بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

بيان : الحديث الثاني رواه الصدوق في الفقيه (١) بسند صحيح عن عبدالرحمن ابن أبي عبدالله عنه عليه‌السلام.

وقوله عليه الصلاة والسلام أخيرا : فكبر وكبروا ، لعل تكبير الامام محمول على الاستحباب ، وليس تكبير الافتتاح ، وهذه الرواية مروية في الكافي (٢) والتهذيب (٣) وليس فيهما هكذا ، وفيهما : فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلى بهم ركعة ثم تشهدو سلم عليهم إلى آخر الخبر.

____________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٢٩٣.

(٢) الكافى ج ٣ ص ٤٥٦.

(٣) التهذيب ج ١ ص ٣٠٤.

١٢١

* ( أبواب ) *

* ( فضل يوم الجمعة وفضل ليلتها وصلواتهما ) *

* ( وآدابهما وأعمال سائر أيام الاسبوع ) *

١

( باب )

* ( وجوب صلاة الجمعة وفضلها وشرايطها ) *

* ( وآدابها وأحكامها ) *

الايات : البقرة : حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين (١).

الجمعة : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عندالله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين (٢).

المنافقون : يا أيها الذين آمنوا لاتهلكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر

____________________

(١) البقرة : ٢٣٨ ، وقد مر الكلام فيها في ج ٨٢ ص ٢٧٧.

(٢) الجمعة : ٩ ١١.

١٢٢

الله ومن يفعل ذلك فاولئك هو الخاسرون (١).

تفسير : قد مضت الاخبار في تفسير الصلاة الوسطى بصلاة الجمعة ، وأن المراد بقوله : ( قوموا لله قانتين ) أي في الصلاة الوسطى ، وقال الراوندي رحمه الله في فقه القرآن ، قالوا : نزلت هذه الاية يوم الجمعة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفر ، فقنت فيها وتركها على حالها في السفر والحضر.

( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي (٢) للصلاة من يوم الجمعة ) لاريب في نزول

____________________

(١) المنافقون : ٩.

(٢) ومن الايات الكريمة التى تشير إلى نداء الاذان للصلوات قوله تعالى عزوجل ( واذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ) المائده : ٥٨ ، الا أنه في سائر الايام و مطلق الصلوات يقول : ( اذا ناديتم ) بصيغة الجمع ، كأنه يجوز نداءات متعددة : نداء للصلاة في مسجد الزقاق ، ونداء للصلاة في مسجد القبيلة ، ونداء للصلاة في المسجد الاعظم فيجوز انعقاد جماعات متعددة في بلدة واحدة.

وأما في يوم الجمعة وصلاتها ، فقد قال عزوجل : ( اذا نودى للصلاة من يوم الجمعة ) فمع أنه يخاطب المؤمنين جميعهم في صدر الاية بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا ) لايكلفهم بالتأذين واقامة الجمعة ولا واحدا منهم ، بل يأمرهم بأنه اذا حصل النداء ونودى بالاجتماع للصلاة ، فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، ومفاد الشرطية أنه اذا لم يحصل النداء ولم يناد بالاجتماع فلا تكليف عليكم الا ما كان في سائر الايام غير الجمعة والاجتماع ، وهو الصلاة أربع ركعات كل في مسجده.

فمفروض الاية أن هناك من هو فوق المؤمنين ووليهم ، وهو الذى يأمر المؤذن للنداء بصلاة الجمعة اذا تمكن في مقامه كما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما تمكن في المدينة صلى صلاة الجمعة في أول جمعة وردها على ما سيجئ شرحه ، واذا لم يتمكن في مقامه ، كما اذا كان في سفر أو في خطر لم يأمر مؤذنه بالنداء للاجتماع كما لم يفعل ذلك رسول الله مدة اقامته بمكة المكرمة ولا في أسفاره إلى الغزوات وغيرها.

١٢٣

هذه السورة وتلك الايات في صلاة الجمعة وأجمع مفسروا الخاصة والعامة عليه ، بمعنى تواتر ذلك عندهم ، والشك فيه كالشك في نزول آية الظهار في الظهار ، وغيرها من الايات والسور التي مورد نزولها متواتر معلوم ، ومدار علماء الخاصة والعامة في الاستدلال على أحكام الجمعة على هذه الاية.

وخص الخطاب بالمؤمنين تشريفا لهم ، وتعظيما ، ولانهم المنتفعون به ، و إيذانا بأن مقتضى الايمان العمل بفرائض الله تعالى ، وعدم الاستهانة بها ، وأن تاركها كأنه غير مؤمن ، وفسر الاكثر النداء بالاذان.

قال في مجمع البيان (١) : أي إذا أذن لصلاة الجمعة ، وذلك إذا جلس الامام على المنبر يوم الجمعة ، وذلك لانه لم يكن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نداء سواه (٢) ونحو ذلك قال في الكشاف ، والظاهر أن المراد حضور وقت النداء كما أن في قوله ( إذا قمتم إلى الصلوة ) (٣) المراد إرادة القيام ، ولما كان النداء شائعا في ذلك الوقت عبر عنه به ، وفيه الحث على الاذان ، لتأكد استحبابه لهذه الصلاة ، حتى ذهب بعضهم إلى الوجوب.

