موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

ب ـ ذكر ابن أبي الحديد في ذكر مقتل الإمام (عليه السلام) وموضع قبره وما قيل فيه من الأشعار فقال : « وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب :

وهزّ عليّ بالعراقين لحية

مصيبتها جلّت على كلّ مسلم

وقال سيأتيها من الله نازل

ويخضبها أشقى البريّة بالدم

فعاجله بالسيف شلّت يمينُه

لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم

فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه

تبوّأ منها مقعداً في جهنم

ففاز أمير المؤمنين بحظّه

وإن طرقت إحدى الليالي بمعظم

ألا إنّما الدنيا بلاء وفتنة

حلاوتها شيبت بصاب وعلقم » (١)

٣ ـ حزن وبكاء :

أ ـ روى فرات بن إبراهيم ـ من علماء القرنين الثالث والرابع ـ في تفسيره قال : « حدّثنا عليّ بن محمّد بن مخلد الجعفي معنعناً عن سليمان بن يسار قال : رأيت ابن عباس لمّا توفي أمير المؤمنين بالكوفة وقد قعد في المسجد محتبياً ووضع مرفقه على ركبته ، وأسند به تحت خده وقال :

يا أيها الناس إنّي قائل فأسمعوا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : إذا مات عليّ وأخرج من الدنيا ظهرت في الدنيا خصال لا خير فيها ، فقلت وما هي يا رسول الله؟

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٤٦ ط مصر الأولى ، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٤٧٢ ط حيدر اباد هذه الأبيات منسوبة إلى بكر بن حماد التاهرني ، ولعله استشهد بها فظنت أنها له والله أعلم.

٣٠١

فقال : تقل الأمانة ، وتكثر الخيانة ، حتى يركب الرجل الفاحشة وأصحابه ينظرون إليه ، والله لتضايق الدنيا بعده بنكبة ، وإن الأرض لا تخلو مني ما دام عليّ حياً في الدنيا بقية من بعدي ، عليّ في الدنيا عوض مني بعدي ، عليّ كجلدي ، عليّ كلحمي ، عليّ (كـ) عظمي ، عليّ كدمي ، عليّ (كـ) عروقي ، عليّ أخي ووصيي في أهلي وخليفتي في قومي ، ومنجز عداتي ، وقاضي ديني ، وقد صحبني عليّ في ملمّات أمري ، وقاتل معي أحزاب الكفار ، وشاهدني في الوحي ، يأكل معي طعام الأبرار ، وصافحه جبرئيل مراراً نهاراً جهاراً ، وقبّل جبرئيل خدّ عليّ اليسار ، وشهد جبرئيل وأشهدني أنّ عليّاً من الطيبين الأخيار ، وأنا أشهدكم معاشر الناس لا تتساءلون من علم أمركم ما دام عليّ فيكم ، فإذا فقدتموه فعند ذلك تقوم الآية : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) » (٢).

وأخيراً ابيضت عيناه من الحزن :

قال الله سبحانه وتعالى حكاية عن حال نبيّه يعقوب حين فقد ولده ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْن ) (٣) قال المفسّرون : وإنّما ابيضّت عيناه من البكاء وسبب البكاء هو الحزن. ولا شك أنّ البكاء كما أنّه خير وسيلة لتخفيف الضغط النفسي الّذي يكابده المرء عند ملمّات النوازل ، فهو يأتي على بصر الإنسان

____________

(١) تفسير فرات / ٥٤ ط الحيدرية و / ١٥٤ ١٩٢ ـ ١٩٨ ، ورواه المجلسي في البحار ٩ / ٧٦٤ ط تبريز على الحجر.

(٢) الأنفال / ٤٢.

(٣) يوسف / ٨٤.

٣٠٢

فيفقده ، ومع ذلك ففيه تخفيف اللوعة بنزول الدمعة ، ولعل قول ذي الرمة خير معبّر في تصوير تلك الحال :

خليلي عوجا من صدور

الرواحل بجهور حزوى وابكيا في المنازل

لعل انحدار الدمع يعقب راحة

من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل

ولقد ذكر في كتب السيرة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكى عند فقده أحبته ، وآخرهم ابنه إبراهيم فقال : (إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما لا يرضي الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون) (١).

وكلّما عظمت الرزية وجلت المصيبة عظم الحزن بها ، واشتد الوجد بصاحبها ، ومهما بلغ في إيمانه مقاماً رفيعاً لتستولي عليه أحزانه ، فيفزع إلى البكاء ليخفّف من غلواء المصاب ، فان في إفاضة الكئيب لدمعته ما يذهب من لوعته ، وفي ارساله لعبرته ما يعينه على سلوته ، وهذا ممّا لا شك فيه ، لكن ليس انسكاب الدموع يذهب ما في نفس المفجوع ، فلئن سكنت النفس آناً ما إلى رشدها ، وتأسى صاحبها بالصبر على عظيم فقدها ، إلاّ أنّ الذكرى تؤجج جذوة الحزن ، فمتى استثيرت ثارت ، فتحول الحزن إلى بركان يثور ، وعندما يلحّ الواجد الفاقد الحزين بالبكاء وتبيضّ عيناه من الحزن فيفقد بصره ، كما مرّ في أمر يعقوب (عليه السلام). وكان ابن عباس مثله في هذا الباب فيما يروي الرواة ، قال سفيان ابن عيينة : « كانوا يروون أنّ ابن عباس إنّما ذهب بصره لكثرة البكاء على عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) » (٢).

