موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

الحصين بن أبي الحرّ ـ واسم أبي الحر مالك بن الخشخاش ـ العنبري ، وثات بن ذي الحرة الحميري ، وكان على مقدمته ، فلمّا وردوا سجستان قاتلهم حسكة فقتلوه ، وضبط ربعيّ البلاد فقال راجزهم :

نحن الّذين اقتحموا سجستان

على ابن عتاب وجند الشيطان

يقدمنا الماجد عبد الرحمن

إنّا وجدنا في منير الفرقان

أن لا نوالي شيعة ابن عفّان

وكان ثات يسمى عبد الرحمن ... اهـ » (١).

ولمّا وردت الأخبار مبشرة بقتل حسكة (الخارجي) وضبط ربعيّ بن كاس (القائد المظفر) للبلاد ، فمن الطبيعي أن يسرّ ابن عباس كثيراً لأنّه تمّ له بفضل اختياره للقائد ورجاله قمع أوّل خارجة على النظام في حكومة الإمام. كما أنّ من الطبيعي خفّف وغر الصدور بينه وبين بني تميم ، حين ولى ربعي بن كاس العنبري وهو من بني تميم.

ومن الطبيعي أيضاً إنّه كتب بخبر ذلك الفتح المبين وقطع دابر المفسدين إلى الإمام فسرّه بذلك ، ولا شك في انتشار الخبر في الكوفة ففتّ ذلك في عضد المتربصين.

وفي أعقاب هذا الحدث جرت مكاتبات بين الإمام وبين ابن عباس ، وذلك في غضون سبعة عشر شهراً الّتي أقامها الإمام في الكوفة قبل حرب صفين كاتب فيها معاوية وعمرو بن العاص ، كما في حديث الشعبي حيث قال : « إنّ عليّاً قدم

____________

(١) نفس المصدر / ٤٠٣.

٤١

البصرة مستهل رجب الكوفة وأقام بها سبعة عشر شهراً يُجري الكتب فيما بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص » (١).

ولمّا كان المعنيّ لنا فعلاً كتب الإمام إلى ابن عباس في مختلف الشؤون خلواً من التاريخ ، فلم يسعني تحديد زمان صدورها إلاّ إجمالاً ، وأنّها في الفترة الّتي سبقت حرب صفين ، فأنا أوردها حسب ورودها في كتاب (وقعة صفين) لنصر بن مزاحم المتوفى ٢١٣ هـ فهو أقدم وثيقة تاريخية يمكنني الاعتماد عليها في المقام بعد تصحيح عنوان الأوّل منها لما سيجيء :

١ ـ قال نصر : « وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عامر (؟) والصواب : عباس.

أمّا بعد : فإنّ خير الناس عند الله (عزّ وجلّ) أقومهم لله بالطاعة فيما له وعليه ، وأقولهم بالحقّ ولو كان مراً ، فإن الحقّ به قامت السموات والأرض ، ولتكن سريرتك كعلانيتك ، وليكن حكمك واحداً ، وطريقتك مستقيمة ، فإنّ البصرة مهبط الشيطان ، فلا تفتحن على يد أحد منهم باباً لا نطيق سدّه نحن ولا أنت. والسلام ».

أقول : روى نصر ذلك في كتابه (٢) باسم (عبد الله بن عامر) وذلك من غلط النسخة إمّا من سهو الرواة أو غلط النساخ ، لأنّ الإمام لم يولّ عبد الله بن عامر على البصرة يوماً ما ، والصواب : إلى عبد الله بن عباس.

٢ ـ قال نصر : « وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس.

____________

(١) وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري ط الاُولى بالقاهرة سنة ١٣٦٥ هـ.

(٢) نفس المصدر / ١١٩ ، وط حجرية بايران / ٥٧ سنة ١٣٠٠.

٤٢

أمّا بعد : فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم ، فاقسمه على من قبلك حتى تغنيهم ، وابعث إلينا بما فضل نقسمه فيمن قبلنا والسلام » (١).

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : « وكان العمال يحملون المال من كور البصرة إلى ابن عباس فيكون هو الّذي يبعث به إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) » (٢).

٣ ـ قال نصر : « وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس أمّا بعد : فإنّ الإنسان قد يسرّه ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوتُ ما لم يكن ليدركه وإن جهد ، فليكن سرورك فيما قدّمت من حكم أو منطق أو سيرة ، وليكن أسفك على ما فرّطت لله فيه من ذلك ، ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزناً ، وما أصابك فيها فلا تبغ به سروراً ، وليكن همّك فيما بعد الموت. والسلام » (٣).

أقول : لقد روى الشريف الرضي (رحمه الله) هذا الكتاب مرّتين في نهج البلاغة.

الأولى : قال الشريف الرضي : « ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن العباس وكان ابن عباس يقول : ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله كانتفاعي بهذا الكلام.

