موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

وكراهيتنا لسلطان بني أمية ، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره ، حتى صرتَ إلى ما صرتَ إليه ، وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان الوليد بن عُقبة.

وأمّا طلحة والزبير فإنّهما أجلبا عليه وضيّقا خناقه ، ثمّ خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك ، فقاتلناهما على النكث ، وقاتلناك على البغي ، وأمّا قولك : إنّه لم يبق من قريش غير ستة ، فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها ، وقد قاتلك من خيارها مَن قاتلك ، ولم يخذلنا إلاّ من خذلك.

وأمّا إغراؤك إيانا بعديّ وتيم ، فأبو بكر وعمر خير من عثمان ، كما أنّ عثمان خير منك (وأمّا ذكرك الحرب) فقد بقي لك منا يوم ينسيك ما (كان) قبله ، وتخاف ما (يكون) بعده.

وأمّا قولك : إنّه لو بايع الناس لي لاستقاموا لي (لأسرعت إلى طاعتي) ، فقد بايع الناس عليّاً (وهو أخو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابن عمه ووصيه ووزيره) وهو خير مني فلم تستقيموا له ، وإنّما الخلافة لمن كانت له في المشورة ، (وأمّا أنت فليس لك فيها حق) وما أنت يا معاوية والخلافة ، وأنت طليق وابن طليق (رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد) ، والخلافة للمهاجرين الأولين ، وليس الطلقاء منها في شيء » (١).

قال نصر في روايته : فلمّا انتهى الكتاب إلى معاوية قال : هذا عملي بنفسي ، لا والله لا أكتب إليه كتاباً سنة كاملة. وقال معاوية في ذلك :

دعوت ابن عباس إلى حدّ خطة

وكان امرَأً أهدي إليه رسائلي

____________

(١) نفس المصدر / ٢٧٢.

١٢١

فأخلف ظنّي والحوادثُ جمّةٌ

ولم يك فيما قال مني بواصلي

وما كان فيما جاء ما يستحقه

وما زادَ أن أغلى عليه مراجلي

فقل لابن عباس تراك مفرّقا

بقولك مَن حولي وأنّك آكلي

وقل لابن عباس تُراك مخوّفا

بجهلك حلمي إنّني غير غافل

فأبرق وأرعد ما استطعت فإنّني

إليك بما يشجيك سبط الأنامل (١)

(وصفين داري ما حييت وليس ما

تربّص من ذاك الوعيد بقاتلي) (٢)

قال نصر في روايته : « فلمّا قرأ ابن عباس الشعر قال : لن أشتمك بعدها.

وقال الفضل بن عباس :

ألا يا بن هند إنّني غير غافل

وإنّك ما تسعى له غير نائل

لأنّ الّذي إجتبّت إلى الحرب نابها

عليك وألقت بركها بالكلاكل (٣)

فأصبح أهل الشام (صرعى فكلّهم)

كفقعةُ قاع أو كشحمة آكل (٤)

وأيقنتَ أنا أهل حق وإنّما

دعوتَ لأمر كان أبطل باطل

دعوت ابن عباس إلى السلم خُدعةً

وليس لها حتى تدينَ بقابل

فلا سلم حتى تشجر الخيل بالقنا

وتُضرب هامات الرجال الأماثل

وآليتَ : لا تهدي إليه رسالةٌ

إلى أن يحول الحول من رأس قابل

____________

(١) سبط اليدين ، وسبط الأنامل هو السخي.

(٢) وقعة صفين / ٤٧٣. والفتوح ٣ / ٥٩ ، والبيت ما بين القوسين منه.

(٣) الكلاكل : جمع كلكل.

(٤) الفقعة : الكمآة البيضاء الرخوة ، ويقال للذليل وهو اذل من فقع بقرقرة لأنّه لا يمتنع على من اجتناه ، أو لأنّه يوطأ بالأرجل.

١٢٢

أردتَ به قطع الجواب وإنّما

رماك فلم يخطئ بنانَ المقاتل

وقلتَ له لو بايعوك تبعتهم

فهذا عليّ خير حافٍ وناعل

وصي رسول الله من دون أهله

وفارسه إن قيل هل من منازل

فدونكه إن كنت تبغي مُهاجراً

أشمَّ كنصل السيف غير حُلاحل (١)

فعرض شعره على عليّ فقال : أنت أشعر قريش ، فضرب بها الناس إلى معاوية » (٢).

قال ابن اعثم : « فوصل الكتاب إلى معاوية فقرأه وفهم الشعر فلم يرد على ذلك إلى أن كتب إلى عليّ ... » (٣).