____________________

فعلى هذا اذا أمر ولى المؤمنين وامامهم بالنداء ، وجب على أهل البلد كلهم حتى على من هو قاطن في حريم البلد بريدا في بريد ( على رأس فرسخين ) أن يجيب النداء ، فلا يجوز لاحد التخلف عن الاجتماع ، ولا أن يجتمعوا في مساجد متعددة ومحال مختلفة والصلاة أربع ركعات على ما هو وظيفة سائر الايام ، كما لايجوز أن ينعقد جمعتان في بلدة أبدا.

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٨٨.

(٢) كانه يعرض بالنداء الاول الذى ابتدعه عثمان ، فجعل مؤذنا يؤذن عند الزوال على دارله بالسوق يقال له الزوراء ، ثم اذا جلس على المنبر أذن مؤذن المسجد أخرى طبقا لما سنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) المائدة : ٦.

١٢٤

واللام في قوله ( للصلوة ) للاجل والتوقيت ، وحينئذ يدل على عدم اعتبار الاذان قبل وقت الصلاة في ذلك ، و ( من ) بيانية ومفسره لاذا ، أو بمعنى ( في ) أو للتبعيض ، والجمعة بضم الميم والسكون لغتان اليوم المعهود وإنما سمي به لاجتماع الناس فيه للصلاة (١) وقيل : لانه تعالى فرغ فيه من خلق الاشياء فاجتمعت فيه المخلوقات ، وقيل : أول من سماه به كعب بن لؤي ، وكان يقال له العروبة.

( فاسعوا إلى ذكر الله ) (٢) الظاهر أن التعبير بهذه العبارة لتأكيد الامر و

____________________

(١) وفيه لغة ثالثة على ما حكاه الطبرسى في المجمع عن الفراء وهى الجمعة كضحكة وهمزة ، وفى المغرب أن الجمعة اسم للاجتماع كما أن الفرقة اسم للافتراق.

وقد كان الاجتماع في هذا اليوم معهودا للامة الاسلامية مسنونا بسنة النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن أن نزل المدينة فصلى في بنى سالم بن عوف صلاة الظهر ركعتين وقدم لها خطبة فصارت أول جمعة جمعها رسول الله في الاسلام وخطبته في ذلك اليوم أو خطبة خطبها.

ثم انه صلى‌الله‌عليه‌وآله التزمها سنة له يصلى في كل اسبوع كذلك ليكون ذكرى لاول يوم تمكن الاسلام على عرش الحكومة ، وعيدا للمسلمين يجتمعون فيه بالبشارة والزينة ويذكرون الله عزوجل ويشكرونه على ذلك النعم. الا أن الناس لم يكونوا ليجتمعوا كلهم ولا ليسمونه يوم الجمعة علما ( بزعمى ) وربما تفرقوا حين خطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله وابتغوا التجارة واللهو و تركوه قائما.

وأما بعد نزول الاية والسورة ( وصريح الخطاب فيها يدل على أنها محكمة من أمهات الكتاب من دون تشابه ) فقد صار مفاد الاية بجميع أحكامها ومتعلقاتها مفروضة على الامة الاسلامية حتى تسمية اليوم بيوم الجمعة ، بحيث أنه لم يجز تسميته بسائر الاسماء المعروفة عندهم أيام الجاهلية.

(٢) المراد بالسعى ، هو الاسراع في المضى والاهتمام بالوصول إلى محل النداء حتى أنه لو وجد فراغا وساحة هرول هرولة كما يسعى الحاج بطواه بين الصفا والمروة.

ولا يذهب عليك أن فرض السعى انما هو على من سمع النداء ولم يحضر المجتمع

١٢٥

المبالغة في الاتيان به ، وعدم المساهلة فيه ، كما أنه إذا قال المولى لعبده : امض إلى فلان يفهم منه الوجوب ، وإذا قال اسع وعجل واهتم ، كان آكد من الاول ، و أدل على الوجوب ، قال في مجمع البيان : أي فامضوا إلى الصلاة مسرعين غير متشاغلين عن قتادة وابن زيد والضحاك ، وقال الزجاج : فامضوا إلى السعي الذي هو الاسراع وقرأ عبدالله بن مسعود ( فامضوا إلى ذكر الله ) وووي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام وعمرو ابي وابن عباس ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما‌السلام ، وقال ابن مسعود : لو علمت الاسراع لاسرعت حتى يقع ردائي من كتفي ، وقال الحسن : ما هو السعي على الاقدام ، وقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع (١).