____________

(١) السيرة الحلبية وسيرة زيني دحلان وغيرهما.

(٢) تيسير المطالب في امالي الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى سنة ٤٢٤ هـ ط بيروت سنة ١٣٩٥ هـ.

٣٠٣

وذكر ذلك السيّد ابن طاووس نقلاً عن النقاش في المجلد الأوّل من تفسيره ، فقد رواه بإسناده عن الكلبي قال : « وذهب بصر ابن عباس من كثرة بكائه على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) » (١).

ورواه النبهاني في الشرف المؤبد ونسبه إلى القيل (٢) ، وذكره البياضي في الصراط المستقيم (٣) ، وقال المسعودي : « وكان ـ ابن عباس ـ قد ذهب بصره لبكائه على عليّ والحسن والحسين » (٤).

ويبدو أنّ بداية ضعف بصره وتقرّح جفونه كانت بعد مقتل الإمام (عليه السلام) ثمّ تزايد ذلك بمرور الزمان ، وكثرة ما أصابه من نوازل الحدثان فيفزع إلى البكاء ، وكاد أن يكفّ بصره تماماً قبل مقتل الحسين (عليه السلام) ، لكنه بعد مقتله وتزايد الحزن عليه فلم ترقأ له دمعة فَكُفّ بصره تماماً ، حتى كان أبو رجاء العطاردي يقول : « رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء » (٥) ، وقد حدّد عليّ بن أبي طلحة زمن العمى بقوله : « وكان أحسن عيناً قبل أن يكفّ بصره ، وكفّ قبل موته بست سنين أو نحوها » (٦) ، وهذا التحديد يتسق تقريباً مع ما مرّ عن المسعودي وقول السبط في تذكرته : « ولمّا قتل الحسين لم يزل ابن عباس

____________

(١) سعد السعود / ٢٨٥.

(٢) الشرف المؤبد / ٦٤ ط بيروت سنة ١٣٠٩ هـ.

(٣) الصراط المستقيم ١ / ١٤٤.

(٤) مروج الذهب ٣ / ١٠٨ تح ـ عبد الحميد ، وحكاه أيضاً السيّد المدني في الدرجات الرفيعة / ١٣٩ ط الحيدرية.

(٥) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٢ ط دار الفكر.

(٦) أنساب الأشراف ـ ترجمة ابن عباس ـ برقم ١٢٤مخطوطة بقلمي.

٣٠٤

يبكي عليه حتى ذهب بصره » (١). وسيأتي أنّه لمّا كان يدخل على معاوية كان لا يستبين مكانه بل كان يستعين بقائده.

ومهما يكن تحديد الزمن إلاّ انّ بعض المناقبيين قد اتخذ من مسألة كفّ بصر ابن عباس ذريعة إلى مبتغاه ، فروى أنّ السبب كان رؤيته جبرئيل عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد مرّ في الجزء الأوّل تفنيد ذلك عند الكلام عن حياته في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فراجع.

ولم يقصّر عن هذا آخر حين قصّر بفهم ابن عباس وفقهه عن إدراك حكم تكليفه حين كفّ بصره وقد أتاه من عرض عليه إجراء عملية جراحية على أن يصلي سبعة أيام مستلقياً يؤمي ايماء ، فزعم الراوي أنّه أرسل إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحابه (؟) كلّ يقول : « أرأيت إن متّ في هذه السبع كيف تصنع بالصلاة؟ قال فترك عينه ولم يداوها » (٢).

فبهذا الخبر أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية فهو لا يعلم كيف يعمل وما هو حكم تكليفه؟ فاستفتى عائشة وأبا هريرة ، وبعض أصحابه (؟) ممّن لم يكشف الراوي عن هويّتهم المجهولة ، فأتته فتاواهم متفقة : « كلّ يقول : أرأيت إن متّ في هذه السبع كيف تصنع بالصلاة؟ ».

وما أدري كيف استساغ الراوي رواية ذلك وهو يروي بأنّ ابن عباس لو رضي باجراء العملية كان عليه أن يصلي مستلقياً إيماءً ، فهل مَن كان حكمه ذلك يقال له : كيف تصنع بالصلاة؟ فهل هو يترك الصلاة كلية؟ أم انّ فرضه وحكمه

____________

(١) تذكرة الخواص / ٩٠ ط حجرية سنة ١٢٨٥ هـ.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ٥٤٥ وتلخيص المستدرك للذهبي بهامشه.

٣٠٥

في تكليفه انتقل من الصلاة قائماً إلى الصلاة مستلقياً مؤدياً للركوع والسجود وباقي أفعاله بالإيماء؟ ومهما يكن فقد أورد راويه هذا الخبر وأورده مخرّجه بسنده توثيقاً له مدلّلين على احتياج ابن عباس إلى عائشة وأبي هريرة وبعض أصحابه (؟) ليعرّفوه حكمه لو فعل ما أشار عليه به الجرّاح.

