موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



تمهيد

الحياة العربية بمكة قبل الإسلام :

مهما تفاوتت وجهات النظر في طريقة كتابة التاريخ ، فهي لا تعدو عن حقيقة ثابتة هي أنّ التاريخ يصنع من النصوص ، كما انه يكفي في تاريخ الأفراد سرد الواقع للشخص فيما يختصه ، أمّا تاريخ الجماعات فلا يكفي ذلك ، بل لا سبيل إلى تحقيقه دون إعمال الفكر في انتقاء الحدث النموذجي للدلالة على معرفة المجتمع معرفة تامة ولو بالتحليل الفلسفي للأحداث لفهم كنه الروابط بينها بإمعان ودقة ، ويبقى القاسم المشترك بين تاريخ الفرد وتاريخ المجتمع هو دقة الملاحظة ، ونقل الحوادث بأمانة ، دون النزوع إلى العاطفة ، بل الرجوع إلى الحق في الاستنتاج.

ولمّا كانت حالة الحياة العربية في مكة المكرمة قبل الإسلام ، يستدعي البحث عنها إلى استخدام المعلومة من تاريخ الجماعات لغرض التعرف التام إلى

٤١

المجتمع المكي ، فلا أجد مصدراً أصدق أنباءً من القرآن الكريم ، فهو أبلغ نصاً وأوضع مفهوماً من جميع المصادر الأخرى.

لقد عرض القرآن الكريم في بعض آياته لوحات تصوّر (حال الحياة العربية) ، قبيل الإسلام وبعده في شتى أنحاء الجزيرة العربية وبواديه فسمّى (الأعراب) كما ورد ذلك في القرآن المجيد في عشر آيات تنديداً بمعظمهم ، ولم يرد تسميتهم (بالعرب) ولا مرّة واحدة ، نعم إنّما وردت النسبة إلى العرب مدحاً في وصف القرآن ولغته ، فمن الجدير بالذكر التنبّه إلى وجوب الفرق بين العرب والأعراب ، ولمّا كانت فترة ما قبل الإسلام تسمى (الجاهلية) وتلك فترة كتبت عنها أقلام تفاوت أصحابها زماناً ومكاناً ، وفهماً وإيماناً ، ولم تسلم أحكامهم غالباً من الجنوح العاطفي بين إفراط وتفريط ، وإن استند بعضهم إلى آي القرآن الكريم ، ولكنه أساء فهم المعنى فلم يفرّق ـ مثلاً ـ بين العرب والأعراب ، كما لم يراع طبيعة المكان والزمان ، ولا بين الحاضرة والبادين من الأعراب.

(ولكي نكون منصفين في الأحكام ، عادلين غير ظالمين ، علينا التفريق بين الأعراب وبين العرب ، فما يقال : عن الأعراب يجب ألّا يتخذ قاعدة عامة تطبّق على العرب ، لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة النفسية والعقل.

ثم علينا لكي نكون منصفين أيضاً أن نفرق بين عرب وعرب. لما أصاب عرب كل أرض من أرض العرب من أثر تركه الأجانب فيهم... والامتزاج والاندماج يؤثران بالطبع في أخلاق أهل المنطقة التي وقعا فيها) (١).

_______________________

(١) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ٤ / ٢٩٨ ط الأولى بيروت.

٤٢

وقد أشار إلى وجوب التفريق من اللغويين الأزهري ، وذهب إلى مذهبه ابن خلدون وهو من المؤرخين ، فقال الأزهري في تهذيب اللغة ونقله عنه الزبيدي في تاج العروس فقال : « والذي لا يفرق بين العرب والأعراب ، والعربي والأعرابي ، ربما تحامل على العرب بما يتأوله في هذه الآية ـ ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ) (١) ـ وهو لا يميّز بين العرب والأعراب ، ولا يجوز أن يقول للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنما هم عرب ، لأنهم استوطنوا القرى العربية ، وسكنوا المدن ، سواء منهم الناشيء بالبدو ثم استوطن القرى ، والناشيء بمكة ثم هاجر إلى المدينة » (٢).

وما قلناه من وجوب التفريق بين الأسمين فكذلك يجب علينا أخذ الحيطة فيما نجده في بعض كتب الحديث من أحاديث مدح أو ذم للعرب أو للأعراب ، وأن نكون بمنتهى الوعي في أخذ الحذر ممّا نراه مبثوثاً في الكتب ، حتى وان كانت قد أُضيفت عليها قداسة الحديث النبوي الشريف.