وكل ذلك مما يؤكد الوجوب ، فان المراد به شدة العزم والاهتمام ، و إخلاص النية فيه ، فانه أقرب المجازات إلى السعي بالاقدام ، بل هو مجاز شايع يعادل الحقيقة :

قال في الكشاف : قيل المراد بالسعي القصد دون العدو ، والسعي التصرف في كل عمل ، ومنه قوله تعالى : ( ولما بلغ معه السعي ) ( وأن ليس للانسان إلا ما سعى ) (٢)

____________________

بعد ، كما هو المصرح به في لفظ الاية الكريمة ، حيث يأمر بالسعى عند النداء وبعده ، لئلا يفوت عنه الخطبة التى يكون فيه ذكر الله تعالى وتكون بمنزلة الركعتين السمنونتين في سائر الايام ، واما من تهيأ وتعبأ قبل النداء وحضر المجتمع ينتظر صعود الامام للخطبة ، فقد استبق إلى وظيفته ، ولم يتوجه خطاب السعى اليه ، وهوواضح.

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٨٨.

(٢) الصافات : ١٠٩ النجم : ٤٠ ، ولكن المراد من السعى في الاية الاولى هو السعى بين الصفا والمروة قطعا ، وذلك لان ابراهيم ص وابنه اسماعيل بعد ما فرغا من رفع قواعد البيت دعو الله عزوجل قالا : ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم .. وأرنا مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم ( البقرة : ١٢٨ ).

١٢٦

انتهى ، وعليه ينبغي حمل ما رواه الراوندي وغيره عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : السعي قص الشارب ، ونتف الابط ، وتقليم الاظفار ، والغسل ، والتطيب ، ليوم الجمعة ، ولبس أفضل الثياب والذكر (١) فالمعنى اهتموا وعجلوا الفراغ من الاداب والمستحبات لادراك الجمعة ، كل ذلك لاينافي فهم الوجوب من الامر ، بل هي مؤكدة له كما لايخفى على العارف بقوانين البلاغة.

وقال الرواندي : المراد بذكر الله الخطبة التي تتضمن ذكر الله والمواعظ ، و قيل : المراد الصلاة انتهى ، وإنما جعل الذكر مكان الضمير إيذانا بأن الصلاة متضمنة

____________________

فاستجاب الله دعاء هما فكان يرى ابراهيم مناسك البيت في منامه ( على ما كان يريه الله عزوجل ملكوت السموات والارض ) فيمتثل ابراهيم خليل الله نسكه ويتبعه في ذلك اسماعيل ولده حتى اذا بلغ مع السعى بين الصفا والمروة قال له ابراهيم : يا بنى انى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى؟ وانما ائتمر معه لان ذبحه قربانا ونسيكة انما يتحقق بتسليمه.

فقد كان رؤية ذبحه اسماعيل تماما لمناسك الحج التى كان يراها في منامه ، كما ينص عليه روايات الفريقين ، ولا يناسب ذلك الا بأن يكون المراد بالسعى هو السعى بين الصفا والمروة ، كما بيناه لك ، ومن حمل السعى في الاية على غير ذلك من المعانى غير المناسبة يبقى عليه توجيه قوله تعالى ( معه ) فان الكلمة تصير لغوا لافائدة في ذكرها أبدا.

(١) وجه الحديث أن هذا السعى المأمور به ، انما هو للاجتماع مع جمهور المسلمين في مكان واحد ، ومن لوازم هذا الاجتماع الوافر أن يتهيأكل واحد منهم بالطهارة الفطرية لئلا ينفر طباع المجتمعين من اجتماعهم ، وهذه الطهارة الفطرية كما أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسنها انما هو قص الشارب ونتف الابط وتقليم الاظفار والاغتسال وترجيل الشعر والتطيب ان قدر على ذلك ولبس الثياب النظيفة ، فاذا نودى أحدهم بأن يسعى إلى تلك الجماعة الوافرة ، فكأنه نودى بأن يتحصل على هذه الطهارة الفطرية اولا ثم يحضر الجماعة ، وهذا واضح بحمدالله.

١٢٧

لذكره تعالى ، ولذا يجب السعى إليها ، وأن الصلاة الكاملة هي التي تتضمن ذكر الله وحضور القلب ، وقيل : المراد هما جميعا ولعله أظهر.

( وذروا البيع ) أي اتركوه ودعوه ( ذلكم ) أي ما امرتم به من السعي و ترك البيع ( خيرلكم ) وأنفع عاقبة ( إن كنتم تعلمون ) الخير والشر ، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.

( فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض ) أي إذا صليتم الجمعة وفرغتم منها فتفرقوا في الارض ( وابتغوا من فضل الله ) قيل : أي واطلبوا الرزق في الشراء و البيع ، فأطلق لهم ما حرم عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح والنفع من فضل الله ورحمته ، مشيرا إلى أن الطالب ينبغي أن لايعتمد على سعيه وكده ، بل على فضل الله ورحمته وتوفقيه وتيسيره طالبا ذلك من ربه.

قال في مجمع البيان (١) : هذا إباحة وليس بأمر إيجاب ، وروي عن أنس عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال في قوله ( فانتشروا ) الاية ليس لطلب دنيا ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله ، وقيل : المراد به طلب العلم.

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال : الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت (٢).

