موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

يُرَد له ، أو أنّه هو ذاته لم يُرِد إقحام نفسه في مغامرة الفتح ، وبالتالي توسيع آفاقه ، بينما كان معاوية قد وجد نفسه طيلة / ٢٠ سنة مشاركاً في تنظيم الامبراطورية وإدارتها ... » (١).

ومنهم الشيخ العلائلي ، في كتابه القيم سموّ المعنى في سموّ الذات ، وقد بحث (أسباب فشل سياسة عليّ (عليه السلام) ونجاح السياسة المعادية) كما عنون ذلك ، فقال : « والحقّ أنا إذا درسنا سياسة عليّ (عليه السلام) وسياسة معاوية ، على مناهج علوم النفس والسياسة والاجتماع والقانون ، رأينا عمق سياسة عليّ ونفوذها ورجاحة خططه ، ونرى أيضاً كيف يبني ويهدم تبعاً لنظر دقيق وتفكير موفّق ، وانما جاء فشلها من نواح :

(١) انّ التربية الدينية لم تشمل العرب على وجه صحيح ، ولم يعن الخلفاء بنشرها على الطريقة الوجدانية الّتي اختمرت في نفس أبي ذر (رضي الله عنه) فقام ينشرها مجتهداً ... ثمّ ذكر أسباب ذلك التخلف في الشعور الديني عند العرب ثمّ قال : إذاً فقد كان أخذ عليّ (عليه السلام) لهؤلاء بالسياسة الدينية الصارمة وهم على غير استعداد لها سبباً من أسباب الفشل.

(٢) سياسة عليّ (عليه السلام) القانونية ، فقد كان يلتمس لكل اجراآته وجوهاً من القانون أي دينية ، ويجتهد في ايضاحها قبل أن يقوم بحركة ما ، ولا شك في أنّ طبيعة القانون غير طبيعة الظروف المفاجآت هذا سبب ثان للفشل ، بينما كانت

____________

(١) الفتنة / ١٨٦ ، جدليّة الدين والسياسة في الإسلام المبكر ـ ترجمة خليل أحمد خليل استإذ المعرفة والفلسفة ـ الجامعة اللبنانية بمراجعة المؤلف. ط دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ط الثالثة سنة ١٩٩٥.

٣٢١

سياسة معاوية لا تتقيد بحدود ولا بأوضاع ، وإنّما تركب كلّ صعب وذلول في سبيل أغراضها ، وكذلك كانت سياسة مستشاره عمرو ...

هذا ميزان نستطيع أن نزن به سياسة عليّ (عليه السلام) ومعاوية ، فقد كان عليّ محافظاً دينياً لا يمكنه أن يحمل الناس إلاّ على قانونه الخاص الّذي يسيطر عليه ، ولا يتحلل من أسره ، ولذلك هو يلتمس لنفسه شواهد من القانون تبرّر عمله ، فإن لم يجدها أحجم إحجام المذعور ، ومن ثمّ لا يعطي أذنه لأي ناصح مهما علم صدقه وصدق رأيه ما دام لا يتفق مع الدين (القانون الّذي يحترمه عليّ (عليه السلام) ويعمل به).

بينما كان معاوية متحللاً من هذا القيد ، فلم تكن سياسته قانونية بل سياسة ظرفية ، ومن ثمّ كانت قمينة بالنجاح وجديرة بأن لا تفشل.

(٣) روح العراق الّتي كانت قَبَليّة في ذلك العهد على شكل وبيل فظيع ، إذ كان يجمع أقواماً من قبائل شتى وجهات مختلفة تقوم في مجموعها على التقليد البدوي القديم الّذي لم يؤثر فيه الإسلام شيئاً ، لأنّه لم يهاجمه في محل العقيدة ومكان الضمير ، وإنّما هاجمه في الأعمال الظاهرة والشكل الصوري فقط ... وبهذا أعلل كلّ الإضطرابات الّتي ثارت في محيط العرب ، وأبرزها إكراه خليفة كعليّ (عليه السلام) لقبول التحكيم وتهديده بأن يفعل به كما فعل بعثمان (رضي الله عنه) ولقد قال عليّ كرّم الله وجهه في كلمة له : (لا رأي لمن لا يطاع) ...

(٤) من القضايا الثابتة أنّ البدوي يؤخذ بالاحتكام والخوف والسيطرة ، وبعث الرعب في نفسه والتظاهر عليه بالقوة ...

هذه أسباب اجتمعت على فشل سياسة عليّ.

٣٢٢

وقال : إنّ المقدرة السياسية لا تقاس بمقدار النجاح بل بمقدار ما تكون مقدماتها التعليلية صحيحة ، لأنّ الفشل كثيراً ما يكون نتيجة مفاجأة لم تكن في الحسبان كما وقع لعليّ (عليه السلام) بالفعل في حركة الخوارج ، ولولاها لكان نجاحها مضموناً أو محتوماً ... » (١).

ومنهم الدكتور طه حسين ، يقول في كتابه علي وبنوه في حديثه عن فرار مصقلة بن هبيرة إلى معاوية : « يظهر الفرق واضحاً بين مذهب عليّ في السياسة الّتي تخلص للدين ، ومذهب معاوية في السياسة الّتي تخلص للدنيا » (٢).