أقول : في صحة نسبة هذه الأبيات إلى الفضل بن عباس عندي توقف ، لأنّ ابن شهر اشوب المتوفى سنة ٥٨٨ هـ ذكر منها البيت الخامس منسوباً إلى عبد الله ابن عباس بتغيير في القافية من (بقائل) إلى (بخادع) واحتمال وهم النساخ جارٍ في المقام ، خصوصاً وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج (٤) البيتين الأخيرين مصرّحاً بنسبتهما إلى عبد الله بن عباس ، وتابعه السيّد شرف الدين في المراجعات (٥) على ذلك وأيضاً خلو ما ذكر من اشعار الفضل بن العباس اللهبي من الأبيات المذكورة ، ولا يبعد أن تكون جميعها لعبد الله بن عباس ووهم

____________

(١) نعل السيف : حديدة في أسفل غمد السيف ، غير حُلاحل ، غير سيّد شجاع أي فدونكه وأنت كنعل السيف غير حُلاحل. وفي الفتوح (أشم بنصل السيف ليس بناكل).

(٢) وقعة صفين / ٤٧٤.

(٣) الفتوح ٣ / ٢٥٩.

(٤) شرح النهج لابن أبي الحيد ١ / ٥٠.

(٥) المراجعات / ٢٨٢.

١٢٣

الراوي أو الناسخ فنسبها إلى الفضل بن عباس لقرب ذكره فيما تقدم له من الشعر في المقام.

ومهما كان الصحيح في نسبة الشعر فإنّه شعر صادق في التعبير عما كان أدخله كتاب ابن عباس والشعر الأوّل في نفس معاوية من انهيار معنوي حتى حلف أن لا يكتب إلى ابن عباس كتاباً سنة كاملة. وأبياته المذكورة تنبئ عن فشله وندامته ولكنه على عادته في المكابرة ختمها بقوله :

فأبرق وأرعد ما استطعت فإنّني إليك بما يشجيك سبط الأنامل

أي سخيّ بما يشجيك ، ولم يكن يتوقع أن يأتيه من قبل ابن عباس ما يشجيه هو أيضاً ، ولقد صدقت فراسة عمر بن الخطاب في ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاص حين ذكر نفر عنده معاوية وابن العاص ، فقال لهم : أين أنتم عن عبد الله بن عباس؟ فقالوا : والله انّه ـ أي كما ذكرت ـ ولكنهما أذكى سنّاً وأطول تجربة. فقال عمر : إنّ هذا لهما عليه ، ولئن بقي يجري في عنانهما ليبرحنّ بهما تبريح الأشقر مقراً وشيحاً (١).

نعم لقد برّح بهما أيّما تبريح ، حتى قال معاوية بعد وصول الجواب إليه : هذا عملي بنفسي ، لا أكتب والله إليه كتاباً سنة كاملة.

ومرّ بنا قول عمرو بن العاص معانياً ومعاتباً معاوية على حمله أن يكتب إلى ابن عباس وجاءه الجواب المليء تقريعاً وتسفيهاً فقال : أنت دعوتني إلى هذا ، ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب.

____________

(١) أنباء نجباء الأبناء لابن ظفر المكي / ٨٠ ط مصر. والمعنى برّح به الأمر تبريحاً أي جهده ، والأشقر مَن الخجل حمرته صافية يحمّر معها العرف والذنب ، والمقر ـ ساكن ـ دقّ العنق ، والشيح ـ في لغة هذيل ـ الجادّ في الأمور.

١٢٤

ليلة الهرير :

ليلة كان الموت أقرب إلى المقاتلين من حبل الوريد ، لم تغمد السيوف ولم تسكن الرجال ـ وكانت تلك ليلة الجمعة ـ اقتتل الناس فيها حتى الصباح ، فتضاربوا بالسيوف حتى أعذرت ، وتطاعنوا بالرماح حتى تقصّفت ، وتراموا بالنبل والحجارة حتى فنيت ، لم يصلّوا لله إلاّ إيماء ـ صلاة الخوف والمطاردة ـ لشدّة الجلاد والمسايفة ، حتى بلغ من قتالهم أن تكادموا بالأفواه والفارس يعتنق الآخر مثله فيقعان معاً إلى الأرض عن فرسيهما. وهذا هو الموقف الّذي توعدّ به ابن عباس معاوية حين هدده فيما كتب به إليه (وقد بقي لك منّا يوم ينسيك ما قبله).

فقد روى السيّد ابن طاووس عن ابن عباس قال : « قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام) ليلة صفين : أما ترى الأعداء قد أحدقوا بنا؟ فقال : وقد راعك هذا؟ قلت : نعم. فقال : اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أضام في سلطانك ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أضلّ في هداك ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتقر في غناك ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أضيع في سلامتك ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أُغلب والأمر إليك (لك) » (١).

قال أبو مخنف : « فاقتتل الناس تلك الليلة كلّها حتى الصباح ، وهي ليلة الهرير ، حتى تقصّفت الرياح ونفد النبل ، وصار الناس إلى السيوف ، وأخذ عليّ يسير فيما بين الميمنة والميسرة ، ويأمر كلّ كتيبة من القرّاء أن تقدم على الّتي تليها ، فلم يزل يفعل ذلك بالناس ، ويقوم بهم حتى أصبح ، والمعركة كلها خلف

____________

(١) مهج الدعوات / ١٠٣ ط حجرية سنة ١٣٢٣ ، والأمان من أخطار الأسفار والأزمان / ١١٤ط الحيدرية سنة ١٣٧٠.

