ) في هذه الآية هو الأولويّة بالتصرّف ، وليس المحبّة والنصرة وإن كانت تأتي بهذا المعنى ولكن في غير هذا الموضع.

وذلك أنّ الولاية هنا قد انحصرت في ( الله ورسوله والإمام علي ) بينما تأتي بمعنى المحبّة والنصرة بشكل عامّ ولا يختصّ بها أحد دون الآخر ، كقوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (٤).

__________________

(١) الحجر (١٥) : ٩.

(٢) ق (٥٠) : ٩.

(٣) الكوثر (١٠٨) : ١.

(٤) التوبة (٩) : ٧١.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

إمامة أهل البيت عليهم‌السلام في السنّة

من وحي السنّة :

السنّة : هي قول المعصوم وفعله وتقريره :

وبما أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو مبلّغ القرآن ، وسنّته تشرح القرآن ، فلابدّ أن يكونا متطابقين تماماً إلاّ من جهة الإجمال والتفصيل.

إذ أنّ القرآن يضمّ كلّ التعاليم والقوانين الإسلاميّة مجملةً ، لتأخذ السنّة دورها في شرحه وتبيانه دون زيادة أو نقصان ، يقول سبحانه : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١).

وبهذا تكون السنّة معصومة كما القرآن ، هذا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن ، هل بقيت السنّة على عصمتها ؟

بالطبع لا ، وأقوى دليل على ذلك ما نصطدم به من أحاديث متناقضة وموضوعة !

وكفى بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهداً على ذلك إذ قال :

« أيّها الناس...

ستكثر عليّ الكذّابة..

__________________

(١) النجم (٥٣) : ٣ ـ ٤.

٥٣

فمن كذب عليّ متعمداً..

فليتبوأ مقعده من النار » (١).

والسؤال هنا :

هل كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم ويؤكّد أنّ سنّته ستطولها أيدي التحريف والتزييف ، ولم يخطّط لحفظها ؟!

وهو الذي كان لا يخرج من المدينة إلاّ أن يعيّن خليفةً ريثما يعود !

فكيف إذا كان الخروج أبديّاً ، حيث لا رجعة ؟

كيف لنا أن نصدّق أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الإنسان العاقل الحكيم الأوّل في البشريّة ، أنّه يترك أُمّته هكذا هملاً ، لاسيّما أنّهم كانوا حديثي عهد بالجاهليّة ، وخطر العدوان الثلاثي ( الروم ، الفرس ، والمنافقين ) لا زال محدقاً بالإسلام ، يتربّص سنوح الفرصة ليصبّ حقده عليه ، ويهدم هذا الصرح العظيم !

بلى ، لقد خطّط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحفظ أُمّته التي طالما عانى وجاهد من أجل بنائها بناءً إسلاميّاً على قواعد متينة وثابتة.

وذلك يكون من خلال تعيين الخليفة والقائد الذي يكون حريصاً

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٧٨ ، في مسند علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، صحيح البخاري ٢ : ٨١ ، باب ما يكره من النياحة علىٰ الميت ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ٢٦٢.

٥٤

على الإسلام كحرص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخليقاً به كي يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركه رسول الله بعد رحيله.

وبالفعل ، فقد عمل الرسول ذلك ، وعيّن خليفةً ضمن أحاديث بيّنها في مواقع وظروف مختلفة نذكر منها :

أوّلاً : حديث الثقلين

إنّ حديث الثقلين من أكثر الأحاديث النبويّة شهرةً وأقواها سنداً ، وقد ورد هذا الحديث في مصادر متعدّدة وبتعابير مختلفة ، إلاّ أنّها متّحدة المضمون.

أمّا نصّه فالتالي :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب الله... وعترتي أهل بيتي ولقد أنبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » (١).

__________________

(١) مسند أحمد ٣ : ١٤ و ١٧ و ٢٦ و ٥٩ ، في مسند أبي سعيد الخدري ، صحيح مسلم ٧ : ١٢٣ ، باب من فضائل علي عليه‌السلام ، سنن الترمذي ٥ : ٣٢٧ ، حديث ٣٨٧٤.

٥٥

أضواء على الحديث :

١ ـ « إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ».

إنّ هذه العبارة تبيّن شعور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدنوّ أجله ، لذلك فقد قال هذا الحديث ليكون بمثابة وصيّة من نبيّ الرحمة إلى المسلمين ، تضمن لهم كلّ الخير والصلاح من بعده.

٢ ـ « ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ».

أمّا في هذه العبارة فقد بيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ التمسّك بهذين الثقلين هو شرط لعدم الضلال على مدى الزمان.