أمّا بعد : فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فَرَحاً ، وما فاتك فلا تأسَ عليه جزعاً ، وليكن همّك فيما بعد الموت » (٤).

____________

(١) نفس المصدر.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٢٧٠ ط مصر الاُولى.

(٣) وقعة صفين / ١١٩ ط ١ بمصر بتحقيق هارون.

(٤) شرح النهج البلاغة لمحمد عبده٣ / ٢٣ ط الاستقامة.

٤٣

الثانية : قال الشريف الرضي : « ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن العباس ، وقد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية : أمّا بعد : فإنّ المرء ليفرح بالشيء الّذي لم يكن ليفوته ويحزن على الشيء الّذي لم يكن ليصيبه ، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حقّ ، وليكن سرورك بما قدّمت ، وأسفك على ما خلّفت ، وهمّك فيما بعد الموت » (١).

ورواه غير الشريف الرضي مَن كان قبله ، ومَن كان بعده بتفاوت يوحي بتعدد الروايات عند أصحاب المصادر ، ولما كان جوّ الكتاب وفحوى الخطاب يوحي بوقوع حَدَث استوجب حزن ابن عباس ، فكان الكتاب تسلية له عمّا فاته ، وموعظة له في شأن تقلّبات الحياة بأنّ عظة الإنسان واعتباره فيما بعد الموت. وفي بعض مصادر الكتاب ما يؤكد ذلك.

فاليعقوبي في تاريخه ذكر سبب ذلك فقال : « وكتب أبو الأسود الدؤلي ـ وكان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة ـ إلى عليّ (عليه السلام) يعلمه أن عبد الله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم ، فكتب إليه يأمره بردّها فامتنع ، فكتب يقسم له بالله لتردّنها ، فلمّا ردّها عبد الله بن عباس أو ردّ أكثرها كتب إليه عليّ (عليه السلام) : أمّا بعد فان المرء يسرّه ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً ، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً ، واجعل همك لما بعد الموت والسلام. فكان ابن عباس يقول : ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أمير المؤمنين » (٢).

____________

(١) نفس المصدر ٣ / ١٣٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٨١ ط النجف.

٤٤

وورد في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ما يؤكد صدور ذلك الكتاب في جوّ مماثل لما رواه اليعقوبي (١).

ولمّا كان الأمر يتعلق بمسألة أخذه من بيت مال البصرة من دون إذن الإمام ، وهي إحدى الطعون الموجّهة إليه ، وكانت محل النقض والإبرام بين الأعلام ، فالكلام في بحثها يأتي محققاً في الحلقة الرابعة (عبد الله بن عباس في الميزان) ضمن مسائل الطعون الأخرى ، ونكتفي في المقام بذكر مصادر هذا الكتاب إجمالاً على اختلاف رواية أصحابها ويأتي التفصيل في محله إن شاء الله وهي :

١ ـ أدب الدنيا والدين للماوردي / ٦٤.

٢ ـ إعجاز القرآن للباقلاني١ / ١٢١ ط السلفية سنة ١٣٤٩ هـ.

٣ ـ أمالي القالي٢ / ٩٤.

٤ ـ بحار الأنوار ٨ / ٤٧٥ ط الكمپاني.

٥ ـ البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي / ٣٥٣.

٦ ـ تاريخ دمشق لابن عساكر (ترجمة الإمام) ٣ / ٢٢٠.

٧ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٨١ ط النجف.

٨ ـ تحف العقول / ١٩٧ ط كتابفروشي اسلامية.

٩ ـ تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي / ١٦٠.

١٠ ـ الحكمة الخالدة لابن مسكويه / ١٧٩.

١١ ـ دستور معالم الحكم للقضاعي / ٩٦.

____________

(١) تذكرة الخواص / ١٦٠ ط حجرية سنة ١٢٨٥.

٤٥

١٢ ـ روضة الكافي شرح ملا صالح المازندراني برقم ٣٢٧. ١٢ / ٣١٠.

١٣ ـ الرياض النضرة للمحب الطبري ٢ / ٢٢٢.

١٤ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٤٣٠ و ٤ / ٢٢٢.

١٥ ـ شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٥ / ٢١٥.

١٦ ـ شرح نهج البلاغة للخوئي ١٨ / ٣٤٤.

١٧ ـ شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده ٣ / ٢٣ و ١٣٩.

١٨ ـ الطراز في دلائل الاعجاز للسيد الزيدي ٢ / ٣٧٠.

١٩ ـ العقد الفريد لابن عبد ربه ٣ / ١٤٢ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

٢٠ ـ عين الادب والسياسة لابن هذيل / ٢١٠.

٢١ ـ قوت القلوب لأبي طالب المكي ١ / ١٥٨.

٢٢ ـ الكشكول للبهائي ٢٨٤ ط نجم الدولة.