١٢٥

ظهره ، والأشتر في ميمنة الناس ، وابن عباس في الميسرة ، وعليّ في القلب ، والناس يقتتلون من كلّ جانب وذلك يوم الجمعة ، وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها ، وكان قد تولاّها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى ، وأخذ يقول لأصحابه : إزحفوا قيد هذا الرمح ، وهو يزحف بهم نحو أهل الشام » (١).

قال أبو مخنف : « فلمّا رأى عمرو بن العاص انّ أمر أهل العراق قد اشتدّ ، وخاف في ذلك الهلاك ، قال لمعاوية : هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلاّ اجتماعاً ، ولا يزيدهم إلاّ فُرقة؟ قال : نعم ، قال : نرفع المصاحف ثمّ نقول : ما فيها حَكَم بيننا وبينكم ، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول : بلى ، ينبغي أن نقبل ، فتكون فرقة تقع بينهم ، وإن قالوا بلى ، نقبل ما فيها ، رفعنا هذا القتال عنا وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين » (٢).

قال نصر بسنده عن تميم بن حذيم : « يقول : لمّا أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام صفّ أهل الشام وسط الفيلق من حيال موقف معاوية ، فلمّا أسفرنا إذا هي المصاحف قد رُبطت على أطراف الرماح ، وهي عظام مصاحف العسكر ، وقد شدّوا ثلاثة أرماح جميعاً وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم ، يمسكه عشرة رهط.

وقال أبو جعفر وأبو الطفيل : استقبلوا عليّاً بمائة مصحف ، ووضعوا في كلّ مجنّبة مائتي مصحف ، وكان جميعها خمسمائة مصحف.

____________

(١) أنظر تاريخ الطبري ٥ / ٤٧ ط المعارف.

(٢) نفس المصدر ٥ / ٤٨.

١٢٦

قال أبو جعفر : ثمّ قام الطفيل بن أدهم حيال عليّ ، وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ثمّ نادوا : يا معشر العرب الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم. الله الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم ، فقال عليّ : اللّهمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم إنك أنت الحكيم الحقّ المبين.

فاختلف أصحاب عليّ في الرأي فطائفة قالت القتال ، وطائفة قالت المحاكمة إلى الكتاب ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب ، فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها. فقال محمّد بن عليّ : فعند ذلك حُكّم الحكمان » (١).

رأي طـه حسين في مكيدة ابن العاص :

قال في كتابه الفتنة الكبرى : « وأكاد أعتقد أن مكيدة عمرو بن العاص تلك الّتي كادها برفع المصاحف لم تكن من عند نفسه ، لا لأنّه قلّد فيها عليّاً فحسب ، بل لشيء آخر سنراه قريباً ، فقد ينبغي أن نذكر أنّ عليّاً إنّما رفع المصاحف بين الصّفين في حرب البصرة قبل أن ينشب القتال ، يريد أن يُعذر إلى خصمه ، وقد ينبغي أن نذكر أيضاً أنّ مكان طلحة والزبير وأم المؤمنين من النبيّ ، كان يدعوه إلى أن يحتاط ويتأنّى ، ويذكّرهم بالقرآن وما فيه ، ولا يقاتلهم حتى يستيئس من إستجابتهم إلى ما دعاهم إليه ، فلمّا رشق أهل البصرة ذلك الفتى الّذي أمره عليّ فرفع المصحف بين الصفّين بالنبل حتى قتلوه ، قال عليّ : الآن طاب الضراب.

____________

(١) وقعة صفين / ٥٤٦.

١٢٧

فلو قد أراد أهل الشام أن يتقوا الفتنة والحرب حقاً لرفعوا المصاحف ودعوا إلى ما فيها قبل بدء القتال ، ولكنهم لم يفعلوا ، وما أكثر ما ذكّروا بالقرآن فلم يذكروه ، وما أكثر ما ردّوا سفراء عليّ دون أن يعطوهم الرضا أو شيئاً يشبه الرضا ، فما كان رفعهم للمصاحف بعد أن اتصلت الحرب أياماً وأسابيع ، وبعد أن توادع الجيشان شهر المحرم كله ، إلاّ كيداً لا يتقون به الفتنة ، وإنّما يتقون به الهزيمة.

وأكبر الظن انّ بعض الرؤساء من أصحاب عليّ لم يكونوا يُخلصون له نفوسهم ولا قلوبهم ، ولم يكونوا ينصحون له ، لأنّهم كانوا أصحاب دنيا لا أصحاب دين ، وكانوا يندمون في دخائل أنفسهم على تلك الأيام الهيّنة الليّنة الّتي قضوها أيام عثمان ينعمون بالصلات والجوائز والإقطاع.