وقال : « وهذه السيرة الّتي سارها عليّ في عمّاله هي نفس السيرة الّتي سارها في الناس ، فلم يكن يُطمع الناس في نفسه ، ولم يكن يوئيسهم منها ، وإنّما كان يدنو منهم أشد الدنوّ ما استقاموا على الطريق وأدّوا الحقّ ، فإن انحرفوا عن الجادة أو التووا ببعض ما يجب عليهم بَعُد عنهم أشدّ البعد ، وأجرى فيهم حكم الله غير مصطنع هوادة أو رفقاً » (٣).

وقال أيضاً : « فقل إذاَ في غير تردّد : انّ أوّل الظروف الّتي كانت تقتضي أن يخفق عليّ في سياسته هو ضعف سلطان الدين على نفوس المحدثين من المسلمين ، وتغلّب سلطان الدنيا على هذه النفوس » (٤).

وقال : « كان عليّ يدبّر خلافة ، وكان معاوية يدبّر ملكاً وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أظلّ » (٥).

____________

(١) سمو المعنى في سمو الذات / ٤٩ مط عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر سنة ١٣٥٨.

(٢) عليّ وبنوه / ١٢٨ ط دار المعارف.

(٣) نفس المصدر / ١٦٦.

(٤) المصدر السابق / ١٧٧.

(٥) نفس المصدر / ١٨١.

٣٢٣

ومنهم الاستاذ عباس محمود العقاد ، يقول في كتابه عبقرية الإمام : « فالسياسة الّتي اتبعها الإمام هي السياسة الّتي كانت مقيّضة له مفتوحة بين يديه ، وهي السياسة الّتي لم يكن له محيد عنها ، ولم يكن له أمل في النجاح إن حاد عنها إلى غيرها ...

ومهما يكن من حكم الناقدين في سياسة الإمام فمن الجَور الشديد أن يُطالب بدفع شيء لا سبيل إلى دفعه ، وأن يحاسب على مصير الخلافة وهي منتهية لا محالة إلى ما انتهت إليه ...

ومن الجور الشديد أن يلقى عليه اللوم لأنّه باء بشهادة الخلافة ولابدّ لها من شهيد.

وقد تجمعت له أعباء النقائض والمفارقات الّتي نشأت من قبله ، ولم يكد يسلم منها خليفة من الخلفاء بعد النبيّ صلوات الله عليه ...

وقد نُقدت سياسة عليّ لفوات الخلافة منه قبل البيعة ، كما نُقدت سياسته لفوات الخلافة منه بعد البيعة ، واحصى عليه بعض المؤرخين أنّه تأخر نيّفاً وعشرين سنة فلم يخلف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يخلف أبا بكر ، ولم يخلف عمر ... كأنّه كان مستطيعاً أن يخلف أحداً منهم بعمل من جهده وسعي من تدبيره ، فأعياه السعي والتدبير ... » (١).

ثمّ ساق العقاد ما براه بمنظوره الخاص من أسباب العوائق الّتي حالت بين الإمام وبين الخلافة قبل وصولها إليه ، فذكر جملة منها ما صح وفيها ما لا يصح ، غير انّه ختم كلامه فقال : « وكلّ سياسة له لم تكن لتحيد به عن الخاتمة

____________

(١) عبقرية الإمام / ٧٧٣ العبقريات الإسلامية.

٣٢٤

المحتومة أقل محيد. وكلّ ما كان من تدبير الحوادث أو من تدبيره فهو على هذا الملتقى الّذي يتلاحق عنده الاسراع والإبطاء ـ إلى أن قال ـ : وتقضي بنا هذه التقديرات جميعاً إلى نتيجة واضحة نلخصها في كلمات وجيزة ونعتقد أنها أعدل الأقوال في وصف تلك السياسة الّتي كثرت مطارح النقد والدفاع.

فسياسة عليّ لم تورّطه في غلطات كان يسهل عليه اجتنابها باتباع سياسة أخرى. وهي كذلك لم تبلغه مآرب مستعصية ، كان يعز عليه بلوغها في موضعه الّذي وضع فيه وعلى مجراه الّذي جرى عليه.

فليست هي علة فشل منتزع ، ولا علة نجاح منتزع ، أو هي لا تستدعي الفشل من حيث لم يخلق ، ولا تستدعي النجاح من حيث لم يسلس له قياد ...

ورأينا في سياسته فهماً وعلماً ، ولكننا لم نر فيها الحيلة العملية الّتي هي إلى الغريزة أقرب منها إلى الذكاء ...

فكان نعم الخليفة ، لو صادف أوان الخلافة ...

وكان نعم الملك لو جاء بعد توطيد المُلك واستغنائه عن المساومة والإسفاف. ولكنه لم يأت في أوان الخلافة ولا في أوان مُلك مُوطّد ، فحمل أعباء النقيضين وأخفق حيث ينبغي أن يخفق أو حيث يعييه أن ينجح ، وتلك آية الشهيد » (١).