ألا على العقول العفا تلك الّتي تصدّق بذلك ، فأين أثر دعاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له بأن يفقهه في الدين ويعلمه الحكمة وهم يروونه؟ ثمّ ألم تكن عائشة هي الّتي شهدت له في سنة ٣٥ هـ حين ولي أمر الموسم بأنّه أعلم الناس بالحج ، وهو الّذي كان عمر يستفتيه ويقول له غص يا غواص وقد مرّ ذلك كلّه ، وقال عنه طاووس : « رأيت سبعين من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا تدارأوا صاروا إلى قول ابن عباس » (١) ، وفي لفظ البغوي عنه : « أدركت خمسين أو سبعين من الصحابة إذا سئلوا عن شيء فخالفوا ابن عباس لا يقومون حتى يقولوا هو كما قلت أو صدقت » (٢).

وقال عليّ بن المديني : « لم يكن في أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحد له أصحاب يقومون بقوله في الفقه إلاّ ثلاثة وعدّ ابن عباس منهم » (٣).

وأخيراً لقد مرّ بنا في أعقاب حرب الجمل في مواقف متشنجة شواهد على ما كان بين عائشة وابن عباس من نفور لم تحتمله الصدور حتى بدا فوق السطور. فكيف نصدّق الرواة في استفتائه منها؟

____________

(١) الإصابة ترجمة ابن عباس.

(٢) المصدر السابق نفسه.

(٣) تهذيب الأسماء واللغات للنووي ١ / ٢٧٤ ط المنيرية.

٣٠٦

وقد جعله أبو حامد الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة من أوائل من يعطي الله اجورهم ، لأنّهم فقدوا أبصارهم في الدنيا وحكى ذلك عنه القرطبي (١). وما أدري كيف استساغ القرطبي حكاية ذلك وهو من الغيب الّذي لم يأت فيه حديث من معصوم.

والآن وقد شارفنا على الإنتهاء من القسم الأوّل من الفصل الأوّل فيما يتعلق بتاريخ ابن عباس حبر الأمة (رحمه الله) في فترة خلافة الإمام (عليه السلام) ، أرى لزاماً عليَّ أن أذكر بعض الروايات الّتي تزيّد فيها الرواة ، فألحق بها من الهناة والقذاة ، ما شوّه صفحة ابن عباس ببعض السيئات.

روايات تافهة :

لقد وردت بعض الروايات الّتي لم تسلم سنداً حتى تستحق الوقوف عندها كثيراً ، تدين ابن عباس في إعلانه مخالفته لإمامه في أحكام فقهية ، أو إجراءات قضائية ، أو آراء سياسية ، فكيف يمكن تصديق الرواة في ذلك ، وهو الّذي كان يقول : « إذا حدّثنا الثقة بفتيا عن عليّ لم نتجاوزها » (٢) وفي لفظ : « إذا حدّثنا ثقة عن عليّ بفتيا لا نعدوها » (٣) ، ثمّ هو القائل لخارجي سأله عن الإمام فأجابه حتى قال له : « أعليّ أعلم عندك أم أنا؟ فقال : لو كان عليّ أعلم عندي منك لما سألتك فغضب ابن عباس حتى اشتد غضبه ثمّ قال : ثكلتك أمك ، عليّ علّمني ، وكان علمه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ورسول الله علّمه الله من فوق عرشه ، فعلم النبيّ من الله ،

____________

(١) التذكرة / ٢٧٣ ط دار المنار سنة ١٤١٨.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ق٢ / ١٠٠ ط ليدن ، والاستيعاب ٣ / ٣٩.

(٣) سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٦٢٨ ط دار الفكر ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٧١.

٣٠٧

وعلم عليّ من النبيّ ، وعلمي من علم عليّ ، وعلم أصحاب محمّد كلّهم في علم عليّ كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر » (١).

لذلك فأنا لا أكاد أصدّق الرواة الذين رووا لنا : « انّ ابن عباس أتي إليه بكتاب فيه قضاء عليّ (عليه السلام) فمحاه إلاّ قدر ذراع » (٢).

كيف وهو الّذي كان مجداً في اتباع سنّة الإمام وهديه حتى في أحرج الأوقات الّتي مرّت به في عهد معاوية.

فقد روى النسائي في سننه ، والبيهقي في سننه الكبرى عن سعيد بن جبير قال : « كان ابن عباس بعرفة فقال : يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت : يخافون معاوية ، فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال : لبّيك اللّهمّ لبّيك وان رغم أنف معاوية ، اللّهمّ العنهم فقد تركوا السنّة من بغض عليّ » (٣).

وقال السندي في تعليقه على سنن النسائي : « من بغض عليّ » أي لأجل بغضه ، أي وهو كان يتقيّد بالسنن فهؤلاء تركوها بغضاً له.

وسيأتي مزيد بيان وايضاح في آرائه الفقهية.

وقد مرّ بنا في حياته بالبصرة في توجيهه العلمي والديني ما يصلح أن يكون شاهداً على مدى التوافق بين ابن عباس وإمامه فتياً وعملاً ، وحسبك مراجعة مسألة تعريفه بالبصرة وقد مرّ بحثها مفصّلاً فراجع.