____________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٨٨ و ٢٨٩.

(٢) وجه الحديث أن الامر بالانتشار والابتغاء من فضل الله انما هو أمر اباحة لكونه واقعا عقيب الحظر ، فلا يدل على رجحان الانتشار أبدا ، كيف وقد سمى الله عزوجل هذا اليوم يوم جمعة وندب بذلك إلى اجتماع المسلمين وتزاورهم وتباشرهم من اول اليوم إلى آخره ، فعلى هذا يكون تمام اليوم يوم اجتماع وعيد كما تلقاه رسول الله (ص) كذلك وعند الزوال وقت اجابة النداء للصلاة المعهودة ، وبعدها وقت صلاة العصر وتعقيبها بذكر الله عزوجل على ما يدل عليه ذيل هذه الكريمة ، فلا يكون موقع للانتشار الايوم السبت.

١٢٨

وروى عمر بن يزيد ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال إني لاركب في الحاجة التي كفاها الله ، ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله اضحي في طلب الحلال ، أما تسمع قول الله عزوجل ( فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله ) أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا وطين عليه بابه ثم قال : رزقي ينزل على ، أكان يكون هذا؟ أما إنه أحد الثلاثة الذين لايستجاب لهم.

قال : قلت : من هؤلاء الثلاثة؟ قال : رجل يكون عنده المرءة فيدعو عليها فلا يستجاب له ، لان عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها [ لخلى سبيلها ] والرجل يكون له الحق على الرجل ، فلا يشهد عليه ، فيجحده حقه ، فيدعو عليه فلا يستجاب له ، لانه ترك ما امر به ، والرجل يكون عنده الشئ فيجلس في بيته ولا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله ، ثم يدعو فلا يستجاب له.

( واذكروا الله كثيرا ) (١) قال الطبرسي ره أي اذكروه على إحسانه إليكم واشكروه على نعمه ، وعلى ما وفقكم من طاعته ، وأداء فرضه ، وقيل : المراد بالذكر هنا الفكر ، كما قال : تفكر ساعة خير من عبادة سنة ، وقيل : معناه اذكروا الله في تجاراتكم وأسواقكم ، كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه ، كتب له ألف حسنة ، ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم يخطر على قلب شر انتهى (٢).

ويحتمل أن يكون المراد به اذكروا الله في الطلب ، فراعوا أوامره ونواهيه فلا تطلبوا إلا ما يحل من حيث يحل ، والاعم أظهر ، والحاصل أنه تعالى وصاهم بأن لايشغلهم التجارة عن ذكره سبحانه كما قال الله تعالى ( رجال لاتلهيهم

____________________

(١) هذا الامر بالذكر بخلاف الامرين قبله حيث كانا لرفع الحظر أمر توكيد يفرض تعقيب صلاة الجمعة بذكر الله عزوجل كثيرا وقد مر في باب تسبيح الزهراء عليها‌السلام أنه من الذكر الكثير ، فلا أقل منها.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٨٩.

١٢٩

تجارة ولابيع عن ذكر الله ) (١) ويكونوا في أثناء التجارة مشغولين بذكره ، مراعين أو امره ونواهيه.

( لعلكم تفلحون ) قال الطبرسي ره : أي لتفلحوا وتفوزوا بثواب النعيم ، علق سبحانه الفلاح بما تقدم ذكره من أعمال الجمعة وغيرها ، وصح الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله و لبس صالح ثيابه ، ومس من طيب بيته أو دهنه ، ثم لم يفرق بين اثنين غفر الله له بينه وبين الجمعة الاخرى ، وزيادة ثلاثة أيام بعدها ، وروى سليمان التميمي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله عزوجل في كل جمعة ست مائة ألف عتيق من النار ، كلهم قد استوجب النار.

قال : ثم أخبر سبحانه عن جماعة قابلوا أكرم الكرم بألام اللؤم ، فقال : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا ) (٢) أي عاينوا ذلك ، وقيل معناه إذا علموا بيعا أو شراء أو لهوا

____________________

(١) النور : ٣٧.

(٢) ظاهر سياق الاية وعدم اتساقها مع سائر آيات السورة ، يدل على أنها نزلت في سياق آيات أخر تذم المنافقين ومن حذا حذوهم بأنهم لايهتمون بصلاتهم ، حتى أنهم في يوم الجمعة أو العيدين ربما آثروا اللهو والتجارة على خطبة النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله ومواعظه ، فتركوه قائما يخطب وليس حوله الا قليل من المسلمين.

وعندى أنها نزلت في خطبة العيدين ثم أحلقت بالسورة لكونهما فرعا على صلاة الجمعة وذلك لان الخطبة في صلاة العيدين كانت تلقى بعد تمام الصلاة ، ولكونها سنة في غير فريضة كان الاخذ بها فضيلة وتركها إلى غير خطيئة ، الا أنه اذا كان تركها بالاعراض عنها أو ايثار اللهو والتجازة عليها من دون حاجة اليها كان مذموما غير جائز ، فناسب مقابلة التاركين لهذه السنة بقوله عزوجل : ( قل ما عندالله خير من اللهو ومن التجارة ، والله خير الرازقين ).