٢٣ ـ المثل السائر لابن الأثير ١ / ١٠٤ ط سنة ١٣٥٤ وألحق في آخره : « ولا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة بطول الأمل وكأن قد والسلام ».

٢٤ ـ مجالس ثعلب / ١٨٦.

٢٥ ـ محاضرات الراغب ٢ / ١٧٣.

٢٦ ـ مرآة العقول للمجلسي ٤ / ٣٥٤ ط الحجرية.

٢٧ ـ مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي / ٥٥ ط حجرية في أوّل النوع الرابع في الحكم والأمثال.

٢٨ ـ مناقب الخوارزمي / ٢٧٠ ط النجف.

٢٩ ـ الوافي للفيض الكاشاني ١٤ / ٦٣.

٤٦

٣٠ ـ وقعة صفين / ١١٩ ط الأولى بالقاهرة سنة ١٣٦٥ هـ.

٣١ ـ كتاب الكتّاب وصفة الدواة والقلم وتعريفها تصنيف أبي القاسم عبد الله عبد العزيز مؤدب المهتدي بن الواثق العباس ، سنة ٢١٨ هـ المتوفى سنة ٢٥٦ هـ (مجلة المورد العدد الثاني المجلد الثاني / ٦١ ط بغداد).

فهذه أكثر من ثلاثين مصدراً للكتاب وهو وثيقة مهمة تنفي حديث الخيانة جملة وتفصيلاً ، وتبدد كثيراً من الشكوك والأوهام. كما سيأتي تفصيل ذلك في الحلقة الرابعة إن شاء الله.

ونعود إلى ذكر كتب الإمام إلى ابن عباس وهو على ولاية البصرة فمن ذلك :

٤ ـ ما رواه الحسن بن شعبة ـ من أعلام القرن الرابع الهجري ـ في كتابه تحف العقول قال : « وكتب إلى عبد الله بن العباس : أمّا بعد فاطلب ما يعنيك ، واترك ما لا يعنيك ، فإنّ في ترك ما لا يعنيك درك ما يعنيك ، وإنّما تقدم على ما أسلفت لا على ما خلّفت ، وابن ما تَلقاه على ما تُلقّاه والسلام » (١).

٥ ـ ومن كتبه (عليه السلام) إلى ابن عباس ما ذكره الشريف الرضي في نهج البلاغة قال : « ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن العباس : أمّا بعد : فانّك لست بسابق أجلَك ، ولا مرزوق ما ليس لك ، واعلم بأن الدهر يومان : يوم لك ويوم عليك ، وأن الدنيا دار دول ، فما كان منها لك أتاك على ضعفك ، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك » (٢).

____________

(١) تحف العقول ، قصار المعاني رقم ١٢٢ / ٢٠٩.

(٢) نهج البلاغة المختار / ٧٢.

٤٧

٦ ـ ومن كتبه (عليه السلام) إليه ما رواه الحافظ السروي في مناقب آل أبي طالب : « وكتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابن عباس : أمّا بعد ، فلا يكن حظك في ولايتك مالاً تستفيده ، ولا غيظاً تشفيه ، ولكن إماتة باطل وإحياء حقّ » (١).

ولنقف نحن عند هذا الكتاب ولنستعرض الشواهد في سيرة ابن عباس أيام ولايته فكم أمات باطلاً وأحيى حقاً.

فمن ذلك ما رواه أبو عبيد في كتاب الأموال عن الحسن البصري ، قال : « جاء رجل إلى ابن عباس فقال أتقبّل منك الأبلّة بمائة ألف ، قال : فضربه ابن عباس مائة وصلبه حياً » (٢).

فكان هذا منه بعضاً من إماتة الباطل الّتي أمره الإمام (عليه السلام) بأخذها حظاً من ولايته. فإنّ ابن عباس لمّا كان يقول : « القبالات حرام » (٣)؟ فأي طلب يتقدم به إليه إنسان يعتبره مخالفة شرعية لابدّ من تأديبه بما يقتضيه نظره ، ولمّا كانت العقوبة التأديبية شديدة فلابدّ أن تكون الجناية كبيرة ، ولا نعرف عظم الجناية إلاّ إذا عرفنا ما هي الأبلّة.

يقول ياقوت في معجم البلدان : « الأبلّة بلدة على شاطيء دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الّذي يدخل إلى مدينة البصرة وهي أقدم من البصرة ، لأنّ البصرة مصّرت أيام عمر ، وكانت الأبلّة حينئذٍ مدينة فيها مسالح من قبل كسرى وقائد.

____________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٧٠ ط الحيدرية.

(٢) كتاب الأموال / ٩٩ ط الكليات الأزهرية تح ـ محمّد خليل هراس سنة ١٣٨٨ هـ.

(٣) نفس المصدر / ١٠٠.