وقال العقاد أيضاً : « ثمّ يفترق الناس في رأيه إلى رأيين وإن لم يكونوا من الشانئين المتحزبّين ، فيقول أناس إنّه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة ، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة ، ولا ينتفع بما يراه ، ويقول أناس : بل

____________

(١) نفس المصدر / ٧٧٣.

٣٢٥

هو الاضطرار والتحرّج يقيدانه ولا يقيّدان أعداءه ، وإنّهم لدونه في الفطنة والسداد وهو (رضي الله عنه) قد اعتذر لنفسه بمشابه من هذا العذر حين قال : (والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى العرب) » (١).

ومنهم عبد الوهاب النجار ، قال في كتابه تاريخ الخلفاء : « إننا إذا نظرنا إلى عليّ من جانب الدين وحب الحقّ والزهد في الدنيا والإعراض عن زخارفها وزينتها وجدناه يمشي في صف أبي بكر وعمر لا يتخلف عنهما قيد خطوة.

وإذا نظرنا من جهة الفقه في أحكام الدين والعلم بجزئيات فروع الشريعة وجدناه يسبقهما. أمّا من حيث تدبير الملك وسياسة الرعية ومقاربة العامة ، والتنبّه لدقائق السياسة والأخذ على شكائم القوم والإحاطة بأحوالهم ، فإنّه يتأخر عن الرجلين في هذا المقام. مع سعة درايته وقوة عارضته ، لأنّ الأقوال في السياسة وحسن الملكة والإعراب عن دقائق ذلك شيء ، وإفاضة ذلك على الرعية وبسط النفوذ على الكافة وإخضاعهم للإرادة شيء آخر.

وقد يمر بنا شيء من ذلك ومن تعليل عدم نجاحه في جمع كلمة الأمة. والسرّ في ذلك سوء الأحوال الّتي تولى فيها. وعندي أنّ الوقت لو صفا لعليّ (رضي الله عنه) وواتته المقادير باستتباب الراحة واجتماع الكلمة ، لأذاق الأمة حلاوة العدل ، وحملهم على الجادة وسار بهم في طريق الفتوح ، وبسط نفوذ الإسلام وإعزاز كلمته بما لم يدع مقالاً لقائل ، ولله في خلقه شؤون.

ويكفي من ينظر في أمر عليّ أنّه لم يوجد عنده من المال سوى سبعمائة درهم كان أرصدها لشراء خادم له لم يكن عنده سواها ، وفي رعيته من يملك

____________

(١) نفس المصدر / ٦٩٩ مجموعة العبقريات الإسلامية.

٣٢٦

عشرات الآلاف ومئات الآلاف ، ولم يكن مترفهاً في معيشته ولا متوسعاً كما كان معاوية أو عثمان ، بل كان من طراز أبي بكر وعمر » (١).

أقول : ومهما كانت آراء من سبق من الباحثين متفاوتة في تقييمهم لسياسة الإمام (عليه السلام) ، لكنها متفقة على أنّه (عليه السلام) كان المصيب في عزله ونصبه ، وسلمه وحربه ، متبعاً أمر ربّه ، لذلك لم تكن الخلافة عنده تساوي شسع نعل إلاّ أن يقيم حقاً أو يدفع باطلاً.

وقد قال أحمد بن حنبل ـ إمام الحنابلة ـ : « إنّ عليّاً ما زانته الخلافة ولكن هو زانها ».

وتعقّبه ابن الجوزي بعد أن حكى ذلك عنه بقوله :

مـا زانـه المـلـك إذ حـواه

بـل كـلّ شـيء بـه يـزان

جـرى فـفات الملوك سبقاً

فـلـيـس قُـدّامـه عـنـان

نـالـت يـداه ذُرى مـعـالٍ

يـعجز عن مثلها العيان (٢)

وقد أدرك ذلك في الإمام (عليه السلام) حتى غير المسلمين ، وحسبنا نموذجاً واحداً هو جورج جرداق ، فقد قال : « لقد كان عليّ من المهارة والمقدرة على الدهاء بحيث لم يكن غيره من مهرة العرب ودهاتهم ، وكان من بُعد الغَور وعمق النظر في أمور السياسة والقتال ، ومن سَبر النفوس وإدراك الدخائل ، ومن معرفة النتائج قبل الوصول إليها ، والبصر بأهواء الرجال ومطامعهم وأساليبهم في الحيلة ، بحيث لم يكن معاوية بن أبي سفيان ولا عمرو بن العاص ولا غيرهما من أهل الدهاء

____________

(١) تاريخ الخلفاء / ٤٧٤ ط السلفية بمصر.

(٢) التبصرة ٢ / ٢٤٣ ط عيسى البابي الحلبي سنة ١٣٩٠ تح ـ د. مصطفى عبد الواحد.

٣٢٧

والحيلة. ولكنه كان يزدري الحيلة الملتوية ، ويمقت ما يسميه الناس استغلال الفرصة إذا كان فيه ما يخجل الخُلق. وكان يرفع نفسه عن المكر والكيد ، ولو جاءاه بالنصر ، ويأبى إلاّ الصراحة والصدق ، أو ليس هو القائل بصدد ما شاع في زمانه عن دهاء معاوية ، وقعوده هو عن مثل هذا الدهاء ـ (والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى العرب) ـ.