وأما اذا جعلنا الاية ناظرة إلى خطبة الجمعة ، كما هو المشهور بين المفسرين ،

١٣٠

وهو الطبل عن مجاهد ، وقيل : المزامير عن جابر ( انفضوا إليها ) أي تفرقوا عنك خارجين إليها ، وقيل : مالوا إليها.

والضمير للتجارة ، وإنما خصت برد الضمير إليها ، لانها كانت أهم إليهم وهم بها أسر من الطبل ، لان الطبل إنما دلت على التجارة عن الفراء ، وقيل : عاد الضمير إلى أحدهما اكتفاء به ، وكأنه على حذف ، والمعنى وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، وإذا رأوا لهوا انفضوا إليه ، فحذف إليه ، لان إليها تدل عليه.

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال : انصرفوا إليها وتركوك قائما تخطب على المنبر ، قال جابر بن سمرة : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب إلا وهو قائم ، فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه.

وسئل ابن مسعود ، أكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب قائما؟ فقال : أما تقرء ( وتركوك

____________________

فلا مناص من القول بأنها نزلت قبل آيات الجمعة حين لم تكن صلاة الجمعة مفروضة بأحكامها ومتعلقاتها من وجوب السعى وتحريم البيع والتعامل بل كان صلاة الجمعة حين نزولها من السنن ، لايجب استماع خطبتها على حد سائر السنن ، حتى يناسب مقابلة التاركين لخطبتها بالذم فقط.

فلو قيل بأن هذه الاية نزلت مع سائر آيات السورة تتمة لها وملحقة بآيات الجمعة لكان حكمها بعدم تحريم الانتشار والاشتغال باللهو والتجارة ناسخا لاية الجمعة وأحكامها قبل العمل بها ، وهذا مع أنه لغو باطل لايصدر عن الحكيم تعالى ، لم يتفوه به أحد من المسلمين.

وأما على القول بأن المراد بقوله عزوجل ( وتركوك قائما ) : قائما في الصلاة ، لا قائما في الخطبة ، فالامر أشكل وأشكل ، فان ترك الخطبة والذهاب إلى اللهو والتجارة أهون من ترك الصلاة نفسها أو قطعها وابطالها ، وهو واضح.

وأما حكم اللهو والاستماع له فقد مر بعض الكلام فيه في ج ٧٩ ص ٢٤٨ ، راجعه.

١٣١

قائما ) وقيل : إراد قائما في الصلاة.

ثم قال تعالى ( قل ) يا محمد لهم ( ما عندالله ) من الثواب على الخطبة وحضور الموعظة والصلاة ، والثبات مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله ( خير ) وأحمد عاقبة وأنفع ( من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ) يرزقكم وإن لم تتركوا الخطبة والجمعة.

وقال ره في سبب (١) نزول الاية : قال جابر بن عبدالله : أقبلت عير ونحن نصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الجمعة ، فانفض الناس إليها ، فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم ، فنزلت.

وقال الحسن وأبومالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه ، فلم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا رهط فنزلت الاية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لايبقى أحد لسال بكم الوادي نارا.

وقال المقاتلان : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بتجارة وكلان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته ، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أوبر أو غيره ، وينزل عند أحجار الزيت ، و هو مكان في سوق المدينة ، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه ، فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه.

فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم (٢) ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر يخطب ، فخرج الناس ، فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرءة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٨٧.

(٢) دحية بن خليفة الكلبى هذا من الذين شهدوا بدرا ، ويدل الرواية ان صحت أن ذلك كان أوائل نزوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة حين يصلى بهم الجمعة سنة متبعة لافرضا بعد نزول سورة الجمعة ، فيؤيد بعض ما قلناه.

١٣٢

لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء ، وأنزل الله هذه الاية.

وقيل : لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط عن الكلبي عن ابن عباس ، وقيل إلا أحد عشر رجلا عن ابن كيسان ، وقيل : إنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل يوم مرة لعير تقدم من الشام ، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة عن قتادة و مقاتل انتهى.

* ( تذييل ) *

اعلم أن الله سبحانه أكد في هذه السورة الشريفة للامر الذي نزلت فيه وهو وجوب صلاة الجمعة تقدمة وتذييلا أنواعا من التأكيد ، لم يأت بها في شئ من العبادات ، فيدل على أنه آكدها وأفضلها عنده ، وأحبها إليه ، وذلك منوجوه :

أولها إنزال سورة مخصوصة لذلك ، ولم ينزل في غيره سورة.

الثانى : أنه قدم قبل الاية المسوقة لذلك آيات كلها معدات لقبولها ، و الاتيان بها ، حيث افتتح السورة بأن جميع ما في السموات والارض تسبح له فينبغي للانسان الذي هو أشرف المخلوفات أن لايقصر عنها ، بل يكون تنزيهه له سبحانه وطاعته له أكثرمنها.