٤٨

وكان خالد بن صفوان يقول : ما رأيت أرضاً مثل الأبلّة مسافةً ، ولا أغذى نطفة ، ولا أوطأ مطية ، ولا أربح لتاجر ، ولا أخفى لعائذ » (١).

وقال الأصمعي : « جنان الدنيا ثلاث : غوطة دمشق ونهر بلخ ، ونهر الأبلّة ، وحشوش الدنيا خمسة : الأبلّة ، وسيراف ، وعُمان ، وأردبيل ، وهيت » (٢).

فإذا عرفنا أنّ الأبلة بما تقدم من وصفها وعرفنا أنّها تابعة في شؤونها الإدارية لحكومة البصرة ، ولمّا كان ابن عباس هو أمير البصرة ، وهو يرى حرمة القبالات كما مرّ ، فربّما اعتبر هذا الطلب تحدياً لأمر الشريعة بحرمة القبالات ، لذلك عاقبه ليكون عبرة لغيره فلا يجرأ على مخالفة أحكام الشرع.

ومن ذلك ما سنقرؤه في التوجيه العلمي والديني من شواهد على إحياء حق وإماتة باطل.

ومن ذلك ما سوف نقرؤه أيضاً في السلوك الشخصي بعض ما استفاده في ولايته من إماتة باطل وإحياء حقّ.

أمّا عن موظفي إدارته في البلاد. فقد استكتب زياد بن أبيه فترة ثمّ أرسله الإمام إلى فارس. فكان كاتبه أبو الاسود الدؤلي ـ كما ذكر ذلك أبو الفرج الاصفهاني ـ كما أنّه لمّا أراد الخروج إلى صفين استخلف أبا الأسود على الصلاة وزياداً على الخراج (٣).

____________

(١) معجم البلدان ١ / ٧٧ دار صادر.

(٢) باقتضاب من معجم البلدان.

ومن الطريف تعليق محقق كتاب الأموال ـ محمّد خليل هراس ـ على كلمة الأبّلة فقال : لعلها ضيعة لابن عباس كانت على النهر المسمى بهذا الاسم. وهذا منتهى الغفلة منه ، والصواب ما ذكرناه أعلاه.

(٣) انظر أنساب الاشراف (ترجمة الإمام).

٤٩

والاستخلاف يعني القيام بجميع وظائف المستخلِف إلاّ ما استثناه هو ، كما أنّ الاستكتاب هو الاستيزار. ووظيفة الكاتب أنّه صاحب تدبير الأمور والنائب عنه في أموره عند غيابه.

واستقضى لفترة أبا الاسود ثمّ الضحاك بن عبد الله الهلالي (١). وفي رواية : عبد الرحمن بن يزيد (٢).

ثمّ لم تخل فترة حياته في البصرة من افتراء وتلبيس شأنها شأن غيرها من بقية أيام عمره ، وأهمّ ما كان من تلك الشوائب المفتراة هو حديث خيانة بيت مال البصرة ، وقد استوفينا في الحديث عنه جميع ملابسات القضية في الحلقة الرابعة كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وثمة ثآليل طفحت على السطح في تلك الفترة ، ليس لها من سند مقبول ، فضلاً عن تناقض متنها لسلوك ابن عباس العملي في البصرة وغيرها.

وإلى القارئ ما وقفت عليه فعلاً في كتاب (تاريخ المدينة) لبصري عاش في القرن الثالث وذلك هو عمر بن شبّة المتوفى سنة ٢٦٢ هـ ..

فقد قال : « حدّثنا محمّد بن عباد بن عباد قال حدّثنا بعض أصحابنا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : انّ ابن عباس (رضي الله عنه) خطب بالبصرة فذكر عثمان بن عفان (رضي الله عنه) فعظّم أمره وقال : « لو أنّ الناس لم يطلبوا بدمه لأمطر الله عليهم حجارة من السماء (٣) » (٤).

____________

(١) أنظر أخبار القضاة لوكيع / ٢٨١ ، ٢٨٤ فما بعد.

(٢) نفس المصدر / ٢٨٨.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي / ٦٣ ، وأنساب الأشراف ٥ / ١٠١ والرياض النضرة ٢ / ١٣٥.

(٤) تاريخ المدينة / ١٢٥٤.

٥٠

ويكفي في سقوطه جهالة بعض أصحابه ، ولو سلم سنداً ففي المتن ما يكفي في تكذيبه فان ابن عباس ممّن قاتل الذين طالبوا بدم عثمان فلماذا قاتلهم إذن؟.