وقد أشبعنا هذه الناحية درساً مباشراً أو غير مباشراً فما بنا حاجة للعودة إليها الآن ، وإنّما نذكرها بمعرض الحديث عن حادثتي صفين ـ يعني استيلاء الإمام على الماء بعد ان أجلى جند معاوية عنه ثمّ أباحه لهم ، ويعني تمكنّه من قتل عمرو بن العاص ثمّ عفته عنه لأنّه شغر برجله وأبدى عورته ـ لنرى إلى أيّ حد يعجز بعض خصومه وبعض محبيه عن إدراك شخصيته إدراكاً صحيحاً شاملاً ، فإذا بأولئك يتهمّونه بالتقصير في الميدان السياسي ، وإذا بهؤلاء يأسفون لفرصتين لم يستغلهما في الميدان الحربي ، وكلّهم مخطئ بمقياس الشخصية العلوية ، لأنّ مفاهيم السياسة وقواعد الحرب عند الإمام نابعة من معين واحد لا يتجزأ ولا يتقطع ، هو الشخصية العلوية ، أو قل : الروح العلوية الّتي يُصدّق بعضها بعضاً ، وتستند مآتيها الواحد إلى الآخر ، ولا مقياس لديها أجلّ وأعظم من الوجدان السليم والخلق الكريم اللذين يكمنان عنده وراء كلّ قاعدة وكلّ شريعة.

ثمّ إنّ قولاً غير هذا نرى من الخير أن نثبته في هذا المقام. تحدّث إليَّ مرة صديق أديب يُعنى بشؤون الإسلام قال : وكأنه ينزع عن ألسنة سائر القائلين : لن تقنعني بأنّ عليّاً كان خبيراً بأحوال السياسة وأمور الرجال ، وبأنّه كان من الموهبة

٣٢٨

السياسية بحيث تقول فسألته قائلاً : لنفرض أنّ الصدفة لم تسق عبد الرحمن بن ملجم إلى قتل عليّ ، أو لنفرض أنّ الصدفة شاءت أن يكون إلى جانب عليّ صبيحة مقتله رهط من أنصاره فوقوه الضربة الغادرة فنجا ، ثمّ عاد ثانية لتأديب معاوية تنفيذاً لما كان عازماً عليه ، وانتصر على جند الشام في معركة السيف كما كان مرجّحاً أن يكون! أو لنفرض إن حيلة التحكيم في موقعة صفين لم تجز على قسم من جيش عليّ ، فتابعوا القتال وقبضوا على معاوية وعمرو بن العاص ، وانتهى أمر الموقعة كما انتهى أمر موقعة الجمل!

أقول : لنفرض كلّ هذا أو شيئاً من هذا ، وأنّ عليّاً انتصر أخيراً على معاوية كما انتصر على طلحة والزبير ـ وهو إن لم ينتصر فعلى الصدفة والقدر تقع المسؤولية ـ فماذا كنت تقول في سياسة عليّ عند ذاك؟! وأي مطعن في كفاءاته كنت ترى؟!

أما كنت تقول مع القائلين : إنّ عليّاً جمع إلى البلاغة والحكمة وشرف النفس وصفاء الوجدان ، دهاءً فوق دهاء معاوية في السياسة ، وطاقة فوق طاقة عمرو بن العاص في مواجهة الأحداث ومعالجة المعضلات له.

وما يقال في شأن عليّ بهذا الصدد يقال في شأنه يوم أخذ عليه الآخذون عزل معاوية عن الولاية ، وعزل غيره من الولاة الذين شاءت الصدف وأحوال العصر وسياسة عثمان وأوضاع الناس أن تمدهم بأسلحة لا شأن في مقارعتها للخُلق السليم والإدراك العظيم والكفاءة الخالصة. لقد تعوّد الناس وفيهم الدارسون والمؤرخون أن ينساقوا في تيار المألوف من النظر في الأمور والحكم عليها. وفي مقدّمة هذا المألوف أن تقاس كفاءات الرجال في الصراع بمقياس الانتصار والإنكسار ، دونما نظر إلى الأسلوب المتّبع في إدراك النصر ، ودونما

٣٢٩

نظر إلى احتمالات كثيرة يتعلّق بعضها بالأخلاق إذ تنحدر أو تعلو ، ويرتبط بعضها بالصدف والتقادير الّتي لابدّ في دفعها لمنكسر ، ولابدّ في إعدادها وإنزالها منزلة السلاح القادر القاهر لمنتصر أو لذي دهاء.

وعلى كلّ حال فهؤلاء يريدون من عليّ أن يوارب في السياسة ، وأن يستغل الظرف في القتال ويأبى هو ذلك.

إنّهم يريدونه أن يكون معاوية بن أبي سفيان ، وهو عليّ بن أبي طالب؟ ... اهـ. » (١).