ومسألة بعث الهدي من مكانه ويبقى محرماً حتى يذبح.

____________

(١) أمالي الطوسي / ٧ ط حجرية ١ / ١١ مط النعمان ، وعنه في بحار الأنوار ٨ / ٤٦٥ ط حجرية.

(٢) مقدمة صحيح مسلم ١ / ١١.

(٣) سنن النسائي ـ المجتبى ـ ٥ / ٢٥٣ ، والسنن الكبرى ٥ / ١١٣.

٣٠٨

أمّا الآن فأشير إلى ورود بعض الروايات الّتي وصفتها بالتفاهة لعدم سلامة أسانيدها ، ولا متونها من المناقشة وهي في المسائل التالية :

١ ـ مسألة تحريق الغلاة ـ الزط ـ بالبصرة بعد حرب الجمل.

٢ ـ مسألة تحريق الزنادقة بالكوفة بعد حرب الخوارج ، وهاتان المسألتان مختلفتان زماناً ومكاناً ورواة وقد خفى أمرهما على بعض الباحثين فتخيّلهما مسألة واحدة ، فالأولى كانت بالبصرة والثانية بالكوفة ، والأولى بعد واقعة الجمل ، والثانية في أواخر خلافة الإمام (عليه السلام) والأولى يرويها أنس بن مالك والثانية يرويها عكرمة.

قال طه حسين في الفتنة الكبرى : « وقد روى المؤرخون أنّ أناساً من أهل الكوفة ارتدوا فقتلهم ثمّ حرقهم بالنار ، وقد ليمَ في ذلك من ابن عباس. وأظن أنّ هذه القصة هي الّتي غلا خصوم الشيعة فيها فزعموا أنّ هؤلاء الناس ألّهوا عليّاً.

ولكن المؤرخين والثقاة منهم خاصة ، يقفون من هذه القصة موقفَين : فمنهم من يرويها في غير تفصيل كما رويتها ، ومن هؤلاء البلاذري. ومنهم من لا يرويها ولا يشير اليها كالطبري ومن تبعه من المؤرخين.

وإنّما يُكثر في هذه القصة أصحاب الملل والمخاصمون للشيعة. وما أرى إلاّ أنّ القوم يتكثرون فيها ويحمّلونها أكثر ممّا تحتمل كما فعلوا في أمر ابن السوداء ... اهـ » (١).

قال شيخنا المفيد قدس الله روحه ـ تعقيباً على مسألة التحريق ونقد ابن عباس وندم الإمام على احراقهم ـ : « وهذا من أظرف شيء سمع وأعجبه ، وذلك

____________

(١) الفتنة الكبرى (عليّ وبنوه) ٢ / ١٦٦ ط دار المعارف.

٣٠٩

أنّ ابن عباس أحد تلامذته والآخذين العلم عنه ، وهو الّذي يقول : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجلس بيننا كأحدنا ويداعبنا ويباسطنا ، ويقول : والله ما ملأت طرفي منه قط هيبة له ، فكيف يجوز مِن مثل مَن وصفناه التقدّم على أمير المؤمنين في الفتيا وإظهار الخلاف عليه في الدين ، لا سيما في الحال الّتي هو مظهر له فيه الإتباع والتعظيم والتبجيل ، وكيف ندم على احراقهم ، وقد أحرق في آخر زمانه (عليه السلام) الأحد عشر الذين ادعوا فيه الربوبية ، أفتراه ندم على ندمه الأوّل؟ كلا ، ولكن الناصبة تتعلق بالهباء المنثور » (١).

وقال ابن أبي الحديد : « وهل أخذ عبد الله بن عباس الفقه والتفسير إلاّ عنه (عليه السلام) » (٢).

ومهما يكن أمر هؤلاء وأمر أولئك فسوف نبحث المسألة من الناحية الفقهية في (الحلقة الثالثة) إن شاء الله تعالى في بحث : (مسألة التحريق بين التشريع والتطبيق).

٣ ـ مسألة نكاح المتعة.

٤ ـ مسألة لحوم الحمر الإنسية (٣).

٥ ـ مسألة الصرف الّتي شُنّع عليه فيها كثيراً حتى قالوا انّه رجع عنها وتاب قبل موته بثلاثة أيام.

إلى غير ذلك ممّا سنتعرّض له في (الحلقة الثالثة) في آرائه الفقهية إن شاء الله تعالى.

____________

(١) الدرجات الرفيعة للمدني / ١١٧.

(٢) نفس المصدر / ١١٨.

(٣) سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٦٢٨ ط دار الفكر ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٧١.

٣١٠

أمّا عن الروايات الّتي ذكرت له مخالفات في آرائه السياسية : فأول حادث وحديث هو ما مرّت الإشارة إليه في أوّل خلافة الإمام (عليه السلام) في قضية مشورة المغيرة ، ورأي ابن عباس فيها ، واتخذها الكتّاب المحدثون سنداً في تجنّيهم على الإمام في سياسته حتى أشاعوا بين قرّائهم نفثاتهم فشل تلك السياسة حتى جرت عليه خوض الحروب ، فرأيت لزاماً عليّ أن أذكر بعض آراء الذين أنصفوا أنفسهم وأنصفوا قرّاءهم حين وعوا حقيقة الإمام وحقيقة سياسته ، وفنّدوا تلك المفاهيم الخاطئة ، فإلى قراءة في ذلك.