فمثلاً ما نجده في بعض كتب التفسير والصحاح والسنن ، ونتخيّل لأول وهلة أنّ ما أخرجه أصحابها إنّما هو القول الفصل ، وليس إلى الخدش فيه من سبيل ، خصوصاً إذا كان في مثل صحيح البخاري الذي قيل عنه أنه أصح كتاب بعد كتاب الله ؟ أو في أمثاله من الصحاح والسنن. فضلاً عن كتب التاريخ والأدب ممّا دسّ فيها الشعوبيون أو غيرهم من قصص ونوادر ، لا ينبغي لنا أن نقيم عليه صرحاً ، ونجعله ميزاناً في تقييم الأمم والشعوب ، بل لكل أمة حسناتها كما أنّ عليها سيئاتها ، والكمال هو لله وحده سبحانه وتعالى.

_______________________

(١) التوبة / ٩٧.

(٢) تاج العروس ١ / ٣٧١ (عرب).

٤٣

شعوبية بغيضة :

ولست الآن في صدد الخوض عن العروبة وما لها وما عليها ، بل كفانا ذلك القرآن الحكيم الذي دعا أولاً الناس كافة بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ، ثم خاطب المؤمنين بعد انتشار الإسلام بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، ولم يرد فيه أيّ نداء لأمة حسب هويّتها القومية. وإنّما الذي دعاني إلى تقديم ما ذكرت ما قد يجده القارئ من آيات أو أحاديث ـ مدحاً أو ذماً ـ للعرب ، وهو يتخيّل أنّ ذلك لجميع العرب ، ولم يفرق بين العرب والأعراب من جهة ، كما أنه قد يُخدع بما يجده في مثل صحيح البخاري مثلاً حين يقرأ باب قصة زمزم وجهل العرب ثم لا يجد فيه إلّا الحديث التالي :

أخرج البخاري في صحيحه كتاب المناقب (باب قصة زمزم وجهل العرب) ـ فالعنوان إن دل على شيء إنما يدل على شعوبية بغيضة ـ بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) إلى قوله : ( قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (١) » (٢).

فيتخيّل القارئ أنّ ذلك القول ـ إن صحت نسبته إلى ابن عباس رضي الله عنه ـ هو عن كل العرب وليس ذلك بصحيح.

_______________________

(١) الأنعام / ١٤٠.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ١٨٥ ط سنة ١٣١٤ الأميرية بولاق ، وانظر شرح فتح الباري لابن حجر ٧ / ٣٦٢ ، وشرح إرشاد الساري للقسطلاني ٦ / ٨.

٤٤

ونحو ذلك أيضاً ما يقرأ في سنن الدارمي ، بسنده عن هارون بن معاوية قال : « كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل معه أربعة أحجار ، ثلاثة لقدره والرابع يعبده ، ويربّي كلبه ويقتل ولده » (١).

فإنّ هذه الأقوال وأمثالها ـ إن صحت ـ فإنما هي عن الأعراب ، لا العرب.

يقول المرحوم الدكتور جواد علي في كتابه (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) : « الحق اننا إذا أردنا البحث عن مورد يصوّر لنا أحوال الحياة الجاهلية ، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام ، فلا بدّ لنا من الرجوع إلى القرآن الكريم ، ولا بدّ لنا من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية ، وهو فوقها بالطبع ، ولا أريد أن أدخله فيها ، لأنّه كتاب مقدّس ، لم ينزل كتاباً في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك ، ولكنه نزل كتاباً عربيّاً ، لغته هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز ، وقد خاطب قوماً فوصف حالتهم ، وتفكيرهم وعقائدهم ، ونصحهم وذكّرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية (٢) وطلب منهم (٣) ترك ما هم عليه ، وتطرّق إلى ذكر تجاراتهم وسياساتهم وغير ذلك. وقد مثّلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي ، واطلاع على أحوال من كان حولهم ، وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر العربية الإسلامية ، فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي ، وهو كتاب صدق لا سبيل إلى الشك في صحة نصّه.

_______________________

(١) سنن الدارمي ١ / ٤ مط الاعتدال بدمشق سنة ١٣٤٩.

(٢) سورة هود / ٩٥ ، سورة الحج / ٤٢ ، سورة الشعراء / ١٤١ ، سورة الحاقة / ٤ ، سورة ق / ١٤ ، سورة الدخان / ٣٧ ، سورة الفيل / ١ ، سورة البروج / ٤. (تنبيه : حذفنا أرقام السور التي ذكرها المؤلف).

(٣) وطلب اليهم.

٤٥

وفي القرآن الكريم ذكر لبعض أصنام أهل الحجاز ، وذكر لجدلهم مع الرسول في الإسلام ، وفي الحياة ، وفي المثل الجاهلية وفيه تعرض لنواحٍ من الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم.

وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. وفي كل ما ورد فيه دليل على أنّ صورة الإخباريين التي رسموها للجاهلية ، لم تكن صورة صحيحة متقنة ، وأنّ ما زعموه من عزلة جزيرة العرب ، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء ، كان زعماً لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيراً ما ذهبوا إليه » (١).

فعلى ضوء ما قدّمناه ينبغي لنا أن نعرف ما يقال عن وصف الحالة في الجزيرة العربية بأنّها كانت جاهلية مظلمة.

حالة العرب قبل الإسلام :

جاهلية مظلمة ، وجور سائد ، وظلم فاشٍ ، يقاسي الضعيف من القوي الأمرين ، وينال العبد من مواليه البلاء ، وينوش الأنثى أحياناً الهضم والظلم ، إنّما هي حالة الأعراب ، نعم وهي كذلك حالة بعض العرب قبل الإسلام ، وهي تختلف في الشدّة والضعف باختلاف قبائل العرب ، وتفاوت مداركهم وتمازجهم مع أصحاب الحضارات من بلاد الروم وفارس.

حسبنا ما روي من حديث جعفر بن أبي طالب مع النجاشي : « ملك الحبشة كنا أهل جاهلية : نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ،

_______________________

(١) المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ١ / ٦٦ ط الاُولى سنة ١٩٦٨ بيروت.

٤٦

ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولاً كما بعث الرسل إلى من قبلنا... » (١).

ولم يقصر عنه كلام المغيرة بن شعبة مع كسرى يزدجرد في وصفه لحالة العرب ، فقد ذكر ابن كثير عن المغيرة قوله : « ... كنا نأكل الخنافس والجعلان ، والعقارب والحيات ، ونرى ذلك طعامنا ، وأمّا المنازل فإنما هي ظهر الأرض ، ولا نلبس إلّا غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم... وديننا أن لا يقتل بعضنا بعضاً وأن لا يبغي بعضنا على بعض... وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه... » (٢).

ولعل الباحث لا يعدم الشواهد على أنّ الحال في قلب الجزيرة العربية كان أخف وطأة وأحسن حالاً ، كما هو الحال في مكة المكرمة. فإن فيها من المتحنفين الذين يدينون بالحنيفية كعبد المطلب وأمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو ، وفي العرب أمثال قس بن ساعدة ، ولعل زهير بن أبي سلمى منهم فقد كان في شعره مؤمناً بالله وبالمعاد والحشر والحساب إلى غير هؤلاء.

كما أنّ من كان بمكة من القاطنين أكثر رفاهية في الحياة ، واستقراراً في الأمن من سائر أقطار الجزيرة. لأنّ أهلها اتخذوا مكة مثابة للناس وأمناً ، وجعلوا في السنة الأشهر الحرم فلا حرب فيها ، وكانت تجارتها رابحة تتصل بالشام واليمن والعراق وفارس وجل أهلها تدير شؤونهم تلك التجارة الواسعة ، إمّا تجاراً

_______________________

(١) السيرة الحلبية ١ / ٣٤٠ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢١٨.

(٢) البداية والنهاية ٧ / ٤٢.

٤٧

أو مضاربين أو حماة لما يمرّ بأرضهم من التجارة في طريقها إلى الشام أو اليمن ، فهم برحلتي الشتاء والصيف يُغيّرون طابع حياتهم.

ومكة نفسها وقعت في دائرة التنازع الدولي الذي كان قائماً بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية ، وقد بذلت محاولات من جانب الأحباش والبيزنطيين للسيطرة عليها ، لكن رجال مكة ـ الحريصين على الحياد ـ عارضوا كل تدخل في شؤونهم واستطاعوا أن يتعاملوا مع رجال الدولة من الفرس والروم على السواء ، كما كانوا يحذقون التعامل مع الأعراب من أهل البادية (١).

وقد دخلت مكة في طور النظام الاجتماعي بعد أن مرت بطور من الاضطراب والرحلات والغزوات والقتال على السيادة (٢).

نبوغ قصي في مكة :

وتاريخ مكة الحقيقي يبدأ من أيام قصي بن كلاب بن مرة القرشي الذي تولى أمر مكة حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي ، وبحكم قصيّ استقرت قبيلة قريش في مكة ، ونهضت بها ، وجعلت منها مدينة ذات مركز اقتصادي

_______________________

(١) دور الحجاز في الحياة السياسية العامة في القرنين الأول والثاني للهجرة / ١٥ ط الأولى ١٩٦٨ ، دار الفكر العربي د. أحمد إبراهيم الشريف.

(٢) أنظر سيرة ابن هشام ١ / ١٢٣ ـ ١٣٠ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ١٨١ ـ ١٩٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٥٥ ـ ٢٨٦ ، البداية والنهاية ٢ / ١٨٥ ـ ١٩٠.