وفي هذا التصوير والتقدير الّذي رآه جرداق فقد شاركه في التصوير قبله السيّد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام فقال : « والذين يروون في معاوية دهاء وبراعة لا يرونهما في عليّ ، ويعزون إليهما غلبة معاوية في النهاية إنّما يخطئون في تقدير الظروف ، كما يخطئون فهم عليّ وواجبه ، لقد كان واجب عليّ الأوّل والأخير أن يردّ للتقاليد الإسلامية قوتّها ، وأن يردّ إلى الدين روحه ، وأن يجلو الغاشية الّتي غشت هذا الروح على أيدي أمية في كبرة عثمان ووهنه ، ولو جارى معاوية في إقصاء العنصر الأخلاقي من حسابه لسقطت مهمته ، ولمّا كان لظفره بالخلافة خالصة من قيمة في حياة هذا الدين ، فما جدوى استبدال معاوية بمعاوية!؟ إن عليّاً إما أن يكون عليّاً أو فلتذهب الخلافة عنه ، بل فلتذهب حياته معها ، وهذا هو الفهم الصحيح الّذي لم يغب عنه ـ كرّم الله وجهه ـ وهو يقول : (والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس) ... اهـ » (٢).

____________

(١) الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية (عليّ وعصره) ٤ / ٩٨٧ ط بيروت.

(٢) العدالة الإجتماعية في الإسلام / ١٩٧ ـ ١٩٨ ط ٤ سنة ١٣٧٣ بمصر.

٣٣٠

بداية عهد الخلافة الجديدة :

استقبل ابن عباس عهد الخلافة الجديدة بإيمانه الراسخ بأحقيتها الشرعية ، فعليه أن يستلهم بعبقريته ما يستوحيه منها فيما يجب عليه القيام به أزاء الخلافة الجديدة ، وما يلزمه من العمل في سبيل إرساء دعائمها ، فهو في سنّه الّذي تجاوز بداية الكهولة حتى كان هو أكبر الهاشميين الّذين معه في الكوفة سنّاً ، وهو في علمه أوسعهم ـ بعد الحسنين ـ علماً وفهماً ، وهو في تجاربه أيضاً أكثر تجربة ، فمن جميع ذلك له رصيدٌ يؤهله أن يكون هو صاحب الرأي والكلمة في تلك الساعة.

وهكذا كان ، فقد قال الرواة : لمّا توفي الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وجهزه أولاده وآله ومنهم ابن عباس ، حتى رووا أنّه شارك الحسنين في تغسيله كما في رواية أبي مخنف عند أبي الفرج في المقاتل (١) ، ورواية الهاروني في تيسير المطالب عن الأسود الكندي والأجلح قالا في حديثهما : « وولي غسله ابنه الحسن بن عليّ (عليه السلام) وعبد الله بن العباس » (٢).

وقال الرواة : حمله بنوه وآله إلى مثواه الأخير حيث أمرهم بدفنه فيه في النجف ـ الغري ـ وذلك في جوف الليل الغابر (٣) ، وعادوا إلى الكوفة قبل أن ينبلج عمود الصبح ، فدخلوا دار الإمام ، وما من شك أنّهم تداولوا الحديث حول مواجهة الموقف مع الناس الّذين يترقبون ما يأتيهم من وراء رتاج الباب ، ولابدّ

____________

(١) مقاتل الطالبين / ٤١ تح ـ السيّد أحمد صقر ط مصر سنة ١٣٦٨ هـ.

(٢) تيسير المطالب في أمالي أبي طالب الهاروني المتوفى سنة ٤٥٤ / ٨٥ ط بيروت سنة ١٣٩.

(٣) أنظر الفتوح لابن أعثم ٤ / ١٤٥ ط حيدر آباد.

٣٣١

لمن في الدار من التفكير في كيفية أخذ البيعة للإمام الحسن (عليه السلام) ، من الناس ، وهم هم أنفسهم في الأمس القريب في مواقفهم المتخاذلة مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى ملّهم وتبرّم بهم ومنهم ، ودعا لنفسه وعليهم أن يريحه الله منهم ، فاستجاب له دعاءه.

وما من شك أيضاً أنّ الناس الّذين اجتمعوا في المسجد في حالة انتظار وترقّب ، وهم على وجل ممّا تحمله معها أيامهم المقبلة من عاديات معاوية الّذي يتربص بهم ويتحيّن الفرصة ، وقد وافته ، وبالأمس القريب كانت غاراته تترى على أطراف بلادهم ، مضافاً إلى ما له في الكوفة من أناس ـ ولنسميهم طابوره الخامس ان صح التعبير ـ سوف يستغلون الفراغ الّذي خلّفه غياب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، إذن فلابدّ من سدّ هذا الفراغ بقيام إمام من بعده ، يسدّد شؤونهم ، ويلوذون به في ملمّاتهم ، وإلاّ فسيكونون عرضة للضياع وانتهاش الضِباع.

وبين خضم المداولات في الدار والتكهنات خارج الدار ، تبدّى الصبح لذي عينين ، كما بدت طلعة الكهل الوقور وقد جلّله الحزن ليطالع الناس بموقف إعلام بصيغة استعلام ، واعلان بلغة استفهام ، فمن ذا هو؟ وماذا قال؟

إعلام واستعلام :

كان ذلك الرجل الثاكل الحزين الّذي بدّد سأم التربّص والترقب لدى الناس ، هو عبد الله بن عباس.