ثم وصف سبحانه نفسه بأنه ملك العالم ، ويجب على جميع الخلق طاعته ، ثم بأنه القدوس المنزه عن الظلم والعبث ، بل إنما كلفهم بالطاعات لاعظم المصالح ولوصولهم إلى درجات السعادات.

ثم هددهم بأنه عزيز غالب قادر مع مخالفتهم على عقوبتهم في الدنيا والاخرة وأنه حكيم لايفعل شيئا ولا يأمر ولاينهى إلا لحكمة ، فلا ينبغي أن يتجاوز عن مقتضى أمره ونهيه.

١٣٣

ثم ذكر امتنانه على عباده بأنه بعث في قوم اميين عارين عن العلوم والمعارف رسولا منهم ، ليكون أدعى لهم إلى قبول قوله ، يتلو عليهم آياته المشتملة على مصالحهم ويطهرهم من الصفات الذميمة والنقائص والجهالات ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ولقد كانوا من قبله لفي ضلال مبين عن الملة والشريعة فلا بدلهم من قبول قوله في كل ما يأمرهم به ، ومنها هذه الصلاة.

ثم بين أن شريعة هذا النبى وأحكامه لا تختص بقوم ، ولا بالموجودين في زمانه ، بل شريعته باقية ، وحلال حلال ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، ردا على من يزعم أن الخطاب مخصوص بالموجودين فقال ( وآخرين منهم ) أي ويعلم آخرين من المؤمنين ( لما يلحقوا بهم ) وهم كل من بعد الصحابة إلى يوم القيامة.

ثم هدد وحث بوصف نفسه سبحانه مرة اخرى بالعزيز الحكيم ، ثم عظم شأن النبوة لئلا يجوزوا مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أتى به من الشرايع ، ثم ذم الحاملين للتوراة ، العالمين غير العاملين به ، تعريضا لعلماء السوء مطلقا ، بأنهم لعدم عملهم بعلمهم كالحمار يحمل أسفارا.

ثم أوعدهم بالموت الذي لابد من لقائه ، وبما يتبعه من العذاب والعقاب ، و نبههم على أن ولاية الله لاتنال إلا بالعمل بأوامره سبحانه ، واجتناب مساخطه وليس ذلك بالعلم فقط ، ولا بمحض الدعوى.

ثم لما مهد جميع ذلك ، خاطبهم بما هو المقصود من السورة أحسن خطاب وألطفه.

الثالث : أنه سبحانه أكد في نفس الاية المنزلة لذلك ضروبا من التأكيد : الاول : إقباله تبارك وتعالى إليهم بالخطاب ، تنشيطا للمكلفين وجبرا لكلفة التكليف بلذة المخاطبة.

الثاني أنه ناداهم بياء الموضوعة لنداء البعيد ، تعظيما لشأن المنادى له ، و تنبيها على أنه من العظم والجلالة بحيث المخاطب في غفلة منه وبعد عنه ، وإن كان

١٣٤

في نهاية التيقظ والتذكر له.

الثالث أنه أطنب الكلام تعظيما لشان ما فيه الكلام ، وإيماء إلى أنه من الشرافة والكرامة بحيث يتلذذ المتكلم بما تك لم فيه كما يتلذذ بذكر المحبوبين ، و وصفهم بصفاتهم والاطناب في أحوالهم.

والرابع أنه أجمل أولا المنادى ، حيث عبر بأي العامة لكل شئ تخييلا لان هذا الامر لعظم شأنه مما لايمكن المتكلم أن يعلم أول الامر وبادئ الرأي أنه بمن يليق ، ومن يكون له؟ حتى إذا تفكر وتدبر علم من يصلح له ويليق به.

الخامس أنه أتى بكلمة ها التي للتنبية لمثل ما قلناه في يا.

السادس أنه عبر عنهم بصيغة الغائب ، تنبيها على بعدهم لمثل ماقلناه في يا.

السابع أنه طول في اسمهم ليحصل لهم التنبيه الكامل ، فانهم في أول النداء يأخذون في التنبه ، فكلما طال النداء واسم المنادي ازداد تنبههم.

الثامن أنه خص المؤمنين بالنداء مع أن غيرهم مكلفون بالشرايع ، تنبيها على أن الامر من عظمه بحيث لايليق به إلا المؤمنون.

التاسع أنه عظم المخاطبين به بذكر اسمهم ثلاث مرات من الاجمال والتفصيل ، فان ( أيها ) مجمعل و ( الذين ) مفصل بالنسبة إليه ثم الصلة تفصيل للموصول.

العاشر أنه عظمهم بصيغة الغيبة.

الحاديعشر أنه خص المعرفة بالنداء تنبيها على أنه لايليق بالخطاب إلا رجال معهودون معروفون بالايمان.

الثاني عشر أنه علق الحكم على وصف الايمان تنبيها على عليه له واقتضائه إياه.

الثالث عشر أنه أمرهم بالسعي الذي هو الاسراع بالمشي إما حقيقة أو مجازا كمامر والثاني أبلغ.

١٣٥

الرابع عشر أنه رتبه على الشرط بالفاء الدالة على عدم التراخي.