مفاهيم خاطئة عن سياسة الإمام!

لك الله يا أبا الحسن كم تجنّى عليك المسلمون قديماً وحديثاً ، ولئن كان سيفك أزهق الكفار والمشركين فأورثك عداوة أبنائهم من الأولين ، فما بال الآخرين ثارت بلابل أشجانهم وأحزانهم فسفّت أحلامهم وأقلامهم فتجنّوا عليك بأنك رجل حرب وشجاع ، وليس رجل دولة وقيادة ، واتخذوا من سياستك الّتي هي جزء من دينك ، ومن صرامتك وصراحتك ، ذريعة للتطاول عليك. فجعلوا من مشورة المغيرة بن شعبة شاهداً ، ومن رأي ابن عباس عاضداً. حين أعرضت عنهما عامداً ، فيما عرضاه من إبقاء عمّال عثمان عاماً واحداً ، فأبيتَ أن تتخذ المضلّين عضدا ، حتى رووا أنّ ابن عباس قال لك في مشورته ما لا يكاد أن يُصدّق!

فقد روى الطبري وغيره عنه قوله : « أنت رجل شجاع لست بأرب الحرب ، أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول : (الحرب خدعة) فقلت : بلى ، فقال ابن عباس : أما والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد وِرد ، ولأتركنّهم

٣١١

ينظرون في دُبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها ، في غير نقصان عليك ولا أثم لك ... » وقد مرّ ذكرنا له.

فيا لله هل أنّ ابن عباس كان أبصر بصواب الرأي منك؟ انّها لإحدى الكُبر.

فابن عباس هو القائل عنك للمغيرة : « كان والله أمير المؤمنين (عليه السلام) أعرف بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنّف عليه ـ إلى آخر ما قال » وقد تقدم منا ذكره.

فهل يصح أن نقبل ما رواه الرواة وفي النفس من رواياتهم ما يبعث على الاشمئزاز؟!

وهذا الموقف زلّت فيه أقدام وأقلام فتجنّى غير واحد على الإمام ، حتى بلغت القحة ببعض المستشرقين ـ مثل نيكلسون ـ أن يقول : « كان عليّ يعوزه حزم الحاكم ودهاؤه برغم ما كان يمتاز به من الفضائل الكثيرة ، فقد كان نشيطاً ذكياً بعيد النظر ، بطلاً في الحرب ، مشيراً حكيماً وفياً ، شريف الخصومة ، نبغ في الشعر والبلاغة ، واشتهرت أشعاره وخطبه في الشرق الإسلامي ... وكانت تنقصه الحنكة السياسية وعدم التردد في اختيار الوسائل أياً كانت لتثبيت مركزه ، ومن ثمّ تغلّب عليه منافسوه الذين عرفوا أوّل الأمر أنّ الحرب خدعة ، والذين كانوا لا يتورعون عن ارتكاب أيّ جرم يبلغ بهم الغاية ويكفل لهم النصر » (١).

والعجب كلّ العجب أن يكون قد تبنى هذا الرأي أخوان مسلمان مصريان هما الدكتور حسن إبراهيم حسن وأخوه الدكتور عليّ إبراهيم حسن في كتابهما

____________

(١) أنظر تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي ١ / ٢٩٤ ط مكتبة النهضة بمصر سنة ١٩٥٣.

٣١٢

النظم الإسلامية ، فقد قالا : « أراد عليّ أن يحكم وفق التقاليد الّتي سادت زمن النبيّ وأبي بكر وعمر ، مع أنّ الأحوال كانت تستلزم شيئاً من السياسة والدهاء ، فقد بادر بعزل ولاة عثمان ولم يصغ لنصيحة بعض الصحابة له بابقائهم حتى تهدأ الحالة وتستقر الأمور ممّا حدا بالاستاذ نيكلسون إلى القول بأنّه كان ينقصه حزم الحاكم ودهاؤه وتعوزه الحنكة السياسية » (١).

وهذا منهما يقضي العجب! كيف كتبا ذلك؟

ومهما أغضينا عن الكاتب المسيحي نيكلسون لأنّه على أسوأ الظنون يريد الوقيعة بالإسلام ورجالاته ، وعلى أحسن الظنون فهو بعيد عن الإسلام ولا يعرف أحكام الإسلام ، وما الّذي توجبه على خليفة المسلمين من إقامة صرح حكمه على الحقّ والعدل لا على المخادعة والمواربة ، فإنّا لا نعذر الأخوين المسلمين ، فلديهما من عدة الثقافة ما أتاح لهما التأليف في النظم الإسلامية ، ولا شك أنهما اطّلعا على كثير من المصادر الّتي أوضحت السبب في انتهاج الإمام لتلك السياسة ، وأخص بالذكر الدكتور حسن إبراهيم حسن فقد ذكر في مصادر كتابه تاريخ الإسلام السياسي ... كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، وفي هذا الكتاب ما يدفع زلة الأقلام ويبين عذر الإمام ، وإلى القارئ نبذة منه ممّا قال : « وأمّا قول ابن عباس له (عليه السلام) : ولّه شهراً واعزله دهراً ، وما أشار به المغيرة بن شعبة فإنّهما قالا ما توهّماه ، وما غلب على ظنونهما وخطر بقلوبهما. وعليّ (عليه السلام) كان أعلم بحاله مع معاوية وأنها لا تقبل العلاج والتدبير ، وكيف يخطر ببال عارف

____________

(١) النظم الإسلامية / ٢٣ ط الثانية.