وقال أيضاً : « حدّثنا موسى بن إسماعيل قال حدّثنا الصعق ابن حزن قال سمعت قتادة يقول حدّثنا زهدم الجرمي قال قال ابن عباس (رضي الله عنه) لأحدثنكم حديثاً ما هو بسرّ ولا علانية ، أمّا أنا فلا أسرّ ، دونكم وأمّا أنتم فلا أحب أن تعلنوه ، لمّا قتل عثمان (رضي الله عنه) قلت لعليّ (رضي الله عنه) اعتزل هذا الأمر قال : ألاقي استقداماً فيه ، وأيم الله ليظهرّن عليه معاوية تصديق قول الله ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) (١) وأيم الله لتحملنكم قريش على فارس والروم ، فإن تكونوا قوماً تكفرون وإلاّ تهلكوا وتكونوا كقرن من القرون هلك » (٢).

وحسبك في كذب الخبر أوّلاً : أنّ ابن عباس لم يكن حاضراً بالمدينة لمّا قتل عثمان بل كان أمير الموسم يقيم الحج للناس. وثانياً : لم يكن معاوية وليّ دم عثمان ، وإنّما أولياء دمه هم بنوه. فهل يجهل ذلك ابن عباس وإذا كان يرى أنّ معاوية ولي دم عثمان فلماذا حاربه في صفين؟

وقال أيضاً : « حدّثنا موسى بن إسماعيل قال حدّثنا حماد بن زيد عن أبي التيّاج عن غالب عن زهدم قال قال ابن عباس (رضي الله عنه) ، لأحدثنكم حديثاً ما أدري أحديث سر هو أم حديث علانية ، إنّي قلت لعليّ (رضي الله عنه) لمّا قتل عثمان (رضي الله عنه) : اركب رواحلك فالحق بمكة ، فان الناس سيتبعونك ولا يجدون منك بُدّاً ، فعصاني ، وأيم الله

____________

(١) الاسراء / ٣٣.

(٢) تاريخ المدينة / ١٢٥٥ ، وانظر مختصراً في العقد الفريد ٤ / ٢٩١.

٥١

ليظهرن عليه معاوية ، لأنّ الله قضى من قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ، ثمّ لتملكنكم قريش ولتركبّن بكم دبّة فارس والروم فمن أخذ بما يعرفُ نجا ، ومن ترك ـ وأنتم تاركون ـ كان كقرن من القرون هلك. قال فقلت لابن عباس (رضي الله عنه) ... (١) » (٢).

فهذا الخبر رواه زهدم أيضاً كسابقه وبالمقارنة نجد التفاوت بينهما. والجواب عنه كما تقدم في سابقه وبعده حديث سقط السند وشيئاً من أوّل المتن ، وهو مشابه لما مرّ أيضاً.

فهذه هي الأخبار الّتي شبّهتها بالثآليل الطافحة ، وقد بيّنت للقارئ ما في أسانيدها ومتونها من عيوبها ما يسقطها عن الاعتبار.

ولعمر بن شبّة كتاب (أخبار البصرة) أورد فيه قصة الجمل مطوّلة ، فلخّص منه ابن حجر (٣) واقتصر على ما أورده بسند صحيح أو حسن ، وترك ما عداه ممّا بيّنه. كما قال ذلك ، ولو قدّر لي أن أقف بعد هذا على كتاب أخبار البصرة فسأذكر ما أجده فيه ممّا يتعلق بابن عباس سلباً وايجاباً.

٧ ـ قال ابن خلدون في تاريخه : « وأوّل من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس ، دعا لعليّ (رضي الله عنهما) في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها فقال : اللّهمّ انصر عليّاً على الحقّ » (٤).

واتصل العمل على ذلك فيما بعد.

____________

(١) بياض لا يدري مقداره.

(٢) تاريخ المدينة / ١٢٥٥.

(٣) انظر فتح الباري ١٦ / ١٦٤ ط مصطفى محمّد.

(٤) تاريخ ابن خلدون ١ / ٤٧٧ ط دار الكتاب اللبناني سنة ١٩٥٦.

٥٢

وقد ذكر ذلك قبل ابن خلدون أبو نعيم (١).

وحسبنا الآن بما مرّ معرفة جانباً من نشاطه الإداري والسياسي ، وسيتبع هذا نماذج أخرى فيما يأتي عند الحديث عن حرب صفين وما تلاها ، وفتنة ابن الحضرمي وما أبلاها ، وخروج الخريت بن راشد ثمّ فتنة مصقلة بن هبيرة ، وحرب النهروان ، وما أتى بعدها حتى استشهاد الإمام (عليه السلام) وبعده حتى صلح الإمام الحسن (عليه السلام).