الخامس عشر أنه عبرعنها بذكر الله ، فوضع الظاهر موضع الضمير إن فسر بالصلاة للدلالة على أنها ذكر الله ، فمن تركها كان ناسيا لذكر الله ، غافلا عنه ، وإن فسر بالخطبة أيضا يجرى فيه مثله.

السادس عشر تعقيبه بالامر بترك ما يشغل عنه من البيع.

السابع عشر تعقيبه بقوله : ( ذلكم خيرلكم ) وهو يتضمن وجوها من التأكيد الاول نفس تعقيب هذا الكلام لسابقه ، والثاني الاشارة بصيغة البعيد المتضمن لتعظيم المشار إليه ، والثالث تنكير ( خير ) إن لم نجعله اسم تفضيل لانه أيضا للتعظيم.

الثامن عشر تعقيبه بقوله : ( إن كنتم تعلمون ) وهو يتضمن التأكيد من وجوه : الاول نفس هذا الكلام فان العرف يشهد بأنه يذكر في الامور العظام المرغب فيها ( إن كنت تعلم ما فيه من الخير لفعلته ).

الثاني الدلالة على أن من توانى فيه فانما هو لجهله بما فيه من الفضل ، ففيه تنزيل لبعض العالمين منزلة الجاهلين ، ودلالة على أنه لا يمكن أن يصدر الترك أو التواني فيه من أحد إلا عن جهل بمافيه.

والثالث أنه ترك الجزاء ليذهب الوهم كل مذهب ممكن ، وهو نهاية في المبالغة.

والرابع أنه ترك مفعول العلم فاما أن يكون لتنزيله منزلة اللازم فيدل على أنه يكفى في الرغبة والمسارعة إليه وترك ما يشغل عنه الاتصاف بمجرد العلم ، و الكون من أهله ، أو ترك إبهاما له لتعظيمه ، وليذهب الوهم كل مذهب ممكن ، فيكون المفهوم أن كل من علم شيئا من الاشياء أسرع إليها ، لان فضلها من البديهيات التي ليس شئ أجلى منها.

١٣٦

الرابع : ما أكد الحكم به بعد هذه الاية وهو أيضا من وجوه : الاول قوله : ( فاذا قضيت الصلوة ) فانه بناء على كون الامر للاباحة كما هو الاشهر والاظهر هنا ، دل بمفهوم الشرط على عدم إباحة الانتشار قبل الصلاة.

الثاني أن أصل هذا الكلام نوع تأكيد للحكم بازاحة علتهم في ذلك ، أي إن كان غرضكم التجارة فهو ميسور ومقدور بعد الصلاة ، فلم تتركون الصلاة لذلك.

الثالث تعليق الفلاح بما مر كما مر.

الرابع الاتيان به بلفظ الترجي ليعلموا أن تحصيل الفلاح أمر عظيم لايمكن الجزم بحصوله بقليل من الاعمال ، ولامع عدم حصول شرايط القبول ، فيكون أحث لهم على العمل ورعاية شرايطه.

الخامس لومهم على ترك الصلاة والتوجه إلى التجارة واللهو أشد لوم.

السادس بيان المثوبات المترتبة على حضور الصلاة.

السابع إجمال هذه المثوبات إيذانا بأنه لايمكن وصفه ولايكتنه كنهه ولايصل عقول المخاطبين إليه.

الثامن بيان أن اللذات الاخروية ليست من جنس المستلذات الدنيوية و أنها خير منها بمراتب.

التاسع بيان أن الرازق والقادر عليه ، فلا ينبغي ترك طاعته وخدمته لتحصيل الرزق ، فانه قادر على أن يحرمكم مع ترك الطاعة ويرزقكم مع فعلها.

العاشر بيان أنه خير الرازقين على سبيل التنزل ، أي لو كان غيره رازق فهوخير منه ، فكيف ولارازق سواه ، ويحتاج إليه كل ما عداه.

الحادي عشر تعقيب هذه السورة بسورة المنافقين إيذانا بأن تارك هذه الفضيلة من غير علة منافق ، كما ورد في الاخبار الكثيرة من طرق الخاصة والعامة ، وبه يظهر سر تلك الاخبار ، ويشهد له الامر بقراءتهما في الجمعة ، وصلوات ليلة الجمعة و يومها ، وتكرر ذكر الله فيهما على وجه واحد.

١٣٧

وروي الكليني في الحسن (١) كالصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الله أكرم بالجمعة المؤمنين ، فسنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشارة لهم ، والمنافقين توبيخا للمنافقين ، ولاينبغي تركها فمن تركها متعمدا فلا صلاة له.

وبالجملة قوله سبحانه في الجمعة ( فاسعوا إلى ذكر الله ) وقوله ( إذا رأوا تجارة أولهوا انفضوا إليها ) وقوله في المنافقين ( يا أيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ) أي لايشغلكم تدبيرها والاهتمام بها عن ذكره سبحانه ( ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون ) حيث طلبوا تجارة الدنيا الفانية وربحها فسروا الاخرة الباقية ، ذلك هو الخسران المبين ، فكل ذلك مما يورث الظن القوى بأن هذه الاية أيضا مسوقة للتهديد على ترك الجمعة أو ما يشملها ، ولذا أوردناها ههنا تأييدا لا استدلالا فلا تغفل.