٤٨

وديني وأدبي ممتاز ، وأصبحت في عهده تتمتع بتوجيه عربي عام في أواخر القرن السادس وأوائل السابع حين ظهر الإسلام (١).

فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكاً ، وأطاع له به قومه فكانت إليه الحجابة ، والرفادة ، والسقاية ، والندوة ، واللواء ، والقيادة ، وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجحمي يمدحه :

أبوهم قصيٌّ كان يدعى مجمّعا

به جمع الله القبائل من فهر (٢)

فحاز قصي شرف مكة وأنشأ (دار الندوة) وفيها كانت قريش تقضي أمورها ، ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلّا ابن أربعين سنة للمشورة ، وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون ، وحلفاؤهم (٣).

وكان عبد مناف بن قصي قد شرف في زمان أبيه وذهب شرفه كل مذهب ، ولم يبلغ بنو قصي ولا أحد من قومهم من قريش ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف ، وبدت بوادر تنذر بالشر نتيجة الحسد ، فأجمع قصي أن يقسم أمور مكة الستة التي فيها الذكر والشرف والعز بين ابنيه ، عبد الدار ـ وهو أكبر بنيه ـ فأعطاه السدانة وهي الحجابة ودار الندوة ، واللواء ، وأعطى عبد مناف السقاية ، والرفادة والقيادة (٤).

وهكذا امتازت مكة عن غيرها بنحو من التنظيم الذي سنّه قصيّ ، والذي يكفل لقريش وأبنائه مكان الزعامة والصدارة ما قاموا بتلك الشؤون.

_______________________

(١) دور الحجاز في الحياة السياسية العامة / ١٦ د. أحمد إبراهيم الشريف.

(٢) تاريخ مكة للأزرقي / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣) نفس المصدر / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٤) نفس المصدر / ١١٠.

٤٩

قال أبو هلال العسكري : كانت قريش تسمى في الجاهلية (العالمية) لفضلهم وعلمهم ، قال الفضل بن العباس بن عتبة :

ألسنا أهل مكة عالميا

وأدركنا السلام بها رطابا (١)

آل الله :

قال ابن عبد ربه : كانت قريش تسمى آل الله ، وجيران الله ، وسكان حرم الله.

وفي ذلك يقول عبد المطلب بن هاشم :

نحن آل الله في ذمته

لم نزل فيها على عهدٍ قدم

إن للبيت لرباً مانعاً

من يرد فيه بإثمٍ يخترم

لم تزل لله فينا حرمةٌ

يدفع الله بها عنا النقم (٢)

وقال ابنه أبو طالب :

ويصبح آل الله بيضاً كأنما

كستهم حبيرا ريدة ومعافر (٣)

وقال الثعالبي : « كان يقال لقريش في الجاهلية : أهل الله ، لما تميّزوا به عن سائر العرب من المحاسن والمكارم ، والفضائل والخصائص ، التي هي أكثر من أن تحصى.

_______________________

(١) التاريخ الإسلامي العام / ٩٥ د. عليّ إبراهيم حسن.

(٢) العقد الفريد ٣ / ٣١٣ ، وقارن تاريخ اليعقوبي ١ / ٢١٠ فما بعدها تجد الأبيات أكثر من عشرة قالها عبد المطلب لما كان من أصحاب الفيل ما كان.

(٣) ديوان أبي طالب / ٣٧ ط الحيدرية / ١٣٥٦.

٥٠

فمنها : مجاورتهم بيت الله تعالى ، وايثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله ، وصبرهم على لأواء مكة وشدتها ، وخشونة العيش بها.

ومنها : ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة والسقاية والرياسة واللواء والندوة.

ومنها : كونهم على ارث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام من قرى الضيف ورفد الحاج والمعتمرين ، والقيام بما يصلحهم ، وتعظيم الحرم ، وصيانته عن البغي فيه والإلحاد ، وقمع الظالم ومنع المظلوم.

ومنها : كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ، يؤتون من كل أوبٍ بعيد ، وفجٍ عميق ، فترد عليهم الأخلاق والعقول ، والآداب والألسنة ، واللغات والعادات ، والصور والشمائل عفواً بلا كلفة ولا غُرم ، ولا عَزم ولا حيلة ، فيشاهدون ما لم تشاهده قبيلة. وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض...

ومنها : بات وجودهم وجزيل عطاياهم ، واحتمالهم المؤن الغِلاظ في أموالهم المكتسبة من التجارة ...

وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمّس والتشدّد في الدين فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال ... » (١).