ولست أذكر من هؤلاء إلاّ الأشعث بن قيس الكندي ، ذلك الّذي أسلم أيام النبيّ ثمّ ارتدّ بعد وفاته ، وألّب قومه حتى ورطّهم الحرب ثمّ أسلمهم وأسرع إلى المدينة تائباً ، فلم يعصم دمه من أبي بكر فحسب ، ولكنه أصهر إليه وتزوّج اخته أم فروة ، ثمّ خمل في أيام عمر وظهر في أيام عثمان فتولى له بعض أعماله في فارس ، فلمّا همّ عليّ أن ينهض إلى الشام عزله عن ولايته ، ويقال انّه طالبه بشيء من مال المسلمين ، ثمّ استصحبه واستصلحه ، فلمّا رُفعت المصاحف ودُعي إلى التحكيم كان أشدّ الناس على عليّ في الدعاء إلى قبول التحكيم.

ويجب أن نذكر أيضاً انّ عليّاً لم ينهض إلى الشام بأهل الكوفة وبمن تابعه من أهل الحجاز وحدهم ، وإنّما نهض كذلك بألوف من أهل البصرة كان منهم

١٢٨

من وفى له يوم الجمل ، وكان منهم من اعتزل الناس في ذلك اليوم أيضاً ، وكان منهم مع ذلك كثير من الذين انهزموا بعد مقتل طلحة الزبير.

فهم إذاً كانوا عثمانية ، لا يقاتلون مع عليّ عن رضىً وصدق ، وإنّما يقاتلون معه كارهين ، وهم إذاً كانوا واجدين عليه لأنّه قتل منهم من قتل واضطرهم إلى الهزيمة اضطراراً.

لم يكن أصحاب عليّ إذا كلهم مخلصين له مؤمنين به ، وإنّما كان منهم المخلص والمدخول.

وقد قدّمنا ان الفريقين كانا يلتقيان في أمنٍ ودعة أثناء شهر المحرم الّذي توادعا فيه ، ونضيف الآن أن القتلى كثروا ذات يوم ، فطلب عليّ هدنة موقوتة ليدفن الناس قتلاهم ، وأجيب إلى ما طلب.

وإذاً فقد كان أهل الشام وأهل العراق يلتقون ويختلطون في غير موطن ، ولم يكن من العسير أن يتناجوا ولا أن يأتمروا بينهم بما يشاؤون ، فما استبعد أن يكون الأشعث بن قيس ، وهو ماكر أهل العراق وداهيتهم ، قد اتصل بعمرو بن العاص ، ماكر أهل الشام وداهيتهم ، ودبّروا أن يقتتل القوم فإن ظهر أهل الشام فذاك ، وإن خافوا الهزيمة أو أشرفوا عليها رفعوا المصاحف فأوقعوا الفرقة بين أصحاب عليّ وجعلوا بأسهم بينهم.

وقد تمّ لهم ما دبّروا إن كانوا قد دبّروا شيئاً ، واستكره الأشعث ومن أطاعه عليّاً على كفّ القتال ، فلم ير بُدّاً من الإذعان لما أرادوا.

وأكبر الظن عندي كذلك أن المؤامرة لم تقف عند هذا الحد ، وإنّما تجاوزته إلى ما هو أشد منه خطراً ، وهو اختيار الحكمين فلأمرٍ ما ألحّ الأشعث

١٢٩

ومن تبعه من اليمانية في أن يختار عليّ أبا موسى الأشعري ، ولم يطلقوا له الحرية في اختيار حَكَم يثق به ويطمئن إليه ، وهم يعلمون أن أبا موسى قد خذّل الناس عن عليّ في الكوفة حتى عزله عن عمله ، فقد كان عليّ إذاً مكرهاً على قبول التحكيم ، ومكرهاً على اختيار أحد الحكمين ، ولم تأت الأمور مصادفة ، وإنّما جاءت عن ائتمار وتدبير بين طلاب الدنيا من أصحاب عليّ وأصحاب معاوية جميعاً ... اهـ » (١).

أقول : لقد أصاب الدكتور طه حسين وأجاد في تحليله لمكيدة عمرو ابن العاص. فلم يخطيء في ذكره الأشعث نموذجاً للخائنين في صفّ العراقيين. وأنا أضيف إليه تدليلاً على صحة رأيه في النموذجين القذرين عمرو بن العاص والأشعث بن قيس ، أنّ الأشعث كان قد قام في ليلة الهرير يخطب في أصحابه من كندة ويقول لهم : « قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فني فيه من العرب ، فوالله لقد بلغت من السنّ ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، أنا ان نحن تواقفنا غداً انّه لفناء العرب وضيعة الحرمات ، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف ، ولكني رجل مسنّ أخاف على النساء والذراري غداً إذا فنينا ... » (٢).