٣١٣

بحال معاوية ونكره ودهائه وما كان في نفسه من عليّ (عليه السلام) من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان انّه يقبل إقرار عليّ (عليه السلام) له على الشام وينخدع بذلك ويبايع ويعطي صفقة يمينه ، إنّ معاوية لأدهى من أن يكاد بذلك. وإن عليّاً (عليه السلام) لأعرف بمعاوية ممّن ظن أنّه لو استماله بإقراره ليبايع له ، ولم يكن عند عليّ (عليه السلام) دواء لهذا المرض إلاّ السيف ، لأن الحال إليه كانت تؤل لا محالة فجعل الآخر أوّلاً ... » (١).

وليتني كنت أدري كيف استساغ الأخوان أن يتبعا أستاذهما نيكلسون في وصفه الإمام بعدم الحزم والدهاء!! ألم يقرأوا ردّ الإمام على المغيرة وعلى ابن عباس في عدم جواز إبقاء عمال عثمان ومعاوية خاصة في مناصبهم؟ ألم يكن عزلهم واستبدالهم بمن هو أنقى وأتقى هو عين الحزم؟ ولو كان رضي بما أشار عليه المشيران ، لانتقضت عليه العرب كلها ، ولأعادوها جذعة ثمّ ساروا إليه فقتلوه كما قتل عثمان.

أليس من الدهاء السياسي فضلاً عن الواجب الديني تطهير الجهاز في مناصب الدولة من عناصر الفساد؟ هل من الدهاء أن يكون ولاة الخليفة اليوم هم الولاة بالأمس ، وهم الذين حكموا البلاد فأكثروا فيها الفساد ، فصب الناس عليهم وعلى خليفتهم سوط النقمة حتى أدى ذلك إلى قتله؟

ولم يكن الاخوان واستاذهما بدعاً. فقد كان لهم أشباه وأشباه. قال الدكتور أحمد شلبي : « ويوشك المؤرخون والمستشرقون أن يجمعوا على لوم عليّ على هذا العمل ـ عزل الولاة واسترداد القطائع ـ وهم جميعاً تقريباً يصرّحون

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٥٧٩ ـ ٥٨٤.

٣١٤

أنّ التوفيق أخطأ عليّاً ، وأن ذلك لم يكن من الحكمة. والّذي اعتقده أنّ ذلك الحكم على عليّ مبالغ فيه ، وانّه من الأقوال الّتي تشاع فيأخذها الناس دون دراسة وبغير تمحيص ، وللتدليل على ذلك نسأل الأسئلة التالية :

١ ـ هل كان من الممكن أن يحتج عليّ على الولاة الظالمين وأن يطلب من عثمان عزلهم حتى إذا تولى هو الخلافة تركهم؟

٢ ـ وهل كان من الممكن أن يثور على القطائع الّتي أعطيت ظلماً لأقارب الخليفة حتى إذا تولى هو الخلافة أقرّها؟

٣ ـ وهل كان التمرّد الّذي عاناه ناشئاً عن عزل الولاة واسترداد القطائع؟ وإذا كان كذلك فلماذا تمرّد طلحة والزبير (١) وشنّا على عليّ حرب الجمل؟

٤ ـ وهل يتخيّل المؤرخون أنّ معاوية كان سيبايع عليّاً ويسير في ركابه لو لم يُعزل؟

٥ ـ وأخيراً هل يمكن أن نطلب من عليّ أن يكون شخصاً آخر غير عليّ.

إن مطالبة عليّ بترك والٍ ظالم في الولاية ، أو الإغضاء عن مال أخذ من بيت مال المسلمين من دون حقّ هو بمثابة أن نطلب من الأسد أن يصبح هراً وهيهات أن يكون ذلك.

لعل من الأفضل للمؤرخين أن يقولوا : إنّ ذلك الوقت لم يكن الوقت الملائم لعليّ ليصبح خليفة ، وكان من الخير للمسلمين أن يتولى الخلافة في ذلك الوقت شخص آخر غير عليّ (٢) شخص يستطيع أن يدور وأن يداهن ، شخص لم

____________

(١) ونضيف نحن اليهما عائشة لماذا خرجت؟

(٢) أنظر تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٩.

٣١٥

يشترك في الأحداث السابقة ، او اشترك فيها بنصيب ضئيل ، ولكن يجب ألاّ ننسى أنّ أيّة محاولة لتولية شخص غير عليّ حينذاك كان لابدّ من فشلها ، فتولية عليّ كانت قد أصبحت أمراً طبيعياً كما سبق القول.