٣ ـ « ولقد أنبأني اللطيف الخبير ».

وأيّ نبأ أصدق من نبأ اللطيف الخبير عالم الغيب ؟

٤ ـ « أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ».

أي أنّهما متلازمان لا ينفكان ، في كلّ زمان ومكان ، وتحت أيّ ظرف ، وفي أيّ موقع إلى أن يردا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوضَ يوم القيامة.

عصمة الثقلين :

قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (١).

__________________

(١) فصّلت (٤١) : ٤١ ـ ٤٢.

٥٦

إنّ هذه الآية وغيرها تدلّ على عصمة القرآن الكريم ، وصيانة الله المطلقة له.

وفي المقابل يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث السابق : « كتاب الله وعترتي أهل بيتي » ، فقد قرن الرسول عترته بكتاب الله المعصوم ، كما أكّد على تلازمهما واستحالة افتراقهما في قوله : « أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » وهذا دليل علىٰ العصمة المطلقة لعترة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لاقترانهم بالقرآن الكريم.

وذلك أنّ أيّ مخالفة لأحكام القرآن يعدّ افتراقاً وابتعاداً عنه ، ولكنّ الرسول بيّن تلازمهما بشكل مطلق.

فلو جاز الخطأ منهم لما صحّ الأمر بالتمسّك بهم إلى جانب القرآن الكريم ، ولعدَّ إخبار النبيّ عن عدم افتراقهما كذباً ورجماً بالغيب ، وأعوذ بالله من هذا القول.

إنّ حديث الثقلين إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أحقيّة أهل البيت عليهم‌السلام في قيادة الأُمّة الإسلاميّة وخلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذلك أنّهم يتمتّعون بصفة العصمة التي لم يبلغها أحدٌ من أتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواهم وإن بلغ الغاية من الإيمان والصلاح.

فكيف يصحّ تقديم المفضول على الفاضل ؟

أجبْ بالله عليك !

٥٧

ثانياً : حديث الغدير

في كلّ عام ، وفي الثامن عشر من ذي الحجّة ، يحتفل الشيعة بعيد اسمه ( عيد الغدير ).

حيث يقيمون الاحتفالات ، ويتبادلون التهاني ، بمجرّد حلول هذا العيد.

فما قصته ؟

ومن أين جاءت تسميته ؟

في السّنة الأخيرة من عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان قد نوى الذهاب إلى الحجّ ولآخر مرّة في حياته ، حيث سمّيت هذه الحجّة بحجّة الوداع ، وأدّى انتشار هذا الخبر إلى توافد الناس من مختلف البلدان إلى المدينة المنوّرة ليحصلوا علىٰ شرف الخروج مع رسول الله والمشاركة معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

في الطريق :

بعد أن أنهى النبيّ ومن معه جميع مناسك الحجّ ، وفي طريق العودة في مكان يُدعى ( غدير خمّ ) ، وتحت أشعة الشمس المحرقة وفوق الرمال اللاهبة ، نزل الأمين جبريل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ

٥٨

وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١).

عندها توقّف الرسول عن المسير في تلك الأرض الجدباء ، وأمر من تأخّر عنه فليلحق به ، ومن تقدّم فليرجع إليه ، حتى اجتمع الناس في مكان واحد ، فأدركتهم صلاة الظهر فصلّوها ، ثمّ أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تُوضع أقتاب الإبل فوق بعضها حتى صارت كالمنبر ، فصعد الرسول عليها خطيباً بالناس ، بكلماته العذبة الصادقة ، وبصوته الذي ملأ الصحراء فسمعه القاصي والداني.

ماذا قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

بدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبته كعادته بحمد الله والثناء عليه ، ثمّ أخذ يُعدّ الناس إعداداً روحيّاً لتقبّل خبر مهم للغاية ، وكان من جملة ما قال :

« أيّها الناس...

يوشك أن أُدعى فأُجيب ، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون » ؟

فتعالت الأصوات من كلّ جانب : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك الله خيرا...

ثمّ أخذ يُذكّر بأُصول الدين ، قال :

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦٧.

٥٩

« ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور » ؟

قالوا : بلى نشهد.

فقال : « اللهمّ اشهد » ، ثمّ قرأ الآية التي نزلت عليه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ).

ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام ورفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أيها الناس...

من أولى بالمؤمنين من أنفسهم » ؟

قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : « إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم...

فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » ، قالها ثلاثاً « اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من بغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدرِ الحقّ معه حيثما دار ، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب ».

ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزلت هذه الآية :

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

٦٠