قال صعصعة ـ الراوي ـ : « فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال : أصاب وربّ الكعبة ، لئن نحن التقينا غداً لتميلنّ الروم على ذرارينا ونسائنا ،

____________

(١) الفتنة الكبرى ٢ / ٨٨ ـ ٩٠.

(٢) وقعة صفين / ٥٤٩ ، والأخبار الطوال / ١٨٨.

١٣٠

ولتميلن أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم ، وإنّما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى ، اربطوا المصاحف على أطراف القنا ... » (١).

فلم تكن الصدفة هي الّتي دعت الأشعث إلى خطبته ، ولم تكن الصدفة هي الّتي احضرت عيون معاوية فسمعت الخطبة ثمّ انطلقت إليه بحاجته ، ولم تكن الصدفة هي الّتي جعلت الأشعث من أعظم الناس قولاً في إطفاء الحرب والركون إلى الموادعة ، ولم تكن الصدفة هي الّتي أعجلت الأشعث فبادر أن يذهب إلى معاوية وليسأله ماذا يريد ، بل كلّ ذلك كان عن تدبير وائتمار كما يراه طه حسين ، ولم يكن بدعاً في رأيه ، ولا متجنّ في قوله على الأشعث ، بل ذلك ما ذكره عنه التاريخ.

ففي تاريخ اليعقوبي : « فرفعوا المصاحف ودعوهم إلى التحكيم بما فيها وقالوا ندعوكم إلى كتاب الله.

فقال عليّ (عليه السلام) إنّها مكيدة ، وليسوا بأصحاب قرآن. فاعترض الأشعث ابن قيس الكندي ـ وقد كان معاوية استماله وكتب إليه ودعا إلى نفسه ـ فقال : قد دعوا القوم إلى الحقّ ، فقال عليّ (عليه السلام) إنهم إنّما كادوكم وأرادوا صرفكم عنهم.

فقال الأشعث : والله لئن لم تجبهم انصرفت عنك ، ومالت اليمانية مع الأشعث ، فقال الأشعث والله لتجيبنّهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنّك اليهم برمتّك ، فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاماً عظيماً حتى كاد أن يكون الحرب بينهم

____________

(١) نفس المصدر / ٥٥٠ و ١٨٩.

١٣١

وحتى خاف عليّ (عليه السلام) أن يفترق عنه أصحابه ، فلمّا رأى ما هو فيه أجابهم إلى الحكومة » (١).

وقال المسعودي في خدعة رفع المصاحف : « فلمّا رأى كثير من أهل العراق ذلك قالوا نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه ، وأحبّ القوم الموادعة ، وقيل لعليّ قد أعطاك معاوية الحقّ ، ودعاك إلى كتاب الله فاقبل منه ، وكان اشدهم في ذلك اليوم الأشعث بن قيس ، فقال عليّ : أيها الناس ، إنّه لم يزل من أمركم ما أحب حتى قرحتكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وإنّي كنت بالأمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً وقد أحببتم البقاء ... وقال : وما رفعوها لكم إلاّ خديعة ودهاء ومكيدة ... ويحكم إنّما قاتلتم ليدينوا بحكم الكتاب فقد عصوا الله فيما أمرهم به ، ونبذوا كتابه ، فامضوا على حقكم وقصدكم وخذوا في قتال عدوكم ، فإنّ معاوية وابن العاص وابن أبي مُعيط وحبيب بن مسلمة وعدداً غير هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأنا أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ورجالاً فهم شرّ أطفال ورجال.

قال المسعودي : وجرى له مع القوم خطب طويل قد أتينا ببعضه ، وتهددوه أن يصنع به ما صنع بعثمان ، وقال الأشعث : ان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد » (٢).

قال نصر بن مزاحم في كلام له عن الأشعث : « فإنّه لم يرض بالسكوت ، بل كان من أعظم الناس قولاً في إطفاء الحرب والركون إلى الموادعة » (٣).

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٦٤ ـ ١٦٥ ط الغري.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(٣) وقعة صفين / ٥٥٣.

١٣٢

ابن عباس وابن العاص في كفتـي ميزان :

لست في مقام الموازنة بينهما من جهة السياسة الّتي هي اللف والدوران ، ولا من جهة الأحساب والأنساب ، ولا من جهة الفضائل الخُلقية ، ففي جميع تلك الجهات بينهما البون الشاسع بُعد اليمين من الشمال ، أو قل بُعد المشرقين.

ولكن أردت التنبيه على ما يقتضيه المقام لنعرف لماذا كان يأبى معاوية وعمرو بن العاص أن يكون ابن عباس حَكَماً لأهل العراق؟ ولماذا كان يصرّ الأشعث واليمانية على أن يكون الحَكَم أبا موسى لا سواه؟

وإنّ الّذي يقرأ حقبة تلك الحرب الطاحنة ـ حرب صفين ـ من بدايتها لابدّ وأن يمر بحديث مساومة عمرو بن العاص لمعاوية في مناصرته على حرب الإمام ، ولا يغيب عنه حديث اشتراط مصر طعمة له وبيده صك على ذلك فيما يقولون. فهو من أحرص الناس على إنجاح التحكيم لصالح معاوية ليصيب مصلحته المحققة ويملك مصر طعمة له ، ويزداد من عاجل الدنيا ثمن دينه الّذي باعه لمعاوية بثمن بخس.