والخلاصة أنّ تولية عليّ كانت طبيعية ، وأنّ سلوكه كان طبيعياً ، وأنّ التمرّد الّذي واجهه عليّ كان طبيعياً أيضاً وكان نتيجة لسير الأحداث وكان صراعاً على السلطة وإن اتُخذ من أسبابه قتل عثمان ، أو المطالبة بثاره ، أو عزل الولاة ، او استرداد ما سُلب من بيت المال.

ويقول محمّد بن سيرين : ما علمتُ أنّ عليّاً أتّهم في دم عثمان حتى بويع ، فلمّا بويع اتهمه الناس (١) » (٢).

وأخيراً لقد تبيّن للقارئ مدى الجناية الّتي لحقت بالإمام نتيجة سياسته الحكيمة ، فظن من لا حريجة له في الدين أنّ الخلاف الّذي نشب في أيام خلافته ، لأنّه لم يأخذ بنصائح المغيرة وابن عباس ، وقد بيّنا ما يتعلق بابن عباس وشككنا في صدق الرواة فيما هو الثابت الصحيح عنه.

وأمّا المغيرة كيف يتوقع من الإمام أن يقبل بمشورته ، وهو الّذي كان يعرفه بدءاً وختاماً ، كفراً وإسلاماً ، حرباً وسلاماً؟!

هلم فلنقرأ ما رواه إبراهيم بن محمّد الثقفي في كتابه الغارات عن أبي صادق عن جندب بن عبد الله قال : « ذكر المغيرة بن شعبة عند عليّ (عليه السلام) وجَدّه مع معاوية. قال : وما المغيرة؟ إنّما كان إسلامه لفجرة وغدرة غدرها بنفر من

____________

(١) العقد الفريد لابن عبد ربه ٤ / ٣٠٥.

(٢) التاريخ الإسلامي ١ / ٣٣٥ ـ ٣٣٧ ط الخامسة / ١٩٧٠.

٣١٦

قومه ، فتك بهم وركبها منهم ، فهرب منهم فأتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كالعائذ بالإسلام ، والله ما رأى أحد عليه منذ ادعى الإسلام خضوعاً وخشوعاً.

ألا وانّه كان من ثقيف فراعنة قبل يوم القيامة يجانبون الحقّ ويسعرون نيران الحرب ويوازرون الظالمين ، ألا إنّ ثقيفاً قَومٌ غُدر لا يوفون بعهد ، يبغضون العرب كأنّهم ليسوا منهم ، ولربّ صالح قد كان فيهم ، فمنهم عروة بن مسعود وأبو عبيد بن مسعود المستشهد يوم قسّ الناطف ، وإنّ الصالح في ثقيف لغريب » (١).

ولا تزال تعيش الفكرة الخاطئة في كثير من الأدمغة الّتي ترى الميكافلية السبيل الأقوى إلى بلوغ الغاية ، ولا تنظر إلى السبيل الأقوم ، حتى كانوا يرون في بلوغ معاوية إلى سدة الحكم حجة لهم. وانّه كان داهية ولم يكن الإمام كذلك ، وقد فاتهم قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ولكن دونها حاجز من تقوى الله. وللردّ على هؤلاء فلنقرأ أوّلاً : ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) : « والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدُر ويفجُر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى العرب ، ولكن كلّ

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ط مصر الأولى ، وكتاب الغارات / ٥١٦ تحقيق السيّد جلال الدين الحسيني ، وغدرة المغيرة وفجرته ، ذكرها من المؤرخين ابن هشام في سيرته عند صلح الحديبية ٢ / ٣١٣ ط مصر سنة ١٣٧٥ ، وذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه في حوادث السنة السادسة ١ / ١٥٣٧ ط أوربا. والواقدي في المغازي تحت عنوان : غزوة الحديبية ٢ / ٥٩٥ وهو أوسع من ذكر ذلك. وابن الأثير ٢ / ٧٦ وغيرهم وملخصها بلفظ ابن هشام : فقال عروة : من هذا يا محمّد؟ قال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال : أي غَدر وهل غسلت سوأتك إلاّ بالأمس؟ قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك من ثقيف ، فتهايج الحيّان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر.

٣١٧

غدرة فجرة ، ولكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة ، والله ما أُستغفل بالمكيدة ، ولا أُستغمز بالشديدة » (١).

ولنذكر في هذا المقام ما حكاه ابن أبي الحديد عن أبي عثمان ـ الجاحظ ـ قال أبو عثمان : « وربّما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل والفهم والتمييز ، وهو من العامة ، ويظن أنّه من الخاصة ، يزعم ان معاوية كان أبعد غوراً ، وأصح فكراً وأجود رويّة ، وأبعد غاية ، وأدّق مَسلكاً ، وليس الأمر كذلك ، وسأومي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه ، والمكان الّذي دخل عليه الخطأ مِن قبله.