٢ ـ التوجيه العلمي والديني :

لقد سبق ابن عباس في ولايته البصرة مَن تقدمه من الولاة في تثقيف أهلها سبقاً بعيداً ، فإنّ الذين كانوا قبله وتعاقبوا على الولاية تفاوتت مداركهم لاستيعاب أحكام الإسلام ، كما تباينت مسالكهم في إدارة البلاد ، ولم يواجهوا ما واجهه ابن عباس من مشاكل اجتماعية أبعدت ، وبالاصح شغلت الكثير من الناس عن تعلمهم الأحكام الشرعية ، مضافاً إلى مخلّفات حرب الجمل الفكرية ، حيث نشأت مسائل لم يكن المجتمع الإسلامي على هدى منها ، ومنها مسألة قتال المسلمين بعضهم بعضاً وهم جميعاً من أهل القبلة ، ولمّا كان قتل المسلم من الكبائر فهل أنّ مرتكب الكبيرة يُعدّ كافراً أم يظل مسلماً؟ وهذا سؤال ضخم واجه العالم الإسلامي فأنبت الفكرة الّتي صارت ركيزة لما بنت عليها المعتزلة من رأي تجاذبته أصحاب الفرق الكلامية بين الدين والسياسة ، والأخذ والردّ.

____________

(١) كما في ذكر أخبار اصبهان ٢ / ٢٢٩ ط افست / ليدن.

٥٣

كما أنّ من مخلفات الحرب الفكرية الّتي واجهت المسلمين يومئذ في عقائدهم مسألة القضاء والقدر الّتي طرحتها عائشة كعذر مبرّر لخروجها (١).

وانصاع لهذه المسألة غير واحد من البصريين ، واستمر الخلاف حولها بعد ذلك حتى انفصل واصل بن عطاء عن الحسن البصري وانضم إلى واصل عمرو ابن عبيد ، وعلى ذلك انبثقت الفرق النظامية والهذيلية والحائطية والجاحظية وكلّها فرق بصرية المنشأ بغدادية الثمر حتى قال أحمد : « إنّ ثلث أهل البصرة قدرية » (٢).

فهذه المخلّفات شكّلت تركة ثقيلة يصعب على الوالي الجديد تصريفها ومعالجتها من دون وعي وحزم مع صبر وأناة ، مضافاً إلى التعقيدات الفكرية الّتي كان أصحاب الديانات الأخر كاليهود والنصارى ممّن كانوا في البصرة يلقونها في أذهان المسلمين فيشوّشوا أفكارهم ، وقد ورد اسم أبي الجلد ممّن كان يقرأ التوراة والقرآن ، وذكروا له لقاءات مع ابن عباس ، وسيأتي مزيد بيان عنه في الحلقة الثالثة من الموسوعة ان شاء الله تعالى ، فكل تلك التراكمات والتداعيات تستدعي من ابن عباس أن يبذل جهداً مضاعفاً لهداية الناس وتوجيههم نحو السبيل الأمثل والطريق الأقوم ، وقد فعل ذلك بكلّ حنكة ودربة ، وتحمّل من العناء جهداً كبيراً.

ولابدّ لنا من المرور ببعض الشواهد الدالة على التخلف الديني عند بعض شرائح المجتمع البصري ـ يومئذ ـ ولنأخذ بعض المسائل العبادية مثلاً

____________

(١) كما مرّ في جوابها لابن عباس فراجع محاوراتها برواية البدء والتاريخ للمقدسي.

(٢) تهذيب التهذيب لابن حجر ٨ / ١١٤.

٥٤

وجهلهم بالحكم الشرعي فيها مع أنّها من المسائل الّتي يعمّ الإبتلاء بها عند الفرد المسلم :

١ ـ فمثلاً في الصلاة كانوا ـ أولئك ـ يجهلون جواز الجمع بين الصلاتين.

فقد أخرج الطبراني في معجمه بسنده عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : « خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غابت الشمس وبدت النجوم ، وعلق الناس (١) ينادونه الصلاة ، وفي القوم رجل من بني تميم ينادي ، فقال ابن عباس : تعلّمني السنّة لا أم لك ، إنّي شهدت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جمع بين العصر والظهر ، والمغرب والعشاء. فلقيت أبا هريرة فوافقه » (٢).

أقول : وهذا أخرجه أحمد في مسنده وفيه : « قال عبد الله : فوجدت في نفسي من ذلك شيئاً فلقيت أبا هريرة فسألته فوافقه » (٣) ، ورواه أحمد ثانية في كتابه (٤) وصححهما معاً أحمد شاكر ، وروى الحديث أيضاً مسلم في صحيحه (٥).

ولا يخفى على القارئ أنّ عبد الله بن شقيق هذا كان عثمانياً ترجمه ابن حجر في تهذيبه وحكى فيه بأنّه كان عثمانياً يبغض عليّاً ويحمل عليه (٦) ، فلا غرابة منه لو ارتاب في نفسه المريضة من حديث ابن عباس وان كان هو حبر الأمة وترجمان القرآن ، وراح يستثبت حديثه من أبي هريرة ، لكن الغرابة حين

____________

(١) علق الناس أي طفقوا.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ١٢ / ١٦٢ ط ٢.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٧٠ برقم ٢٢٦٩.

(٤) نفس المصدر ٥ / ١٠٠ برقم ٣٢٩٣.

(٥) صحيح مسلم ١ / ١٩٧.

(٦) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٥٤.