____________________

(١) الكافى ج ٣ ص ٤٢٥.

١٣٨

* ( تفصيل ) *

* ( ولنذكر الاحكام المستنبطة ) *

* ( من تلك الايات مجملا ) *

الاول أن تلك الايات تدل على وجوب صلاة الجمعة عينا في جميع الازمان ولنذكر أولا الاختلافات الواقعة فيها ، ثم لنتعرض لوجه الاستدلال بالايات على ما وهو الحق عندي منها.

اعلم أنه لاخلاف بين الامة في وجوب صلاة الجمعة وجوبا عينيا في الجملة ، وإنما الخلاف في بعض شرايطها والكلام على وجوه تفصيلها أنه هل يشترط الامام أو نائبه (١) أم لا؟ وعلى تقدير الاشتراط هل هو شرط الانعقاد أو شرط الوجوب؟

____________________

(١) الامامة التى تعتقدها الشيعة الامامية انما تساوق معنى الولاية وتستلزم العصمة من الله عزوجل في العلم والعمل متأيدة بالروح القدس واشاراته والهاماته ، وهذا معنى لايتصور في النيابة حتى يدعيها مدع ، الا من اشتبه عليه لفظ الامامة بالمعنى الذى تعتقده الجمهور حيث لايتعقدون بالعصمة والولاية وانما هى عندهم بمعنى سياسة شؤنهم وتدبير أمرهم كما كان يتكفل السلاطين والامراء شؤن أمتهم وسياسة مجتمعهم.

فالامام عندنا هو الذى جهزه الله بحقيقة العلم والحكمة وميزه بالولاية التكوينية وأصدره من لباب المعرفة ، ثم نصبه علما هاديا ووليا مرشدا يهدى إلى طريق الحق و صراط مستقيم.

يتلو عليهم آيات الله مبنية ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويرشدهم إلى معالم السنة ويزكيهم عن ادناس الشبهة وفى كل ذلك معتصم بعصمة الله عزوجل مؤيد بالروح القدسى ( يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجه من الظلمات إلى النور باذن ربهم ويهديهم إلى صراط مستقيم ).

فاذا كانت الامامة بهذا المعنى ، والولاية والعصمة من شؤنها وأسرارها ، فكيف

١٣٩

فبدونها يستحب؟ وإن كان شرط الانعقاد فهل هو مخصوص بزمن حضور الامام أو عام أو أنه مخصوص بامكان الوصول بأحدهما حتى لو تعذر كفى إمام الجماعة ، أو عام حتى لو تعذر لم تنعقد.

____________________

تقبل النيابة ، وكيف يجترئ أحد على ادعائها! أهناك من يقف موقف الامام ويغنى مغناه؟ أو من يقوم بأعباء الامامة والولاية ويسد مسدها؟

أو هل عرفت أحدا من الفقهاء صدر من لباب العلم والحكمة؟ أو عرف الكتاب وفيه الهدى والنور حق معرفته فلم يقل انه ظنى الدلالة ، أو أيقن بأن هذا .. حكم الله عزوجل ، ولم يتعذر بأن ظنية الطريق لاتنافى قطعية الحكم ، أو .. أو ..

نعم قد جعل للفقهاء كثر الله أحياءهم منصب القضاء وجواز الافتاء ، وذلك من زمن الباقرين عليهما‌السلام ، حيث بلغ كثير من أصحابهما رضوان الله عليهم مبلغ الفتوى وتولية القضاء لكنه منصب لايتقلده المفتى بعنوان النيابة عن الامام ولذلك لم يختص بزمن الغيبة ، بل هو منصب كسائر المناصب المجعولة ، يقلدها الامام لمن تصداه كامارة الحاج ، وولاية الثغور ، وبعث السرايا.

فوظيفتهم التورع عن المحارم ، والتحرى لمعرفة حقائق الاحكام ، والاجتهاد في الدين ولو أن أحدا اتبع الشيطان وعبد الطاغوت وتعدى ما بعث لاجله كما فعل خالد بن الوليد حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بنى جذيمة من كنانة ، لكان مثله ، ولقال فيه الامام كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رافعا يديه إلى السماء : اللهم انى أبرء اليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات.

وأما الحكومة والقضاء في الامور التى تعرض الامة الاسلامية ومجتمعهم ، فأمرهم كان إلى الله ورسوله (ص) ، لكنه معذلك أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستشيرهم في تلك الامور و يكون هو الامير في شوراهم ، وذلك بعد ماتولوا يوم التقى الجمعان وقالوا لاخوانهم اذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، وكثر القيل والقال في ذلك حتى أنكروا عليه من الخروج من المدينة ، وقد كانوا هؤلاء الناقدين أشاروا اليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يغزوا

١٤٠