كان عليّ (عليه السلام) لا يستعمل في حربه إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة كما يستعمل الكتاب والسنّة ، ويستعمل جميع المكايد حلالها وحرامها ، ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى ، وخاقان إذا لاقى رتبيل ، وعليّ (عليه السلام) يقول : لا تبدؤهم بالقتال حتى يبدؤوكم ولا تتبعوا مُدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا باباً مغلقاً. هذه سيرته في ذي الكلاع وفي أبي الأعور السُلمي وفي عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وفي جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية والحشو والأتباع والسفلة ، وأصحاب الحروب ان قدروا على البيات بيتوا ، وان قدروا على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا ، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة ،

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٥٧٢ ، وشرح محمّد عبده ٢ / ٢٠٦ وجاء في حديث ابن أبي شيبة في كتاب الجمل من مصنفه ١٥ / ٢٥١ ط باكستان قول كليب الجرمي وقد دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار فقال : قدمت على أدهى العرب ـ يعني علياً ـ ... وقد أخرج الطبري الحديث بكامله وفيه شهادة الجرمي بأن علياً من أدهى العرب ـ راجع ٤ / ٤٩١.

٣١٨

وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق ...

فمن اقتصر ـ حفظك الله ـ من التدبير على ما في الكتاب والسنّة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير وما لا يتناهى من المكايد ، والكذب ـ حفظك الله ـ أكثر من الصدق ، والحرام أكثر عدداً من الحلال ... فعليّ (عليه السلام) كان ملجماً بالورع عن جميع القول إلاّ ما هو لله (عزّ وجلّ) رضاً ، فصار ممنوع اليدين من كلّ بطش إلاّ ما هو لله رضاً ولا يرى الرضا إلاّ فيما يرضاه الله ويحبه ، ولا يرى الرضا إلاّ فيما دلّ عليه الكتاب والسنّة ، دون ما يعوّل عليه أصحاب الدهاء والمكر والمكايد والآراء ، فلمّا أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد وكثرة غرائبه في الخداع ، وما اتفق له وتهيّأ على يده ولم يروا ذلك من عليّ (عليه السلام) ، ظنوا بقصر عقولهم وقلة علومهم ان ذلك من رجحان عند معاوية ونقصان عند عليّ (عليه السلام) ... » (١).

وهذا الحال ذكره غير واحد من الكتاب المعاصرين.

منهم الكاتب أحمد عباس صالح ، قال في كتابه اليمين واليسار : « وكان عليّ بن أبي طالب يمثل في نظر غالبية المسلمين الرجل الوحيد الأقرب إلى روح الإسلام وأصوله الصحيحة ، ولكنه في نفس الوقت يمثل السياسي المتشدد أو على الأصح الأكثر تشدداً من عمر بن الخطاب نفسه ، وهو الأمر الّذي جعل الكثيرين من القادة والطامحين والمستفيدين ينظرون إلى تولية عليّ بن أبي طالب نظرة حذر وتردّد. وأصحاب المصالح لم يستطيعوا أن يحتملوا عمر ، ابن

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٥٧٧ ط مصر الأولى.

٣١٩

الخطاب ، فأولى بهم أن يتخوفوا من عليّ وأن يعملوا جهدهم ألاّ يصل إلى الخلافة » (١).

ومنهم الدكتور هشام جعيّط (تونسي) ، قال في كتابه الفتنة ما يلي : « هناك في التراث التاريخي العربي ميل شديد إلى إظهار عليّ على أنّه سياسي رديء ، وحتى كأنه رجل محدود (٢) وفي المقابل هناك ميل إلى اعتبار معاوية ذا حسّ سياسي عميق. وليس في ذلك فقط انعكاس لواقع ، أو على العكس ، تعبير عن شبكة رقيقة من الروايات المعادية لعليّ ، بل هناك أيضاً الميل الغالب على العقل البشري لرفض الكمال وإلى مساواة اللعبة ، وإلى تمييز مجالات الأنشطة ، فبما ان التقوى هي نصيب عليّ ، فعندئذ تكون السياسة نصيب معاوية.

وحتى أننا نلاحظ في الموروث التاريخي المؤيد لعليّ إلى حد كبير ، نزوعاً غامضاً إلى التشديد على دهاء معاوية ، يكون في آنٍ عبقرية استراتيجية ومكر يستحق الإعجاب والإدانة.

في الواقع ليست الاُمور بهذه البساطة : فقد كان عليّ سياسياً اكثر ممّا يُعتقد ، وكان معاوية استراتيجياً أقل كياسة ، وكان بالأخص أقل مكراً ممّا جرت العادة على وصفه.

وبعد يبقى صحيحاً أنّ عليّاً كان بوجه خاص قد عرف تجربة المرحلة التاريخية النبوية المحصورة في المجال الحجازي والعربي على الأكثر ، وأنه لم

____________

(١) اليمين واليسار في الإسلام / ٩٧ ـ ٩٨ ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة ١٩٧٢.

(٢) هذه روايات من أصل أموي وأما من أصل عباسي. راجع مثلاً الطبري ٤ / ٤٣٩ حيث يبرز الواقدي على المسرح علياً وابن عباس ، علياً والمغيرة بن شعبة ، وحيث يبدو عليّ مفتقراً إلى الحسّ السياسي بالمقارنة مع الرجلين.

٣٢٠