وإذا بحثنا عن السبب في تميّز مكة عن غيرها في ذلك المضمار ، لم نعد الحقيقة في أن نرجع الفضل في ذلك إلى سببين هما :

أوّلاً ـ وجود البيت الحرام الذي وفّر لمكة من الشرف على سائر البلاد ما لم يتوفر لغيرها ، حيث كان مدعاة لحج الناس إليه ، وفي ذلك من الفضل والشرف ما يسمو بها عن غيرها إلى مرتبة القداسة.

_______________________

(١) ثمار القلوب / ١٠ ـ ١١ تح‍ محمّد أبو الفضل إبراهيم. ط دار النهضة مصر سنة ١٣٨٤ ه‍.

٥١

ثانياً ـ وجود أبناء قصي الذين استأثرت مكة بهم زعامة وفضلاً وشرفاً ومنعة ، ممّا جعل لهم من المكانة في نفوس الآخرين أن أقروا لهم بالزعامة فكانوا يقصدونهم للحكومة وفصل التخاصم ، وينعموا في ظلهم بأمنٍ ورغد عيش.

مكانة قريش بين العرب :

وأصبحت زعامة قريش بين العرب زعامة حقيقية لا شك فيها قبل الإسلام ، وأبرز مثل يوضح هذه الزعامة القرشية هو أنه حين وقفت قريش موقف المعارضة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجد استجابة ـ كاملة ـ لدعوته بين العرب ، فلمّا ألقت قريش لواء المعارضة بعد فتح مكة سنة ٨ ه‍ لم يلبث العرب أن دخلوا في الإسلام طائعين (١).

وقد أظهرت قريش قدرة على التنظيم ، فاستطاعت أن تقيم نوعاً من التنظيم الحكومي في مكة ، هو في جوهره تنظيم قبلي تطور بحسب مقتضيات ظروف الاستقرار في مكة ، وبحسب اتصالاتها الواسعة وقيامها على التجارة واحتكاكها بالعالم المتحضر.

وقد تميزت الوظائف الحكومية إلى نوعين رئيسين :

الأول : الوظائف المتعلقة بالكعبة وهي السدانة والسقاية والرفادة.

الثاني : ما يتعلق بإدارة الشؤون العامة في البلد الحرام.

_______________________

(١) دور الحجاز في الحياة السياسية د. أحمد إبراهيم الشريف.

٥٢

وكلها تهدف إلى رعاية البيت الحرام وإعداده للزائرين ، وتوفير الراحة للوافدين عليه في موسم الحج ، كما تكفل للمقيمين الطمأنينة والاستقرار.

وقد قام بإدارة تلك الوظائف رجال من مختلفي بطون قريش ، تفادياً لما يمكن أن يحدث بينها من تنافس على الحكم ، وضماناً لإسهامها في رعاية شئون مكة ، ولكي يتجنب أهل مكة كل ما من شأنه أن يثير التنافس فقد جعلوا على ضوء تقسيم قصي ـ كما أشرنا ـ لكل بطن وظيفة معينة ، يختار البطن لها من رجاله من يشغلها على أساس العرف القبلي ، الذي يعتبر الكفاءة الشخصية أساساً للتصدر (١).

وإذا أردنا أن نتعرف تاريخ اولئكم الزعماء الذين ترجع إليهم الأمور ، وتكفلوا بالنظر في حقوق العرب فيما بينهم ـ في فترة ما قبل الإسلام ـ نجدهم لا يتعدون البطون التالية :

وهم الذين يقال لهم قريش الأباطح ، وقريش البطاح ، لأنهم لباب قريش وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة وهي سرّتها فنزلوها وهم بنو عبد مناف ، وبنو عبد الدار ، وبنو زهرة ، وبنو تيم بن مرة ، وبنو مخزوم ، وبنو سهم ، وبنو عبد العزّى ، وجمح ، وبنو عدي بن كعب ، وبنو عامر بن لؤي ، وبنو هلال بن أهيب (٢).

_______________________

(١) نفس المصدر.

(٢) وكان الشعراء يمتدحون أبناءهم بالنسبة إلى الأباطح والبطاح فالبحتري يقول كما في ديوانه ٢ / ٣٢٠ :

ابن الأباطح من أرضٍ أباطحها

في ذروة المجد أعلى من روابيه

والسري الرفاء يقول في قصيدة يمدح آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في ديوانه ٢ / ٧١٦ ـ ٧١٨ :

إذا عددنا قريشاً في أباطحها

كانوا الذوائب فيها والعرانينا

ولاحظ معجم البلدان ٢ / ٢١٣ ط الأولى بمصر ، وثمار القلوب للثعالبي / ٩٦.