أمّا ابن عباس فهو منذ بداية الحرب وحتى منتهاها لم نجد له نبوة أو هفوة في قول أو فعل تنافي الدين. وهو لم يكن يرجو مطمعاً أو مطعماً في شيء يناله أزاء ما كان يبذله من جهد أو عمل ، وحتى لو أدى ذلك إلى ذهاب نفسه طعمة للرماح ودريئة للسيوف في سوح القتال ، وتلك سمة المخلصين من المؤمنين الذين كانوا مع الإمام (عليه السلام) ، فلم يكن أحدهم يبتغي سوى مرضاة الله تعالى والمثوبة منه سبحانه على نصرتهم للحقّ لوجه الحقّ ،

١٣٣

فأين من يعمل بإخلاص ويقين إبتغاء مرضاة الله ممّن يعمل لنيل العاجل من الحطام كابن العاص وأهل الشام؟

إذن فهم إنّما يخشون ابن عباس لو صار حكماً أن يُغِصّ عمراً بريقه ، ويسدّ عليه منافذ رأيه ، وبالتالي يفسد عليه خطته ، ويرد كيده في نحره ، فيخسر بالتالي صفقته الّتي باع بها دينه من معاوية.

فقد روى الشريف المرتضى : « أنّ عتبة بن أبي سفيان قال لعبد الله بن عباس : ما منع عليّاً أن يجعلك أحد الحكَمين؟

فقال : منعه والله من ذلك حاجز القدَر ، وقِصر المدة ، ومحنة الإبتلاء. أما والله لو بعثني مكانه ، لاعترضت لعمرو في مدارج أنفاسه ، ناقضاً ما أبرم ومبرماً ما أنقضه ، اسفّ إذا طار ، وأطير إذا أسفّ ، ولكن مضى قدر وبقي أسف ، ومع اليوم غد ، والآخرة خير لأمير المؤمنين من الأولى » (١).

فتبيّن من هذا الكلام ـ الّذي جمع من أسرار البلاغة والفصاحة ما ضمّ المعنى الخطير الكثير في القول اليسير ـ أنّه لو كان حَكَماً لأفشل كلّ خطط عمرو بن العاص وبالتالي هي افشال لخطط معاوية. لذلك كان إصراهم بعناد على رفضه حَكَماً من خلال الأشعث واليمانية الذين سدّوا منافذ الاختيار على الإمام بالوعيد والتهديد. فقال : (فاصنعوا ما أردتم. اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من صنيعهم). كما سيأتي عن قريب. كما وسيأتي أيضاً قوله : (ما أصنع أنا مضطهد).

____________

(١) الأمالي للمرتضى ١ / ٢٨٧. وقارن إعجاز القرآن / ١٢٢ ، والعقد الفريد للملك السعيد / ١٤ ، وشرح النهج ابن أبي الحديد ١ / ١٩٥ ، وأسرار البلاغة بذيل المخلاة المنسوبة للبهائي / ٤ وغيرها.

١٣٤

وقد اعترف عمرو بن العاص بخوفه من أن يكون ابن عباس حَكَماً لعجزه وقصوره عن مقابلته حتى كان يقول : « ما اتقيت جواب أحد من الناس غير جواب ابن عباس لبداهته » (١). وستأتي محاورة جرت بينهما بعد انقضاء أمر صفين وقد جمعهما الموسم جاء فيها : « وذكرت يومك مع أبي موسى فلا أراك فخرت إلاّ بالغدرة ولا منيت إلاّ بالفجور والغش ... ولعمري ، أنّ من باع دينه بدنيا غيره لحري حزنه على ما باع واشترى ، أمّا إن لك بياناً ولكن فيك خطل ، وإن لك لرأياً ولكن فيك فشل ، وان أصغر عيبك فيك لأعظم عيب في غيرك » (٢).

والآن إلى قراءة بعض النصوص الدالة على الآثار السيئة الّتي خلفتها خدعة التحكيم :

لقد روى إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين بسنده عن ابن عباس قال : « لقد حدّثني معاوية (بعد حين) انّه كان يومئذ قد قرّب إليه فرساً أنثى بعيدة البطن من الأرض ليهرب عليها حتى أتاه آت من أهل العراق فقال له : إنّي تركت أصحاب عليّ في مثل ليلة الصَدَر من منى فأقمت.

قال (ابن عباس) فقلنا له : فأخبرنا مَن هو ذلك الرجل فأبى وقال : لا أخبركم مَن هو » (٣).