٥٥

نقرأ في ترجمته قول ابن معين فيه : « من خيار المسلمين لا يطعن في حديثه » (١) ، وقول الجريري فيه : « كان مجاب الدعوة كانت تمرّ به السحابة فيقول : اللّهمّ لا تجوز كذا وكذا حتى تمطر ، فلا تجوز ذلك الموضع » (٢)؟ إذا كان مثل هذا من خيار المسلمين وهو يبغض عليّاً ويحمل عليه ، فما بالك بشرارهم! نعوذ بالله من شرّ هكذا أخيار ، كما نستيعذ به من شرّ الأشرار.

اللّهمّ احفظ عقول أمة محمّد من هذا التخبط والتخليط ، فرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لعليّ (عليه السلام) : (لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق) (٣) ، وابن معين يقول : هو من خيار المسلمين!! ( إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) (٤) ، فقد أخرج ابن عساكر بسنده عن محمّد بن منصور الطوسي قال : « سمعت أحمد بن حنبل وقد سأله رجل عن قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (عليّ قسيم النار) فقال : هذا حديث يضطرب طريقه عن الأعمش ، ولكن الحديث الّذي ليس عليه لبس قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (يا عليّ لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق) وقال الله (عزّ وجلّ) : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ) (٥) فمن أبغض عليّاً فهو في الدرك الأسفل من النار » (٦).

____________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) راجع كتاب (علي إمام البررة ١ / ٩٣ ط دار الهادي).

(٤) سورة المدثر / ٣٥.

(٥) النساء / ١٤٥.

(٦) تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام ٢ / ٢٥٣ ، وهذا أخرجه أيضاً الكنجي الشافعي في كفاية الطالب / ٧٢ ط الحيدرية سنة ١٣٩٠ هـ كما ذكره ابن أبي يعلى الحنبلي في طبقات الحنابلة ١ / ٣٢٠.

٥٦

٢ ـ وفي الزكاة كانوا يجهلون زكاة الفطر.

فقد أخرج أبو داود (١) والنسائي (٢) وأحمد (٣) والدار قطني (٤) والزيلعي واللفظ له عن الحسن عن ابن عباس : « انّه خطب في آخر رمضان على المنبر بالبصرة ، فقال : أخرجوا صدقة صومكم ، فكأن الناس لم يعلموا ، قال : مَن ههنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلّموهم فإنّهم لا يعلمون فرض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الصدقة ، صاعاً من تمر أو شعير ، أو نصف صاع من قمح على كلّ حر أو مملوك ، ذكر أو أنثى صغير أو كبير » (٥).

وفي لفظ أحمد المطول : « فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض ».

لماذا صار الناس ينظر بعضهم إلى بعض؟ لأنّه فاجأهم بحكم شرعي مفروض من الله على لسان نبيّه ، وهم يجهلونه ، ولو كان الولاة قبل ابن عباس قد ذكروه لهم أو عملوا به لمّا استغربوا خطبة ابن عباس في ذلك. (فظن بالولاة شراً ولا تسأل عن الخبر).

٣ ـ وحتى صدقات البقول لم يكن يعطونها حتى أخذها منهم ابن عباس.

روى يحيى بن آدم القرشي في كتابه الخراج بسنده عن أبي رجاء العطاردي قال : « كان ابن عباس بالبصرة يأخذ صدقاتها حتى دساتج الكرّاث » (٦).

____________

(١) سنن أبي داود ٢ / ١١٤ بتحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد باب من روى نصف صاع من قمح.

(٢) سنن النسائي في باب الحنطة وفي الجمعة في باب حث الإمام على الصدقة في الخطبة.

(٣) مسند أحمد برقم ٢٠١٨ مختصر ٣٢٩١ مطولة بتحقيق أحمد محمّد شاكر ط مكتبة التراث الإسلامي.

(٤) سنن الدارقطني / ٢٢٥.

(٥) نصب الراية ٢ / ٤١٨ ط الأولى ١٣٥٧.

(٦) الخراج لأبي يوسف / ١٤٤ط السلفية.

٥٧

٤ ـ وفيما يخرج من البحر من حلية وعنبر ففيه الخمس.

وذلك فيما رواه طاووس عن ابن عباس : « أنّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) استعمل يعلى بن أمية على البحر فكتب إليه في عنبرة وجدها رجل على الساحل يسأله عنها وعمّا فيها فكتب إليه عمر : أنّه سيب من سيب ، فيها وفيما أخرج الله جل ثناؤه من البحر الخمس. قال : وقال عبد الله بن عباس : وذلك رأيي » (١). والبصرة يحدّها البحر من جهة الشرق.

٥ ـ وفي التعريف خارج عرفة لا يعلمون جواز ذلك لولا ما أعلمهم به ابن عباس عملياً.