٥٣

ومع قيام ذلك التحالف وتوزيع الوظائف الفخرية بين البطون القرشية ، فإنّ السيادة والشرف لبني هاشم ، لأنهم على حدّ قول شيخهم وشيخ البطحاء أبي طالب رضي‌الله‌عنه :

فإنّا بمكة قدماً لنا

به العزّ والخطرُ الأعظم

ومن يكُ فيها له عزّةٌ

حديثاً فعزّتنا الأقدم

ونحن ببطحائها الرائسون

والقائدون ومن يحكم

نشأنا فكنا قليلاً بها

نجير وكنّا بها نطعم

إذا عضّ أزمُ السنين الأنام

وجَبَّ القتارَ بها المعدم

نماني شيبة ساقي الحجيج

ومجدٌ منيف الذرى مُعلَمُ (١)

ونظراً لذلك التفاوت فيما بينها في المكانة المرموقة ومنعة الجانب وحسن إدارة تلك الشئون فقد نافس بعضهم بعضاً في تولي الزعامة العامة بالرغم من الاحتياط الذي أشرنا إليه للتفادي عن المنافسة ، وخاصة مع (هاشم) الذي علا نجمه ، وطال شأنه وكثر حساده ، فكانت منافرات معه ومع أبنائه من حسادهم وبسببها عُقدت أحلاف ، وكان منها حلف المطيبّين لبني عبد مناف (٢) ، وكانت الأحلاف لبني عبد الدار (٣) ، وكانت وكانت.

_______________________

(١) ديوان أبي طالب / ٩٧ ـ ٩٨ ، صنعة أبي هفان / تحآل يس.

(٢) سُمو بالطيبين لأنهم لما تعاقد بنو عبد مناف وبنو زهرة وبنو تيم وبنو أسد بن عبد العزى وبنو الحارث بن فهر ، أخرجت عاتكة بنت عبد المطلب جفنة فيها طيب فغمسوا أيديهم فيها. لذلك سموا المطيبين (المنمق / ٢٢٣).

(٣) سموا الأحلاف ولعقة الدم أيضاً وذلك أن بني عبد الدار ومعهم بنو سهم وبنو جمح وبنو مخزوم وبنو عدي نحروا جزوراً فغمسوا أيديهم في دمها فسموا الأحلاف ، ولعق رجل من بني عدي لعقة من دم ولعقوا منه فسموا لعقة الدم (المنمق / ٢٢٣).

٥٤

وقد بقيت آثار ذلك النزاع والتخاصم حتى بعد ما جاء الإسلام ، فكانت النعرات القبلية الجاهلية تطفو على السطح بين الحين والآخر ، وكانت لها آثارها السيئة في نخر بُنية التكامل الإسلامي (١).

ولكن مهما طال النزاع ومهما اشتدت الخصومة ، فإنّ فضل بني هاشم لا يوازي ، إذ ليس بيت كمثله في رفعته وسموه. وهم على حد قول ابن عباس رضي‌الله‌عنه لمعاوية ، وقد أثار معاوية نخوة الجاهلية في حديثٍ له. قال : ليس حي من قريش يفخرون بأمر إلّا والى جنبهم من يشركهم إلّا بني هاشم (٢).

الحالة الدينية بمكة :

وكانت الحالة الدينية في مكة على نحو ما كانت عليه حالة العرب في سائر أنحاء الجزيرة ، فثمة أصنام تعبد ويتقرب إليها ، إلّا أنّ بين أهلها من كان ينظر في الكتب السماوية ، ويدين بالحنيفية البيضاء ـ دين إبراهيم الخليل عليه‌السلام ـ ومنهم هاشم بن عبد مناف وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو وأمية بن أبي الصلت ،

_______________________

(١) وقد أشار إلى ذلك شيخ البطحاء أبو طالب في أشعاره فقال :

رجال تمالوا حاسدين وبغضةً

لأهل العلا فبينهم أبداً وتر

وليد أبوه كان عبداً لجدنا

إلى علجة زرقاء جال بها السحرُ

وتيم ومخزوم وزهرة منهم

وكانوا بنا أولى إذا بُغي النصر

إلى أن يقول :

فوالله لا تنفك منا عداوة

ولا منهم ما دام من نسلنا شفر

(٢) أنظر العقد الفريد ٢ / ٣١٨ ، والملاحم والفتن لابن طاووس الحسني / ٨١ ـ ٨٢ ، وسيأتي في احتجاجاته مع معاوية.

٥٥

وكانوا ينكرون بعض الترهات التي كان عليها قومهم كعبادة الأصنام ، وكانوا يجاهرون بعقيدتهم في البحث عن ألوهية واحد متفرد بالجلال والعظمة والقدرة ، ويعترفون بالبعث والنشور ، ويقولون بالثواب والعقاب ، وكان بعضهم من أعلن عن قرب ظهور نبي من العرب قد أطلّ زمانه يهدي الناس إلى الصراط المستقيم (١).