ومن هو أولى منه في تلك الساعة الحرجة فهو مع حزنه البالغ المشوب بالحذر من المفاجأة ، عليه أن يلج الرتاج ويفتح المغلق في صدور الناس ، وعليه أن يهيء الجو المكفهرّ بالحزن لاستقبال بيعة جديدة ، وعليه أن يدعو بدون

٣٣٢

ترهيب أو ترغيب ، وعليه أن يخبر ولكنه بلغة المستخبر ، فهو معلن ولكنه بلهجة مستفهم ، لذلك خرج إلى الناس وهم في تطلّع إلى ما يقول ، وهو أيضاً في تطلّع إلى ما في النوايا ، يريد أن يستطلع الآراء ليعرف الخبايا في مدى الإستجابة والاستعداد لقبول البيعة الجديدة ، وذلك قبل أن يعلمهم بالإمام الجديد فقال للناس بصوته الجهوري الموروث : « إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) توفي وقد ترك خَلَفاً ، فإن أحببتم خرج إليكم ، وإن كرهتم فلا أحد على أحد » ، فبكى الناس وقالوا : بل يخرج إلينا.

ولا شك أنّ المقام كان يستدعي أكثر من هذا الكلام ، ويتضح ذلك ممّا جاء في رواية البلاذري : قال : « وخرج عبيد الله (كذا) بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس بعد وفاة عليّ ودفنه فقال : إنّ أمير المؤمنين (رحمه الله) تعالى قد توفي براً تقيا ، عدلاً مرضياً ، أحيى سنة نبيّه وابن عمه وقضى بالحق في أمته وقد ترك خَلَفاً رضيّاً ، مباركاً حليماً ، فإن أحببتم خرج إليكم فبايعتموه ، وإن كرهتم ذلك فليس أحد على أحد. فبكى الناس : وقالوا : يخرج مطاعاً عزيزا » (١).

لغة تنبئك عمّا تكنّه نفس القائل من حنكة ودربة ودهاء ، كما أنّ جواب الناس بلغة البكاء ، تنبئك عمّا تكنّه نفوس السامعين من الحب والولاء ، وما في دخيلتها من عاطفة ورثاء ، ولا يمنع ذلك من وجود مراض النفوس بينهم ممّن يسرّون حسواً في ارتغاء.

والآن نحن أزاء هذا الموقف في حدود ما قرأناه في الخبر فهل نجد تطوراً في المبدأ الثابت لابن عباس والمعلن في مسألة الإمامة والإمام ، فبعد

____________

(١) أنساب الأشراف ٣ / ٢٨ تح ـ المحمودي ط بيروت.

٣٣٣

أن كان هو النص والوصاية من السابق إلى اللاحق ـ كما هو مبدأ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؟ فما باله الآن يقول للناس : إن أحببتم ... وإن كرهتم ... وكأنّه ترك النص والتزم الدعوة إلى الشورى والاختيار؟ وهذا ما كان يرفضه هو وجميع أهل البيت من قبل ، وقد ردّه هو بكلّ قوة منذ أيام الخالفين الّذين ابتدعوه. وفي محاوراته مع عمر في أيامه ما يكفي لإثبات مبدأ النص ورفضه مبدأ الإختيار.

أليس هو الرادّ على عمر قوله : « كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت فأصابت ووُفقت »؟

فرد عليه ابن عباس بقوله : أمّا قولك إنّ قريشاً كرهت فإنّ الله تعالى قال لقوم : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (١) ، وأمّا قولك : إنّا كنا نجحف ، فلو جحفنا بالخلافة جحفنا بالقرابة ، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من أخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذي قال الله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) ، وقال له : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) ، وأمّا قولك : فإنّ قريشاً اختارت فأصابت ووُفقت ، فإنّ الله يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَة ) (٤) ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها ،

____________

(١) محمّد / ٩.

(٢) القلم / ٢.

(٣) الشعراء / ٢١٥.

(٤) القصص / ٦٨.

٣٣٤

واختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ولوُفقّت وأصابت (١).

أليس هذا هو المبدأ الثابت والمعلن من رأي ابن عباس؟ إذن فما الّذي يعنيه بقوله : إن أحببتم ... وإن كرهتم ...؟

إنّه فيما أرى الاستكشاف للخبايا ، والاستعلام للنوايا الّتي انطوت في نفوس ذلك المجتمع المتمزّق المتفرّق ، الّذي يضم أنماطاً شتى ، فمن أقصى اليمين المؤمن المتماسك أمثال حجر بن عدي وعدي بن حاتم وقيس بن سعد بن عبادة وسعيد بن قيس الهمداني وآخرين وقليل ما هم. إلى أقصى اليسار المناوئ كشبث بن ربعي وابن الكواء وبقية الخوارج الّذين ما زالت غدرتهم واضحة ، وما بين أولئك وهؤلاء أنماط منافقون متربصون كالأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله وآخرين أضرابهما ، وسوى هؤلاء من المتخاذلين ممّن لم يتخلّفوا عن وصفهم بما قال الله تعالى : ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون ) (٢) ، وأعطف عليهم عشائر الّذين انتقل ولاؤهم إلى معاوية حين فارقوا الإمام كمصقلة بن هبيرة وأمثاله ، ولم يكن لتخفى على ابن عباس دخائل تلك النفوس المراض الّذين كانوا يكاتبون معاوية سراً في أمورهم واتخذوا عنده الأيادي منذ أيام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