أقول : لئن لم يخبر عنه معاوية مَن هو ، فقد نمّ على أنّ له في أهل العراق بعض العيون يوافونه بما يحدث ، وهذا يؤكد رواية صعصعة عن أولئك

____________

(١) محاضرات الأدباء للراغب باب ذم المراء في المناظرة مخطوطة الرضوية برقم ٤٤٠٣ ، و / ٣٦ من المطبوع.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ١٩٦ ط مصر الأولى.

(٣) نفس المصدر ١ / ١٨٨.

١٣٥

الجواسيس ، وقد مرّت نقلاً عن نصر في وقعة صفين وأبي حنيفة في الأخبار الطوال ، ولئن لم يفصح عن اسمه معاوية فقد مرّ ذكر الأشعث وما كان له من مواقف خيانته ، فلم لا كان هو ذلك الآتي بخبر أهل العراق إلى معاوية؟ وستأتي شواهد على تآمر الأشعث ومواقفه الخيانية. وفيما مرّ كفاية حيث رأيناه وجماعة كانوا سفراء بين أهل العراق وأهل الشام ، وانهم تحدثوا إلى أهل الشام في أمر الحَكَم الّذي وقع عليه اختيار الإمام ، وإنّ أهل الشام لم يرضوا بابن عباس ، ومن هم أهل الشام الذين لم يرضوا بابن عباس؟ أليس هم معاوية وعمرو بن العاص؟ ولماذا لم يرضوا بابن عباس؟ أليس لما يعلمان من قوة حجته في بيانه ولسانه؟ ثمّ العجب كلّ العجب أن يعترض أهل الشام وعلى رأسهم معاوية وعمرو بن العاص على اختيار ابن عباس حَكَماً ، ويسمع اعتراضهم الأشعث ويناصره؟ ولا يسمع اعتراض الإمام على اختيار أبي موسى ليكون حَكَماً فضلاً عن عدم اعتراض الأشعث على اختيار عمرو بن العاص! إنّ هذا من المفارقات في المواقف ، ولا تخفى دلالتها على تبييت التآمر على ما يريده معاوية من الأشعث وجماعته اليمانية ، ولننظر لماذا أبى الأشعث وبالأحرى أبى معاوية وعمرو بن العاص ان يكون حَكَم اهل العراق هو ابن عباس؟ والجواب بكل بساطة انّه كان يتمتع بألمعية وذكاء مع تقوى الله سبحانه ، فهو سوف يدفع كيد عمرو وما دبّره ، فلا يغلبه عمرو بدهائه ، ولنضع لهما موازين القسط ، ولننظر أي الكفتين هي الراجحة؟

١٣٦

آثار خدعة التحكيم السيئة :

١ ـ قال الذهبي : « روى أبو عبيد القاسم بن سلام عمّن حدثه عن أبي سنان العجمي قال قال ابن عباس لعليّ : ابعثني إلى معاوية فوالله لأفتلنّ له حبلاً لا ينقطع وسطه ، قال : لست من مكرك ومكره في شيء ، لا أعطيه إلاّ السيف ، حتى يغلب الحقُ الباطلَ.

فقال ابن عباس : أو غير هذا؟ قال : كيف؟ قال : لأنّه يطاع ولا يُعصى ، وأنت عن قليل تعصى ولا تطاع.

قال : فلمّا جعل أهل العراق يختلفون على عليّ (رضي الله عنه) قال : لله درّ ابن عباس إنّه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق » (١).

فهذا الخبر وإن اشتمل على جهالة في السند فلا يجوز الإعتماد عليه فيما انفرد ، لكن مرّ بنا ما يشبهه في أوّل خلافة الإمام وأحسب أنّ هذا هو ذاك حين قال لابن عباس : (دعني من هنيّاتك وهنيّّّات معاوية في شيء) ، كما ورد في حديث عند البلاذري (٢) قول الإمام في ابن عباس : (لله در ابن عباس إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق) ، والسند عنده ينتهي إلى محمّد بن السائب والشرقي بن القطامي ، قال : سمعنا الناس يتحدثون.

إذن فالخبر قد شاع وذاع حتى صار يتحدث الناس به ومهما يكن مدى صحته ، فالذي لا شك فيه أنّ ابن عباس كان مستشاراً أميناً عند الإمام ، وكان هو أيضاً مشيراً صادقا ، فلا غضاضة لو أختلفا في الرأي كلّ حسب نظره وتكليفه ،

____________

(١) تاريخ الإسلام ٢ / ١٦٧ط مكتبة القدسي.

(٢) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) ٢ / ٣٤٧ تح ـ المحمودي.

١٣٧

كما لا غضاضة لو قرّظ الإمام ابن عمه عندما تتكشّف الحقيقة للناس كما رآها ابن عباس ، وإن كان هو تلميذه ومن بحره ينزف وهو القائل ما علمي وعلم أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في علم عليّ إلاّ كقطرة في سبعة أبحر. وقد دلّت الأحداث الآتية على صحة مضمون الخبر.