حديث البعثة النبوية :

قال الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام :

(إنّ الله بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار متنّخون (٢) بين حجارة خُشن ، وحيّات صُم ، تشربون الكدِرَ وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة) (٣).

وقال أيضاً : (بعثه والناس ضُلّال في حيرة ، وخابطون في فتنة ، قد استهوتهم الأهواء ، واستزلّتهم الكبرياء ، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء ، حيارى في زلزال من الأمر ، وبلاء من الجهل ، فبالغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النصيحة ، ومضى على الطريقة ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة) (٤).

_______________________

(١) أنظر مروج الذهب للمسعودي ١ / ٦٧ ـ ٧٥.

(٢) متنخون أي مقيمون ، من أناخ بالمكان أقام به.

(٣) نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٦٦.

(٤) نفس المصدر ١ / ١٨٦.

٥٦

بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني هاشم ، فأيّ دعوة هذه التي يجب أن ينقاد إليها بنو أمية وبنو سهم وبنو عدي وبنو زهرة وبنو تيم وبنو مخزوم وبنو أسد ، وسائر البطون من قريش والقبائل من كنانة ، إنّها الاستهانة بكيان الأفخاذ وأمجادها في عرفهم ، وإنّها الاستكانة لداعٍ سيحوز الفخر لبني هاشم دونهم فما بالهم لا يقاومون ؟ (١).

فوقفت قريش في وجه الدعوة لا يصيخون لداعي السماء وهو يدعوهم : قولوا : (لا إله إلّا الله تفلحوا).

وكان أول من دعاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم رهطه الأدنون ، وذلك بأمر من ربه تعالى حيث يقول : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢).

ولهذه الدعوة حديث طريف يجده القارئ في مظانّه (٣) ، وأول من أجاب من عشيرته هو ابن عمه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فهو أول ذكران العالمين إسلاماً

_______________________

(١) تاريخ مكة لأحمد السباعي ١ / ٤٧.

(٢) الشعراء / ٥.

(٣) أخرج حديث بدء الدعوة كل من الطبري في تفسيره في سورة الشعراء وتاريخه ٢ / ٢١٦ ، وأبو جعفر الاسكافي في كتابه نقض العثمانية كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٢٦٣ ، والثعلبي في تفسيره ، وابن الأثير في تاريخه ٥ / ٢٤ ، وأبو الفداء في تاريخه ١ / ١١٦ ، والسيوطي في جمع الجوامع ٦ / ٣٩٢ نقلاً عن الطبري. وفي ص ٣٩٧ نقلاً عن الحفّاظ الستة ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي في سننه ودلائله ، وأحمد في مسنده ١ / ١١١ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٢٥٤ ، وابن تيمية في منهاج السنة ٤ / ٨٠ ، والخازن في تفسيره ٥ / ٣٩٠ ، والشهاب الخفاجي في شرح الشفاء ٣ / ٣٧ وبتر آخره ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب / ٨٩ ، وابن ظفر المكي في انباء نجباء الأبناء / ٤٦ ـ ٤٨ ، والحلبي في سيرته ١ / ٣٠٤ ، ومحمد حسين هيكل في كتابه حياة محمّد / ١٠٤ الطبعة الأولى وغيرهم وغيرهم. وللأستزادة راجع الغدير ٢ / ٥٣ ـ ٢٥٦ ، وشواهد التنزيل للحسكاني ١ / ٣٧١ و ٤٢٠ مع ما في الهامش ،

٥٧

كما أنّ أول إناثهم هي زوج النبيّ الكريم السيدة أُم المؤمنين خديجة بنت خويلد ، فهما أول من آمن به من الناس (١).

_______________________

وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام) الحديث ١٣٢ وتواليه فقد رواه ابن عساكر بسبعِ طرق ، و د. عليّ إبراهيم حسن في التاريخ الإسلامي العام / ١٦٧.

(١) روى الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٢٠ بسنده عن أبي رافع قال : « أول من أسلم من الرجال عليّ عليه‌السلام وأول من أسلم من النساء خديجة قال : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ».

وروى أيضاً عن بريدة قال : « خديجة أول من اسلم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام » رواه الطبراني.