وكيف يخفى عليه ذلك ، وهو بالأمس القريب مقيم بين ظهرانيهم يسمع كلام الإمام يخطب فيهم ويذكر فيه أيام معاوية لهم ومن تلاه من يزيد ومروان

____________

(١) لقد تقدم في الجزء الثاني فراجع.

(٢) البقرة / ١٤.

٣٣٥

وبنيه ، وذكر الحجاج وما يسومهم من العذاب ، فارتفع الضجيج وكثر البكاء والشهيق ، فقام قائم من الناس فقال : يا أمير المؤمنين لقد وصفت أموراً عظيمة الله إنّ ذلك لكائن؟

فقال عليّ : والله إنّ ذلك لكائن ما كذبت ولا كُذبت.

فقال آخرون : متى يكون ذلك يا أمير المؤمنين؟

قال : إذا خضبت هذه من هذه ، ووضع إحدى يديه على لحيته والأخرى على رأسه فأكثر الناس من البكاء ، فقال : لا تبكوا في وقتكم هذا فستبكون بعدي طويلاً.

فكاتب أكثر أهل الكوفة معاوية سراً في أمورهم واتخذوا عنده الأيادي ، فوالله ما مضت إلاّ أيام قلائل حتى كان ذلك (١).

فكلّ أولئك الحضور بدءاً بالمتماسك أو المتمسك بولائه إلى المجاهر بعدائه وما بينهما من تفاوت الدرجات كانت شرائح المجتمع الكوفي الّذي واجهه ابن عباس بخطابه مستعلماً نواياه ، ولمّا بكى الناس علم ابن عباس أنّ ذلك البكاء عاطفة ورثاء ، ومع ذلك فقد استروح من تلك العاطفة روح استجابة ، ولم تخل من بارقة أمل ورجاء ، والأمل دائماً يعمر القلوب المؤمنة بصحة القضية الّتي تؤمن بها وتدعو إليها ، ويشدّ من عزيمتها. لذلك عاد إلى الدار وأخبر الإمام الحسن (عليه السلام) بما قاله للناس وبما قالوه له. فخرج الإمام وعليه ثياب سود ـ كما يقول المدائني في روايته (٢).

____________

(١) أنظر مروج الذهب ٢ / ٤٣٠ ط السعادة تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(٢) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٨ ط الأولى.

٣٣٦

خطبة ودعوة للبيعة :

ذكر الشيخ المفيد وأبو الفرج (١) والأربلي (٢) وغيرهم واللفظ للأول ، قال : « وروى أبو مخنف لوط بن يحيى قال حدثني أشعث بن سوار عن أبي إسحاق السبيعي وغيره قالوا : خطب الحسن بن عليّ (عليه السلام) في صبيحة الليلة الّتي قبض فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ قال : لقد قبض هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه ، ولقد توفي (عليه السلام) في الليلة الّتي عُرج فيها بعيسى بن مريم (عليه السلام) ، وفيها قبض يوشع بن نون وصيّ موسى (عليه السلام) ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله. ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ، ثمّ قال : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني (فأنا الحسن بن محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم » (٣) أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا ابن السراج المنير ، أنا من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، أنا من أهل بيت افترض الله مودتهم في كتابه فقال تعالى : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) (٤) فالحسنة مودّتنا أهل البيت. ثمّ جلس.

____________

(١) مقاتل الطالبيين / ٣٢ ـ ٣٣ ط الحيدرية.

(٢) كشف الغمة ١ / ٥٠٥ ط منشورات مكتبة الرضي بقم.

(٣) كذا في مقاتل الطالبين.

(٤) الشورى / ٢٣.

٣٣٧

فقام عبد الله بن العباس (رحمه الله) بين يديه فقال : معاشر الناس هذا ابن بنت نبيكم ووصيّ إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس وقالوا : ما أحبّه إلينا وأوجب حقه علينا ، وبادروا إلى البيعة له بالخلافة. ثمّ نزل عن المنبر وذلك في يوم الجمعة الواحد والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، فرتّب العمّال ، وأمّر الأمراء ، وأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة » (١).

وقبل الإسترسال في بقية الحديث لابدّ لنا من وقفة تصحيح وتوضيح تفرضها طبيعة البحث والتحقيق في المقام. الأمر الّذي فات بعض الباحثين من المحدثين فلم يتبيّنه ، فجرى مع بعض المصادر من دون أن ينعم النظر في المفارقات الّتي تضمّها تلك المصادر.