قال الدينوري : « وقال الأشعث ومَن كان معه من قرّاء أهل العراق : (قد رضينا نحن بأبي موسى) فقال لهم عليّ : (لست أثق برأي أبي موسى ولا بحزمه ، ولكن أجعل ذلك لعبد الله بن عباس).

قالوا : والله ما نفرّق بينك وبين ابن عباس ، وكأنك تريد أن تكون الحاكم ، بل اجعله رجلاً هو منك ومن معاوية سواء ، ليس إلى أحدٍ منكما بأدنى منه إلى الآخر.

قال عليّ (رضي الله عنه) : (فلم تَرضَون لأهل الشام بابن العاص وليس كذلك؟).

قالوا : أولئك أعلم ، إنّما علينا أنفسنا ... » (١).

وفي حديث نصر وقد ذكر رجوع الأشتر عن القتال وكلامه مع القرّاء والأشعث ـ إلى أن قال : « فسبّهم وسبّوه وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوطه وجوه دوابّهم ، فصاح بهم عليّ فكفّوا.

فتصايحوا : إنّ عليّاً أمير المؤمنين قد قبل الحكومة ورضي بحكم القرآن ولم يسعه إلاّ ذلك ... فأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين ، وهو ساكت لا يبضّ بكلمة ـ (أي لا يتكلم) ـ مطرق إلى الأرض » (٢).

____________

(١) الأخبار الطوال / ١٩٢ ط تراثنا.

(٢) وقعة صفين / ٥٦٣.

١٣٨

قال السيّد أمير عليّ الهندي : « ووقع الخيار لسوء الطالع على رجل كبير السن ضعيف الرأي اسمه أبو موسى الأشعري » (١).

نعم والله ، هو من سوء الطالع عند العراقيين الذين اختاروه حَكَماً وهو من المنافقين الذين اتخذوا القرآن عضين.

٢ ـ قال ابن اعثم الكوفي في الفتوح في ذكر الحكمين : « ثمّ اجتمع قرّّاء أهل العراق وقرّاء أهل الشام بين العسكرين ومعهم المصحف فنظروا فيه وتدارسوه واجتمعوا على ما فيه أن يحيوا ما أحيى القرآن ، وأن يميتوا ما أمات القرآن قال : فرضي الفريقان جميعاً بالحكمين ، وجعلوا المدة فيما بين ذلك إلى سنة كاملة.

فقال أهل الشام : قد رضينا بعمرو بن العاص.

وقال الأشعث بن قيس والذين صاروا خوارج بعد ذلك ، فإننا قد رضينا بأبي موسى الأشعري ، فإنّه وافد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اليمن ، وصاحب مقاسم أبي بكر ، وعامل عمر بن الخطاب.

فقال عليّ (رضي الله عنه) : ولكني لا أرضى أبا موسى ولا أوليه هذا الأمر.

فقال الأشعث بن قيس وزيد بن حصن ومسعر بن فدكي وعبد الله بن الكوّاء : فإنّنا لا نرضى إلاّ به ، لأنّه قد كان حذّرنا ما وقعنا فيه.

فقال عليّ (رضي الله عنه) : فإنّه ليس لي برضاً ، وقد كان فارقني وخذّل الناس عني ، ثمّ هرب حتى آمنته بعد ستة أشهر ، ولكن هذا عبد الله بن عباس قد جعلته حكماً لي.

____________

(١) مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي / ٤٥.

١٣٩

فقال القوم : والله لا نبالي أنت كنت أو ابن عباس ، ألا إنّنا لا نريد رجلاً هو منك وأنت منه.

فقال عليّ (رضي الله عنه) : فأنا أجعل الأشتر حَكَماً.

فقال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا إلاّ الأشتر؟ وهل نحن إلاّ في حكم الأشتر؟

قال عليّ : وما حكمه؟

فقال الأشعث : حكمه أن يضرب الناس بعضهم بعضاً بالسيوف حتى يكون ما أردتَ وما أراد.

فقال له الأشتر : أنت إنّما تقول هذا القول لأنّ أمير المؤمنين عزلك عن الرئاسة ولم يرك أهلاً لها.

فقال الأشعث : والله ما فرحت بتلك الرئاسة ، ولا حزنت لذلك العزل.

فقال عليّ (رضي الله عنه) : ويحكم إنّ معاوية لم يكن ليختار لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره إلاّ عمرو بن العاص وانّه لا يصلح للقرشي إلاّ مثله ، وهذا عبد الله بن عباس فارموه به ، فان عمراً لا يعقد عقدة إلاّ حلّها ، ولا يبرم أمراًً إلاّ نقضه ، ولا ينقض أمراً إلاّ أبرمه.

فقال الأشعث ومن معه : لا والله لا يحكم فينا مضريّان أبداً حتى تقوم الساعة ، ولكن يكون رجل من مضر ورجل من اليمن.

فقال عليّ (رضي الله عنه) : إنّي أخاف أن يخدع يمانيكم ، فإنّ عمرو بن العاص ليس من الله في شيء.

١٤٠