فقد أخرج ابن سعد في ترجمة ابن عباس : « انّ الحكم بن أيوب المرسل إلى الحسن ـ البصري ـ يسأله : من أوّل من جمع بالناس في هذا المسجد يوم عرفة؟

فقال : أوّل من جمع ابن عباس قال : وكان مثجّة ـ أحسب في الحديث ـ يثير العلم.

قال : وكان يصعد المنبر فيقرأ سورة البقرة فيفسّرها آية آية » (٢).

وهذا رواه عبد الرزاق في المصنف (٣) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٤) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (٥).

____________

(١) نفس المصدر / ٧٠.

(٢) طبقات ابن سعد / ١٥٧ تح ـ السُلمي ط الطائف.

(٣) المصنف ٤ / ٣٧٦.

(٤) السنن الكبرى ٥ / ١١٨.

(٥) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٥.

٥٨

وفي رواية الجاحظ في البيان والتبيين : « وقال الحسن : كان عبد الله بن عباس أوّل من عرّف بالبصرة ، صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران ففسّرهما حرفاً حرفاً ، وكان والله مثجّاً يسيل غَرباً » (١). والخبر في لسان العرب (ثجج ، غِرب).

ومن الغريب تفسير عبد السلام محمّد هارون لكلمة (أوّل من عرّفَ بالبصرة) فقال : « كذا ضبطت هذه الكلمة في ل ، ب. والتعريف هنا بمعنى التعليم » (٢) ، ولم يتنبّه إلى معنى التعريف في الخبر وأنّ المراد به جمع الناس في يوم عرفة كما مرّ في تفسير الحسن البصري حسب رواية طبقات ابن سعد.

٦ ـ وفي مسألة إحرام من أرسل الهدي إلى الحرم وواعد بتقليد الهدي.

فقد روى مالك في الموطأ بسنده عن ربيعة بن عبد الله بن الهُدير : « أنّه رأى رجلاً متجرّداً بالعراق فسأل الناس عنه فقالوا : انّه أمر بهديه أن يُقلّد فلذلك تجرّد ، قال ربيعة : فلقيت عبد الله بن الزبير فذكرت له ذلك فقال : بدعة وربّ الكعبة » (٣).

وهذا الخبر بما أحاطه من الضبابية على جهالة اسم المتجرّد ولعل مالكاً لم يذكره رعاية للعباسيين الذين أحاطوه بإفضالهم فكتب لهم الموطأ ، لكن الراوي نمّ على أن ذلك الشخص المتجرّد ممّن له شأن يذكر فسأل عنه ، وفي جواب ابن الزبير أيضاً ما يدلّ على التعريض به. وإذا بحثنا لمعرفة تلك الشخصية الّتي لفّها

____________

(١) البيان والتبيين ١ / ٣٣١ تح ـ هارون.

(٢) هامش المصدر السابق.

(٣) الموطأ ١ / ٢٤٩.

٥٩

الضباب عند مالك سنجد ابن أبي شيبة في المصنف يفصح عنه حين يذكر نفس الخبر عن ربيعة أنّه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة في زمان عليّ بن أبي طالب متجرّداً على منبر البصرة فسأل الناس عنه ، فقالوا : إنّه أمر بهديه أن يُقلّد فلذلك تجرّد ـ قال ربيعة ـ فلقيتُ ابن الزبير فذكرت ذلك له فقال : بدعة ورب الكعبة (١). قال ابن حجر : « فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك » (٢).

أقول : لقد مرّ الحديث عن هذا في حديث واحد خير شاهد فراجع.

٧ ـ وفي مسألة تحريم تصوير ذوات الأرواح لم يكن المصورون يعلمون الحكم فيه. حتى إذا صار عبد الله بن العباس والياً عليهم وفقّههم ، أتاه من المصوّرين مَن يسأله عن عمله.

فقد روى أحمد في مسنده بسنده عن سعيد بن أبي الحسن ـ وهو أخ الحسن البصري ـ قال : « جاء رجل إلى ابن عباس فقال : يا بن عباس إني رجل أصوّر هذه الصور وأصنع هذه الصور فأفتني فيها؟ قال : أدن مني ، فدنا منه حتى وضع يده على رأسه ، قال : أنبئك بما سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : (كلّ مصوّر في النار يُجعل له بكل صورة صوّرها نفس تعذبه في جهنم) ، فإن كنت لابدّ فاعلاً فاجعل الشجر وما لا نَفسَ له » (٣). وهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه.

وكان يتبع في تهذيب أهل البصرة دينياً مختلف الأساليب التربوية قولاً وعملاً ، فربّما رغّبهم وربّما رهبّهم ، فهو لا يصعد المنبر حتى يؤدي حقّ ذلك

____________

(١) المصنف ٤ق١ / ٨٨ ط باكستان.

(٢) فتح الباري ٤ / ٢٩٤ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨ هـ.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٩٠ برقم ٢٨١١.

٦٠