وبيان ذلك : إنّه يوجد فيها استبدال الأدوار في مواقف الأخوين عبد الله وعبيد الله ابني العباس بن عبد المطلب ، نتيجة لتشابه الاسمين خطاً ، ممّا أوقع في الوهم خطأ أولئك المحدثين من الباحثين ، ولم يكن ذلك من الرواة بل هو من النسّاخ. وجرى الباحث على ذلك فنسب ما هو لعبد الله إلى أخيه عبيد الله ، وبالعكس أيضاً ، وزاد الأمر إبهاماً أنّهما معاً كانا بالكوفة يومئذ ، ولكلٍ منهما ذكر في خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) وله دور فاعل ، فوقع الإلتباس في :

١ ـ مَن هو من ابني عباس الّذي خرج إلى الناس أوّلاً قبل خروج الإمام الحسن (عليه السلام)؟

____________

(١) الإرشاد / ١٨٨ ط الحيدرية.

٣٣٨

٢ ـ ومَن هو منهما الّذي قام بين يدي الإمام الحسن (عليه السلام) ودعا الناس إلى مبايعته؟

٣ ـ ومَن هو منهما الّذي أنفذه الإمام الحسن (عليه السلام) إلى البصرة؟

٤ ـ ومَن هو منهما الّذي أرسله الإمام الحسن (عليه السلام) قائداً على مقدمة عسكره؟

٥ ـ ومَن هو منهما الّذي كتب إلى الإمام الحسن (عليه السلام) مشيراً عليه في شأن مداراة الناس وما ينبغي له؟

مسائل بعضها آخذ ببعضها الآخر ، وللجواب عليها فلنقرأ ما رواه أشهر المؤرخين الأوائل في هذا المقام وهو : أبو مخنف الّذي اعتمد روايته في المقام كلٌّ من البلاذري ٢٧٩ هـ ، وأبو الفرج الاصفهاني ٣٥٦ هـ ، والشيخ المفيد ٤١٣ هـ ، وابن أبي الحديد ٦٥٥ هـ ، لنرى التفاوت في كتبهم ، وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على وهم النساخ الأوائل وسرى ذلك في كتب المصادر.

أقول : فلقد روى البلاذري في أنسابه بسنده عن أبي مخنف باسناده عن صالح بن كيسان : « ... وخرج عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس بعد وفاة عليّ ودفنه فقال إن أمير المؤمنين رحمه الله تعالى قد توفي ... وقد ترك خلفاً رضياً حليماً ، فإن أحببتم خرج إليكم فبايعتموه وان كرهتم ذلك فليس أحد على أحد (كذا) فبكى الناس وقالوا : يخرج مطاعاً عزيزاً. فخرج الحسن فخطبهم ... فبكى الناس ثمّ بايعوه ... » (١).

____________

(١) أنساب الأشراف ٣ / ٢٧ ـ ٢٨ تح ـ المحمودي.

٣٣٩

وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبين : « قال أبو مخنف عن رجاله ، ثمّ قام ابن عباس بين يديه ، فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له ... » (١).

وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد فقال : « وروى أبو مخنف لوط بن يحيى ... خطب الحسن بن عليّ (عليهما السلام) في صبيحة الليلة الّتي قبض فيها أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ... ثمّ جلس فقام عبد الله بن العباس (رحمه الله) بين يديه ... وأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة » (٢).

وروى ابن أبي الحديد في شرحه خطبة الإمام الحسن (عليه السلام) نقلاً عن أبي الفرج ثمّ قال : « قال أبو الفرج : فلمّا انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبيد الله بن العباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا ... » (٣) هكذا في طبعة دار الكتب العربية بمصر (الاولى) ، ولكن في الطبعة الحديثة : « قام عبد الله بن عباس » (٤) بدل عبيد الله ، فدل ذلك على أنّ الخبر في جميع مصادره برواية أبي مخنف ورد فيه ذكر عبد الله بن العباس والّذي ورد فيه اسم عبيد الله إنّما هو من سهو النساخ كما مرّ عن كتاب ابن أبي الحديد.

ويؤكد ذلك ما رواه المدائني وعنه ابن أبي الحديد أيضاً فقد قال : « قال المدائني : ولمّا توفي عليّ (عليه السلام) خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس فقال : ان أمير المؤمنين (عليه السلام) توفي وقد ترك خلفاً ... فبكى الناس وقالوا : بل يخرج إلينا ، فخرج الحسن (عليه السلام) فخطبهم ... فبايعه الناس » (٥).

____________

(١) مقاتل الطالبيين / ٣٣ ط الحيدرية و / ٥٢ ط مصر تح ـ السيّد أحمد صقر.

(٢) الإرشاد / ١٦٨ ط حجرية سنة ١٣٢٠ هـ ، و ١٩٢ط حجرية ثانية سنة ١٣٠٨ هـ ، و ١٨٨ط الحيدرية.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ١١ ط مصر الأولى.

(٤) نفس المصدر ١٦ / ٣٠ تح محمّد أبو الفضل براهيم.

(٥) شرح النهج لابن أبي الحديد ١٦ / ٢٢ ط محققة.

٣٤٠