وروى عن مالك بن الحويرث قال : « أول من أسلم من الرجال عليّ ومن النساء خديجة » رواه الطبراني. والأحاديث في سبق إسلام عليّ عليه‌السلام متظافرة تكاد لا تحصر ، وفي مقدمتها أقوال الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله في حديث عائشة : (يا عائشة دعي لي أخي فإنّه أول الناس إسلاماً ، وآخر الناس بي عهداً ، وأول الناس لي يوم القيامة) الاصابة ٨ ق ١ / ١٨٣ في ترجمة ليلى الغفارية ، وكذلك الاستيعاب. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أخذ بيده : (ان هذا اول من آمن بي ، وهذا اول من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصديق الأكبر) أخرجه الطبراني عن سلمان وأبي ذر ، والبيهقي والعدني عن حذيفة ، ونحو هذا كثير جداً.

أمّا أقوال الصحابة الموقوفة عليهم فضلاً عن المرفوعة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي أيضاً كثيرة ، نقتصر على تسمية من قال ذلك مع الاشارة إلى مصدر قوله.

١ ـ زيد بن أرقم ـ مسند أحمد ٤ / ٣٦٨ و ٣٧١ ، والنسائي في خصائصه / ٢ ، وابن سعد في الطبقات ٣ / ١ / ١٢ ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٣٦ ، وتاريخ الطبري ٢ / ٥٥.

٢ ـ أبو موسى الأشعري ـ مستدرك الحاكم ٣ / ٤٦٥.

٣ ـ سلمان المحمدي نفس المصدر ٣ / ١٣٦ ، وتاريخ بغداد ٢ / ١٨ ، واُسد الغابة ٤ / ١٧ ، والاستيعاب ٢ / ٤٥٧ ، وكنز العمال ٦ / ٤٠٠ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٢ وقال أخرجه الطبراني.

٤ ـ سعد بن أبي وقاص ـ مستدرك الحاكم ٣ / ٤٩٩.

٥ ـ جابر بن عبد الله ـ الاصابة ٤ ق ١ / ١١٨ ، والاستيعاب ٢ / ٤٥٦.

٦ ـ أبو ذر الغفاري ـ الاستيعاب ٢ / ٤٥٦.

٧ ـ المقداد بن عمرو ـ نفس المصدر.

٨ ـ خباب بن الارت ـ المصدر السابق.

٥٨

وقابلت قريش دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بكل ما تملك من وسائل الحول والطول ، وأصاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين عنت شديد. وما كان الباعث لقريش على ذلك إلّا الحسد والتعصب والانصياع لعصبية القبيلة ، والحفاظ على تقاليدهم الموروثة. فكانت ممعنة في ايذاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنفر المسلمين ، وسلكت في سبيل ذلك مسالك كان منها مطاردة المسلمين وتعذيب بعضهم بالضرب والجلد حتى مات بعضهم تحت العذاب (١).

ولمّا لم تجد كل تلك الوسائل في صد تلك الدعوة ، اتخذوا قرارهم المشئوم بتحالفهم على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب : (ألا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم ، ولا يبيعوا لهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم حتى ينبذوا محمّداً) فكانت تلك الصحيفة القاطعة نقطة تحوّل في موقف بني هاشم وحلفائهم وذلك بعد أن كتبتها قريش ، ووضعوا فيها ثمانين خاتماً وعلقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم (٢).

وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة فشلّت يده (٣).

_______________________

٩ ـ أبو سعيد الخدري ـ المصدر السابق.

١٠ ـ عبد الله بن عباس ـ المصدر السابق ٢ / ٤٥٨ قال : « أول من أسلم عليّ عليه‌السلام ».

وهناك أحاديث عن عمر وابنه عبد الله وانس بن مالك وغيرهم من الصحابة انهم رووا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله لعليّ عليه‌السلام : (انه أول الناس إسلاماً). وأمام هذه الجمهرة من أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقوال الصحابة ، لا تثبت لمتخرّص ـ مهما حاول ـ قائمة ، والصبح أبلج لذي عينين.

(١) أنظر تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٧ ـ ٢٦ ، وابن هشام ١ / ٢٧٨ ـ ٤٠٠ ، وابن سعد ١ / ١٨٤ ـ ١٩٥ ، والطبري ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٤٤ ، والعقد الثمين ١ / ٢٢٨.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٢٧٢.

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ٣٤٣ ، والفاسي في العقد الثمين ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٥٩

وإليك حديث الصحيفة :

صحيفة المقاطعة :

أخرج البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن ابن شهاب الزهري قال :

« ثم إنّ المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء ، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم علانية ، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله ، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم فمنهم من فعله حميّة ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً ، فلمّا عرفت قريش انّ القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم واجتمعوا على ذلك ، اجتمع المشركون من قريش ، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم للقتل ، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل ، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلّا بادروهم إليه فاشتروه ، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم.

وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فاضطجع على فراشه حتى يُري ذلك من أراد مكراً به واغتياله ، فإذا نوّم الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمومته فاضطجع على فراش رسول الله

٦٠